سودانايل:
2024-07-08@09:55:44 GMT

نقد .. وقصة قصيرة

تاريخ النشر: 9th, April 2024 GMT

نقد .. وقصة قصيرة
بقلم / عمر الحويج
نقد: الناقد الأستاذ صديق أبراهيم
مُحاولات تأسيس
نظري أهديها لكاتبنا الكبير عمر الحويج .
فيما يخصُّ تناوله السردي الذي يستدعي فيه ثيمة حفل الدلوكة بأجواءها وصخبها وطربها وربطها بالمُشكل الإجتماعي، و كما في قصة "الكَرَبة" أو بصور تداعي الذاكرة والنوستاليجيا كما في قصة "وردية الليل" والإثنان من إنتاجه المُبكر في منتصف الستينات، حيث نوَد معه تفصيل وتعريف أبستيمي لمفهوم التراث، وكيفية توظيفيه جمالياً في عملية السرد وخلق مشهد لغوي بياني ينقل القارئ إلى حيوية الحدث .


هنالك دراسات مثيرة للإهتمام والقراءة تُفيد بأن لفظة تراث - كمفهوم وكوجود موضوعي - تتصاعد دائماً في الأذهان مشروطة في محتواها بالمدى التاريخي وبالهوية الشعبية. إلا أن هذا الإشتراط كثيراً ما يقف عند حد التسليم بهذا المدى التاريخي وبهذه الهوية دون تفرس حقيقي في المقصود "بالتاريخ" و "بالشعبية"، فالمحاولات الباحثة في طبيعة القيمة الأستطيقية في مستواها الشعبي تبدو محاولة ممكنة في ضوء تلك الإصلاحات إن لم نقل التغيرات المميزة التي إجتاحت عقول وأفكار النقاد والفلاسفة الذين يتناولون الظاهرة الجمالية بشكل أعَمّ. ويرجع ذلك إلى تملّك الإنسان المعاصر لأدوات َمناهج أكثر دقة وظهور الأنثروبلوجيات وعلوم الفلكلور والأستطيقيا.
***
وقصة قصيرة : الكَرَبَة.

