صرخة صمت على زهور الأماني الذابلة في حضن الوطن
تاريخ النشر: 9th, April 2024 GMT
(وا معتصماه)..
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
تغمره أمواج الحنين وتعانقه حبال الصبر، عاش الوطن حربا ضروسا, اندلعت فيها نيران المدافع، واشتعل أزير الرصاص بين الأزقة والحارات. فعمت الظلمة، وضاع الحق في متاهات الظلم والاستبداد. في تلك الأوقات العصيبة نتذكر القرية الصغيرة، حيث تتلاقى زهور الحقول مع أنغام الطبيعة الساحرة.
في عتمة الغروب الساكنة، وتحت ظلال الأفكار المتناحرة، استغل الشاب الفرصة النادرة، وركب الأسد بثقة وشجاعة، وعندما عاد إلى قريته، استقبلته أصوات الزغاريد والتهاني، وانتشرت قصة شجاعته في كل ركن من أركان القرية. ومع بزوغ فجر جديد، لمح الشاب الأسد مربوطاً في المنزل، فاستغرب وقال بدهشة: "عمتى الأسد ده الجابو منو ولشنو؟" ردت عمته بابتسامتها المعهودة التي لا تخلو من سخرية العمات، قائلة: يا وليدي أنت الجبت الأسد وكمان راكب فوقه؟" فصرخ الشاب بأعلى صوته، (واي واي) ، وعندما رجع له عقله بعد أن تبللت ملابسه، عمتي عليك الله استريني، قالت ليهو يا وليدي انت السترة فتّها، لكن اعقل (وخت الرحمان في قلبك) ..
وما اشبه الليلة بالبارحة، الجنجويد بدخولهم الجزيرة قالوا (واي) و ترددت أصداء صرخات السودانيين في أذهان القاصي والداني الكل قال( واي) من شدة مرارة الحرب وتداعياتها من مولود هو ثمرة زواج غير شرعي. فهل السترة فاتت وبقيت العقلانية أم الاثنين ذهبا معاً؟؟
وسط الصخب والضجيج، وعندما صرخ اهلنا في دارفور (واي) كان الأغلبية نياما لكن اليوم أرتفع صوت الأحزاب والجماعات "واي". وأهلنا في القرى بصوت واحد قالوا "واي"، وأولادنا المغتربون واهلنا النازحون قالوا "واي". فالسؤال وسط هذا الصراخ هل تيقّن الشعب فعلاً أن الوطن هو بستان شاسع؟ تتشكل لوحته بتنوعها وغناها؟ حيث تلتقي الأعراق والأديان والثقافات، في لوحة فنية فريدة تتداخل فيها الألوان لتخلق تناغماً ساحراً، فلولا الهزات الأرضية والتصدعات، لبقيت الأرض كتلة واحدة، ولم نشهد أبداً تلك المغازلة الرومانسية بين مياه النيل الجارية وأرض الجزيرة الخضراء، تلون الأرض بألوان الحياة وسحر الجمال. ان ثبات رسم خطوط القلب على خط مستقيم دليل على الوفاة، فالثبات ليس دائماً هو السرّ الحقيقي للحياة، بل الحياة تحتاج إلى تعرجات وانحرافات لتظهر جمالها الحقيقي، دعونا نرسم خطوط قلوبنا بأناقة وتفاؤل، ونتقبل اختلافاتنا فهي مفتاح مهم لاكتشاف الجمال الحقيقي للحياة، حيث تنسجم الألوان وتتلاقى الأشكال لتخلق لوحة فنية مذهلة من تناغم الوجود، لوحة يرسمها لنا التنوع الثقافي والجغرافي واختلاف السحنات، لتروي قصة حضارة عريقة، تمثل رمزاً للوحدة الوطنية والتضامن بين شتى الثقافات. وهكذا، تتجسد الروعة في سحر الخيال وطني السودان.
