"كنت أتابع عن كثب أهوال الحرب التي شنها الاحتلال على غزة منذ الـ7 من أكتوبر/ تشرين الأول، حين وقعت عيني على أغنية (ترويدة الشمال)، أنصت لها، فأجد كلماتها أقرب لأحجية تستعصي على الفهم والتفكيك، أفتش عن المعنى فأعبر جسرا نحو ماضٍ سحيق من الفلكلور الفلسطيني يحمل وجها آخر".

و"هناك، اجترحت النساء إبان الانتداب البريطاني لفلسطين مساحة لوصال أحبائهم الذين عزلهم المحتل وألقى بهم في غياهب الأسر؛ رحن يتغنين برسائل حب مشفرة مرت كلماتها بين العابرين حتى ترددت أصداؤها صوب الشمال".

هكذا استهل المخرج المصري عادل رضوان الذي أبدع مؤخرا أغنية "أصحاب الأرض"، حديثه مع الجزيرة نت حول افتتانه بالترويدة وإفصاحه عن ذلك لصديقه المنتج السوري أنس نصري، متمعنا فيما يمكن أن ينتج عنها.

كان الأخير منكبا على مشروع إعادة إحياء التراث الفلسطيني، وأغنية "ريت المركب" فقررا المزج بين الأغنيتين ثم تصوير فيديو عنها من غناء أصالة نصري وتلحين الموسيقار الفلسطيني حسين نازك، وهو ما أفضى إلى عمل فني شرع الباب على مصراعيه بين كارثة إنسانية أليمة تطبق على قطاع غزة ولوحات من التراث العالمي.

يصور رضوان بداية على حد قوله أرض الزيتون التي استحالت إلى رماد، بينما رابط أصحابها متشبثين بآيات من القرآن الكريم لاهجين بالدعاء، قبيل الارتداد إلى أصول المرتزقة الذين وفدوا في زمن منقض بثياب رثة ومتهلهلة وخطى هزيلة على مراكب متصدعة.

يقيم رضوان فاصلا بصريا بينهم وبين الفلسطينيين، صابغا على المحتل ألوانا معتمة شاحبة تنبئ بالهلاك، متعمدا تجسيد زرقة البحر وما كانت تغص به أرض فلسطين من حياة إلى حين استقرار تلك القوارب على شطآنها ليحل الخراب أينما حلوا دون أن تتوغل تلك الدرجات القاتمة على الفلسطينيين أو على ملابسهم التي بقيت مثل دواخلهم زاهية.

يحصر رضوان حضور المحتل في هيئة شبحية تنزع عنهم كل انتماء حاولوا نسب أنفسهم به للمكان، لتبدو خطواتهم المختالة على قدر من الهشاشة قياسا بخطى طفلة فلسطينية بدت أقدامها راسخة بعمق بالأرض التي تقف عليها.

يغزل رضوان هنا حاضر فلسطين وماضيها ومستقبلها بخيوط لا تنفصم، مُسلما الفن التشكيلي بعض زمام الخط الزمني لتوصيف مشاعر كاسحة أرّقته، مستعينا بمؤرخ لضمان الدقة التاريخية، محولا كل لوحة في كادر الأغنية إلى ثقوب تنفذ لمشهد آنيّ في حرب تدخل شهرها السابع.

عن الطمأنينة النافذة من قلوب الأمهات

هكذا يتداعى كل واقع مألوف ويتبدل إلى آخر شرس في الحرب فتضم أُمٌّ طفلها محاولة النجاة به، في تجسيد لـ"العذراء وعيسى". يحكي رضوان خلطه بين العملين في ذلك المشهد، سالبا شكلا من العمل المنحوت وتصميم المرسوم، لما فيهما من رمزية مساع السيدة مريم للهروب بعيسى -عليه السلام- وهو في المهد من المذابح التي كان يقيمها الرومان على الأطفال، إذ يؤمن رضوان بمصير الأطفال الفلسطينيين والرومانيين المتشابك بالرغم من تعاقب الأزمنة، ولا سيما أن اليهود هم من سلموا المسيح للرومان الذين صلبوه.

لوحة "تقديم المسيح في الهيكل" للفنان ويليام دي بورتر (مواقع التواصل الاجتماعي)

وُجدت اللوحة المنحوتة في سراديب الموتى في روما التي لجأ إليها المسيحيون الأوائل وقتما اضطهدوا لدفن موتاهم والصلاة على قبورهم، تشبه اللوحة عملا آخر هو "تقديم المسيح في الهيكل" للفنان ويليام دي بورتر، أطلت فيه العذراء محتضنة المسيح بعد نحو 40 يوما من ولادته باد عليها الخشوع والوجل، ولإضفاء الرهبة على المشهد سكب بورتر الضوء عليهما لإحاطتهما بهالة مقدسة.

