غزة… كان لا بد من ستة أشهر من القتل الجماعي وأنهار من الدماء وأكوام من الأشلاء وأن يتجاوز عدد الضحايا عتبة الـ32 ألفا لكي يتراجع الإعلام الغربي قليلا عن عاره وانحيازه الأعمى لإسرائيل.
شبكة سي إن إن الأمريكية (التي تمر كل أعمالها المتعلقة بفلسطين على مكتبها في القدس وعين الرقيب العسكري الإسرائيلي قبل بثها) أعدَّت عملا مصورا جميلا تضمَّن أسماء الأطفال الذين اغتالهم الجيش الإسرائيلي.
صحيفة «الفاينانشال تايمز» نشرت تقريرا مطولا، رائعا في شكله ومضمونه، عن الشخصيات العامة التي اغتالها الجيش الإسرائيلي في غزة من فنانين وشعراء وعلماء وأساتذة جامعيين من طراز عالٍ وناشطين (بالمعنى الإيجابي المبدع) على مواقع التواصل الاجتماعي.
صحيفة «الواشنطن بوست» نشرت عدة تقارير أحدها عن أطفال حديثي الولادة تركهم الجيش الإسرائيلي يموتون في مستشفى الشفاء وتعمّد إبقاء جثثهم الصغيرة في ردهاته تتعفن أو وليمة للكلاب الضالة.
صحيفة «لوموند» الفرنسية نشرت بداية الشهر الماضي افتتاحية قاسية إزاء إسرائيل يمكن اعتبارها ثورة في تاريخ الصحيفة.
وكان لا بد من أن تقتل إسرائيل ستة متطوعين أجانب (ومعهم فلسطيني واحد) ليشعر العالم الغربي وإعلامه المنافق بالصدمة وتستيقظ إنسانيته.
لأول منذ بدء الحرب، يستعمل الإعلام الغربي تعبير «مذبحة» لوصف قتل المتطوعين الأجانب.
صحيفة «الإندبندنت» البريطانية كتبت افتتاحية قاسية ولوّنت صفحتها الأولى بالأسود، مع صورة فوتوغرافية للخراب في غزة (يشبه فعلا آثار قنبلة نووية) وكلمة واحدة: يكفي.
صحيفة «التايمز» اليمينية المنحازة طيلة حياتها لإسرائيل انحيازا أعمى، خصصت صفحتها الأولى لاغتيال المتطوعين، مع عبارة «سخط على موت المتطوعين».. (موت) كأنهم شيوخ وعجائز في التسعين توفوا في دار للعجزة خمس نجوم محاطين بأولادهم وأحفادهم وأطباء وممرضين. هي «التايمز» ذاتها التي قبل أسابيع هاجمت محكمة العدل الدولية بسبب دعوى الإبادة، وأمضت الأشهر الستة الأخيرة (وقبلها سنوات) تبرر الجرائم الإسرائيلية ولا ترى الفلسطينيين إلا مجرد إرهابيين همِّهم الوحيد في الحياة سحق إسرائيل.
لست بصدد التقليل من تضحية هؤلاء المتطوعين. تقديري لهم كبير وصادق. يكفيهم شرفا أنهم تركوا حياتهم ودفء عائلاتهم وقطعوا آلاف الأميال ليغامروا بحياتهم من أجل أناس لا شيء يجمعهم بهم إلا الإنسانية. كما أنني أؤمن بأن الكثير من التحولات الكبرى في التاريخ والتغيرات في المزاج الشعبي بدأت بحوادث صغيرة: الحرب العالمية الأولى أشعل شرارتها اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند على يد قومي سلافي في سراييفو صيف 1914. الوفاة الغامضة للعالم ديفيد كيلي، خبير أسلحة الدمار الشامل لدى الحكومة البريطانية في ذروة الجدل حول احتلال العراق، أيقظت بريطانيا وعرَّت أكاذيب توني بلير وحوّلتها إلى فضيحة أخلاقية وسياسية ستلاحقه إلى القبر.