أفراح هذه القرية تبدأ عادة لحظات وداع الشمس، ولكن في ذلك اليوم خالف أهل تلك القرية هذه العادة، وهو حدثٌ سيظلّ يذكره الناس ما عاشوا..
تعوّدَت بت دقلولة أن تصحو مع الصيحة الأولى للدّيكة ولكن في ذلك اليوم، وهي في نومها سمعت خبطات على الدَّلُّوكَة، رفعت رأسها إلا أنها عادت مرة أخرى إلى النوم، ولكنها هذه المرة أدخلت معها ذكريات عرسها ، ابتسمت خجلة، وهي تذكر أنها رقصت أمام الناس عاريةً إلا من الرَّحَط ذي السّيور المتفرّقة، وحتى نهديها لم يسترهما ساتر، لو شاهدها آخر في هذه اللحظة لوجدها وقد شبكت يديها حول صدرها، والجزء الآخر من منطقة الخجل فيها، وكأنها في هذا العمر تخاف من عيون الناس. الشيء الذي لم تفهمه، فأصبح دهشتها الدائمة، نساء هذه الأيام لم يفعلن مثل ما فعلنه في زمانها، بالرغم من ذلك سمعَت أن الرجال في "البَنْدَر" يضربون المرأة التي تعرِّي جزءاً من ساقيها!!. هذه المرة قفزت مذعورةً وكأن الصوت قد أتى إليها من تحت العَنْقَريب، أعقبته دقّات الشَّتَم، فتمتمت بصوتٍ عالٍ، بسم الله الرحمن الرحيم، يا حامد ابْ عصاةً سيف، وتذكرت، قبل أيام قال لها محمود ود بابكر أن طاحونة العمدة، قامت بَرَاها تكَرْكِب نُصّ الليل، يا حمد الرباع ولادك السُّراع، وهي لا يغباها أن ذلك الليل هو الذي يبيت فيه الأسطى ود عجيب مع أهله في الشرق، لكي يجهز لهم حاجيات السبوع من (سوق التلاتة)، قطع عليها تخيلاتها عثمان ود الحداد، وقد وقف فوق رأسها حاملاً بين يديه (السقو). في لحظة مرت بخاطرها كل فتيات القرية، توقفت عند كل واحدة منهن ولكنها أبداً لم تجد إحداهن قد حددوا لها زواجها في هذا اليوم. نظرت إلى ود الحداد مرة أخرى، تأكدت أنه (السقو)، نظرت إليه مندهشةً، مستفسرةً فهي تعرف أن ود الحداد "جلدوا حلو ما يملأ السقو مويه أكان كسروا رقبته"، ولكن لخيبتها تركها ود الحداد لحيرتها ودهشتها وهرول خارجاً وهو يقهقه بصوت عال حين تأكد له أنها قد استيقظت تماماً، نهضت من رقدتها، وبعجلة غير معهودة فيها كَرَبَتْ قُرْقَابها، فهي منذ زواجها وهي تعمل بنصيحة أمها، أن لا تَكْرُب بطنها عند النوم، فالزوج لا يحب أن يبحث عن موضعه كثيراً. في لحظات كانت خارج الحوش، تذكرت أنها تركت ود عاشّة المرحومة نائماً، فانقبض قلبها، فهي أبداً لم يحدث منذ أن ماتت أمه يوم ولادته أن تركته خلف بالها، عادت إليه مرة أخرى ولكنه كان نائماً ، وصوت دقّات الدَّلُّوكَة في الخارج يزداد ، والسؤال، في شنو يا ربي؟؟، يمنع لحظة اختراق الصوت إلى أذنيها، لن توقظه، هكذا قررت لتذهب وتقف أمام الباب، فيكفي هذا لتعرف ماذا هناك، حملت معها (البَنْبَر) فالمسافة ليست بعيدة يمكنها أن ترى وهي في مجلسها قرب الباب، تعلقت نظراتها حيث (شجرة الدَّلُّوكَة)، أهل القرية كلهم يعبرون من عندها مهرولين إلى هناك، ازدادت دهشتها، هؤلاء الناس حتماً كانوا يعرفون، شجرة الدَّلُّوكَة مكتظة بالناس، برغم قصر نظرها وضعفه، فهي تستطيع أن ترى حتى الغبار المتطاير من جراء (العَرْضَة) التي يمارسها الصبيان، يمكنها من مجلسها أن تخمن الراقصة، فهذا هو ابَّشَر ود علوية لا يفارق الدائرة، حتى طاقيته المنسجة الحمراء لا يقرّ لها قرار، حتماً التي ترقص هي الشول بت أحمد، حقاً إنها جميلة، لا يطالها غير ابَّشَر زينة شباب القرية، من حنجرتها كادت تنزلق زغروده، ولكن احتبستها ذكرى، المسكين هي "رايداهو"، لكن ما في طريقة مع أبوها العمدة، القال داير يعرسها لي الوليد المفيعيص بتاع البندر الجابوه حكيم في الشفخانة، قال شنو؟، عشان عالجه من مرض الـ... ، أهه... هو عاد والله غاشِّيْهُ ساكت، المرض ده من وِعينا وفتَّحْنا، سمعنا قالو ده ما مرض حُكَمَا، أخير ليه كان اتيقن، وعرّس البت وشاف جديدها، قبل ما يفوت الفوات، آها كمان جاء الصعيليك ود الرجف الله "ماكل" الناس خشم ساكت، ليلو يجُوْغِر في المريسة، والأم بي هناك تسقي في الناس العَرَقِي، نوع ده يسو ليهو شنو؟، ما في بت تقوم ترقص أكان سمحة كان شينة، هو طالع فوق أكاتفين الصبيان، بس شوفوني، أهه عاد، الفيهُ حُرْقُصْ بَرَاهو بِرْقُص. صراخ حفيدها يجعلها تتوقف عن المتابعة، والناس ما زالت تتقاطر حيث شجرة الدَّلُّوكَة، تلملم ثوبها وتهرول إليه، تراه يبحث في الظلام عنها، يشتد صراخه، حين يجدها غير موجودة بالقرب منه. يصمت فجأة حين تمسك به وتحمله، يدعك عينيه حين تصطدمان بالضوء خارج الغرفة تجلس به على البنبر، يحس بما يجري حوله، يمسك بها من طرف ثوبها، يريدها أن تذهب به، ولكنها متأكدة من أنه لم يكمل نومه، وهذا ما يقلقها، يُمَّة في شنو؟، تمتم بها في غضب حين أحسّ أنها تجاهلت رغبته. تعال اطلع ارقد فوق "سَدْرِي" أكلمك بالفي، يستجيب لرغتبها في سرعة أدهشتها، وهي التي تعرف مدى عناده وتلفَّتت بحثاً عما تقوله، فهي نفسها لا تعرف ماذا حدث، ولكن يجب أن يكمل نومه، ضمَّته إلى صدرها في حنان وبدأت تهتز به إلى الأمام تارة وإلى الخلف أخرى، وهو لا يزال مستكيناً لها، مبحلقاً بعينيه إلى فمها، منتظراً منها أن تتكلم، نظرت إلى شجرة الدَّلُّوكَة التي لم تعد تسع كل الموجودين، وفي رأسها صورة عثمان ود الحداد وهو يحمل (السقو ) لأول مرة، وهي ما زالت مندهشة، والطفل يبحلق فيها بعينيه الناعستين، تنظر إليه وتبتسم:
قالوا كان في بلد زي بلدنا دي، كَرَبَة كبيرة ليها كرعين ما بنعدّن وخشماً واسع ما بتوصف، مليان سنون. الكربة دي قعدت تعضِّي في الناس، بالزمن الما شوية والتَّعَضِّيهو الكَرَبَة تقعد تشرب من دمه.. تشرب من دمه، لا من يقع ناشف، وقدر ما حاول أهل البلد دى يقتلوا الكَرَبَة ما قدروا عليها، وهي تعضِّي في الناس، والناس تموت من العض، لغاية ما جاء واحد، قالوا عليه ساحر، قال ليهم الكَرَبة دي ما بتموت إلا نامن تسمع نهيق حمار الوحش..ما صدقوه في الأول.. ضحكوا، لكن وكت العض كتر، والموت ملأ٠ البلد، مرق صبيان القرية وقِدَّامُن الساحر وبقوا يفتشوا لي حمار الوحش وبعد تعب وعطش وموت لِقُوه...ولمن دخل البلد ونهق أكان الكَرَبَة وقعت ميتة، وأتلمّ اليوم داك الناس في شجرة.. ذي شجرتنا دي، وقعدوا يرقصوا ويغنوا ويعرضوا.. و.. ونظرت إلى الطفل، فإذا به قد أغمض عينيه ونام، حملته بهدوء ودخلت به إلى الغرفة لتضعه على عنقريبه وأصوات الدَّلُّوكَة ترتفع اكثر... ودقات الشَّتَم تعلو... وهي حتى الآن لم تعرف ماذا حدث، لكن وكت الولد صحى مرة ونام تاني، ما أظن يصحى بعد ده.. اللَّمْشِي أشوف الناس ديل مالُن... وتضع من فوقه ثوبها القديم، حتى تطمئن أكثر، ثم بعدها تهرول إلى الخارج، ولا يزال السؤال في شنو يا ربي؟؟... يمنع لحظة، اختراق صوت دقات الدَّلُّوكَة إلى أذنيها.

