لم يعد هناك خطاب حول الابتكار أو التكنولوجيا الرقمية أو الذكاء الاصطناعي لا يجعل من «الإنسان» حجر الزاوية والغاية التي تبرّر وجودها. إن الرؤية «المتمركزة حول الإنسان» تجعل من التكنولوجيا أداةً في خدمة الإنسان، وفي إطار هذه الرؤية يندرج تقرير «الذكاء الاصطناعي: طموحنا من أجل فرنسا» الذي سلّمته اللجنة حول الذكاء الاصطناعي إلى رئيس الجمهورية في الثالث عشر من شهر مارس المنصرم، والذي تضمّن فصلا بعنوان «النّزعة الإنسانية: لنجعل الذكاء الاصطناعي في خدمتنا».

وهذا أمر يستحق الثناء، ولا يمكن الجدال حوله، ولا سبيل إلى دحض أطروحته. غير أن هذه الرؤية ما تزال مختزلة للذكاء الاصطناعي وتستند إلى فهمٍ ضيّق للحركة الإنسية.

بدايةً، إن الشيء أو الخدمة الرقميّين ليسا -ولم يكونا أبدا- مجرّد أدوات بسيطة، فشبكة الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعي وبرمجيات الذكاء الاصطناعي هي أدوات تقنية اجتماعية وسياسية من تصميم البشر. غير أن التكنولوجيا الرقمية تجعل الحسابات (الرياضية والأخلاقية والمالية...) الكامنة وراءها غير مرئية؛ ولذا، يتعيّن علينا أن «نكشف الغطاء» عن هذه الحسابات لكي يظلّ الإنسان، الذي يشكّل نقطة انطلاق أي جهاز رقمي، نقطة الوصول أيضا.

ثم إن النزعة الإنسانية التي تكمن وراء التقدّم من خلال الذكاء الاصطناعي، وفق ما نفهمه من تقرير اللجنة، هي أقرب إلى النزعة الإنسانية الوجودية، التي تركّز على الفرد وحرية الاختيار والمسؤولية الشخصية، منها إلى النزعة الإنسانية كما يمكن فهمها من خلال اللغة اليومية، والتي تُحيل إلى معاني العطف والإيثار والاهتمام بالصالح العام، من منظور كوني وليس محلي. وتقف النزعة الإنسانية وفقا للرؤية التي تبنّاها التقرير عند حدود الأمة وعند الفرد.

إن ادّعاء الاهتمام بالبشر يعني تحمّل المسؤولية تجاههم. ولذا، فلا بد من تحسيس مصمّمي أنظمة الذكاء الاصطناعي بالعواقب الاجتماعية والمعرفية والأخلاقية وحتى البيئية التي تترتّب على اختياراتهم التقنية. عندما ينهار مبنًى ما، فإن التحقيق في الحادث يشمل مسؤولية المهندس المعماري. لكن عندما تقوم خوارزمية ما بالترويج لمعلومات مضلّلة أو تزيد من مخاطر نفسية واجتماعية عدّة، فماذا عن مسؤولية مهندسيها حينها؟

ولهذا السبب، يجب تدريس أساسيات العلوم والتكنولوجيا والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع لطلاب المسالك التقنية على نطاقٍ أوسع مما هو عليه الواقع اليوم. ومن شأن مشاركة مثل هذه الثقافة أن يجعل أيضا من الممكن التحرّر من الأحلام التقنوية والاستنتاجات المتهافتة التي تجعل من أي موجة من الاستخدامات الجديدة ثورة جديدة.

غير أن هذا التحسيس بالمسؤولية لا يمكن أن يتحقّق من دون زيادة شفافية أنظمة الذكاء الاصطناعي، ممّا يستدعي تعاونا وثيقا بين المنظمات الدولية والحكومات من أجل وضع معايير واضحة ومتاحة حول تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي. إن توظيف رمز الإنسان مسألة عملية للغاية، فهو يجسّد شخصية طوطمية مهيمنة وروحية وكونية، يُسقط عليها الجميع الصورة التي تناسبه. لكن استدعاء هذا الرّمز يتجاهل تنوع البشر الذين يسكنون عالمنا المشترك.