الصلاة الأخيرة للمسيحيين

يتماس المشهد التالي مع لوحة الصلاة الأخيرة للشهداء المسيحيين للفنان الفرنسي جان ليون جيروم، التي كلفه رجل الأعمال وليام والترز برسمها فلبث عليها 20 عاما أعاد العمل عليها خلال تلك المدة 3 مرات. يبدو فيها الأسد متقدما في التكوين مستحوذا على مركزية العمل للدلالة على هيمنته فيما يتجلى على مسافة منه رجال محاصرون في مضمار روما القديم يتضرعون في ابتهال وثبات قبيل لحظات من استشهادهم المحتوم.

يُقحمنا المخرج عامدا، على حد تعبيره، في حقبة عانى المسيحيون فيها من القمع، فدفع بهم الرومان نحو حلبة وأطلقوا عليهم أسدا لالتهامهم على مرأى ومسمع الجماهير، في إسقاط مباشر عما يقاسيه الفلسطينيون على يد الاحتلال، وإيمانهم الذي لا يتزعزع بالرغم من تربص الموت بهم وترقبهم للقصف بين فينة وأخرى.

وقصد بذلك استبدال عنصر نسائي بالعنصر الرجالي في العمل الأصلي بقوله: "حُفرت في ذاكرتي عبارة تفوهت بها فتاة فلسطينية في فيلم وثائقي عام 2002، في مخيم جنين في عرض حديثها عن دور المرأة في الثبات والمقاومة: طالما هنالك نسوة، سيظل بمقدورنا أن نأتي برجال أشجع ممن رحلوا".

ويضيف "فكرت كيف ينقلب الإنجاب باتفاق جمعي إلى فعل مقاومة يحول دون فنائهم، فعادة ما تمتنع النساء خلال الأزمات عن الحمل لا سيما في الوقت الراهن مع بزوغ الجماعات اللاإنجابية، لكني لا أجد مثيلا للمرأة الفلسطينية التي تنجب وقت السلم والحرب لتخبر العالم أننا سنظل هنا".

يمسي الإنجاب ركنا من عقيدة، تضرب بجذور أصحاب الأرض وتمكنهم، تماما كرقصة صاحب الأرض المستمدة من مقطع لشاب فلسطيني قام بتأديتها وسط الانتفاضة قبل بضعة أعوام ودمج رضوان كما صرح بينها وبين الدبكة الفلسطينية ليرقصها كل من حنظلة والطفلة في الأغنية، وتستحيل وسيلة للتعبير عن الارتباط بالأرض وثورة صاحبها ضد الاستبداد.

رأى رضوان مصر طرفا في مواجهة هذا الاضطهاد مجسدة في امرأة عند معبد سقارة كإسقاط لها في تضامنها مع القضية الفلسطينية حد خوضها حروبا من أجلها، باسطا جزءا آخر من رؤيته عبر شخصية أخرى هي حنظلة الطفل الذي ابتكره رسام الكاركاتير الفلسطيني ناجي العلي الرافض لأن يكبر حتى تتحرر فلسطين.

وهو ما يشرحه رضوان بأن هذا الجيل من الصغار والشباب الذين خرجوا من تحت الأنقاض وكانوا شهودا على مقتل ذويهم والذين باغتوا الموت لن يغفروا ولن يتجاوزوا ولن يستطيع الاحتلال قتل مليونين أو مسح ما رأوه من ذاكرتهم، متكهنا بابتلاع الأرض لمن أضرموا النيران فيها عاجلا أم آجلا.

على طريق من زجاج

يؤدي جحيم الواقع كما يتجلى في أحد المشاهد في الأغنية إلى النزوح كما في لوحة "الحج إلى نافورة سان إيسيدرو" لأحد أهم الفنانين الإسبانيين فرانسيسكو غويا. رسم الأخير العمل ضمن سلسلة لوحاته السوداء عندما اختلى بنفسه في منزل منعزل أصيب فيه بالصمم، وملأ جدرانه بالشياطين وشخوص مثيرة للهلع.

يتقدم الرهبان في قافلة الحج عند غويا، وتسير النساء متشحات بالسواد، بنظرات هائمة، ليتناقض نصفي اللوحة حيث يغلب الطابع التشاؤمي في مسيرة الحجاج بضربات الفرشاة السريعة التي يبدو وكأنها تهدأ شيئا فشيئا كلما ابتعدت نحو السماء والشمس الساطعة في استسلام ربما لحلم العودة.

الحج إلى نافورة سان إيسيدرو

تلك الأشعة التي تلتقي فيها مسحة من سينوغرافيا المكان كالإضاءة والديكور الطبيعية والصحراوية مع فيلم "كثيب" (Dune) المستوحى من رواية فرانك هربرت للمخرج الكندي دينيس فيلنوف، كما أشار رضوان في ختام الأغنية.