omeralhiwaig441@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الک ر ب ة

إقرأ أيضاً:

هكذا دمر 7 أكتوبر أسطورة القوة العسكرية الإسرائيلية التي لا تقهر وإلى الأبد

هدمت عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى تآكل عقيدة "إسرائيل" العسكرية القائمة على 6 مبادئ: الضربات الاستباقية، وأنظمة الإنذار المبكر، والردع الفعال، والدفاع القوي، والحل السريع، والسيطرة على التصعيد.

هذا ما خلص إليه تحليل أعده سامي العريان ونشر في موقع "ميدل إيست آي" البريطاني.

وفيما يلي ترجمة الجزء الأول من التحليل:
في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2023، أي قبل أسبوعين من هجوم طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حول "الشرق الأوسط الجديد". وتباهى نتنياهو بقوة "إسرائيل" ومكانتها باعتبارها القوة التي تفرض الأمن الإقليمي.

رفع خريطة تظهر خطًا يمتد من الهند عبر الخليج والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن، ثم إلى مدينة حيفا الساحلية الإسرائيلية، وينتهي في النهاية في أوروبا.

أطلق على هذا المشروع الكبير اسم ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا (Imec)، وهي مبادرة ترعاها الولايات المتحدة لمواجهة مبادرة الحزام والطريق  الصينية (BRI).

