الهاسبارا.. رأس حربة الدعاية الإسرائيلية لتوجيه الرأي العام العالمي
تاريخ النشر: 9th, April 2024 GMT
آلة الدعاية التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية في أرجاء العالم لتبييض مجازرها وانتهاكها حقوق الإنسان والقانون الدولي خلال الحروب التي تخوضها ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وتستخدم إسرائيل "الهاسبارا" باعتبارها تقنية دبلوماسية عامة تسخّر فيها المعلومات المضلّلة وتربطها بأهدافها الإستراتيجية من أجل تبرير أفعالها.
وتُعد إحدى جبهات الحروب الإسرائيلية.
تُعد الدعاية الإسرائيلية من أنجح الدعايات الإعلامية التي تقوم بأكبر عملية غسل أدمغة على المستوى العالمي، لما يملكه الإسرائيليون في العالم من إمكانات اقتصادية ومالية ضخمة، إضافة لمعرفتهم كيفية مخاطبة العقل الغربي، إذ سهّلت عليهم جذورهم الغربية أن يحققوا أكبر عملية إقناع وتزوير لمصلحة "قضيتهم" القائمة على تهويد فلسطين وتغيير معالمها وتفريغها من سكانها الأصليين. ومن أهم ما أنتجته هذه الدعاية لتحقيق أهدافها هو "الهاسبارا".
"هاسبارا" كلمة في اللغة العبرية تعني "الشرح" أو "التفسير" أو "التوضيح". وتُعَد من الإستراتيجيات التي يعتمدها الاحتلال من أجل بناء صورته في الخارج، وهي صورة تواجه انتقادات منذ الإعلان عن قيام إسرائيل عام 1948، وأيضا من أجل تفسير سياساتها، وتقديم تقارير عن الأحداث ونشر معلومات إيجابية عنها لمواجهة أي نقد تتعرّض له.
وهي أشبه بحملة علاقات عامة دولية لمصلحة إسرائيل، يقوم بها خبراء في التواصل وأساتذة جامعات وطلاب أكاديميون وضباط استخبارات وإعلاميون في مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية.
وغالبا ما تُستخدَم كلمة "هاسبارا" لوصف الدعوة المؤيدة لإسرائيل، ويُطلق عليها أيضا تقنية الدبلوماسية العامة التي تربط حرب المعلومات بالأهداف الإستراتيجية لتصدير صورة إيجابية لـ"إسرائيل" على المسرح العالمي، أو توضيح وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية وتعزيزها في مواجهة الصحافة المنتقدة لها، ولشرح سياساتها وتبرير أفعالها والدعاية لإسرائيل عموما.
باتت كلمة "هاسبارا" تعني مجازا مرادفا لكلمة "بروباغاندا" في اللغة اللاتينية، التي تعني الدعاية، عبر نشر معلومات وإشاعات وأنصاف حقائق أو أكاذيب للتأثير في الرأي العام، وغالبا ما تُنقل من خلال وسائل الإعلام.
وهي جهد منهجي إلى حد ما للتلاعب بمعتقدات الآخرين أو مواقفهم أو أفعالهم عن طريق الرموز (الكلمات والإيماءات واللافتات والآثار والموسيقى والملابس والشارات وتسريحات الشعر والتصميمات على العملات المعدنية والطوابع البريدية وما إلى ذلك).
بداية الفكرةيعود تاريخ "هاسبارا" إلى ما قبل ولادة "إسرائيل"، إذ كان ناحوم سوكولوف، أحد زعماء الحركة الصهيونية، أول من أدخل هذا المصطلح رسميا على المفردات الإسرائيلية في مطلع القرن العشرين من خلال كتاباته ومؤلفاته عن الحركة الصهيونية.
أعطى سوكولوف كلمة "هاسبارا" العبرية مفهوما سياسيا إعلاميا، وقد ابتكر هذه الكلمة لأن البديل الشعبي غير المقبول هو الدعاية، فأراد أن يعطيها تعريفا أكثر دقة.
