نظام أين أبي؟ الإسرائيلي أباد عائلات بأكملها في غزة بمساعدة الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 9th, April 2024 GMT
تؤكد التقارير الصادمة التي تتوالى من غزة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في ارتكاب مجازر وعمليات إبادة ممنهجة في مخالفة لجميع المواثيق والأعراف، ويشكل هذا منعطفا خطيرا في مجال حقوق الإنسان واستخدام التكنولوجيا في القتل، وتكشف أيضا لغز اختفاء عائلات بأكملها من السجل المدني.
كشف موقعا "+972" ولوكال كول (Local Call) الإسرائيليان كيف استخدم الجيش الإسرائيلي برنامج ذكاء اصطناعي يعرف باسم لافندر لتطوير "قائمة قتل" في غزة تضم ما يصل إلى 37 ألف فلسطيني تم استهدافهم بالاغتيال دون أن يكون هناك أي إشراف بشري يذكر للتحقق من دقة المعلومات.
وليس نظام لافندر فحسب الذي استخدم الذكاء الاصطناعي بل كان هناك نظام ثانٍ يعرف باسم "أين أبي؟" (Where’s Daddy) أخطر من لافندر وصمم لمساعدة إسرائيل على استهداف الأفراد عندما يكونون في المنزل ليلا مع عائلاتهم.
أدى استخدام نظام "أين أبي؟"، بالإضافة إلى سياسة القصف "المتسامحة للغاية" في الجيش الإسرائيلي، إلى "إبادة عائلات فلسطينية بأكملها داخل منازلها"، كما يقول يوفال أبراهام، وهو صحفي إسرائيلي كشف القصة بعد أن تحدث مع 6 من ضباط المخابرات الإسرائيلية الذين شاركوا بشكل مباشر في نظام الذكاء الاصطناعي.
واستضافت إيمي غودمان من موقع ديموكراسي ناو (democracynow) أبراهام في مقابلة تحدث من خلالها عن بعض ما وجد في تقريره حول التكنولوجيا المستخدمة في الحرب على غزة، وكيف أن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية تشكل "خطراً على الإنسانية"، وأن "الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي تسمح للناس بالهروب من المساءلة."
فنظام الذكاء الاصطناعي الذي يُعرف باسم "أين أبي؟" مصمم لتعقب الرجال الفلسطينيين. وقد تم تصميمه عمدا لمساعدة إسرائيل على استهداف الأفراد عندما يكونون في منازلهم ليلا مع عائلاتهم كما ذكر إبراهام في المقابلة.
يوفال أبراهام، وهو صحفي إسرائيلي تحدث مع 6 من ضباط المخابرات الإسرائيلية الذين شاركوا في برنامج "أين أبي؟". (الفرنسية)وقال أحد ضباط المخابرات لأبراهام: "لم نكن مهتمين بقتل العناصر فقط عندما يكونون في مبنى عسكري أو حين يشاركون في نشاط عسكري. على العكس من ذلك، قصَف الجيش الإسرائيلي بيوتهم دون تردد، كخيار أول. من الأسهل بكثير قصف منزل العائلة. وقالوا إن النظام مصمم للبحث عنهم في هذه المواقف".
يقول يوفال أبراهام حول بحثه عن هذا النظام الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي إن الغرض منه، عندما تم تصميمه، هو تمييز الناشطين ذوي الرتب الدنيا في الجناح العسكري لحماس والجهاد الإسلامي.
وبحسب إبراهام كان هذا هو القصد، فإسرائيل قدرت أن هناك ما بين 30 إلى 40 ألفا من نشطاء حماس، وهو عدد كبير جدا. وقد أدركوا أن الطريقة الوحيدة بالنسبة لهم لتحديد هؤلاء الأشخاص هي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. وكان هذا هو المقصود من استخدام "أين أبي؟".
