المواطنة والهويّة الثّقافيّة في عالم متغير
تاريخ النشر: 8th, April 2024 GMT
كثر الحديث في الفترة الأخيرة حول المواطنة والهويّة الثّقافيّة في عالم متغير، ورأيتُ بعض البرامج حول هذا في معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الماضية، وفي أثناء المعرض كان لي لقاء حول هذا في إذاعة سلطنة عمان في برنامج الظّهيرة، وابتداء المواطنة لم تكن سابقا بالصّورة الحاليّة، وكان الإنسان هويّة مرتبطا بالانتماء الأكبر دينيّا أو جغرافيّا أو ثقافيّا، وسياسة كان مرتبطا بالولاء القبليّ، ثمّ تغيّر الحال عند تكوّنت الدّولة القطريّة، فظهر مفهوم المواطنة بالشّكل الإجرائيّ بصورة أكبر، فاعتبر بعضهم المواطنة بالشّكل الإجرائيّ هويّة كبرى، وبعضهم مايز بين المواطنة والهويّة، فالمواطنة مرتبطة بالذّات، والهويّة مرتبطة بالانتماء أيّا كان تشكله، فقد تكون هناك هويّة أكبر وهويّات الهامش، لكن الجميع سواء من حيث المواطنة، أي من حيث الذّات والماهيّة، فالهويّة الإجرائيّة هي الشّيء الجامع تعاقديّا في دولة قطريّة ما، دون تهميش للخصوصيّات الانتمائيّة.
ومن مايز بين المواطنة والهويّة ربط المواطنة بالقيم الكبرى، فظهر ما يسمّى بالقيم الوطنيّة، وهي إمّا قيم ذاتيّة مطلقة، أو ذاتيّة مضافة، أو أخلاقيّة انتمائيّة، فالمطلقة تتمثل في المساواة والعدل وكرامة الذّات والحريّة، والمضافة مثل التّعليم والصّحة والاكتفاء المعيشيّ، ودونهما الأخلاقيات الانتمائيّة المرتبطة بالهويّات كالكرم وإكرام الضّيف، فإذا فهمنا الثّقافة والهويّات والانتماءات من خلال القيم المطلقة تتهذّب وتستقر، أمّا إذا انطلقنا من الهويّة والانتماء ذاته تتصارع وقد تتحارب، خصوصا إذا ضعف المركز.
لهذا حتّى لا نقع في هذا التّصارع والاحتراب تأتي أهميّة الثّقافة ودورها في ترسيخ الوعي الثّقافي، والثّقافة كما يعرّفها تايلور هي الكلّ المركب، والثّقافة كالمواطنة والهويّة مصطلحات إجرائيّة معاصرة ارتبطت بالدّولة القُطريّة، وعليه الثّقافة جامعة حافظة ناقدة لهذه الهويّات غير مفرقة، ومن الثّقافة يأتي دور المثقف الرّاصد، الّذي يجمع بين التّحرّر والانتماء، فلمّا يكون راصدا لابدّ أن يتحرّر أي يقرأ من الأفق الواسع، ولكنّه إجرائيّا أو اجتماعيّا منتسبا لهويّة ما.
وما تقوم به الثّقافة من ترسيخ القيم الوطنيّة في عالم متغيّر ومتنوع ليس مشروعا ميسرا، بل هو مرتبط بتحدّيات عديدة، منها عدم وجود انطلاقة واضحة من القيمة المطلقة ذاتها، وخلطها بالعادات والسّجايا، أو على الأقل عدم الانطلاق من الذّات من حيث القيمة، وتضييقها بالهويّة، فينتج عن هذا الازدواجيّة إجرائيّا في التّطبيق خلاف التّنظير، مثلا لمّا توضع الدّساتير التّعاقديّة باعتبار الهويّات الانتمائيّة أكثر من الهويّات الجامعة وفق الذّات الواحدة، وارتباطها بالمصالحيّة الفئويّة، وتقديم الشّخوص والمصالح الآنيّة على قيم الوطن الكبرى، فيحتاج هذا إلى شيء من المراجعات والنّقد بالنّسبة إلى داخل الدّولة القُطريّة ذاتها، ليكون تدافعا طبيعيّا بعيدا عن التّفكّك والاختلاف.