كان يؤمن بأنها إستراتيجية تواصلية "تسعى إلى شرح الأفعال، سواء كانت مبررة أم لا"، معتبرا أن المصطلح الجديد يمثل نهجا دفاعيا ومقنعا بطبيعته، ومتجذرا بعمق في الثقافة اليهودية، ويهدف إلى الحصول على الدعم الدولي للسياسة الإسرائيلية والحفاظ عليه. وكان يرى أن أي مستوطنة تُنشأ على أرض فلسطين ستعاني من تصوّر سيئ وصورة سلبية.
اعتبر سوكولوف، أن "هاسبارا" تمثّل شكلا طبيعيا للحركة الصهيونية، ودعا إلى نشرها بين مستشاري أوروبا ومن خلال الخطب العامة، باعتبارها وسيلة للقادة من أجل "توضيح تطلّعات الشعب اليهودي للسلطات"، وكانت كراهية اليهود جزءا من الثقافة الأوروبية في تلك الحقبة.
تطبيق "هاسبارا" وآلية عملهاتدرك إسرائيل أن الروايات التي ترويها لنفسها وللعالم ملفقة، وأنها دولة غير قانونية وغير عادلة، لذلك، خلال الحروب الكثيرة التي شنّتها سواء على الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة أو على بعض الدول العربية المحيطة بها، اعتمدت "الهاسبارا" سلاحا إضافيا من أجل السيطرة على الرأي العام والتلاعب بالمعلومات والترويج لسرديات مخادعة عن كلّ وجه من أوجه الإبادة التي ترتكبها.
غير أن التطبيق الرسمي للـ"هاسبارا" دخل حيّز التنفيذ المؤسساتي على نطاق واسع، عقب اجتياح إسرائيل لبنان في صيف 1982 وارتكابها مذبحة ضد اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، جنوبي بيروت في سبتمبر/أيلول من ذلك العام، قُتل فيها نحو 1300 شخص. وتسبب ذلك الحدث بظهور رواية مختلفة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني قدّمت إسرائيل على أنها المعتدية.
هذه السمعة السيئة لإسرائيل عالميا، التي تناقلتها وسائل الإعلام الأميركية عقب مجزرة صبرا وشاتيلا، دفعت المؤتمر اليهودي الأميركي إلى رعاية مؤتمر عُقد في القدس عام 1983 لوضع إستراتيجية علاقات عامة رسمية (هاسبارا) لتكون الآلة الدعائية لغسل اسم إسرائيل وجعل انتقاد تصرفاتها أمرا صعبا للغاية. وضم المؤتمر متخصصين في العلاقات العامة والإعلانات وصحفيين وخبراء إعلاميين وقادة جماعات يهودية كبرى.
طُرحت خلال المؤتمر أفكار عدة، مثل "مواجهة الحقيقة، عبر لعبة تغيير عقول الناس، وجعلهم يفكرون بطريقة مختلفة، من خلال استخدام البروباغاندا". وتلا ذلك تغيير في الإستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع الأزمة الفلسطينية، انطلاقا من مبدأ أنه "مهما فعل الفلسطينيون، فسيعمم على أنه عنف غير مبرّر ضد اليهود أساسه نوع بدائي من معاداة السامية".
وعليه تحوّل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من صراع يتمحور حول الأرض إلى كراهية اليهود، ومن ثم لم يعد الأمر في الدعاية الإسرائيلية يتعلق بالمستوطنات، بل أصبح بشكل مستمر عن كون الفلسطينيين يكرهون الإسرائيليين فقط لأنهم يهود.