على لسان عمتنا، تتفتح نوافذ التفكير العميقة لمواجهة التحديات وإدارة الأزمات. تتساءل عن دور العقلانية والتعقل في مواجهة تهديدات الحرب والصراعات، مقارنة بدور العنف والرصاص في تشكيل مصائر الناس. في الجانب المظلم من تاريخ الحروب في السودان، ينبعث الألم والحزن من رصاص الغدر الذي سفك دماء الأبرياء وسرق أرواح الضعفاء. لكن في وسط هذا الظلام، يظل الأمل متجذراً في أرواح الأحرار. حيث بمقدور العزيمة الصلبة والإرادة القوية احداث التغيير، وبناء السلام. أن الخائن - كما علمتنا الحياة - يكون أكثر فتكاً من الرصاص، حيث يستخدم قوة الكلمات لتحريك المشاعر وتغيير مجرى الحياة ، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ويضعف جهود بناء السلام. في نهاية المطاف، تتساءل الأرواح المتلهفة للتغيير، هل نحن نحمل الفكر الذي يشجع للسلام، أم نحمل سلاحاً للدمار والخراب؟
عندما تشتد الصراعات وتتصاعد أصوات الحروب، يتساءل الكل كيف ومتى سينتهي هذا الجحيم؟ ومتى ستعود الحياة إلى مسارها الطبيعي.؟! بعد أن جربنا كل أصناف الحروب والدمار، وعشنا في أحضان الأزمات، هل تلوح في الأفق لحظة صفاء ترسم الحياة بألوان الأمل والسلام.؟!
تتناوب الأيام وتتبدل المشاهد، من دماء وأشلاء وآثار عميقة خلفتها الحروب على المجتمعات والأفراد. ينبغي علينا الاستفادة من التجارب السابقة واستخلاص الدروس التي تعزز قدرتنا على مواجهة التحديات بحكمة واقتدار. تنشأ مراصد التنبؤ في عقولنا، تهمس لنا بالأخطار المحتملة والتحديات المرتقبة، مدعومة بالتجارب الشخصية والجماعية وذاكرة المأساة والصعوبات. نستلهم التجارب لنعرف العواقب المحتملة لقراراتنا وأفعالنا. فالوطن ليس حدودا جغرافية موحاة من السماء، بل صنعة بشرية، يلتقي فيها الجميع على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات. فلا لون ولا قبيلة ولا دين يميز بين الناس، فالكل سواسية في الحقوق والواجبات لا لونك ولا قبيلتك ولا دينك ولا شكلك ولا إقليمك يجعلك أفضل من غيرك هيّا بنا لبناء الدولة القيمية التي تقوم على ثلاث ركائز أساسية( القيم الإنسانية وكرام الإنسانية وحقوق الإنسان) كما قال شاعرنا الراحل المقيم محجوب شريف "وطن بالفيهو نتساوى
نحلم نقرأ نداوى
مساكن كهربا وموية، تحتنا الظلمة تتهاوى
وتطلع شمس مبهورة بخط الشعب ممهورة."
في غفوة الليل الهاجع، ترتسم لوحة فنية من الأمل والتسامح، تتداخل فيها ألوان السلام وأنغام الخير. في أحضان العشر الأواخر من رمضان، لا تبحثوا عن أشجار تسجد أو أنوار تملأ الأفق بضيائها. بل ابحثوا عن الخير في دفء وطن محتاج للسلام، وفي لمسة أب حنون، وفي نظرة أخ أو اخت تبتسم بفرح صادق، وفي حضن أم تمنحكم الأمان والطمأنينة. ابحثوا عن السلام في بساطة الحياة، وفي عيون الأطفال البريئة الخائفة من صوت الدانات، وفي قلب كل نازح متلهف يترقب الفرج والرحمة، وفي كل نفس تتوسد الصبر وتتغلب على تحديات الحياة. تجولوا في أروقة السياسة وابحثوا عن السلام بقلوب مفتوحة وأيد ممدودة. فالبحث عن السلام ليس مجرد كلمة تقال، بل رحلة شاقة من العمل والعطاء.
رحلة تحمل في طياتها معاني الحب والتآخي، وتسهم في بناء مجتمع يسوده التعاون والأخاء، وينعم فيه الجميع بالسعادة والرفاه .
abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
موجز تاريخ الحرب كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
"هل علينا أن نتحمل خطيئة قابيل؟! وهل مكتوبٌ في أقدارنا أن نستمر في شن الحرب حتى نُهلِكَ أو نَهلَك؟!
إنها الحرب، امتداد الخطيئة الأولى، لما طوعت لابن آدم نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين! فهل أصبحت الحرب فعلا تُورّث بين أبناء آدم؟!"