يلعب ما يُدعى بعمّال النّقرات دورا حاسما في تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث أنهم يشتغلون كعمال غير مرئيين يسهرون على تغذية هذه الأنظمة بالبيانات وعلى تحسين أدائها. إنهم بأدائهم للمهام المتكررة، مثل توسيم البيانات وتصنيف الصور وتصحيح النصوص، يساهمون في تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي وزيادة دقّتها.

إن عملهم، الذي يتقاضون عليه أجورا زهيدة وغير مستقرة في كثير من الأحيان، يعدّ ضروريا من أجل إنشاء قواعد بيانات واسعة ومتنوعة، تسمح لأنظمة الذكاء الاصطناعي بتوليد محتويات موثوقة ومناسبة للمستخدمين. وكلّما زاد اندماج الذكاء الاصطناعي التوليدي في حياتنا اليومية، فإنه لن يصير من المقبول تجاهل هذه الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بظروف العمل والأجور العادلة لهؤلاء العمال.

ثمة أمر آخر يتعلق بالتلوث الكبير الذي يتسبّب فيه الذكاء الاصطناعي التوليدي. لا ريب أن طرق الحساب المعتمدة في هذا المجال هي معقّدة وقابلة للنقاش وبالإمكان تحسينها، كما أنها تختلف بحسب مراحل دورة الحياة، لكن الاتجاهات تبقى معروفة. ولذلك، فعلى الرغم من تقديم الذكاء الاصطناعي كفرصة للكوكب، ومن كون بعض وجهات النظر إيجابية بالنظر إلى النماذج مفتوحة المصدر التي يتم تدريبها أو التعلم من خلال نقل المعارف، ممّا يمكن أن يقلّل بشكل كبير من الأثر الطّاقي للذكاء الاصطناعي، فإن مقرّري اللجنة قد تجاهلوا حقيقة الانفجار الحاصل على مستوى استهلاك المواد الخام والطاقة اللازمين طوال دورة حياة أي جهاز رقمي.

وفضلا عن هذا، لم يُشر ولو بكلمة واحدة إلى الأثر الارتدادي، أو مفارقة جيفونز، على الرغم من كونها معروفة في مجال التكنولوجيا الرقمية. وتشير هذه المفارقة إلى أنه حتى لو انخفض الاستهلاك لكل وحدة، فإن الاستهلاك الإجمالي يرتفع بسبب زيادة مستخدمي هذه التقنيات. والاعتقاد بأن بوسع التكنولوجيا أن تجيب على الدوام على التحدّيات التي تطرحها التكنولوجيا من الناحية البيئية يعني الوقوع فيما ندّدت به اللجنة نفسها في الصفحات الأولى من تقريرها: «التبشيرية التكنولوجية»!

لقد أنتجت اللجنة حول الذكاء الاصطناعي رؤية اقتصادية واستراتيجية طموحة وضرورية ومفيدة. لكننا نحتاج إلى رؤية عالمية على نحوٍ أكبر، تجمع وتحترم عمق وتعقيد هذا التطور التقني الاجتماعي الذي يسمى بالذكاء الاصطناعي.

جون فرونسوا لوكا دكتور في علم الاجتماع ومندوب عام لمؤسسة اليقظة الرقمية (مجموعة تفكير حول قضايا المجتمع الرقمي)

عن صحيفة لوموند الفرنسية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

هواوي تدمج نموذج الذكاء الاصطناعي Deepseek في خدمتها

أعلنت شركة هواوي Huawei، عن شراكة استراتيجية مع شركة AI Siliconflow لإطلاق نماذج Deepseek للذكاء الاصطناعي على خدمتها السحابية Ascend Cloud، مما يسهم في جعل تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر تكلفة معقولة وسهولة في الوصول. 

وتتضمن الشراكة طرح نموذجين رئيسيين من Deepseek، وهما Deepseek V3 (نموذج لغة) و Deepseek R1 (نموذج تفكير)، اللذان يقدمان أداءً عاليا بتكلفة أقل، مما يعزز من قدرة المستخدمين على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بشكل موسع.