الأغنية التي تعرضت لتعتيم مقصود منذ اللحظة الأولى، بالرغم من تحايل صانعيها على الخوارزميات بتجنب ذكر كلمات كفلسطين وإسرائيل ليخبرنا رضوان أنها حتى اللحظة قد لا تظهر لبلاد أو أعمار بعينها، ليحذفها "تيك توك" وتضيق "ميتا" الخناق عليها، ويحجب يوتيوب عدد مشاهداتها الحقيقية.

يكرر رضوان أنهم لا يعبؤون بالربح بقدر اكتراثهم بأن تنتشر، ربما نحن أمام عمل التمس صانعوه إبقاء الضوء متقدا على أصحاب الأرض، هؤلاء الذين بقيت قلوبهم أكاليل وأعشاشا للورد والصقور الحرة الأبية الجارحة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات أصحاب الأرض

إقرأ أيضاً:

"المرور" يوضح تفاصيل خدمة "محفظة لوحات المركبات الرقمية"

كشفت الإدارة العامة للمرور عن إطلاق خدمة "محفظة لوحات المركبات الرقمية"، التي تقدم لأول مرة في المملكة العربية السعودية، بهدف تمكين مالكي اللوحات المميزة التي تم شراؤها عبر المزاد الإلكتروني، من الاحتفاظ بها وإدارتها بطريقة آمنة ومريحة.
وتأتي هذه المبادرة ضمن جهود الإدارة لتعزيز التحول الرقمي، وتقديم خدمات مبتكرة تلبي احتياجات المواطنين والمقيمين، بما يتماشى مع رؤية المملكة 2030.تفاصيل الخدمةووفقًا للإدارة العامة للمرور، تتيح هذه الخدمة للمستفيدين إمكانية الاحتفاظ بلوحاتهم الرقمية في محفظة إلكترونية مرتبطة بحساباتهم الشخصية عبر منصة "أبشر"، دون إلزام بتسجيل اللوحة فور شرائها على مركبة. وأوضحت الإدارة أن هذه الخدمة تشمل اللوحات التي لم تُسجل على مركبات من مختلف الأنواع، بما في ذلك المركبات الخاصة والدراجات الآلية، ما يمنح مالكي اللوحات حرية التصرف وإدارتها في أي وقت.
أخبار متعلقة تدشين خدمة محفظة لوحات المركبات الرقمية.. اعرف مميزاتهالسلامة المواطنين.. المرور السعودي يحذر من النقل غير المرخصالمرور: الوعي يُخفض وفيات الحوادث المرورية 50%وأكدت الإدارة أن مالكي اللوحات الرقمية يمكنهم الاحتفاظ بلوحاتهم في المحفظة الرقمية لمدة غير محددة، مع إمكانية طباعة وثيقة ملكية اللوحة إلكترونيًا من خلال منصة "أبشر".
كما أشارت إلى أن اللوحة تنتقل تلقائيًا من المحفظة الرقمية إلى المركبة عند تسجيلها على أي مركبة، مما يضمن سهولة الإجراءات وسرعتها.تحسينات جديدةوفيما يتعلق بخطط التطوير المستقبلية، أوضحت الإدارة العامة للمرور أن الخدمة ستشهد تحسينات وإضافات جديدة، تشمل إتاحة إمكانية نقل ملكية اللوحات بين الأفراد وربط اللوحات بمركبات مسجلة، بهدف توسيع نطاق الاستخدام وتلبية مختلف احتياجات المستفيدين.
ودعت الإدارة العامة للمرور جميع المستفيدين المهتمين بهذه الخدمة إلى زيارة منصة "أبشر" للتعرف على التفاصيل والإمكانات الجديدة التي توفرها خدمة "محفظة لوحات المركبات الرقمية". وشددت الإدارة على أن هذه الخطوة تأتي في إطار التزامها بتسهيل الإجراءات المرورية وتعزيز تجربة المستفيدين من خدماتها المتنوعة.

مقالات مشابهة

  • الازرق: الاعلام من الاسلحة التي تعول عليها الدولة في الوقت الراهن
  • نوة المكنسة.. تعرف على أصعب النوات التي تضرب الإسكندرية
  • مكافأة نهاية الخدمة للموظفين .. قيمتها وضوابط الحصول عليها بمشروع قانون العمل
  • أغلى لوحة سيارة بمليون جنيه.. سعر أرخص واحدة إيه؟
  • مزور: النفايات التي ننتجها غير كافية للصناعة و العالم كيضارب عليها
  • مسؤول في “البنتاغون”: اليمن أصبح يمتلك تكنولوجيا صناعة الصواريخ الباليستية التي تستحوذ عليها الدول المتقدمة فقط
  • "المرور" يوضح تفاصيل خدمة "محفظة لوحات المركبات الرقمية"
  • أسماء الحوسني تصنع التاريخ في "عالمية أبوظبي للجوجيتسو"
  • أسماء الحوسني تصنع التاريخ في «عالمية أبوظبي» للجوجيتسو
  • ما هي الأسئلة التي ستوجه للأسرة خلال اجراء التعداد السكاني؟