في الذكاء الاصطناعي.. الإنسان هو نقطة الانطلاق ويجب أن يظل نقطة الوصول
تاريخ النشر: 8th, April 2024 GMT
لم يعد هناك خطاب حول الابتكار أو التكنولوجيا الرقمية أو الذكاء الاصطناعي لا يجعل من «الإنسان» حجر الزاوية والغاية التي تبرّر وجودها. إن الرؤية «المتمركزة حول الإنسان» تجعل من التكنولوجيا أداةً في خدمة الإنسان، وفي إطار هذه الرؤية يندرج تقرير «الذكاء الاصطناعي: طموحنا من أجل فرنسا» الذي سلّمته اللجنة حول الذكاء الاصطناعي إلى رئيس الجمهورية في الثالث عشر من شهر مارس المنصرم، والذي تضمّن فصلا بعنوان «النّزعة الإنسانية: لنجعل الذكاء الاصطناعي في خدمتنا».
بدايةً، إن الشيء أو الخدمة الرقميّين ليسا -ولم يكونا أبدا- مجرّد أدوات بسيطة، فشبكة الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعي وبرمجيات الذكاء الاصطناعي هي أدوات تقنية اجتماعية وسياسية من تصميم البشر. غير أن التكنولوجيا الرقمية تجعل الحسابات (الرياضية والأخلاقية والمالية...) الكامنة وراءها غير مرئية؛ ولذا، يتعيّن علينا أن «نكشف الغطاء» عن هذه الحسابات لكي يظلّ الإنسان، الذي يشكّل نقطة انطلاق أي جهاز رقمي، نقطة الوصول أيضا.
ثم إن النزعة الإنسانية التي تكمن وراء التقدّم من خلال الذكاء الاصطناعي، وفق ما نفهمه من تقرير اللجنة، هي أقرب إلى النزعة الإنسانية الوجودية، التي تركّز على الفرد وحرية الاختيار والمسؤولية الشخصية، منها إلى النزعة الإنسانية كما يمكن فهمها من خلال اللغة اليومية، والتي تُحيل إلى معاني العطف والإيثار والاهتمام بالصالح العام، من منظور كوني وليس محلي. وتقف النزعة الإنسانية وفقا للرؤية التي تبنّاها التقرير عند حدود الأمة وعند الفرد.
إن ادّعاء الاهتمام بالبشر يعني تحمّل المسؤولية تجاههم. ولذا، فلا بد من تحسيس مصمّمي أنظمة الذكاء الاصطناعي بالعواقب الاجتماعية والمعرفية والأخلاقية وحتى البيئية التي تترتّب على اختياراتهم التقنية. عندما ينهار مبنًى ما، فإن التحقيق في الحادث يشمل مسؤولية المهندس المعماري. لكن عندما تقوم خوارزمية ما بالترويج لمعلومات مضلّلة أو تزيد من مخاطر نفسية واجتماعية عدّة، فماذا عن مسؤولية مهندسيها حينها؟
ولهذا السبب، يجب تدريس أساسيات العلوم والتكنولوجيا والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع لطلاب المسالك التقنية على نطاقٍ أوسع مما هو عليه الواقع اليوم. ومن شأن مشاركة مثل هذه الثقافة أن يجعل أيضا من الممكن التحرّر من الأحلام التقنوية والاستنتاجات المتهافتة التي تجعل من أي موجة من الاستخدامات الجديدة ثورة جديدة.
غير أن هذا التحسيس بالمسؤولية لا يمكن أن يتحقّق من دون زيادة شفافية أنظمة الذكاء الاصطناعي، ممّا يستدعي تعاونا وثيقا بين المنظمات الدولية والحكومات من أجل وضع معايير واضحة ومتاحة حول تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي. إن توظيف رمز الإنسان مسألة عملية للغاية، فهو يجسّد شخصية طوطمية مهيمنة وروحية وكونية، يُسقط عليها الجميع الصورة التي تناسبه. لكن استدعاء هذا الرّمز يتجاهل تنوع البشر الذين يسكنون عالمنا المشترك.
يلعب ما يُدعى بعمّال النّقرات دورا حاسما في تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث أنهم يشتغلون كعمال غير مرئيين يسهرون على تغذية هذه الأنظمة بالبيانات وعلى تحسين أدائها. إنهم بأدائهم للمهام المتكررة، مثل توسيم البيانات وتصنيف الصور وتصحيح النصوص، يساهمون في تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي وزيادة دقّتها.
إن عملهم، الذي يتقاضون عليه أجورا زهيدة وغير مستقرة في كثير من الأحيان، يعدّ ضروريا من أجل إنشاء قواعد بيانات واسعة ومتنوعة، تسمح لأنظمة الذكاء الاصطناعي بتوليد محتويات موثوقة ومناسبة للمستخدمين. وكلّما زاد اندماج الذكاء الاصطناعي التوليدي في حياتنا اليومية، فإنه لن يصير من المقبول تجاهل هذه الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بظروف العمل والأجور العادلة لهؤلاء العمال.