انسي شات جي بي تي.. كيفية استخدام DeepSeek على الكمبيوتر والموبايلإطلاق نموذج الاستدلال OpenAI o3-mini لمواجهة صعود DeepSeek الصينيةالوصول إلى الذكاء الاصطناعي بأسعار معقولة


تقدم هواوي Cloud أسعارا مخفضة لنماذج Deepseek، مما يجعل الذكاء الاصطناعي أكثر توفيرا، على سبيل المثال، تكلف معالجة مليون رمز إدخال باستخدام Deepseek V3 حوالي 1 يوان (0.13 دولار أمريكي)، بينما تكلف معالجة مليون رمز إخراج 2 يوان (0.26 دولار)، أما نموذج Deepseek R1 فيتطلب 4 يوان (0.53 دولار) لكل مليون رمز إدخال و 16 يوان (2.13 دولار) لكل مليون رمز إخراج، هذه الأسعار تجعل الذكاء الاصطناعي في متناول الشركات والمطورين بأسعار تنافسية، مما يساهم في نشر هذه التكنولوجيا بشكل أكبر.

الاستقلالية في الذكاء الاصطناعي والتأثير الجيوسياسي


يشير إطلاق هواوي لنماذج Deepseek إلى جهود الصين المستمرة من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة في ظل القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على وصول الصين إلى الرقائق المتطورة. 

تعمل نماذج Deepseek على أجهزة Huawei Ascend AI، مما يقلل الاعتماد على التقنيات الأجنبية ويعزز من استقلالية النظام الإيكولوجي التكنولوجي في الصين، هذه الخطوة تساهم في تعزيز مكانة الصين كمنافس قوي في تطوير الذكاء الاصطناعي على الساحة العالمية.

انضمام علي بابا إلى موجة Deepseek AI


بعد تكامل هواوي، انطلقت أيضا خدمة علي بابا في تقديم خدمات Deepseek AI على منصتها السحابية. يتمكن المستخدمون من الوصول إلى هذه النماذج عبر معرض PAI Model، مما يسهل استخدام الذكاء الاصطناعي بدون الحاجة لكتابة أكواد معقدة. تقدم Alibaba Cloud نسخا كاملة ومخففة من نموذج Deepseek R1، مما يتيح مرونة كبيرة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي المختلفة.

نمو Deepseek وآفاق المستقبل


تكتسب نماذج Deepseek AI شهرة متزايدة في كل من الصين و الولايات المتحدة، حيث دمجت مايكروسوفت و أمازون نماذجها في منصات الذكاء الاصطناعي الخاصة بهما. بينما كان Deepseek قد استخدم سابقا وحدات معالجة الرسومات H100 من NVIDIA في تدريب نماذجه، فإنه الآن يعتمد على شريحة Huawei Ascend 910C. في المستقبل، تخطط هواوي لتطوير Ascend 920C، التي من المتوقع أن تتفوق على Blackwell B200 من NVIDIA، مما سيحسن قدرات Deepseek في مجال الذكاء الاصطناعي.

إن التوسع السريع لنماذج Deepseek وتكاملها مع منصات السحابة الكبرى يشير إلى تأثير متزايد للصين في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث يتوقع أن تصبح هذه النماذج الفعالة من حيث التكلفة والخوادم المحسنة عنصرًا رئيسيًا في المنافسة العالمية على تطوير الذكاء الاصطناعي.

مقالات مشابهة

  • ديب سيك.. يهز عالم الذكاء الاصطناعي
  • أخبار التكنولوجيا| واتساب يحذر من هجوم إلكتروني عالمي ببرامج تجسس.. فايرفوكس يتيح الوصول إلى روبوتات الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يعزِّز الأفلام المحلية
  • فايرفوكس يتيح الوصول إلى روبوتات الذكاء الاصطناعي
  • أستراليا تحظر برنامج الذكاء الاصطناعي ديب سيك
  • هواوي تدمج نموذج الذكاء الاصطناعي Deepseek في خدمتها
  • قائد في البحرية الامريكية: اسطولنا يحتاج لدمج التكنولوجيا التي يستخدمها “الحوثيون”  
  • سر جديد عن المريخ يكشفه الذكاء الاصطناعي
  • كيف هز ديب سيك الصيني عروش الذكاء الاصطناعي بـ5.6 ملايين دولار فقط؟
  • “اللجنة الاستشارية” على وشك الانطلاق.. ما هو دورها الفعلي؟