وتحت مظلة "هاسبارا"، أنشئت هياكل دائمة في الولايات المتحدة وإسرائيل للتأثير على كيفية تفكير العالم، وخصوصا الأميركيين، بشأن إسرائيل والشرق الأوسط في المستقبل. وطُورت مجموعة نقاط بهدف التركيز عليها في مخاطبة الرأي العام، من بينها: أهمية إسرائيل الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، وقيمها الثقافية المشتركة مع الغرب، ورغبتها في السلام.
يضم جهاز "هاسبارا" وكالات حكومية ووزارات ومراكز بحوث ومنظّمات غير حكوميّة، إضافة لقسم في مكتب رئاسة الوزراء وقسم الإعلام والدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية ووزارة الدبلوماسية العامة وشؤون المغتربين (سابقا) والوكالة اليهودية لأجل إسرائيل (وهي جزء من المنظّمة الصهيونية العالمية) ووزارة السياحة وقسم الناطق باسم الجيش الإسرائيليّ، ولكلّ منها أدوار تفصيلية مُحددة. وتتولى حكومة الاحتلال تمويل مشروع "الهاسبارا" بدعم هائل من أفراد وشركات عالمية.
باتت المؤسسات الإخبارية والصحافيون والأكاديميون والسياسيون والفنانون يتوقعون الضغط إذا خرجوا عن مستوى الخطاب المقبول الذي أنشأته إسرائيل ومؤيدوها. وتُرفض الروايات البديلة التي تكشف انتهاكات إسرائيل باعتبارها معادية للسامية.
وفي كل مرة كانت ترتكب فيها إسرائيل جرائم حرب في حق الفلسطينيين، لعبت "الهاسبارا" دورا مهما في خداع الرأي العام الدولي بهدف الإفلات من العقاب. إذ تدرك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا إذا كانت هناك آلة دعاية قوية بما فيه الكفاية يمكنها مواجهة الإدانة العامة الحتمية والتضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني.
وتطبيقا لإستراتيجية الدبلوماسية العامة للسيطرة على السرد والتلاعب بالمعلومات، تلجأ "الهاسبارا" إلى إنجاز مهماتها عبر استهداف الدبلوماسيين والسياسيين والجمهور من خلال وسائل الإعلام. وأيضا خلال الكثير من المعاهد والوكالات الحكومية، وكذلك مراكز البحوث والجامعات والمنظمات غير الحكومية وشركات الضغط.
أهداف هاسباراأطلقت الوكالة اليهودية "دليل هاسبارا" على الإنترنت للطلاب في جميع أنحاء العالم لاستخدامه للدفاع عن إسرائيل وسياساتها. وهو كتيّب تدريبي يشرح تفصيليا إستراتيجيات الدفاع وأسس المجادلة والدخول في النقاشات، محددا مجموعة من الأهداف أهمها:
تبرير الهمجية والوحشيّة تحت عنوان "محاربة التطرّف والإرهاب". اختلاق الوقائع وقلب سياقها في إطار تزييف الأحداث وتشويه الحقيقة والتلاعب بالوعي وحرف الأنظار عن المجرم الحقيقي. تحوير أي نشاط معارض لإسرائيل وتحويله إلى نشاط "معاد للساميّة"، وهي "تهمة" يعاقب عليها القانون في بلدان عدّة. تشويه سمعة أي جهة تنتقد إسرائيل ولو بالشعارات والخطابات. ترويج صفة "اليهودي الكاره لنفسه" ضدّ اليهود المعارضين لـ"إسرائيل" وأفعالها. الترويج لفكرة أن إسرائيل ضحيّة بريئة تتعرّض لتهديد إرهابي، ومن ثم فإن أي انتقاد موجّه إليها سيتحوّل إلى تبرير للإرهاب. دفع شركات الإنترنت الكبرى إلى اتخاذ تدابير صارمة بحقّ الأصوات المعارضة والتواطؤ معها لقمع الرأي الآخر وإغلاق الحسابات المنتقدة واعتبارها حسابات "معادية للساميّة". تنظيم دورات تدريبية في مجال المعلوماتية والإنترنت وعلى كيفية التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي لضمان ظهور المنشورات والتعليقات التي تتناسب مع أهدافهم. إطلاق التطبيقات الهاتفية، وهي من أهمّ أدوات وأسلحة حربهم الإعلامية، لنشر مهمّات للمتطوّعين الراغبين في تنفيذها. تبليغ عن الصفحات الإلكترونية المعادية لإسرائيل والمتعاطفة مع القضية الفلسطينية حول العالم، وعلى رأسها صفحات "حملة مقاطعة إسرائيل". إطلاق "زمالات الهاسبارا"، وهو برنامج تدريب وتجنيد متطوّعين إسرائيليين ومن غير الإسرائيليين، لا سيما من طلّاب الجامعات الذين تُقدّم لهم منح دراسية أكاديمية في أرقى الجامعات الأميركية والكندية والأوروبية.تعتمد إسرائيل في بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة، على "الطابور الخامس" من المتعاطفين الناشطين لتضخيم رسائلها، ودحض وتشويه التصريحات التي تتعارض مع روايتها، والطعن في الموقف الأخلاقي للذين ينتقدون جرائمها.
