في مقال سابق.. رأينا دعوة النبي محمد أهلَ الكتاب إلى الإسلام؛ بكونه ملة إبراهيم والأنبياء من بعده، فاتّبعه كثير منهم بما فيهم رهبان وقسيسون، وربما أحبار أيضا، إلا أنه كذلك رفضه كثير منهم وصدَّوا عنه؛ خاصةً اليهود، حتى وصل الأمر إلى الاقتتال. هذا المقال.. يقرأ الحروب التي حصلت بين النبي محمد وأهل الكتاب من خلال القرآن.
القرآن.. رسم صورة عن الحالة النفسية لأهل الكتاب؛ وبالذات اليهود من بني إسرائيل، إطارها العام بأنهم قوم (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) البقرة:61 ، إنها صورة بائسة، حيث اجتمعت فيهم الذلة والمسكنة، وقد ضُربت عليهم ضربا؛ بسبب الأوضاع التي عاشوها وسوء تعاملهم مع الناس، فالمجتمع.. أنزلهم أسفل درجات سُلَّمه، ومعنى هذا أنهم ليسوا رجال حرب.
ولذلك؛ جبنوا عن خوض القتال مع النبي موسى عندما أراد أن يدخل بهم الأرض المقدسة، وقالوا صراحةً: (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْما جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) المائدة:22 ، وبلغ بهم جبنهم أنهم لم يخجلوا أنْ: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) المائدة:24 . وهم لا يقدرون أن ينفكوا عن ذلتهم إلا إنْ دفعهم القدر الإلهي واستعانوا بغيرهم: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) آل عمران:112 .
الذلة والمسكنة.. أورثتهم تعويضا نفسيا بإثارة العداوة فيما بينهم، وإشعال الفتن في المجتمعات، والإفساد في الأرض: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادا) المائدة:64. وكانوا يفعلون ذلك إلى درجة التناقض البيّن، كما حصل.. بطرد فريق منهم ثم سعيهم إلى فدية أسراه، وهذا من طبيعة النفوس الذليلة: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) البقرة:85 . لقد أصبح تكذيب الرسل أو قتلهم سجيةً من سجاياهم: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقا كَذَّبُوا وَفَرِيقا يَقْتُلُونَ) المائدة:70.
وهم قد يطلبون القتال بأنفسهم ثم يجبنون ويتراجعون عنه، كما فعلوا مع أحد أنبيائهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُمْ) البقرة:246. وبسبب ذلك كله؛ طُبِع على قلوبهم فلم يعودوا يؤمنون بآيات الله إلا قليلا: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلا) النساء:155 .
هذه هي الصورة التي رسمها القرآن عن أهل الكتاب في بيان طبيعة نفوسهم ومدى إحجامهم عن القتال، والتعويض النفسي الذي لجأوا إليه بالخديعة والتآمر لقتل مَن خالفهم. ولذلك؛ حذّرهم القرآن من الاستمرار على نهجهم، وذكّرهم بما كُتب عليهم من أن قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا) المائدة:32، وكان هذا أيضا تحذيرا لهم من السعي لمحاربة المسلمين، وبأنهم سيلقون جزاءً وبيلا: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة:33-34. يبدو أن النبي بدأ يشعر بتحركاتهم في المدينة بأساليبهم التآمرية، فوجّه إليهم القرآن هذا التحذير الشديد، وقد أعذر إليهم بذكر العقاب الذي سيقع عليهم حالَ ارتكابهم ما يخل بالأمن، لاسيما وقت الحروب، وهذا ما وقع منهم فعلا.
القرآن.. ذكر خمس حروب وقعت بين المسلمين وأهل الكتاب؛ بالذات اليهود:
- الأولى.. عندما خانوا عهدهم مع المؤمنين الذين ساكنوهم المدينة، فوقفوا مع الأحزاب المهاجِمة في «معركة الخندق»، وهذا بعُرف السياسة «خيانة عظمى». ولذلك؛ ما أنْ سكت نقع المعركة وقبل تلاشي غبارها حتى توجه إليهم النبي بجيشه: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا) الأحزاب:26-27. لقد استحكم الرعب بنفوس الذين (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)، فأسفرت المعركة عن قتل فريق وأسر فريق آخر، ثم نفيهم من أرضهم، والنبي بنفيهم لم يتعامل معهم إلا وفق قواعد الحرب المعتبرة حينذاك، على الرغم من أن القرآن حذّرهم في حال «محاربتهم الله ورسوله» أولا بتقتيلهم وتصليبهم وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
- الثانية.. ذكر القرآن بأن النبي محمدا توجه إلى فئة منهم (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، بسبب أعمال بدرت منهم فيما يبدو أنها تمس أمن المجتمع، تآمروا فيها مع المنافقين، وصفهم القرآن فيها (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الحشر:4، فعاجلوا أنفسهم بتخريب بيوتهم (بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)، ثم الجلاء من ديارهم، قبل أن يحدث لهم ما حدث لمَن سبقهم مَن قتل وأسر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) الحشر:2-3.