كان لا بد من ستة أشهر من القتل الجماعي وأنهار من الدماء وأكوام من الأشلاء وأن يتجاوز عدد الضحايا عتبة الـ32 ألفا لكي يتراجع الإعلام الغربي قليلا عن عاره وانحيازه الأعمى لإسرائيل
لقد هلّل كثيرون في النصف الجنوبي من العالم لـتوبة» الإعلام الغربي. لكنني أفضِّل أن أرى هذه «التوبة» (إلى أن يثبت العكس) ظرفية عابرة، ناقصة وعنصرية، قليلة جدا ومتأخرة جدا. لكل هذا فهي مزيفة. بأي حساب أو رياضيات غلَّب هذا الإعلام «النزيه الاحترافي» كفة سبعة قتلى على 32 ألف قتيل إذا لم يكن حساب العنصرية واحتقار الآخر المختلف؟
من المهم ألا ينسى الذين أفرطوا في التهليل لهذه «التوبة» أنها تكتيكية وليست استراتيجية، أملته الإبادة الإسرائيلية في غزة التي لم يعد ممكنا الصمت عنها وإلَّا أصبح مشاركة فيها، وأملتها كذلك المذبحة التي أودت بالمتطوعين الستة فقط لأنهم غربيون شقر. في الجوهر لا يزال الإعلام الغربي، وسيبقى، متماهيا مع المزاج السياسي مدافعا بحماس عن بقرات مقدّسة من قبيل:
ـ حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وجيشها جيش دفاع بينما هو في الواقع جيش احتلال قاتل.
ـ التاريخ بدأ في 7 أكتوبر.
ـ الحرب بين حماس وإسرائيل، وليست عدوانا إسرائيليا على سكان غزة.
ـ تصديق السردية الإسرائيلية حتى لو كانت الكذبة صارخة والجريمة مكتملة الأركان، في مقابل تشكيك تلقائي في الرواية الفلسطينية مهما كانت دقيقة (الـ1200 قتيل في هجوم حماس بالنسبة لهم غير قابلة للجدل، أما 32 ألف قتيل فلسطيني في غزة فمرفوقة دائما بـ«وفق أرقام حماس» والهدف زرع الشك).
ـ يوم 7 نيسان (أبريل) ذهب العقل الغربي تلقائيا يبحث كيف عاش الإسرائيليون ذكرى مرور 6 أشهر على هجوم حماس، لكنني لا أذكر أنني قرأت في إعلامهم شيئا عن كيف عاش الفلسطينيون هذا اليوم.
ـ قتلُ آلاف الفلسطينيين مبني دائما للمجهول مع امتناع متعمد عن ذكر القاتل قدر الإمكان. أما مقتل مستوطن يهودي بسلاح فلسطيني فمرفوق دائما بالفاعل وصفته «إرهابي».
ـ ترديد أكذوبة أن حماس تريد مسح إسرائيل من الوجود، مع تفادي التذكير بأن الحركة راجعت ميثاقها الأساسي في 2017 ليتضمن أحد بنوده قبولها بدولة فلسطينية في حدود 1967.
ـ الرهائن الـ130 لدى حماس مأساة يجب أن تدمي قلوب العالم، لكن أكثر من خمسة آلاف رهينة فلسطيني في سجون إسرائيل، بينهم فتيان في سن المراهقة ونساء، فشيء طبيعي وربما ضروري، رغم أن بعضهم أمضى ثلثي عمره سجينا وبعضهم محكوم بمئات السنين وآخرون بلا محاكمة ولا حكم.
ـ طول شبكة أنفاق حماس تفوق 700 كلم. أي المسافة من غزة إلى القاهرة ذهابا وإيابا تحت رقعة جغرافية لا تزيد عن 360 كلم مربع! إما هلوسة مجانين أو دجل محتالين، لا تفسير آخر.
ـ القتل المستمر الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي والمستوطنون في الضفة الغربية ليس خبرا، لكن إصابة مستوطن واحد في الشهر أو الفصل على يد فلسطيني مصيبة يجب أن تتصدر عناوينهم الرئيسية.
ـ قصف غزة بالصواريخ والمسيّرات على مدار العام لا يعتبر حدثا، لكن صاروخا من غزة أو عملية فدائية صغيرة حدث يستنفر غرف أخبارهم ومراسليهم.
هذه ليست تقديرات تحريرية تمليها طبيعة الحدث. إنها عقلية متجذرة ومقدّسة. هي عنصرية بالفطرة، وهذا أمر مفهوم (كل واحد فينا بداخله قدر من العنصرية بالفطرة) لكنه يصبح مشكلة إذا بدأ يتحول إلى خطر على استقرار العالم كما هو الحال الآن.