ومن شأن أساليب التضليل تحريف الحقائق وتزويرها وجعل المجرم والضحيّة متساويين، إضافة للترويج لإسرائيل باعتبارها "دولة ديمقراطية" تتعرّض لحملات الكراهية من جيرانها من دون سبب.
وبواسطة التضليل وتشويه الحقائق وإخفاء الأدلة والشواهد، تتصدى "الهاسبارا" لأي محاولة لإدانة إسرائيل وممارساتها وتسعى إلى اعتراض موجات التعاطف مع القضية الفلسطينيّة في أرجاء العالم.
تتوجّه "هاسبارا" إلى كلّ الشعوب والمجتمعات وتخاطبهم، كلٌّ بحسب ثقافاته وعاداته وتوجّهاته الفكرية والعقائدية من أجل اللّعب على التناقضات والعواطف والمشاعر بما يخدم مصالحهم، تارةً من خلال سرديّة المظلومية اليهودية عبر التاريخ، وطوراً من خلال سردية الوجود بحكم القوّة والأمر الواقع وإظهارها بوجه حضاري والعمل على "أنسنة" الاحتلال.
"الهاسبارا" الرقميةمع دخول العالم العصر الرقمي في مطلع الألفية الثالثة، اتخذت "الهاسبارا" منحى متطوّرا وأكثر دقة في استهداف الجمهور، متسلّحة بأحدث ما توصّل إليه العلم من تقنيات، انطلاقا من إدراك إسرائيل أنه في الحروب الحديثة فإن السيطرة على بيئة المعلومات هو بأهمية السيطرة على ساحة المعركة.
ولأن "الهاسبارا" متعددة الأوجه ومتكيّفة بشكل جيد مع العصر الرقمي، أوجدت إسرائيل شراكة بين القطاعين العام والخاص تقود فيها الدولة ويتبعها المتطوّعون الملتزمون في تنفيذ إستراتيجية المعلومات، من خلال الاستخدام الكثيف لقنوات التواصل الأكثر انتشارا وتأثيرا مثل "فيسبوك" و"إكس" و"إنستغرام" و"يوتيوب"، باعتبارها تسهم بقوة في تشكيل الرأي العام.
دفعت إسرائيل شركات الإنترنت الكبرى إلى اتخاذ تدابير صارمة بحقّ الأصوات المعارضة والتواطؤ معها لقمع الرأي الآخر وإغلاق الحسابات المنتقدة واعتبارها حسابات "معادية للساميّة"، إذ تُحذف آلاف المنشورات والحسابات المتعاطفة مع فلسطين على تلك المنصّات وغيرها.
وفي هذا الإطار، نظمت إسرائيل وحدات حكومية وعسكرية مدنية لاستغلال الأمر، بما في ذلك إنشاء مواقع إلكترونية وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي ورسائل منسوبة إلى هويات مزوّرة.