ثمة أمر آخر يتعلق بالتلوث الكبير الذي يتسبّب فيه الذكاء الاصطناعي التوليدي. لا ريب أن طرق الحساب المعتمدة في هذا المجال هي معقّدة وقابلة للنقاش وبالإمكان تحسينها، كما أنها تختلف بحسب مراحل دورة الحياة، لكن الاتجاهات تبقى معروفة. ولذلك، فعلى الرغم من تقديم الذكاء الاصطناعي كفرصة للكوكب، ومن كون بعض وجهات النظر إيجابية بالنظر إلى النماذج مفتوحة المصدر التي يتم تدريبها أو التعلم من خلال نقل المعارف، ممّا يمكن أن يقلّل بشكل كبير من الأثر الطّاقي للذكاء الاصطناعي، فإن مقرّري اللجنة قد تجاهلوا حقيقة الانفجار الحاصل على مستوى استهلاك المواد الخام والطاقة اللازمين طوال دورة حياة أي جهاز رقمي.
وفضلا عن هذا، لم يُشر ولو بكلمة واحدة إلى الأثر الارتدادي، أو مفارقة جيفونز، على الرغم من كونها معروفة في مجال التكنولوجيا الرقمية. وتشير هذه المفارقة إلى أنه حتى لو انخفض الاستهلاك لكل وحدة، فإن الاستهلاك الإجمالي يرتفع بسبب زيادة مستخدمي هذه التقنيات. والاعتقاد بأن بوسع التكنولوجيا أن تجيب على الدوام على التحدّيات التي تطرحها التكنولوجيا من الناحية البيئية يعني الوقوع فيما ندّدت به اللجنة نفسها في الصفحات الأولى من تقريرها: «التبشيرية التكنولوجية»!
لقد أنتجت اللجنة حول الذكاء الاصطناعي رؤية اقتصادية واستراتيجية طموحة وضرورية ومفيدة. لكننا نحتاج إلى رؤية عالمية على نحوٍ أكبر، تجمع وتحترم عمق وتعقيد هذا التطور التقني الاجتماعي الذي يسمى بالذكاء الاصطناعي.
جون فرونسوا لوكا دكتور في علم الاجتماع ومندوب عام لمؤسسة اليقظة الرقمية (مجموعة تفكير حول قضايا المجتمع الرقمي)
عن صحيفة لوموند الفرنسية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
هل يسدد الذكاء الاصطناعي ديون الغرب؟
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي يغير الاقتصاد العالمي بسرعة غير مسبوقة، ولكن هل ينقذ البلدان الغنية من ضغوط الديون المتزايدة الشدة، خاصة وأن الشيخوخة السكانية السريعة تزيد من الضغوط المفروضة على برامج الإعانات؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل يتسنى لهذه البلدان إدارة عجز أكبر بأمان، والاقتراض فعليا على حساب أجيال المستقبل الفائقة الثراء؟
لا ينبغي لأحد أن يراهن على ذلك.
من المؤكد أن التقييم المتفائل إلى حد كبير لتأثير الذكاء الاصطناعي المحتمل على النمو الاقتصادي تسبب في دفع أسواق الأصول إلى الارتفاع خلال السنوات القليلة الماضية. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على أسواق الأسهم المبتهجة التي تواصل ارتفاعها على الرغم من الشلل السياسي في فرنسا، والإغلاق الحكومي والهجوم الشامل على استقلالية البنك المركزي في الولايات المتحدة، وهجرة المواهب العالية المهارات من المملكة المتحدة.
برغم أنني أزعم منذ فترة طويلة أن الذكاء الاصطناعي سيحل في نهاية المطاف مشكلة النمو الضعيف في الاقتصادات المتقدمة، فإنني حذرت أيضا من عدد كبير من العقبات المحتملة التي قد تبطئ من وتيرة هذا التحول. تُـعَـد إمدادات الكهرباء بين العوامل المادية، والقانونية، والاقتصادية، والاجتماعية العديدة التي يجب وضعها في الحسبان؛ وكذا حقوق الملكية الفكرية؛ ونقص العمال المهرة في مجال الذكاء الاصطناعي؛ والحاجة إلى وضع إطار عمل شامل يحكم كيفية تواصل روبوتات الدردشة وتبادل المعلومات، بما في ذلك نوع من آليات التسعير.
لقد استثمرت شركات الذكاء الاصطناعي مبالغ طائلة في سباق الهيمنة على السوق (في حال سماح الحكومات بذلك)، ويبدو أنها على استعداد لتحمل نزيف الأموال مقابل المستخدمين والمعلومات. ولكن في نهاية المطاف، وربما في المستقبل غير البعيد، ستحتاج هذه الشركات إلى تطوير مصادر الدخل، على الأرجح من خلال الإعلانات، مثل شركات التواصل الاجتماعي من قبلها.