منذ ما لا يقل عن عقد من الزمان، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة توجيه استراتيجيتها للأمن القومي العالمي من أجل التركيز على التحديات الجيوسياسية الأكثر أهمية التي تواجهها، وهي الصين الصاعدة وروسيا المعاد تأكيد نفسها.


ولكن في الشرق الأوسط، الذي يعد من أكثر المناطق حيوية بالنسبة للمصالح الأمريكية، اختارت واشنطن تقليص وجودها العسكري وإسناد دور تأمين مصالحها والحفاظ على الاستقرار إلى اثنين من حلفائها الأكثر ثقة؛ إسرائيل والمملكة العربية السعودية.

إنها سياسة مشابهة لمبدأ نيكسون الذي تم اعتماده في أوائل سبعينيات القرن العشرين والمعروف باسم الركيزتين التوأم.

وقد صُممت هذه السياسة لإعادة تموضع القوات الأمريكية ونقل مهمة حماية الأمن والمصالح الاقتصادية الأمريكية في الشرق الأوسط إلى قوى إقليمية.

الهزيمة الاستراتيجية
بعد أن توسطت إدارة ترامب في اتفاقيات "أبراهام" بين "إسرائيل" وعدة دول عربية خلال عامها الأخير في السلطة، قررت نقل "إسرائيل" من كونها حليفًا غير عضو في القيادة العسكرية الأوروبية (حلف شمال الأطلسي) ودمجها في هيكل القيادة المركزية؛ القيادة العسكرية الأمريكية المسؤولة عن حماية المصالح الأمريكية في هذه المنطقة الحرجة الممتدة من مصر إلى أفغانستان .

وقد تبنت إدارة بايدن هذه السياسة بحماس عندما تولت السلطة في كانون الثاني/ يناير 2021. وفي يوم تنصيبه، عيّن الرئيس الجديد بريت ماكجورك لتنفيذ هذه السياسة باعتباره المسؤول الرئيسي عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي.

ومنذ ذلك الحين، عمل ماكجورك، المؤيد بشدة لـ"إسرائيل" والذي يتسم بعقلية استعمارية، بجد على التوصل إلى اتفاق تطبيع بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية، والذي كان من المتوقع التوصل إليه في أوائل عام 2024.

وبموجب هذه الصفقة، كانت "إسرائيل" تأمل في إبراز قوتها في المنطقة، وتعزيز مكانتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتأكيد تصورها لنفسها باعتبارها القوة المهيمنة في المنطقة. ولكن الخطة انهارت في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

منذ الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة ، كان النظام الصهيوني وإدارة بايدن عازمين على استعادة صورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، والتي شوهت بشدة بسبب هجوم 7 أكتوبر.

ولتحقيق هذه الغاية، أطلق القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون عمداً حرب إبادة جماعية لإحداث الفوضى في غزة ، وجعلها غير صالحة للعيش ومعاقبة سكانها بشدة، وخاصة النساء والأطفال وكبار السن.

ولكن على الرغم من الدمار الهائل الذي حدث في غزة خلال الأشهر التسعة الماضية، والذي أسفر عن عدد غير مسبوق من الإصابات والقتلى الفلسطينيين، والدمار على مستوى لم نشهده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن "إسرائيل" عانت من هزيمة استراتيجية كبرى، مع تآكل عقيدتها العسكرية.

تتكون هذه العقيدة من عدد من الضرورات العسكرية التي اعتمدت عليها الدولة الصهيونية من أجل بقائها وأمنها منذ تأسيسها قبل أكثر من سبعة عقود.


لم تعد هناك حدودا آمنة
إن أحد الركائز الأساسية لعقيدة الأمن القومي الإسرائيلي هو مفهوم "الحدود الآمنة". وعلى مدى وجودها، حاولت "إسرائيل" دوماً إنشاء مناطق عازلة حول حدودها والتأكد من أن الأنظمة المحيطة بها ضعيفة وقادرة على خدمة المصالح الإسرائيلية والغربية.

كانت غزوات "إسرائيل" لشبه جزيرة سيناء المصرية في عامي 1956 و1967 تهدف إلى تحويلها إلى منطقة عازلة. وحتى عندما وافق النظام المصري على توقيع "معاهدة سلام" في عام 1979، فإن الاتفاقية حولت سيناء فعلياً إلى منطقة عازلة، حيث حدت من السيادة المصرية والوجود العسكري هناك.