ويتابع أبراهام أن ما أخبرتني به المصادر هو أنه بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اتخذ الجيش قرارا بالموافقة على أن يتم السماح باستهداف كل هؤلاء الآلاف من الأشخاص داخل منازلهم، مما لا يعني قتلهم فقط ولكن قتل كل من معهم في المبنى بما فيهم الأطفال والعائلات.
وقد فهموا أنه من أجل محاولة القيام بذلك، سيتعين عليهم الاعتماد على آلة الذكاء الاصطناعي مع الحد الأدنى من الإشراف البشري. يقول أبراهام إن أحد المصادر قال إنه شعر أن ذلك كان بمثابة ختم بالموافقة المسبقة على قرارات الآلة.
كيف يعمل "أين أبي؟"يشرح أبراهام كيفية عمل برنامج "أين أبي؟" والذي يقوم بمسح معلومات عن 90% من سكان غزة على الأرجح. لذلك نحن نتحدث عن أكثر من مليون شخص. ويمنح كل فرد تقييما يتراوح بين واحد إلى 100، وهو تقييم يستند على طريقة تفكير الآلة وهو عبارة عن احتمالات قائمة على معلومات صغيرة تتجمع لتكون احتمالية بأن ذلك الفرد هو عضو في الأجنحة العسكرية لحماس أو الجهاد الإسلامي.
ويقول أبراهام إن مصادره أخبروه أن الجيش كان يعلم أن ما يقرب من 10٪ من الأشخاص الذين حددتهم الآلة على أنهم سيُقتلون ليسوا من مقاتلي حماس. ولم يكونوا كذلك، فبعضهم كان على علاقة بعيدة بحماس، والبعض الآخر لم يكن له أي صلة على الإطلاق بحماس.
فعلى سبيل المثال قال أحد المصادر إن الآلة كانت تجلب أشخاصا لديهم نفس الاسم واللقب وتصنفهم كعنصر في حماس، أوالأشخاص الذين لديهم ملفات تعريف اتصالات مماثلة.
مثلا، يمكن أن يكون هؤلاء عمال الدفاع المدني، أوضباط شرطة في غزة، وقال أحد المصادر إنه قضى 20 ثانية من وقته لكل هدف للتأكد منه قبل أن يأذن بقصف مقاتل حماس ذي الرتبة المنخفضة -وغالباً ما كان من الممكن أن يكون مدنيا- مما أسفر عن مقتل هؤلاء الأشخاص داخل منازلهم، بحسب أبراهام.
ويقول أبراهام إن الطريقة التي تم بها تصميم النظام هي أن هناك مفهوما في أنظمة المراقبة الجماعية يسمى "الارتباط".
فعندما تريد أتمتة -الأتمتة هي التشغيل الآلي- هذه الأنظمة، فأنت تريد أن تقوم هذه الآلة بعمل المهام بسرعة كبيرة دون النظر لاعتبارات أخرى، ولهذا تحتاج لمعرف ارتباط معين وفي هذه الحالة، المعرف هو "العلاقة مع حماس" وجهاز حاسوب وخوارزمية قادرة بسرعة كبيرة على ربط هذا المعرف بأشياء أخرى بحسب أبراهام.
هذا النظام يتغلب على مشاكل العنصر البشري التي تحتاج أن تتحقق في هويات الأهداف للتأكد قبل ضربها حتى لا يتم ملاحقتهم كمجرمي حرب في حالة حدوث خطأ في تعريف الهدف، لذلك فالأسهل أن تجعل الآلة المسؤولة عن هذه الأخطاء.
وللتأكيد على أن هذه العقلية هي وراء استخدام هذا النظام ذكر أبراهام حادثة ألقى فيها مسؤول عسكري إسرائيلي رفيع المستوى، وهو رئيس مركز الذكاء الاصطناعي التابع للوحدة 8200، محاضرة في جامعة تل أبيب العام الماضي، حيث قال في تلك المحاضرة: "إن نظام الذكاء الاصطناعي الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي في عام 2021 للعثور على الإرهابيين، يساعد الجيش على الخروج من عنق الزجاجة" والمراد بعنق الزجاجة هنا كمية المعلومات التي تحتاج التأكد منها والوقت الذي يحتاجه متخذ القرار البشرى لإصدار أمر القتل.