برغم أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أشارت إلى المضي قدما بأقصى سرعة في تطوير الذكاء الاصطناعي، فإن المسائل المعقدة التي تنطوي على كيفية دمج الأحكام الأخلاقية في هذه النماذج ــ التي هي حاليا من اختصاص مجموعة صغيرة من المطورين ــ سوف يتولاها في نهاية المطاف الكونجرس الأمريكي والمحاكم، وكذلك السلطات في بلدان أخرى. ولكن من المرجح أن تأتي معظم المقاومة من مئات الملايين من العاملين الإداريين المُزاحين، الذين من المنتظر أن يصبحوا أحدث قضية سياسية، تماما كما هي حال عمال التصنيع اليوم وكما كانت حال عمال المزارع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
الواقع أن كل من يعمل على جهاز حاسوب أصبح عُرضة لخطر الأتمتة (التشغيل الآلي). ومن قبيل الخيال المحض أن نتصور أن حفنة من الشركات من الممكن أن تحل محل جزء كبير من قوة العمل دون حدوث اضطرابات سياسية هائلة. وباستثناء بعض التحولات الاستبدادية الدراماتيكية، نستطيع أن نجزم بأن حدوث اضطرابات أمر شبه مضمون. وسوف يقدم هذا الأمر ذخيرة وافرة لأمثال زهران ممداني في العالم (ممداني اشتراكي يبلغ من العمر 33 عاما، وهو المرشح الأوفر حظا ليصبح عمدة مدينة نيويورك القادم في نوفمبر)، خاصة وأن الذكاء الاصطناعي يبدو أنه يقضي على وظائف العمال الأصغر سنا.
ثم هناك الحقيقة المزعجة التي تتمثل في وجود عدد كبير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتطورة في المجال العسكري، والذي قد يشعل شرارة سباق تسلح هائل بل وقد يؤدي إلى انتشار الحروب التي تخوضها جيوش من الطائرات المسيرة آليا وغيرها من أنظمة الأسلحة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. تضر الصدوع والنزاعات الجيوسياسية بالنمو في الأمد البعيد، ومن المرجح أن تستنزف عائدات الضرائب بقدر ما تعززها. وقد يعمل الذكاء الاصطناعي على تمكين دول أصغر حجما وجماعات إرهابية بمنحها إمكانية الوصول إلى كبار علماء الفيزياء والبيولوجيا بضغطة زر.
أخيرا، لا تعني عودة ترمب، وهو منكر غير نادم لتغير المناخ، إلى البيت الأبيض أن التهديدات التي يفرضها الانحباس الحراري الكوكبي اختفت. فمن المتوقع أن تسجل تكاليف تغير المناخ دون ضابط أو رابط ارتفاعا حادا على مدار العقود القادمة ــ ما لم يتمكن سادة الذكاء الاصطناعي الكبار من حل المشكلة (وإن كان من الممكن أن يخلصوا إلى أن الحل يستلزم وجود عدد أقل كثيرا من الناس).
من قبيل المبالغة والمغالاة أن نتصور أن وصول الذكاء الاصطناعي العام بعد فترة انتقالية طويلة ومؤلمة سيحل جميع مشاكل العالم الغني. فحتى لو أفضى وصول الذكاء الاصطناعي العام إلى زيادة قوية في النمو، فمن شبه المؤكد أنه سيؤدي إلى حصة أعلى كثيرا من رأس المال في الناتج، وحصة أقل للعمالة في المقابل. الواقع أن سوق الأسهم تزدهر على وجه التحديد لأن الشركات تتوقع تقلص تكاليف العمالة. وعلى هذا فمن غير الممكن فهم توقعات الأرباح المرتفعة المتضمنة في ارتفاع أسعار الأسهم الشديد على أنها تترجم إلى نمو إجمالي.
هذا يعيدنا إلى الديون الحكومية. لا يوجد سبب واحد يجعلنا نفترض أن النمو المدفوع بالذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى زيادة مكافئة في الإيرادات الضريبية الحكومية، حتى برغم أن هذا كان ليمثل افتراضا معقولا في الماضي. ذلك أن فرض ضرائب على رأس المال أصعب كثيرا في نهاية المطاف من فرضها على العمالة، ويرجع هذا جزئيا إلى أنه يميل إلى كونه أكثر تركزا وأشد قوة من الناحية السياسية، وجزئيا لأنه قادر على التحرك بحرية عبر الحدود.
بالطبع، من الممكن أن تعمل جدران التعريفة الجمركية المرتفعة على منع هروب رأس المال على هذا النحو، لكن أي استراتيجية من هذا القبيل ستكون في نهاية المطاف هازمة للذات. لذا، أجل، تحول الذكاء الاصطناعي قادم، وقد ساهم بالفعل في سباق تسلح جديد بين الولايات المتحدة والصين. ولكن من التهور أن نفترض أن الاقتصادات المتقدمة من الممكن أن تعتمد على الذكاء الاصطناعي لحل مشكلات الميزانية التي يعجز السياسيون من البشر عن حلها.
كينيث روجوف كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، وأستاذ الاقتصاد والسياسات العامة في جامعة هارفارد.
خدمة بروجيكت سنديكيت