الكتاب: العدالة أو التوحش، من أجل محكمة عالمية خاصة لفلسطين
الكاتب: هيثم مناع
الناشر: منشورات زمكان (بيروت) والمعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان/ مؤسسة هيثم مناع- بيروت وجنيف، 2024
272 صفحة من الحجم المتوسط 
يصدر بمناسبة انعقاد "المحكمة العالمية لفلسطين" في 6-8 حزيران/يونيو 2024

لا يمكن للمسافر في الصحارى المقفرة أن يسير دون بوصلة التأمل والعقل والمراجعة، ومهما طغى الألم على الروح والنفس والجسد،  فإن اختبار الإنسان مع مفهومه الخاص للأنسنة لا يسمح له بالسقوط في الوحل البهيمي للقتل والثأر والانتقام.



التقيت في باريس في 1982 الناقد والأديب الفقيد شمعون بلاص، الذي روى لي قصة "الهجرة إلى فلسطين"، وكيف أمضى الأسبوع الأول لوصوله في المعتقل، لأنه يحمل أفكارا شيوعية. كان يحلو لشمعون أن يصف نفسه، وهو المهاجر من العراق، بالعربي ـ اليهودي، ولا أنسى تحليله المبكر للحركة الصهيونية والذي لخصه يوما بالقول: "الحركة الصهيونية غربية قلباً وقالباً، وكانت محتكمة إلى مفهوم يدعو إلى الهجرة إلى فلسطين، والتموضع فيها وشراء أراض، فيما عُرف بالاستيطان، وهو ترجمة للكولونيالية. ومن الناحية الثقافية، كانت مقاربة الصهيونية أن الشرق متخلف. وهذا يعني، من ضمن أمور كثيرة أخرى، أن الصهاينة جاءوا إلى المشرق، ليس من أجل أن يندمجوا فيه، إنما من أجل تشييد هوية يهودية ذات محتد غربيّ. وبناء على ذلك، من المقدّر أن يبقى المشرق في مواجهة دائمة مع هذه الغاية. ولدى إقامة الدولة، أصبحت هذه المقاربة أكثر رسوخاً، ونُظر إلى يهود المشرق أنهم أتوا من العالم المتخلّف، وينبغي تربيتهم من جديد".

كيف يمكن ذلك عندما يكون المشروع الصهيوني قائما بالأساس على تأسيس دولة صهيونية في فلسطين شرطها الأول أن تكون جنسيتها وجنسية سكانها يهودية، الأمر الذي يستلزم بالضرورة، إثننة الدين l’ethnisation de la religion؟ أي صهر اليمني والمغربي والأوكراني والروسي في بوتقة إثنية ـ دينية واحدة؟ وكما يذّكر محمد حافظ يعقوب، في "الحلم المحبط": "في كل مكان رفعت الإثنية صوتها وعقيرتها، تحولت إلى معيق للتمازج والتنمية، وإلى محبذ للتمايز الاجتماعي، وبالضرورة، للتوتر والصراعات السياسية والاجتماعية وإلى حركات عنصرية رجعية متطرفة"؟

ننظرُ اليوم لما أنتجت عملية "إعادة تربية" يهود المشرق: سواء في كونهم "الجمهور الرئيس" لمن يسمى "الصهيونية اليهودية" وUltraorthodox ، أو كما كان يسميهم الفقيد صائب عريقات "الطالبان اليهود"... ليصبحوا أسياد الحماسة لتأصيل منظومة الأبارتايد في القانون الأساسي الإسرائيلي.

كان إيغال أمير، اليهودي اليمني طالبا في كلية القانون، ولم يشفع لاسحق رابين عمله الدؤوب لسنتين في معسكرات الإيواء التي استقبلت أهله من أن يعتبره أميرا خائنا وأن يغتاله؟ أما شخصية إيتمار بن غفير، الكردي العراقي الأصل، فتستحق الدراسة كأنموذج جعلت منه "التربية الصهيونية ـ الدينية"، وحشا بشريا قاتلا في مصنع الصهر الأتوريتاري للإنتماءات الأصلية، في أتون مأسسة هوية واحدة للدين والدولة والمجتمع.

يخطئ وللأسف، من يعتقد الحاخام إلياهو مالي، رئيس المعهد الديني التوراتي حالة خاصة، فالذين يؤيدونه في ضرورة قتل جميع سكان غزة لا ينفذون فتواه في الميدان العسكري وحسب، بل يتجمهرون لمنع دخول الماء والمواد الغذائية عند المعابر بحماية الجيش الإسرائيلي.