Yossi Sariel and his book pic.twitter.com/cKmWtS77EO
— Suppressed Nws. (@SuppressedNws) April 5, 2024
هل يمكن اعتبار هذه التكنولوجيا مسؤولة عن ظاهرة محو العائلات من السجل المدني؟يعتقد أبراهام أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي هنا لتحديد تلك الأهداف، والطريقة المميتة التي تحدث بها الضباط عن كيفية استخدامهم للآلة، يمكن أن يكون جزءا من أسباب أنه بعد 6 أسابيع من السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت إحدى السمات الرئيسية للحرب على غزة هي ظاهرة إبادة عائلات فلسطينية بأكملها داخل منازلها.
ويقول أبراهام في لقائه مع أيمي: "إذا نظرت إلى إحصائيات الأمم المتحدة، فإن أكثر من 50% من الضحايا، أكثر من 6 آلاف شخص في ذلك الوقت، كانوا عبارة عن مجموعة عائلات صغيرة قتلوا في قصف مركز، إنه شكل من أشكال تدمير وحدة الأسرة. وأعتقد أن تلك الآلة وطريقة استخدامها أدت إلى ذلك وقد اعتبروا "أضرارا جانبية".
كم يجب أن يقتل من عوائل من تصنفهم الآلة بمنتسبي حماس والجهاد الإسلامي؟يقول يوفال أبراهام ردا على سؤال حول طريقة استهداف منتسبي حماس والجهاد:" ما أخبرتني به المصادر هو أنه خلال تلك الأسابيع الأولى بعد شهر أكتوبر/تشرين الأول، بالنسبة للمسلحين ذوي الرتب المنخفضة في حماس، والذين تم تمييز الكثير منهم بعلامة خاصة تصنفهم على أنهم "المسلحون المزعومون" الذين تم تمييزهم بواسطة الآلة فإن أقسام القانون الدولي بالجيش أخبرت ضباط المخابرات، أنه مقابل كل هدف منخفض الرتبة تحدده الآلة، يسمح لهم بقتل ما يصل إلى 20 مدنيا، مقابل أي ناشط في حماس، وذلك بغض النظر عن رتبته أو أهميته".
وقال أحد المصادر لأبراهام إن هناك أيضا قاصرين تم وضع علامة عليهم –ليس الكثير منهم، لكنه قال إن هذا احتمال، وإنه لا يوجد حد أقصى للعمر. وقال مصدر آخر إن الحد الأقصى يصل إلى 15 مدنيا للمسلحين ذوي الرتب المنخفضة.
أما بالنسبة لكبار قادة حماس، مثل قادة الألوية أو الفرق أو الكتائب فقد كانت الأرقام، ولأول مرة في تاريخ الجيش الإسرائيلي، في خانة الـ3 أرقام، وفقا للمصادر.
لذلك، على سبيل المثال، أيمن نوفل، الذي كان قائد اللواء المركزي في حماس، قال مصدر شارك في الضربة ضد ذلك الشخص إن الجيش سمح بقتل 300 مدني فلسطيني إلى جانب ذلك الشخص.
في مقابل قتل أيمن نوفل القائد في حماس سمح الجيش الإسرائيلي بقتل 300 مدني فلسطيني (مواقع التواصل الإجتماعي)ويقول أبراهام إنهم في موقع "+972" ولوكال كول تحدثوا مع فلسطينيين كانوا شهودا على تلك الغارة، وتحدث الشهود عن 4 مبانٍ سكنية كبيرة جدا تم قصفها في ذلك اليوم، وقصفت شقق بأكملها مليئة بالعائلات.
ويأكد أبراهام لموقع "ديموكراسي ناو" أن المصدر أكد له أن عدد المدنيين الـ300 كان معروفا مسبقا للجيش الإسرائيلي، وقال أحد المصادر له إنه خلال تلك الأسابيع في البداية، لم يكن مبدأ التناسب بين القيمة لعنصر حماس مع الأضرار الجانبية، كما يسمونها بموجب القانون الدولي،"موجودًا".