وعلى نحو مماثل، احتل النظام الإسرائيلي مرتفعات الجولان السورية في عام 1967 وضمها في عام 1981 بذريعة إنشاء منطقة عازلة هناك. وبعد عام واحد، في عام 1982، غزت "إسرائيل" لبنان من أجل تأمين منطقة عازلة هناك تمتد إلى نهر الليطاني، الذي يبعد حوالي 27 كيلومترًا عن حدودها الشمالية.

بعد 18 عاما من الاحتلال العسكري، اضطرت "إسرائيل" في عام 2000 إلى الانسحاب من منطقتها الأمنية المعلنة التي تبلغ مساحتها نحو 850 كيلومترا مربعا بعد أن تكبدت مئات القتلى في ظل المقاومة الشرسة التي قادتها جماعة حزب الله اللبنانية.

وباستخدام المنطق نفسه، تواصل "إسرائيل" الإصرار على أن وادي الأردن يجب أن يظل دائما تحت السيطرة الإسرائيلية حتى يكون بمثابة منطقة عازلة مع الأردن.

وعندما أصر نتنياهو على هذا الموقف خلال مفاوضاته مع جاريد كوشنر كجزء من "صفقة القرن" التي طرحها ترامب في عام 2020، تضمنت النسخة النهائية من الخطة غور الأردن كجزء من الأراضي التي يُسمح لـ"إسرائيل" بالاحتفاظ بها.

ولكن ما أثبتته هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والحروب التي تلتها على جبهات متعددة هو أن مفهوم الحدود الإسرائيلية الآمنة مجرد أسطورة. فمع التطورات الأخيرة في التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى والصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار عالية الدقة، تمكنت جماعات المقاومة من ضرب أهداف حساسة متى شاءت، بما في ذلك في عمق "الدولة الإسرائيلية".

فشل هائل
وترتكز العقيدة العسكرية الإسرائيلية على ستة مبادئ: الضربات الاستباقية، وأنظمة الإنذار المبكر، والردع الفعال، والدفاع القوي، والحل السريع، والسيطرة على التصعيد.

وقد ضعفت أو تقوضت كل هذه العناصر منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

لقد اعتمدت "إسرائيل" خلال صراعاتها العديدة على ضرب أعدائها أولاً بضربات استباقية.

باستثناء حرب عام 1973، كانت "إسرائيل" دائماً تحرض على الصراع من خلال الهجمات المفاجئة أو الغزوات، بما في ذلك في أعوام 1948، و1956، و1967، و1982، و2006، فضلاً عن الحروب الأربع التي بدأت في غزة بين عامي 2008 و2021.

ولكن هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر صدمت النظام الصهيوني بمداها وتأثيرها البعيد المدى، حيث شنت حماس غارتها الجريئة على أهداف إسرائيلية متعددة، بما في ذلك القواعد العسكرية، ومقر الاستخبارات المشرف على غزة، والعديد من المستوطنات القريبة.

وفي غضون ساعات قليلة، أدى الهجوم إلى شل حركة عدة وحدات عسكرية إسرائيلية، مما أدى إلى اهتزاز ثقة الجمهور الإسرائيلي في قيادته العسكرية والسياسية.

أما العنصر الثاني الذي تعتمد عليه العقيدة العسكرية الإسرائيلية فهو قدرتها على حماية البلاد من خلال أنظمة الإنذار المبكر المتفوقة لديها.

على مدى عقود من الزمن، كانت "إسرائيل" تفتخر بشبكاتها الاستخباراتية البشرية التي لا مثيل لها والقادرة على اختراق وتحييد أعدائها، فضلاً عن أنظمة المراقبة التكنولوجية المتقدمة المجهزة لوقف التسلل والاختراقات الأمنية.

ولكن الفشل الهائل الذي منيت به أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فضلاً عن عدم قدرتها على التعرف على مدى شبكات أنفاق حماس، أو أنظمة الأسلحة المتقدمة لدى حزب الله، أو القدرات الباليستية الإيرانية، يشير إلى تآكل كبير لهذه الضرورة.


حرب استنزاف
إن العنصر الثالث، وربما الأكثر أهمية، في العقيدة العسكرية الإسرائيلية هو الردع الفعال. فإلى حد كبير، كان الموقف العسكري الإسرائيلي يعتمد تاريخياً على قدرته على ردع أعدائه عن التجرؤ على مهاجمته خوفاً من رد فعل ساحق ومدمر.