ومن المفيد أن نقرأ ما كتبه جيل كيبيل عن "أصحاب نظرية التفوق" بعد 75 عاما على النكبة: "يجد متعصبو اليهودية المعاصرة في الكتب المقدسة ما يضخون في شبكتهم الواسعة من المدارس الدينية، هناك مادة وفيرة للإرهاب المقدس ضد الغوييم (غير اليهود). وهكذا قال الرب لموسى في الخروج (23، 27): "إن رعبي يسبقك بإزعاج الشعوب قبل مجيئك، فيختار جميع أعدائك الهرب". بعد تحديد: "إنها يمينك يا رب التي تمزق الأعداء". في أريحا، بعد حادثة الأبواق التي أدت إلى انهيار الأسوار، ذبح يشوع "كل ما كان هناك". هؤلاء هم الممثلون الإسرائيليون في دراما غزة بعد مذبحة 7 أكتوبر 2023، الذين أصبحوا الوزراء الرئيسيين الذين يسيطرون على جدول أعمال السيد نتنياهو وبقائه السياسي".(Holocaustes, P 61).

ها هي محرقة غزة، تستحضر اليوم وبكل المعاني، كل مشاهد مأسسة العنصرية الإسرائيلية وسطوتها حتى على بقايا العلمانيين في "أرض الميعاد".

جاءت الحرب على أهل غزة، لتضع العالم الغربي أمام الوحش الذي قدم له كل ما يُمكّنه من أن يكون أكثر توحشا وأكثر همجية. ولكن أيضا لتضع هذا الوحش عاريا أمام العالم أجمع. وقد كشفت حرب الإبادة التي يخوضها، كل من تلطخت يده بالدم من الدول الغربية. ولكنها أيضا كشفت قوة الآلة الجهنمية التي تغلغلت في أهم مراكز صنع القرار في الغرب، ومؤسسات صناعة الكذب، بل وسائل الضغط الضرورية لوضع هذا الوحش، خارج نطاق أية محاسبةمن السطحية بمكان أن نستحضر أو نتحدث في فكرة العدالة، ومفهوم الظلم، ببعدهما الفلسفي، الأخلاقي والقيمي، بمعزل عن تناول استراتيجيات الكبار والصغار، ودون استحضار عملية بناء وإدارة التوحش في المشروع الصهيوني برمته.

من هنا طرح السؤال مرارا ودون ملل أو كلل: "نظام الأبارتايد هذا، المتناقض تناقضا صارخا مع كل الدنيا بأسرها، هل يتصور فعلا أنه مؤمن بنفسه، وبكونه فوق الجميع، فوق النقد، فوق الخطأ، وبالتأكيد والحالة هذه، فوق الفكرة الأزلية للجريمة والعقاب؟. هل يعتقد أن المنظومة العالمية System-World التي اعتبرته قاعدة ارتكاز لها، في قلب المنطقة، يمكن أن تشاطره هذا الوهم دون أن يكون ذلك أحد معاول الهدم الأساسية لهذه المنظومة العالمية السائدة نفسها؟".

أقام نظام الأبارتايد الإسرائيلي في 75 عاما آخر مجسّم على قيد الحياة،  لكل الجرائم والمذابح التي ارتكبتها المنظومة الغربية طيلة قرون الاستعمار والاستيطان والحروب العالمية، القديم منها والحديث، بما فيها أهوال المحرقة التي وقعت في قلب أوربة بحق اليهود والغجر والشيوعيين... وأصبح بذلك، المهرّج الأخير لمنظومة عالمية مات أبطالها الحقيقيون. فهل يمكن أن يبقى العالم عبدا لهذا المُهرّج المضرّج الأيدي بالدم الفلسطيني، حتى الثمالة؟ هل يمكن ونحن في نهاية حقبة، أن ينجح القاتل في اغتيال ما أنجزه البشر من ضوابط واعتبرته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، المُصدّق عليها من معظم دول العالم، حقوقا غير قابلة للتصرف، أن يعتبر هذه الحقوق والضمانات، موضوعا مباحا ومستباحا لأن المستشار الألماني لم يَعرض نفسه بعد، لتحليل نفسي يحرره من عقدة ذنب محرقةٍ شارك فيها جده؟ أو لأن الرئيس الأمريكي مازال يصر، وهو يتسول مرضاة مجلس الحرب الإسرائيلي، على أن "إسرائيل لو لم تكن، لكان علينا صناعتها"؟

في كتاب "العدالة أو التوحش" محاولة للإضاءة على المعاني الأعمق للتواطؤ الدولي الغربي مع جريمة إبادة جماعية موصوفة، تفكيك لآليات التطبيع مع عنجهية القوة، حَكَما وحاكما، وكيف يتم اغتيال القيم الأساسية التي ناضل أحرار العالم من أجلها بعد أهوال الحرب العالمية الثانية.