هل الجيش الأميركي أو التكنولوجيا الأميركية لديهما دور في هذه الأنظمة المصممة للقتل؟يقول يوفال أبراهام في إجابته عنما إذا كان للجيش الأميركي أو التكنولوجيا الأميركية يد في هذه المجازر: "لا أعرف. وهناك بعض المعلومات التي لا أستطيع مشاركتها بشكل كامل، مثل هذه اللحظة. أنا أحقق، كما تعلمون، فيمن يشارك في تطوير هذه الأنظمة".
ويتابع أبراهام:"ما يمكنني قوله لكم هو، بناء على الخبرة السابقة لحرب 2014 وحرب 2021، عندما تنتهي الحروب، يتم بعد ذلك بيع هذه الأنظمة للجيوش في جميع أنحاء العالم. وأعتقد، بغض النظر عن النتائج والعواقب المروعة لهذه الأنظمة في غزة، أعتقد حقا أن هناك خطرا على الإنسانية".
ويضيف: "فمثل هذه الحرب القائمة على الذكاء الاصطناعي تسمح للناس بالهروب من المساءلة. إنه يسمح بتحديد أهداف، في الواقع، على نطاق واسع – كما تعلمون، تم تحديد الآلاف، 37 ألف شخص لاحتمال اغتيالهم. وهو يسمح بفعل ذلك والحفاظ على نوع من حدود القانون الدولي، لأن لديك آلة تجعلك هدفا مع أضرار جانبية مقبولة لكن هذا يفقد القانون كل معنى".
كيفية تفاعل أنظمة الذكاء الاصطناعي مع الطائرات الهجومية المسيرة؟يوفال أبراهام تحدث عن تكامل الأنظمة والأسلحة العسكرية مع الذكاء الاصطناعي: "كما تعلمون، لا أستطيع أن أتحدث عن كل شيء، لأننا نوعا ما –علينا دائما أن نفكر في الرقابة العسكرية في إسرائيل. كصحفيين إسرائيليين، نحن ملتزمون جدًا بذلك".
وتابع: "لكن الأنظمة تتكامل مع بعضها. وكما تعلمون، إذا تم وضع علامة على شخص ما بأنه سيُقتل بواسطة الذكاء الاصطناعي، فيمكن أن يُقتل هذا الشخص بواسطة طائرة حربية، ويمكن أن يُقتل بواسطة طائرة مسيرة، ويمكن أن يقتل بواسطة دبابة على الأرض. هناك نوع من سياسة تبادل المعلومات الاستخبارية بين مختلف الوحدات. نعم، وحدات مختلفة ومشغلو أسلحة مختلفون".
إحدى السمات الرئيسية للحرب على غزة هي ظاهرة إبادة عائلات فلسطينية بأكملها داخل منازلها (أسوشيتد برس) " أين أبي؟" تفوق على "الرجل البدين" في الغباءيظهر التحقيق الذي قام به يوفال أبراهام أن الحرب الجارية في غزة ربما تشكل منعطفا خطيرا في استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل غير أخلاقي في الوقت الذي تثار حول هذه التقنية واستخداماتها الكثير من المخاوف عالميا.
إن استخدام هذه التكنولوجيا في حرب غزة كحقل تجارب غير خاضع لسلطة القانون يجب أن يجعل العالم يقف على أرجله، خصوصا أنها تستحضر حادثة إلقاء قنبلة "الرجل البدين" على هيروشيما وناغازاكي في منتصف القرن الماضي والتي تسببت بقتل آلاف اليابانيين دون تمييز.
ومع تشابه أهداف قنبلة "الرجل البدين" الأميركية ونظام "أين أبي؟" الإسرائيلي وهو القتل دون تمييز إلا أن هناك اختلافا واضحا يجعل الجيش الإسرائيلي بحربه على غزة يفوز بجائزة أقذر إبادة جماعية عرفتها البشرية، ويجعل نظام "أين أبي؟" يفوز بجائزة أغبى سلاح عسكري.