فإذا كانت الدّولة الوطنيّة أو القُطريّة موحدة في ذاتها قيميّا، مع استقرار في الخصوصيّات والانتماءات، دون تهميش للحقوق الفرديّة أيضا، هذه الدّولة لا تخشى من الانفتاح على العالم الآخر، فالدّولة الوطنيّة أو القطريّة هي صورة مصغرة لهذه العوالم المعقدة، ولا يمكن فصل عالمك عن العالم الآخر، بسب العمل والإعلام والسّياحة والسّينما، والانطلاق من الذّات لا يخيف الانفتاح إذا كانت الذّات قويّة ومستوعبة للآخر استيعابا تهذيبيّا لا إقصائيّا، وعليه الهويّة الوطنيّة إذا جمعت بين سعة الذّات وسننيّة الانفتاح بلا شك بقدر ما تحافظ على انتماءاتها هي تستثمره في الانفتاح الطبيعيّ ثقافيّا وسياحيّا واقتصاديّا.
وعليه الأصل في ثقافة الدّولة القُطريّة أو دولة المواطنة أنّها تتفاعل مع الثّقافات الأخرى، فجميع الثّقافات البشريّة ذات أصل إنسانيّ واحد، وتعدّد الثّقافات جوانب كسبيّة لها ارتباط بالماضي وبالفلسفات القديمة والحديثة، والتّفاعل ينطلق من الجانب التّعارفيّ المبني على القيم الكبرى والمبادئ المشتركة في المجموع الإنسانيّ، والأصل فيه أنّه -كما أسلفتُ - يساهم في الحفاظ على الخصوصيّات الثّقافيّة كانت دينيّة أم مذهبيّة أم اجتماعيّة (عادات وتقاليد)، ويؤدي إلى استثمار هذه الخصوصيّات بما يخدم المجتمعات الإنسانيّة وفق الهويّة الوطنيّة.
ويطرح اليوم سؤال هل الهويّة الوطنيّة قابلة للتّغيير أم يجب الاحتفاظ بها كما هي؟ ومن حيث الأصل لا توجد هويّة ثابتة لأنّها شيء كسبيّ متحرك، وما نعيش فيه من هويّات ليست كهويّات أجدادنا حرفيّا، بل تطوّرت بتطوّر الحياة وأساليبها وتلاقحها مع ثقافات أخرى، وقولنا إنّ الهويّات تحترم ويحافظ عليها، هذا لا يمنع أن تتفاعل إيجابيّا فيما يخدم الذّات الإنسانيّة الواحدة، والدّولة الوطنيّة ذاتها، وهنا يمكن تحقيق التّوازن بين الانتماء الوطنيّ والانتماء الثّقافيّ للفرد في عالم متغير، فالانتماء الثّقافيّ عابر للانتماءات الوطنيّة، وله ارتباط بالفردانيّة، والانتماء الوطني انتماء إجرائي تعاقديّ وفق هويّة مشتركة، والهويّة المشتركة حافظة للفردانيّة ومنطلقة منها، وفي الوقت ذاته لا تهمشّ الانتماءات الهويّاتيّة الأخرى في الدّولة القطريّة، ويتحقّق التّوازن بينهما إذا انطلقنا من القيم الجامعة إلى الخصوصيّات الهويّاتيّة، وكانت مهذبة لا ملغيّة لها.
ولتعزيز الوعي الثّقافيّ والهويّة الوطنيّة في المجتمع لابدّ من خلق وعي جمعي مبنيّ على التّعدّديّة واستيعاب المختلف، وأن يكون مدركا أنّ هويّة الدّولة المركزيّة هويّة جامعة مستوعبة للكل دون تفريق بين أحد، مع ترك التّدافع الطبيعيّ قراءة ونقدا بدون مصادرة أو أبوية مبالغ فيها، وأن يكون الجيل الجديد مستوعبا اللّحظة الزّمنيّة الّتي يعيشها، وعدم اجتراره إلى لحظة أخرى ماضويّة أو بعيدة عن محيطه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الق طری ة الث قافی فی عالم من حیث
إقرأ أيضاً:
«جيوَن» تفوز بجائزة «عالم القوارب»
أبوظبي (الاتحاد)
أخبار ذات صلة قيادة الإمارات ترسخ الزراعة ركيزة تنموية مستقبلية وإرثاً خالداً الإمارات تحتفي بــ«اليوم الدولي للتسامح»أعلنت هيئة البيئة – أبوظبي عن فوز سفينة الأبحاث البحرية «جيون» والتي تعتبر الأكثر تقدماً في المنطقة، بجائزة«عالم القوارب» Work Boat World لأول مرة على مستوى الشرق الأوسط، باعتبارها أفضل سفينة أبحاث كبيرة لعام 2023.