لذا كتبت في مقدمة الكتاب: "جاءت الحرب على أهل غزة، لتضع العالم الغربي أمام الوحش الذي قدم له كل ما يُمكّنه من أن يكون أكثر توحشا وأكثر همجية. ولكن أيضا لتضع هذا الوحش عاريا أمام العالم أجمع. وقد كشفت حرب الإبادة التي يخوضها، كل من تلطخت يده بالدم من الدول الغربية. ولكنها أيضا كشفت قوة الآلة الجهنمية التي تغلغلت في أهم مراكز صنع القرار في الغرب، ومؤسسات صناعة الكذب، بل وسائل الضغط الضرورية لوضع هذا الوحش، خارج نطاق أية محاسبة".

وصولا إلى القول: "لقد أصبح واضحا أكثر فأكثر، ضرورة البحث عن نقطة تجمع للرؤوس التي تفكر حقا، وللعقول الحرة فعلا، مع الطاقات الحقوقية والقانونية الحية، من أجل وضع فلسطين في قلب التحديات التي نعيشها اليوم: مؤرخون كنا أو فلاسفة، قضاة كنا أو محامين، حقوقيون كنا أو مواطنين من هذا العالم"...

في عالم أحادي القطب يحتضر، وأمام ضباب عالم متعدد الأقطاب طور التشكل، تتنصب القضية الفلسطينية في مركز هذه التحولات، وتطالبنا الطفولة الفلسطينية بالوقوف أمام لحظة اختيار بين سيدة الفضائل: العدالة، أي النضال لأنسنة الوجود البشري، وبين أبشع صنوف التوحش.

*مفكر وناشط في حقوق الإنسان

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب فلسطين غزة الحرب احتلال فلسطين غزة كتاب حرب كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا الوحش من أجل

إقرأ أيضاً:

بعد أدائه المهزوز أمام ترامب.. هل يمكن استبدال بايدن بمرشح ديمقراطي آخر؟

ظهر الرئيس الأمريكي جو بايدن بأداء مهزوز للغاية في أول مناظرة تجمعه مع منافسه الجمهوري، والرئيس السابق دونالد ترامب، تمهيدا للانتخابات التي تجرى في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.

ودفع تلعثم بايدن، وعدم قدرته على مجاراة ترامب في عدة مناسبات خلال المناظرة، إلى فتح نقاش جديد داخل الحزب الديمقراطي حول قدرة الرئيس البالغ من العمر 81 عاما، على الترشح لولاية رئاسية جديدة تمتد لأربع سنوات.

وفور انتهاء المناظرة، سلطت وسائل إعلام الضوء على تساؤل "هل يمكن للديمقراطيين استبدال بايدن بمرشح آخر؟".

وبالعودة إلى القانون الداخلي للحزب الديمقراطي، فإن هذه المسألة ممكنة في حالات محدودة فقط، ولكنها لا تبدو واقعية لأسباب عديدة.

وبرغم تزايد الأصوات المعارضة لترشح بايدن للانتخابات داخل معسكر الحزب الديمقراطي بسبب عدم إيمان ملايين الناخبين بقدرات الرئيس الذهنية، إلا أن ذلك لم يؤثر لغاية اللحظة على الإجماع حوله داخل حزبه.

وحصل بايدن مسبقا على تأييد نحو 3900 مندوب من الحزب، من أصل 4000 يحق لهم التصويت على مرشحي الحزب الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية.

وجاء تأييد بايدن قبل شهور كإجراء يُنظر إليه على أنه تقليدي للحزبين الجمهوري والديمقراطي بمنح من يرأس البلاد فرصة للفوز بولاية ثانية.

الأمر بيده
من الحالات النادرة التي قد يتغير فيها بايدن، هو موته قبيل الانتخابات، أو مرضه بحيث لا يقوى على الكلام. وبهذه الحالة يتعين على مندوبي الحزب الديمقراطي اختيار بديل له.

أما إذا بقي بايدن على وضعه الصحي الحالي، وبرغم عدم إيمان كثير من الديمقراطيين بقدرته على إدارة البلاد، إلا أن الأمر سيكون بيده للترشح واستكمال المشوار.