لقد كلفتهم إسرائيل الكثير. فوق المليارات الهائلة من أموال دافعي الضرائب، كلفتهم سمعتهم وما بقي من إنسانيتهم وقيَمهم، فمتى يستيقظون؟
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الغربي فلسطيني العنصرية فلسطين غزة الاحتلال الغرب العنصرية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجیش الإسرائیلی الإعلام الغربی فی غزة
إقرأ أيضاً:
بطريرك الروم الأرثوذكس بسوريا: في الصوم الكبير يناجي كلٌّ منا الله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
وجّه يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية “سوريا” وسائر المشرق للروم الأرثوذكس إلى رعاة وابناء الكنيسة الأنطاكية المقدسة كتب فيها في الصوم الكبير يناجي كلٌّ منا رب الخلاص وسيد الحياة والموت ويقول له ومن عمق النفس: يا رب ارحم. في الصوم الكبير المقدس تمضي النفس إلى الختن، إلى العريس السماوي الذي تنهض وإياه وتتلمس فجر قيامة.
وتابع، في الصوم الكبير ترافق النفس عريسها المسيحَ الإله. ترافقه وتناجيه في مسلك توبةٍ يتكلل بدرب آلامٍ ويتكحل بانبعاثٍ من قبرٍ فارغ.
وأكمل، ومن آحاد التهيئة تستلهم هذه النفس مسيرة توبةٍ فتناجي المسيح من على أعتاب الصوم وتحني له ركبة القلب وتتأمل وإياه، من الغد في أحد مرفع اللحم، حظَّ من لم يصنع رحمةً ومن لم يرأف بالقريب كما وتتأمل نصيبَ من صنع الرحمة. تناجي الختن وتتأمل معه في أحد الغفران ذاك الفردوس المفقود الذي خسرته البشرية مع أول الجبلة آدم.
أضاف، ومع انطلاقة الصوم، تتأمل النفس جمال وبهاء استقامة الرأي في أحد تكريم الأيقونات التي تنقلنا من عالم اليوم إلى أبديةٍ نتلمس نورها على وجوه القديسين. وإلى الأحد الثاني تسير هذه النفس لتتعلم إكرام القديسين الذين تلقوا نعمهم وقداستهم من ذاك القدوس الأوحد. وفي الأحد الثالث منتصف المسيرة تعود هذه النفس لتتأمل عود الصليب وذاك المعلق عليه محبةً ببشريةٍ هجرته ولم يهجرها. ومع يوحنا السلمي تلهج في سلك الفضائل وتسلك إلى أن تلاقي خبرة مريم المصرية وتتعلم معها أن التوبة هي الأساس أولاً وأخيراً في مسيرة الصوم الكبير أي مسيرة التوبة.
تابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يقول كل ذلك، كي تلاقي ختنها المسيح وتستقبله داخلاً فيها ومعها إلى أورشليم العلوية فتفرش له أغصان النفس وتدخل معه آلامه الخلاصية وتناجيه في جنازهِ مسيحاً حياةً دائساً الموت، وبُعيد ذلك، نوراً ورباً قائماً من بين الأموات وواهباً الحياة للذين في القبور.
وختم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس البطريرك يوحنا العاشر رسالته بمناسبة زمن الصوم بالقول هذه مسيرة الكنيسة وهذا دليلها لنفس كلٍّ منا لنسلك صحبة هذا الختن السماوي. الصوم هو مسيرة توبةٍ ومسيرة رحمةٍ تُترجم أفعالاً. نرفع صلاتنا في هذه الأيام المباركة ونسأل رب الرحمة وإله الرأفات أن يرسل رأفاته إلى العالم أجمع ويبارك الجميع ويديم في القلوب رجاءه الصالح ويغرس في النفوس بلسم عزائه الإلهي ويزرع في الكيان البشري شيئاً من رويّته ونورانيته ويسكت بجبروت صمته ظلامَ هذا العالم المتأجج حروباً وخطفاً وغلياناً وتكفيراً. نسأله أن يضم راقدينا إلى صدره القدوس ويطلع عليهم نور رحمته ويرسل الطمأنينة إلى النفوس والديار هو المبارك والممجد أبد الدور.