وتعلمت كيفية التعامل مع وظائف المتصفّح، وخوارزميات محرّك البحث، والآليات التقنية الأخرى التي تتحكّم بالمحتوى المقدَّم لمستخدمي الإنترنت لإيصال الفكرة القائلة إن إسرائيل "ضحية بريئة للإرهاب الفلسطيني". وهو ما تكرّره في كلّ حرب تقريباً لتقليل غضب الرأي العام الخارجي ضدها.
تسعى إسرائيل من وراء نشر تلك الروايات وترويجها إلى إقناع الرأي العام العالمي بأن "اليهود أساس الحضارة في أرض فلسطين وأحق الناس بها"، ومن ثم الحصول على تعاطفه وتأييده للمشروع الصهيوني.
وصممت إسرائيل بذلك رواية عن نفسها باعتبارها أمة صغيرة ولكنها "شجاعة تدافع عن نفسها ضد العنف والإرهاب الفلسطيني"، ونتيجة لحملتها التضليلية الفعّالة، أصبح عدد كبير من الأميركيين يعتقدون أن إسرائيل دولة ديمقراطية وتقدمية وإنسانية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات وسائل الإعلام الرأی العام من خلال من أجل
إقرأ أيضاً:
فاينانشال تايمز ترصد الاقتصادات الصاعدة التي ولدت خلال الأزمة المالية
نشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" تقريرًا يناقش كيف تؤدي الأزمات المالية إلى إصلاحات اقتصادية تُمهّد للتعافي في بعض الدول الناشئة، مشيرًا إلى أن العديد من البلدان النامية اضطرت إلى تبني سياسات تقشف صارمة بعد الجائحة، مما أدى إلى تحسن الأسواق المالية وتقليص العجز فيها.
وقالت الصحيفة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن ظهور علامات التباطؤ في الولايات المتحدة الأمريكية والهند وغيرهما من النجوم الاقتصادية الحديثة جعل الكثيرين يبحثون عن قصص النمو الواعدة القادمة.
وأشارت الصحيفة إلى أن الركود التضخمي في السبعينيات أدى إلى إصلاح السوق الحرة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين، وألهمت الانهيارات التي شهدتها الدول الناشئة في الثمانينيات والتسعينيات الموجة الكبيرة التالية من التجديد، من البرازيل إلى المكسيك وروسيا وتركيا. واليوم، نجد أيضًا تغييرات مدفوعة بالأزمات نحو الأفضل في جميع أنحاء العالم.
فقد أدت أزمة منطقة اليورو في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى إجراء إصلاحات، بالأخص في إسبانيا واليونان. ومؤخرًا، فرضت صدمات الجائحة عملية تطهير مالي في العديد من الدول الناشئة، بما في ذلك الأرجنتين وجنوب أفريقيا ونيجيريا وسريلانكا؛ حيث يظهر الانتعاش في جميع هذه الدول مع ارتفاع أسواق الأسهم وتحسن ظروف الائتمان.
وأوضحت الصحيفة أن هذه البلدان اضطرت إلى الإصلاح وضبط ميزانيتها لأن مواردها المالية كانت مرهقة للغاية بسبب الجائحة، مما أدى إلى تحقيق أرباح في الميزان الأولي - وهو مقياس رئيسي للعجز الحكومي الذي يركز على الإنفاق فقط - وهي في طريقها الآن لتحقيق فائض أولي للمرة الأولى منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وحسب الصحيفة، فإن كل دولة لها أسلوبها الخاص في ضبط النفس؛ حيث فرضت اليونان تخفيضات في الإنفاق وزيادات ضريبية كبيرة بما يكفي لعكس سجل من التخلف المزمن عن السداد يعود إلى تأسيسها كدولة مستقلة.