وتمنح هذه الجائزة مؤسسة بيرد البحرية Baird Maritime، إحدى أبرز دور النشر الرائدة في العالم في المجال البحري للشركات التي قامت بتكليف أو تصميم أو بناء أفضل سفينة ضمن فئات مختلفة.
ولقد تم تقييم السفن المشاركة خلال عام 2023 واختيار السفن الفائزة بناءً على مجموعة من المعايير تشمل جودة التصميم والتنفيذ ومهام السفينة، بالإضافة إلى تميزها بمجال الابتكار والاستدامة.
وأعرب أحمد الهاشمي، المدير التنفيذي لقطاع التنوع البيولوجي البري والبحري في هيئة البيئة – أبوظبي، عن فخره بهذا الإنجاز وقال: «يعد اختيار سفينة جيوَن كأفضل سفينة أبحاث كبيرة لعام 2023 من قبل مؤسسة بيرد البحرية في أستراليا إنجازاً كبيراً لإمارة أبوظبي وهيئة البيئة، ويعكس الدور الرائد الذي تلعبه في مجال حماية البيئة البحرية محلياً وإقليمياً وعالمياً. فبعد عملية تقييم شاملة للسفينة جيوَن، تم اختيارها للمرة الأولى على مستوى الشرق الأوسط للفوز بهذه الجائزة من بين قائمة طويلة من السفن من جميع أنحاء العالم. ويؤكد هذا على مكانة السفينة وريادتها وكونها الأكثر تقدماً في مجال الأبحاث البحرية في المنطقة بفضل ميزاتها التكنولوجية المبتكرة وتجهيزاتها المتطورة التي تجعلها فريدة من نوعها».
وأضاف: «بصفتنا هيئة علمية تتمتع بخبرة تمتد لعقود من الزمن، فإننا حريصون دائماً على مشاركة خبراتنا، ونتطلع لأن نكون رواداً في مجال علوم البحار والأبحاث البحرية. ويؤكد الفوز بهذه الجائزة بأننا نسير على المسار السريع لتحقيق هذا الهدف».
وعن سبب اختيار السفينة جيوَن للفوز بهذه الجائزة، قال نيل بيرد، مؤسس مؤسسة بيرد البحرية:« لقد تم بناء جيوَن بشكل مميز وتزويدها بأجهزة وأدوات متعددة الاستخدامات لدعم جهود هيئة البيئة – أبوظبي لسنوات عديدة في مجال الأبحاث البحرية. وبفضل تصميمها الهيدروديناميكي تعتبر السفينة اقتصادية وقادرة على الإبحار لمسافات طويلة، مما يجعلها مثالية لأدوارها المختلفة في مجال إجراء الأبحاث البحرية».
وأضاف: «تم تصميم السفينة للعمل محلياً وإقليمياً ودولياً وفي أصعب الظروف البيئية. كما أنها مثالية لأداء مهامها في المياه الضحلة والعميقة، بما في ذلك الخليج العربي الذي يعد من أكثر البحار سخونة في العالم، حيث تتيح تجهيزاتها المتقدمة المجال لإجراء جميع أنواع الأبحاث البحرية، كل هذه المزايا تجتمع في سفينة بحثية عملية وذات مظهر جذاب».
ويشار إلى أن مؤسسة بيرد البحرية، التي تأسست في السبعينيات، معروفة بإدارة بوابة الأخبار البحرية الرائدة BairdMaritime.com، والتي تضم منشورات عالمية مثل Work Boat World وFishing Boat World وShip World وAusmarine.
ويُعد «وورك بوت وورلد» الموقع العالمي الوحيد المتخصص في مجال السفن التشغيلية، حيث يصل إلى صناع القرار في جميع أنحاء العالم بفضل أكثر من 40 عاماً من الخبرة في المجلات والمعارض والمؤتمرات والإعلام الرقمي.