وربما يفسر هذا الأمر، جزئياً، الشراسة والوحشية التي أطلقها النظام الصهيوني في غزة بعد هجمات حماس، في انتهاك صارخ لقوانين الحرب والاتفاقيات الإنسانية الدولية.

ولكن، ورغم كل سلوكها القاسي وقسوتها، فإن أحداً لم يتراجع، وبالتأكيد ليس جماعات المقاومة في غزة، التي تواصل القتال في حرب استنزاف شرسة.

ولم تفشل "إسرائيل" في تحقيق أي من أهدافها المعلنة في غزة، مثل القضاء على جماعات المقاومة أو تحرير أسراها أو إزاحة حماس فحسب، بل إنها لم تتمكن حتى من إملاء أي شروط لإنهاء الحرب على الرغم من الضغوط العسكرية والسياسية الهائلة التي مارستها مع الولايات المتحدة وغيرهما من الجهات الفاعلة الدولية على جماعات المقاومة.

وعلى نحو مماثل، لم يتراجع حزب الله في لبنان ولا الحوثيون في اليمن. وللمرة الأولى في تاريخها، تواجه "إسرائيل" أطرافا متحاربة تواصل ضربها، واستنزاف قواتها، وتقليص قدرتها على ترهيب أعدائها، وهي السمة التي اعتمدت عليها باستمرار منذ تأسيسها.

إن العنصر الرابع في مجموعة الضرورات العسكرية الإسرائيلية هو الدفاع القوي. فمنذ تأسيسها، قدمت "إسرائيل" جيشها على أنه لا يقهر، ومنضبط، وأقوى من كل أعدائها مجتمعين.

ولم يقتصر الأمر على تبني المواطنين الإسرائيليين لهذه الصورة، بل إنها وجهة نظر مشتركة أيضاً في العديد من بلدان العالم، خاصة وأن الولايات المتحدة تزود الدولة الصهيونية بشكل متزايد بأحدث أنظمة الأسلحة وتشاركها المعلومات الاستخباراتية الأكثر حساسية.

ومع ذلك، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم يشعر المواطنون الإسرائيليون قط بالضعف إلى هذا الحد.

وقد اضطر مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين إلى الإجلاء من الشمال والجنوب منذ أكثر من ثمانية أشهر وإعادة توطينهم في وسط المدينة، حيث أنهم ما زالوا غير قادرين على العودة إلى مستوطناتهم.

وفي واقع الأمر، غادر أكثر من نصف مليون إسرائيلي البلاد خلال الأشهر التسعة الماضية بسبب حالة عدم اليقين وتدهور الوضع الأمني في مختلف أنحاء البلاد.

وعندما هاجمت إيران في نيسان/ أبريل الماضي رداً على الهجوم الإسرائيلي على سفارتها في سوريا، احتاجت "إسرائيل" إلى مساعدة دول كبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وحتى الأردن، لصد الهجوم الذي أعلن عنه علناً ولم يكن يهدف إلى إحداث خسائر بشرية أو مادية.

جيش ومجتمع محبط
باختصار، ورغم أن "إسرائيل" تمتلك أحدث وأكثر التكنولوجيا العسكرية الأمريكية والأوروبية تقدماً، فإن المواجهات التي اندلعت في الأشهر القليلة الماضية على عدة جبهات أظهرت أن هذا المبدأ قد ضعف بشكل كبير، حيث لم يعد بوسع "إسرائيل" أن تدعي قدرتها على الدفاع عن مواطنيها بشكل فعال من أي تهديدات.

فضلاً عن ذلك فإن "إسرائيل" تدفع ثمناً باهظاً من الخسائر العسكرية، وهو ما من شأنه أن يقلل بمرور الوقت من قدرتها على فرض دفاع قوي أو المطالبة بجيش كفء. وقد أصبحت الدعوة إلى تجنيد الطلاب المتدينين في الجيش أكثر قوة، في حين تصر المجتمعات الدينية على عدم الخدمة في مؤسسة علمانية.

وفي الوقت نفسه، قال وزير الجيش السابق أفيغدور ليبرمان إن "إسرائيل" فقدت بالفعل لواءً كاملاً في غزة، وهو ما قد يعني ما بين 2000 و5000 جندي. ومع ذلك، لا يستطيع المتحدثون العسكريون الاعتراف علناً إلا بمقتل أقل من 600 جندي. ووفقاً لوزارة الجيش، فقد أصيب نحو 9000 من الجنود الإسرائيليين بالعجز نتيجة لهذه الحرب.