أما إسبانيا فقد خفضت مزايا المتقاعدين، وحولتهم لواحدة من أكثر فئات السكان فقرًا في أوروبا، لكنه نهج أدى إلى انخفاض العجز والدين بشكل كبير. ونظرًا لصعوبة استقطاب المواهب في عالم يتقدم في السن، فإنها ترحب بالمهاجرين في الوقت الذي تغلق فيه الكثير من الدول الأوروبية أبوابها، وخففت من قواعد التوظيف والفصل من العمل والعمل بدوام جزئي.
وأضافت الصحيفة أن سريلانكا، التي تخلفت عن سداد ديونها في سنة 2022 وسط أسوأ أزمة اقتصادية لها على الإطلاق، قامت بإعادة هيكلة نظامها بشكل جذري؛ حيث ألغت جميع الإعانات وفرضت ضرائب أعلى على الممتلكات والثروات الموروثة وصناعة القمار.
وخفضت نيجيريا أيضًا دعم الوقود ورفعت الإيرادات الحكومية عن طريق زيادة إنتاج النفط، وعملت البلاد على استقرار عملتها المتذبذبة من خلال السماح بتداول النيرة بحرية أكبر في الأسواق العالمية والقضاء إلى حد كبير على السوق السوداء المحلية.
واعتبرت الصحيفة أن الحالة الأكثر إثارة للاهتمام هي عملية "فولندليلا" في جنوب أفريقيا، وهي كلمة من الزولو تعني "مسح الطريق"؛ حيث صُممت هذه العملية لإزالة العوائق في أنظمة السكك الحديدية والطرق والمياه والطاقة الكهربائية، مما قلل بشكل كبير من حالات انقطاع التيار الكهربائي المزمن.
والهدف من كل ذلك هو تعزيز الإنتاجية - وهي مفتاح النمو المستدام على المدى الطويل - بدلاً من الاستمرار في تعزيزها بشكل مصطنع بالإنفاق الحكومي. ومن المقرر أن يرتفع نصيب الفرد من الدخل في جميع هذه الدول بعد انخفاضه أو ركوده لسنوات، وقد بدأت أسواق الأسهم في هذه البلدان تعكس هذا التحول الإيجابي؛ حيث تفوقت على المؤشر العالمي بنسبة 20 بالمائة خلال السنتين الماضيتين، وكانت الأرجنتين وسريلانكا هما السوقان الأفضل أداءً في العالم من حيث القيمة الدولارية خلال هذه الفترة.
وأفادت الصحيفة أن التصنيفات الائتمانية السيادية لهذه الدول اتجهت إلى الارتفاع باستثناء جنوب أفريقيا ونيجيريا، لكن الأنباء المتداولة تشير إلى أن الدولتين قد تكونان في طريقهما إلى رفع التصنيف الائتماني أيضًا.
ولا تقتصر هذه القائمة على تلك الدول؛ حيث تشمل الدول الأخرى التي تقوم بالإصلاح تحت الضغط تركيا ومصر وباكستان، وتعد ألمانيا هي أحدث مثال على "دائرة الحياة": فقد كانت ألمانيا نموذجًا يُحتذى به قبل 10 سنوات، ثم تهاونت وسقطت في حالة من التدهور، وبحلول الأسبوع الماضي كانت تبذل جهودًا كبيرة للإصلاح لدرجة أدت إلى رفع معنويات السوق في جميع أنحاء أوروبا.
وختمت الصحيفة التقرير بأن أيًا من تجارب هذه الدول الناشئة لا تخلو من العيوب؛ فمن المتوقع أن يتضاعف النمو في جنوب أفريقيا ثلاث مرات في السنوات القادمة، ولكن بنسبة 2 بالمئة فقط، وهي نسبة بعيدة كل البعد عن الإبهار. لكن هناك ميلًا انعكاسيًا للعثور على أخطاء أي بلد وقيادته، خاصة في عصر تتفشى فيه السلبية والاستقطاب الشديد.