- في «سورة التوبة» التي نزلت في ظروف عصيبة «ساعة العسرة»، أثناء استعداد النبي محمد لمواجهة المشركين، أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا فئة من اليهود والنصارى بدأت تحركاتهم بالدعاية ضد الإسلام: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) التوبة:32 فخشي النبي منهم أن يقفوا مع المشركين والمنافقين، كما فعل من قبل إخوانهم: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة:29، حتى يعطوا الجزية؛ لكسر عداوتهم عن الإسلام وأهله، وليست -كما يذهب المفسرون والفقهاء- مقابل بقائهم في المجتمع المسلم؛ فهذا حكم فقهي سياسي متأخر.
- «مرتين».. بعد فتح مكة، ذكرتهما «سورة الإسراء» الآيات:1-8 عند الحديث عن «إفساد بني إسرائيل في الأرض»، أثناء سري النبي محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد شرحت ذلك في مقالي «الإسراء.. من الواقع إلى المتخيّل» جريدة «$»، 27/ 2/ 2022م .
هذا ما حصل بين المسلمين وأهل الكتاب في الحروب التي وقعت بينهما، بحسبما ورد في القرآن، والتي جاءت بسبب «الإفساد في الأرض» و«الخيانة العظمى»، وكان جزاؤهم قتل فريق منهم وأسر آخر، وتخريب بيوتهم، وجلاءهم من أرضهم، و«تتبير علوهم»، وكل هذا سائر وسائغ في الحروب، وحتى الإجلاء من الأمكنة أمر معتاد في تلك الأزمنة. وما عدا ذلك ما تسوقه كتب السِيَر والتاريخ والتفسير والرواية لا يُعتد به، لما شابه من أخاليط وأكاذيب ومعتقدات و«شعوبية» وروايات شفوية وتأخر في التدوين.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النبی محمد ال ک ت اب ال أ ر ض
إقرأ أيضاً:
الحروب وتراجع التضخم أبرز مميزات العام 2024
على الرغم من تراجع التضخم في معظم اقتصادات الدول حول العالم، للعالم الذي يكاد ينقضي 2024، إلا أن الناخبين لم يعبأوا بذلك.
وتسبب الارتفاع الهائل في أسعار السلع والمنتجات، خلال السنوات الماضية، في غضب هائل، ارتد على الأحزاب الحاكمة والتي عوقبت في صناديق الاقتراع.
وفي الولايات المتحدة، ساعد ارتفاع التكاليف دونالد ترامب على الفوز بولاية ثانية كرئيس بعد أربع سنوات من هزيمته أمام جو بايدن وخروجه من البيت الأبيض ليردد بعدها أن الانتخابات جرى التلاعب بها.
وفشل أنصاره في محاولتهم لقلب هزيمة ترامب باقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي في السادس من كانون الثاني/يناير 2021. وهذا العام، رفعوا أصواتهم في صناديق الاقتراع، مما أدى إلى ظهور قيادة أمريكية جديدة من المرجح أن تختبر المؤسسات الديمقراطية في الداخل والعلاقات في الخارج.
كما أدت المشاعر المعادية للسلطات، والتي نشأت بسبب التضخم، إلى تنصيب حكومات جديدة في بريطانيا وبوتسوانا والبرتغال وبنما.
كما أوصل الناخبون في كوريا الجنوبية المعارضة إلى البرلمان الذي شكلت فيه أغلبية، وهو ما كبح جماح الرئيس يون سوك يول. وفي أوائل كانون الأول/ديسمبر ، فرض الرئيس الأحكام العرفية، وهي الخطوة التي سرعان ما أبطلها البرلمان. كما هزت الانتخابات فرنسا وألمانيا واليابان والهند.
والمكان الوحيد الذي لم يحدث فيه تغيير، كان روسيا، حيث أعيد انتخاب فلاديمير بوتين رئيسا بحصوله على 88 بالمئة من الأصوات، وهو رقم قياسي في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.
وواصلت موسكو حربها وحققت مكاسب ملحوظة على الأرض. فيما وعد الرئيس الأمريكي المنتخب بإنهاء الحرب في يوم واحد.
ويخشى كثيرون في أوكرانيا وأماكن أخرى في أوروبا أن يعني ذلك الانحياز إلى بوتين والإبقاء على الوضع الراهن.
كما واصل الاحتلال عدوانه على قطاع غزة وامتدت الحرب إلى لبنان، وفي سوريا، أطاحت مجموعة من جماعات المعارضة المسلحة المنسقة على نحو جيد ببشار الأسد، وهي تسعى الآن إلى إدارة البلاد.
وفي عالم الأعمال، كافحت الشركات في مختلف أنحاء العالم بشأن كيفية التكيف مع الذكاء الاصطناعي. ويمكن تلخيص هيمنة شركات التكنولوجيا بالنسبة للمستثمرين في هذه الحقيقة البسيطة: سبع شركات تكنولوجيا، أو ما يسمى بالشركات السبع المدهشة، تمثل الآن أكثر من ثلث القيمة السوقية لمؤشر ستاندرد اند بورز 500.
إضافة إلى ذلك، فإن إيلون ماسك، الذي يملك إحدى هذه الشركات، وهي شركة تسلا، هو مستشار وداعم مالي للرئيس المنتخب ترامب.