ولا يستطيع الحزب الديمقراطي إجبار بايدن على الانسحاب، إلا إذا قرر هو ذلك بنفسه، وذلك بعد حصوله على أغلبية مؤيدة لترشحه مسبقا.


ورطة محتملة
لا تبدو الأمور أفضل كثيرا بالنسبة للحزب الديمقراطي في حال انسحاب بايدن، إذ يتبقى على موعد الانتخابات الرئاسية نحو أربعة شهور فقط، وهي مدة غير كافية لاختيار مرشح توافقي داخل الحزب.

وبحسب تقرير لـ"فايننشال تايمز" فإنه في حال قرر بايدن الانسحاب، فإن إيجاد بديل له سيتطلب عدة جولات من الانتخابات الداخلية، واستطلاعات الرأي التي لن يكفيها المدة المتبقية للانتخابات.

وأشارت الصحيفة إلى أن أحد الاقتراحات هو حلول نائبة بايدن، كامالا هاريس كمرشحة بدلا منه، إلا أن هذا المقترح لا يحظى بإجماع داخل الحزب الديمقراطي.

وأشار استطلاع رأي سابق إلى أن نسبة رضا الديمقراطيين عن كامالا هاريس لا تتجاوز حاجز الـ40 بالمئة.


من جلسة واحدة
أحد المقترحات من قبل مشرعين ديمقراطيين، هو اختيار بديل لبايدن من جلسة واحدة فقط، حتى لو لم يحظ بإجماع الأغلبية.

ونقلت شبكة "سي أن أن" عن ديفيد أكسلرود، أحد كبار مستشاري الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، قوله: "هناك شعور بالصدمة إزاء الطريقة التي ظهر بها في بداية هذه المناظرة، وكيف بدا صوته.. لقد بدا مرتبكا بعض الشيء. ستكون هناك مناقشات حول ما إذا كان ينبغي أن يستمر"، مضيفا: "هو وحده من يستطيع أن يقرر ما إذا كان سيستمر أم لا".

وتوقع أكسلرود أن بايدن لن يترك السباق الانتخابي، مشيرا إلى أن "هذا الرجل لديه الكثير من الفخر ويؤمن بنفسه". لكن متخصصين في الشؤون الأمريكية صرحوا لشبكة "إيه بي سي نيوز" بأن الخيارات محدودة في حال رفض بايدن مغادرة السباق بمحض إرادته.

ففي هذه الحالة، سيكون أحد الحلول المتبقية وفق نائب ديمقراطي لم تكشف القناة الأمريكية عن اسمه هو "تنظيم مؤتمر مفتوح في الحزب الديمقراطي واختيار مرشح جديد من هذا المؤتمر".

ليست سابقة تاريخية
في حال انسحب بايدن فإن ذلك لا يعد سابقة تاريخية، ففي عام 1968، انسحب الرئيس الأسبق ليندون جونسون من السباق الانتخابي، بسبب حظوظه الضعيفة بالفوز في ولاية ثانية.

وفتح انسحاب جونسون حينها جدلا واسعا وانقساما داخل الحزب الديمقراطي في الانتخابات التي عقدت على وقع الحرب الفيتنامية.

وبعد مؤتمر عاصف عُقد في شيكاغو، تم اختيار المرشح هوبرت همفري حينها للتنافس في الانتخابات.

وبعد أربع سنوات من انسحاب ليندون جونسون المفاجئ، انسحب الديمقراطي توماس إيغلتون من منصب نائب الرئيس للمرشح الرئاسي للحزب جورج ماكغفرن.

يشار إلى أن المؤتمر العام للحزب الديمقراطي سيُعقد في الفترة من 19 إلى 22 آب/ أغسطس المقبل في شيكاغو.

مقالات مشابهة

  • كالكاليست: هل يمكن لإسرائيل الاستغناء عن الأسلحة الأميركية؟
  • وقفة.. الحرب العالمية الثالثة
  • المواطنون الأبرياء بين مطرقة الدعم السريع ومحرقة الحرب
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «4- 5»
  • «حكماء المسلمين» يشارك بمؤتمر القيادة العالمية للسلام في نيروبي
  • منظمة التحرير الفلسطينية: الصراعات الحالية مقدمة لحرب عالمية ثالثة (فيديو)
  • التهديد الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.. 56 صراعا دوليا والشرق الأوسط الأكثر سخونة
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (4/5)
  • بعد أدائه المهزوز أمام ترامب.. هل يمكن استبدال بايدن بمرشح ديمقراطي آخر؟
  • بعد أدائه المهزوز أمام ترامب.. هل يمكن استبدال بايدن بمرشح ديقمراطي آخر؟