فالرجل البدين من اسمه قنبلة غبية لم تستخدم أي تقنية سوى تقنية التدمير العشوائي وإلحاق الضرر بأكبر عدد من المدنيين بغض النظر عن انتماءاتهم، أما "أين أبي؟" ومن اسمِه أيضا فيظهر هدف مخفي قذر يقوم على إلحاق الأذى النفسي واستهداف الأسرة وليس الفرد، وكل ذلك باستخدام الذكاء الاصطناعي الذي من المفترض أن يُستخدم في تحديد أهدافه بدقة أكبر وهو مالم يحصل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات على الذکاء الاصطناعی الجیش الإسرائیلی ضباط المخابرات هذه الأنظمة وقال أحد فی حماس أن یکون أن هناک على غزة على أن فی هذه الذی ی فی غزة
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي في المسرح
لستُ من القلقين حول توظيف الذكاء الاصطناعي فـي المسرح على المستويات جميعها، لكن قلقي ينبع ككثيرين (المؤلف والمخرج والسينوغراف) من الاعتماد الكامل فـي توجيه الذكاء الاصطناعي للقيام بمهمات عديدة كزرع نواة الحكاية وتأليفها وتسليمها إلى المخرج الذي بدوره سوف يعدلها وحصر عدد ممثليها، فعلى سبيل الشاهد عوضَ أن تكون المسرحية متضمنة عددا من الممثلين أو الجوقة بتعبير الكلاسيكيين، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح اختزالها فـي مونودراما أو ديودراما. ولا يقف الأمر بالاستفادة من قدرة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته عند هذا الأمر، بل يُمكنه التمدد إلى مستويات متعددة كاختيار نوع الإضاءة والأزياء والموسيقى المناسبة والقاعة المثالية الصالحة لتقديم العرض وكذلك قدرته على انتخاب الجمهور الملائم، من الأعمار والشرائح .
أعود إلى سؤال قديم سألته نفسي بعد قراءاتي لقصة حُلم الحكيم الصيني (جوانج زو)، وكان السؤال: هل يُمكن تحقيق حلم جوانج زو فوق خشبة المسرح على وجه الحقيقة، لا وجه المجاز؟ أمّا الحلم فتروى قصته كما يلي: «رأيتُ أنا جوانج زو مرّةً فـي منامي أنّني فراشةٌ تُرفرفُ بجناحيها فـي هذا المكان وذاك، أنا فراشةٌ حقا من الوجوه جميعها، ولمْ أَكنْ أُدركُ شيئا أكثرَ منْ تتبعي لخيالاتي التي تُشعرني بأنّني فراشة، أمّا ذاتي الإنسانيّة، فلم أكنْ أُدركها البتّة، ثُمَّ استيقظتُ على حينِ غفلة وها أنا ذا مُنطرحٌ على الأرض رجلا كما كنت، ولستُ أعرفُ الآن هل كنتُ فـي ذلكَ الوقتِ رجلاً يحلمُ بأنّه فراشة، أو أنّني الآن فراشةٌ تحلمُ بأنّها رجل».
لم أخفِ دهشتي أو متعتي بحلم جوانج زو. منطلقات الحلم ليس صراعا بين الأنا والذات فحسب، أو بين الحقيقي وغير الواقعي، أو المحسوس واللامحسوس، بل أعدّه درسا تأسيسيا فـي تربية الخيال الإبداعي وتنمية مستوياته، ومحفزا للابتكار وآلية أوليّة لتشريح التفكير الناقد.