بهذه الكلمات عبرت أراكة عبد العزيز مشوح عن صدور ترجمتها لكتاب "موجز تاريخ الحرب" للمؤرخ العسكري غوين داير، الذي صدر قبل أيام يسيرة عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
مايكل غوين داير، المولود يوم 17 أبريل/نيسان 1943، مؤرخ عسكري بريطاني كندي ومؤلف وأستاذ وصحفي ومذيع وضابط بحري متقاعد، وقد كان أول ظهور واشتهار له في ثمانينيات القرن الماضي مع إصدار مسلسله التلفزيوني "الحرب" الذي عرض عام 1983، ليردفه بنشر كتاب مصاحب له بالاسم نفسه عام 1985.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2محاكمة "الاستغراب".. قراءات نقدية متعددة لمشروع حسن حنفي الفكريlist 2 of 2المفكر الصادق الفقيه: على العرب استكشاف إستراتيجيات للتغلب على التبعية والتخلفend of listعاش داير الحروب واقعا وممارسة كما عاشها ودراسة أكاديمية فجمع في فهم الحروب بين المعايشة والتخصص الأكاديمي، فهو الذي ولد في أثناء الحرب العالمية الثانية في سانت جونز لعائلة كاثوليكية أيرلندية، وفي وقت ولادته، كانت المقاطعة دومينيون نيوفاوندلاند، مستعمرة تابعة للتاج البريطاني، ولكن عندما انضمت نيوفاوندلاند إلى كندا يوم 31 مارس/آذار 1949، أصبح مواطنا كنديا بحكم القانون، وحينها انضم داير إلى الاحتياطي البحري الملكي الكندي وهو في سن الـ16، وفي مسارٍ موازٍ حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من جامعة ميموريال في نيوفاوندلاند عام 1963، ودرجة الماجستير في التاريخ العسكري من جامعة رايس في هيوستن، في تكساس عام 1966 ودكتوراه في التاريخ العسكري وتاريخ الشرق الأوسط في كينغز كوليدج لندن عام 1973.
كما أنه خدم في الاحتياطيات البحرية الكندية والأميركية والبريطانية، وتم تعيينه محاضرا أولا في دراسات الحرب في الأكاديمية العسكرية الملكية ساندهيرست ما بين عامي 1973-1977، وكان قد بدأ في عام 1973 كتابة مقالات لصحف لندن الرائدة حول الصراع العربي الإسرائيلي، وسرعان ما قرر التخلي عن الحياة الأكاديمية من أجل مهنة بدوام كامل في الصحافة.
أما كتابه "موجز تاريخ الحرب" الذي أصدره سنة 2021، وصدرت ترجمته للعربية قبل أيام، فإنه يتناول آلية الحرب وكيف تعمل، ويتساءل فيه المؤلف "لماذا نخوضها؟ بل حتى كيف يمكننا إيقافها؟" وعلى الرغم من أن الرأي العام في بعض البلدان كان قد انقلب في النهاية على الحرب، باعتبارها نوعا من أنواع المتاجرة، فإن الدول كلها تقريبا لا تزال تحتفظ بجيش عسكري حتى وإن كانت احتمالات خوضها حربا أمرا مستبعدا بالنسبة إلى غالبيتها.
المؤرخ العسكري "غوين داير" عايش الحروب واقعا وممارسة ودراسة أكاديمية فجمع في فهم الحروب بين المعايشة والتخصص الأكاديمي (غيتي)على الرغم من أن المؤلف قد أمضى النصف الأول من شبابه وهو يطوف بين جنبات الجيش، فإن كتابه هذا ليس تأريخا عسكريا خالصا بالمعنى المتداول، بل هو دراسة للحرب بصفتها عُرفا وتقليدا متوارثا سائدا بين الناس، ومعضلة وإشكالية أيضا يجب علينا التعامل معها بموضوعية.
يأتي هذا الكتاب في مرحلة حاسمة يعيشها العالم من حرب روسيا وأوكرانيا وثورات الربيع العربي ومؤخرا الحرب الجارية على غزة لبنان، ويقف العالم على فوهة بركانية ويعايش فترة زمنية ربما تكون من أصعب المراحل التي مرت عليه.
وفي الوقت الذي يسرد فيه غوين داير نبذة متسلسلة تبعا للتاريخ عن كيفية نشوء الحرب بين بني البشر غير أنه يعود في بعض الفقرات خطوة إلى الوراء لينظر في شكل الحرب بين الرئيسيات "وهم ثلة من الثدييات تضم القردة والشمبانزي والسعادين والقرود أشباه البشر"، ليقارن بعد ذلك بينهم وبين الإنسان البدائي، على الأخص في أستراليا وغابات الأمازون، من ناحية شكل الحرب والهجوم والدفاع، ومن منهم يستخدم سلاحا في حربه ضد عدوه ومن الذي لا يمتلك إلا يديه سلاحا!