وهذا عدد كبير للغاية لا يمكن تحمله في غضون بضعة أشهر فقط، إذا أخذنا في الاعتبار أن العدد الإجمالي للجنود العاجزين في الحروب السابقة على مدى عقود من الزمن كان حوالي 61 ألف جندي.

أما المبدأ الخامس الذي نجح الجيش الإسرائيلي في استخدامه بنجاح في الحروب السابقة فهو الحل السريع.

في كل الحروب السابقة كانت "إسرائيل" تعلن عن قدرتها على تحقيق أهدافها في غضون أيام أو أسابيع قليلة. ولكن بعد تسعة أشهر من شن حرب إبادة جماعية مدمرة، فشلت في تحقيق أي من أهدافها العسكرية أو السياسية.

وقد أدى هذا الفشل إلى الاستقطاب الشديد في الطبقة السياسية وإلى مزيد من إضعاف الروح المعنوية للجيش والمجتمع الإسرائيلي.

نصر بعيد المنال
المبدأ السادس والأخير هو هيمنة التصعيد.

وهذا يعني أن "إسرائيل" عندما تتعرض لهجوم صعب فإنها سوف تلجأ إلى التصعيد العسكري بلا حدود حتى يتم التغلب على أعدائها فيخضعون لإملاءاتها.
ولكن هذه المرة واجهت "إسرائيل" معارضة شرسة. فبرغم الدمار الهائل والخسائر البشرية بين المدنيين التي لحقت بغزة، فإن "إسرائيل" عجزت عسكرياً عن القضاء على المقاومة في غزة أو لبنان أو إسكاتها.

وعلاوة على ذلك، عندما أطلقت إيران عدة صواريخ باليستية وصلت إلى أهدافها العسكرية المقصودة، كان رد الفعل الإسرائيلي مخيبا للآمال إلى الحد الذي جعل "إسرائيل" لا ترد.

وعلى نحو مماثل، لم تتمكن "إسرائيل" من الرد على تحدي الحوثيين سواء في البحر الأحمر أو في البحر الأبيض المتوسط، وطلبت المساعدة من القوات البحرية الأمريكية والبريطانية، ولكن دون نجاح يذكر.

ومع إضعاف العقيدة العسكرية الإسرائيلية بشكل كبير نتيجة للحرب المستمرة في غزة، فإن العديد من الدول الإقليمية التي كانت مستعدة لتسليم مهمة الحفاظ على استقرار المنطقة وإبقائها تحت السيطرة الفعلية لـ"إسرائيل" سوف تبدأ في التشكيك في قيمتها وقدرتها على البقاء، ناهيك عن كونها القوة المهيمنة الإقليمية.


وبعد هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، شن نتنياهو وحكومته الحربية هجوما عنيفا، بحثا عن نصر بعيد المنال.

ولكن استراتيجيتهم الخاطئة وسلوكهم المتهور أدى إلى تقويض كل عنصر من عناصر عقيدتهم العسكرية.

وفي هذه العملية، أكدوا فشلهم من خلال نسيان مقولة صن تزو التي تقول: "إن من قدر له الهزيمة يقاتل أولاً ثم يبحث بعد ذلك عن النصر".

مقالات مشابهة

  • نحنُ والتغيير
  • هل بقي الريف.. كما يزعمون؟
  • صوبا.. قرية مقدسية من عهد الرومان هجرها الاحتلال الإسرائيلي
  • الحداد: السيطرة الأمريكية على المشهد الليبي لن تؤدي لاستقرار البلاد
  • إستونيا تعلن تزويد كييف بمنظومات دفاع جوي قصيرة المدى
  • هكذا دمر 7 أكتوبر أسطورة القوة العسكرية الإسرائيلية التي لا تقهر وإلى الأبد
  • ‏خامنئي: إيران استطاعت تنظيم الانتخابات الرئاسية في فترة قصيرة وإجراء انتخابات حرة وشفافة
  • أحمد رفعت.. رحلة قصيرة لن تنسى مع 6 أندية توجها بـ3 ألقاب
  • هيباتيا
  • ارتفاع حصيلة قتلى انفجار قنينة الغاز بطنجة