منذ اختراع الأساطير، والإنسان يسعى باحثًا عن تفسير الماورائيات والموجودات من حوله. كانت الأفكار الغريبة وتشظياتها تحفر فـي داخله، فلا يستكين، ولا يهدأ. فلماذا وصل بنا الخوف أن نرى ما نتخيله مجسدا فوق الخشبة؟ هل سببه الخوف لمجرد الخوف؛ لأن الإنسان عدو ما يَجهل؟ فـي سياق الابتكار والإبداع والطموح بالذهاب مع الخيال إلى عوالم غير مُدركة ولا ملموسة، لم يكن مثلا صانعا أول طائرة حقيقية (الأخوان رايت - 1903م) إلا تراكما لحق بأفكار مَن سبقهم من محاولات فـي الطيران بدأها (عباس بن فرناس 810 - 887م) الذي حاول «الطيران عن طريق القفز من مكان مرتفع عن طريق أجنحة من الحرير وريش الطيور».
هذه المحاولات وغيرها الكثير كانت دافعا لتطوير البحث فـي مجالات العلوم التي من بينها علم الحاسوب، حتى جاء اكتشاف الذكاء الصناعي Artificial Intelligence- AI الهادف «إلى إنشاء أنظمة وبرامج قادرة على محاكاة القدرات العقلية البشرية، مثل التفكير والتعلّم واتخاذ القرارات وحل المشكلات. يعتمد الذكاء الاصطناعي على خوارزميات وتقنيات تمكّن الآلات من أداء مهام تتطلّب ذكاء بشريا».
الناظر إلى الذكاء الاصطناعي المُنطلق من فعل المُحاكاة Mimesis يعيدنا إلى المعلم الأول أرسطو. فالمحاكاة نقلا عن (معجم المصطلحات المسرحية - للدكتور أحمد بلخيري - ص396) هي «تقليد أو عرض شيء. وفـي الأصل تعتبر المحاكاة تقليدا لشخص بوسائل فـيزيقية أو لغوية؛ هذا الشخص يمكن أن يكون شيئا أو فكرة، كما يمكن أن يكون بطلا أو إلها. وفـي شعرية أرسطو يتحدد الإنتاج الفني انطلاقا من كونه تقليدا للفعل».
ليس من شك فـي أن موضوعة المحاكاة هي منطلق جميع الفنون والأفكار والإبداع، وأن السعي البشري بالتقدم العلمي إنما يهدف إلى السيطرة على الوجود والتمركز فـي العالم والتحكم فـي المسار البشري والهيمنة عليه بتعطيل أجزاء من قدراته الحيوية، فالعقل البشري الجامح الذي لا يعترف بوجود إله يُنظم الكون، لا تُهمه الأخلاق ولا القوانين ولا الأعراف التي وضعها الإنسان لتنظيم العلاقات بين الناس على امتداد الحضارات المنتجة.
أعود من جديد إلى أرسطو، ولكن هذه المرة فـي فلسفته التي نظر من خلالها إلى الوجود، الفلسفة التي شكلّت أساسا لنظرية الدراما فنيا لا تاريخيا. فـي كتابها (المسرح بين الفكر والفن) تناقش الأكاديمية الراحلة الدكتورة نهاد صليحة بتوسع المسرح بين النظرية الدرامية والنظرة الفلسفـية متتبعة فـي أحد فصوله أسباب هيمنة النظرية الدرامية الأرسطية على المسرح الغربي حتى القرن العشرين، متمثل ذلك كما تقول فـي وجود «تشابه الأيديولوجيا التي بطنت النظرية الأرسطية للدراما مع جوهر الأيديولوجيات التي تلتها»، فنظرية أرسطو بحسب قولها لم «تكن فلسفته مجرد بحث موضوعي غير مغرض فـي الحقيقة والوجود، بل كانت طرحا على مستوى الوعي أو اللاوعي- لتصور نظري، أو رؤية للعالم تتضمن تأصيل نظام سياسي - اجتماعي - أخلاقي معين». إن نظرة أرسطو إلى الوجود بجعل العالم يتحرك نحو غاية مسبقة محسوبة لا دخل فـيها للإنسان تجعل من وجود تشابه بين نظريته عملا أو فكرا يستعاد بفعل الذكاء الاصطناعي. صحيح أن هذا الأخير ينطلق من وفرة المعلومات والخوارزميات لدى الإنسان ومحاولة محاكاتها وابتكار لحظات جديدة أو قدرات خارقة، فـي حين أن نظرية المحاكاة تتمظهر أو تتمركز فـي القدرة على إنتاج وتقليد الفعل البشري.