تاريخ النزاعات والحروبويمضي المؤلف قدما ليصف شكل المعركة الأولى وكيف تغيرت وكيف تسلحت وكيف كانت حال المقاتلين وعدد القتلى، ويقدم شرحا وافيا لسؤال كيف نشأت المعركة؟ ثم يقسم الحرب إلى تصنيفات مختلفة بحسب التاريخ، كلاسيكية وجماهيرية وشاملة. من بعدها، يبدأ في سرد نبذة عن الحرب النووية والحرب التقليدية وأخيرا الحرب على الإرهاب.
وهذا الكتاب الذي يقدم تحليلا شاملا وعميقا لتاريخ النزاعات، ويساعد القارئ على فهم الأسباب الكامنة وراء نشوب الحروب، وتطوراتها عبر التاريخ، وتأثيراتها المدمرة على المجتمعات، يتوزع على 10 فصول، يدور بعضها حول قضايا نظرية تتناول جذور الحروب ونشوء المعارك والأسباب التي تدفع البشر إلى شنها والأساليب التي نقاتل بها، وتعرض فصول أخرى تاريخ الحروب في تسلسل زمني، بدءا بالحروب الكلاسيكية، وصولا إلى الحروب النووية والشاملة.
داير يتناول في الكتاب بالاستعراض التفصيلي التطور الذي طرأ على التكتيكات والأسلحة المستخدمة في الحروب عبر الزمن (غيتي)ويوضح داير أن الحروب لم تكن دائما جزءا من التجربة الإنسانية، بل إنها تطورت بوصفها للتنافس والسيطرة، وذلك من خلال تفصيل القول في كيفية بداية النزاعات العسكرية وأسبابها الرئيسية، مثل الصراع على الموارد والأراضي، ثم يناقش المؤلف كيف تغيرت أسباب الحرب مع تطور المجتمعات.
كما يتناول المؤلف بالاستعراض التفصيلي التطور الذي طرأ على التكتيكات والأسلحة المستخدمة في الحروب عبر الزمن، فيبدأ الحديث عن الأسلحة البسيطة في العصور القديمة وصولا إلى التطورات التكنولوجية الحديثة، مثل الأسلحة النووية والطائرات بدون طيار، ويقدم الكاتب تحليلا لتأثيرات هذه التغييرات على طريقة خوض الحروب وأعداد الضحايا وأساليب القتال.
ومما يتوقف عنده المؤلف في كتابه ويتناوله بالاستعراض والنقاش تأثيرات السياسة والدبلوماسية على مسار الحروب، وكيف تُستخدم الحروب أداة لتحقيق الأهداف والغايات السياسية، فالحرب إنما تشتعل لخدمة السياسة، ويبرز داير مسألة الوصول إلى التفاوض والمحادثات الدبلوماسية وأهمية ذلك في إنهاء الصراعات، مستعرضا بعض الاتفاقيات البارزة التي أسهمت في إنهاء بعض الحروب الكبرى.
داير تناول في الكتاب بالنقد والتحليل والتقييم دور القوى العظمى في الحروب وتوجيه النزاعات والتحكم في مساراتها وقطف ثمارها (غيتي) الحروب والمجتمعاتكما يتناول المؤلف بالحديث التحليلي قضية تأثير الحروب على المجتمعات، بما في ذلك الآثار الاقتصادية والسياسية والنفسية، مسلطا الضوء على الكوارث الإنسانية التي خلفتها الحروب، بدءا من الخسائر البشرية وصولا إلى الدمار الاقتصادي والاجتماعي.
ومما يتميز به الكتاب أيضا أن المؤلف تناول بين طياته تأثير الثورة التكنولوجية على طبيعة الحروب الحديثة، مع الأخذ في الاعتبار الحروب القائمة والنزاعات الحالية المتصاعدة والتحديات الجديدة التي يواجهها العالم، مثل الحروب السيبرانية والإرهاب وغيرها.
كما أن داير تناول في الكتاب بالنقد والتحليل والتقييم دور القوى العظمى في صاعة الحروب وتوجيه النزاعات والتحكم في مساراتها وقطف ثمارها.
وفي النهاية، يبقى الموضوع الرئيس للكتاب هو محاولة الإجابة بلغة سلسة وطريقة واضحة وأسلوب سهل عن سؤال: لماذا نخوض الحروب، وكيف نوقفها؟ لأن هذا فعلا ما تحتاج إليه البشرية اليوم لكبح جماح جنونها المتصاعد.