إن المنطلق الأخلاقي وعلاقته بالذكاء الاصطناعي كسؤال مرحلي هو أحد منطلقات الملتقى الفكري المصاحب للدورة الخامسة عشرة لمهرجان المسرح العربي التي أقيمت فـي مسرح العرفان بالعاصمة مسقط للفترة من 10-15 يناير 2024م. حمل الملتقى على مدى يومين العنوان التالي: (المسرح والذكاء الاصطناعي بين صراع السيطرة وثورة الإبداع)، وبين عناوين الأوراق النقدية التي قدمها الباحثون: «المساحة الرمادية بين الإبداع البشري والذكاء الاصطناعي: تجربة مسرحية كونتراست»، للدكتور أسامة لاذقاني، وورقة بعنوان «حول التصميم»، للدكتور محمد مبارك تسولي، وورقة «الإضاءة المسرحية البديلة: استكشاف إمكانيات الذكاء الاصطناعي فـي التصميم الإبداعي»، للدكتور عماد الخفاجي، وورقة «قناع الفـيروفـيوس... برامج وسائطية فـي الدراما: قناع فـيروفـيوس لدمج حركة الممثل والتكنولوجيا والإنترنت»، للدكتور أيمن الشريف، وورقة «الذكاء الاصطناعي وتوليد النص المسرحي» للأستاذ عبداللطيف فردوس، وورقة «الصوت... المؤثرات الخاصة: الصوت المحيطي والهولوجرافـي والمؤثرات البصرية التفاعلية بين الآلة والممثل»، للأستاذين وسام قطاونة وحسن حينا، وورقة «التصميم المسرحي والذكاء الاصطناعي.. البديل الغامض»، للدكتور خليفة الهاجري، وورقة «التصميم والابتكار - الإبداع» للباحث Shen Qian، وورقة «تصميم إضاءة نحو المستقبل» للباحث Guo Jin Xin، فإن العناوين تضعنا أمام تحديات عدة أهمها: محاولة الذكاء الاصطناعي محاكاة (العقل) البشري لا (الفعل) فـي ظل الخوارزميات التي تعمل بآلية معقدة تستطيع أن تفـيد الإنسان فـي مناحي الحياة العلمية والطبية والفنية، وأنها تقدر أن توجهه التوجيه الذي يراه الذكاء الاصطناعي بأنه «الأمثل»، فـي المقابل قصور الذكاء الاصطناعي عن معرفة المشاعر والأحاسيس من جهة، والحاجة إلى ضوابط أخلاقية صارمة تحفظ للإنسان خصوصيته من جهة مقابلة، هي مسائل فـي غاية الصعوبة. فهل هناك حدود للذكاء الاصطناعي لا يستطيع تجاوزها؟ إن الصانع بتعبير الفلاسفة للذكاء الاصطناعي هو الإنسان، وكما قدم الدكتور يوسف عيدابي فـي افتتاحية الملتقى الفكري بالقول: «المسرح والتقانة صنوان، تأتي التكنولوجيا بجديدها الذي يذهب بعد حين إلى قديم، ويأتي جديد آخر. ولكن ما يثير هو أن الذكاء الاصطناعي يصادم فـي (الخَلق)، هو يكتب ويُخرج ويُمثل وينتج ويفعل بنا ما يشاء، هو لا مخيّر ولا مسيّر، هو لا يؤمن إلا بقدرته وأقداره... هو الهو! - ولكنه من خلق الإنسان الفاني - مع هذا الذكاء يتراجع المؤدي/ الإنسان إلى المرتبة الثانية - الآلة تكون لها الأولوية، وهذا إشكال وجوهره فـي هذا الجدل الذي لن ينتهي.