لجريدة عمان:
2024-10-02@03:09:10 GMT

طفلة في بريطانيا

تاريخ النشر: 8th, April 2024 GMT

طفلة في بريطانيا

ذات يوم، في بداية مشواري الدراسي وإقامتي في إنجلترا، كنتُ وطفلتي الصغيرة ذات الثمانية أشهر في محل تجاري قرابة الساعة السابعة والنصف مساء للتسوق السريع لحاجيات البيت: خبز وألبان وأجبان وخضراوات وفواكه وما شابه. كنتُ موزعةً بين الاختيار بين الأنواع المعروضة وبين الانتباه الجاد جدًا إلى أن طفلتي بأمان، فقد حذرني زوجي مرارًا وتكرارًا من خطورة الاشتغال بالتسوق عن الطفلة؛ لأن نسبة اختطاف الأطفال عالية جدا في بريطانيا.

والحقيقة أني شكّكتُ بالتحذير وظننتُه تهويلا وخوفا أبويًا «فطريًا» على طفلته. وبداعي الفضول التجأت لجوجل «سيد الويب» وأفادني بحقائق صادمة وأرقام مخيفة. فعلى سبيل المثال في عام ٢٠٢٢/ ٢٠٢٣م سجلت الشرطة في إنجلترا وويلز وحدهما ١١٢٢ جريمة اختطاف أطفال! وليس بعيدا عن معرفتكم الفضيحة المدوية التي كتبت عنها صحيفة الجارديان البريطانية العام الماضي حيث كشفت عن اختفاء العشرات من أطفال طالبي اللجوء بظروف غامضة، بل وأفادت أنه تم اختطافهم من فندق تديره وزارة الداخلية البريطانية!

إذن التحذير في محله وعليّ أن أكون متيقظة تمامًا وأن تكون طفلتي في مرمى بصري بشكل دائم. وأنا بهذه الحال، إذ بي فجأة أشاهد عجوزا بريطانية تقف أمامي وتنظر لي بغضب، وفي أجزاء من الثانية كنتُ أفكر: «ما الخطأ الذي ارتكبتُه؟! لا أريد أن أتساءل قانونيا في هذه البلاد التي لا أفقه من قوانينها إلا النزر البسيط جدًا، ولعل أكثرها قوانين أكاديمية تتعلق بالدراسة فقط! يا الله! لا أريد أن «أتبهدل» في الغربة!» ولم تمهلني العجوز للاسترسال في خيالاتي «المتوجسة»، فقالت بلهجة صارمة ما خلاصته أن «هذه الطفلة يجب أن تكون في سريرها الآن، وليس التجول بها في المحلات!» وكانت في يدها عصا للاتكاء عليها وسلة لأغراضها، فما كان مني إلا أن ابتسمتُ وهززتُ رأسي كالمعترف بذنبه - والحقيقة مثل الذي يريد إغلاق الموضوع - وقلت لها: طيب، شكرا لك!

عجّلتُ في التسوق وربما لم أكمل كل ما أردتُه، وعدتُ سريعا إلى البيت. هذا الموقف جعلني أفكر في دوافع هذه المرأة للاهتمام بنوم طفلة لا تمت لها بصلة، وكيف أنها أعطت نفسها حقا بالدفاع عنها وأن تقدم نفسها على أنها الأكثر اهتماما بمصلحتها مني. وقد كنتُ سمعتُ عن اهتمام البريطانيين وربما الأوروبيين عموما بأمور مثل النوم المبكر للأطفال ولكني لم أظنها تحدث هكذا. في اليوم التالي للحادثة، التقيتُ بزميلة خليجية أقدم مني في الجامعة، وسردتُ لها ما حدث. فكانت الصدمة أنه حدث لها وزميلاتها حدثٌ مشابه. فقد كان يوم عطلة أسبوعية واتفقن على تناول العشاء جميعا في مطعم محدد وأن يحضرن برفقة أطفالهن، وحينما كُنّ يتناولن العشاء وقد تجاوزت الساعة الثامنة مساء، إذ بامرأة بريطانية تقف وتصب عليهن غضبها لعدم احترامهن لحقوق أطفالهن، والسهر بهم خارج البيت، وتهديدهن بالاتصال بالشرطة! والحقيقة أني بعد معرفتي بقصتها شعرتُ أن وضعي كان أفضل حالًا وأقل توبيخًا، وتخيلتُ لو أن «عجوزي» قالت لي شيئًا مشابهًا، ماذا كنتُ سأفعل!

ظلت الحادثة في ذهني وبدأتُ أنتبه للممارسات الرسمية وغير الرسمية التي تتعلق بالطفل في المجتمع البريطاني، ووجدتُ أن الأمر يحتوي على تناقضات مُربكة. فهناك قانون الطفولة الذي لا يحمي حقوق الطفل فقط، بل وحتى رفاهيته. وفي الجامعات على سبيل المثال يتم تخصيص بيوت للعوائل التي لديها أطفال بشكل قريب من مرفقات الجامعة لتسهيل الحياة لهم ولوالديهم، إضافة إلى تطوع الناس بتخصيص ساعات يومية للعب مع أطفال الحارة في الحدائق وتسليتهم مجانًا حفاظًا على عقليتهم من «غول التكنولوجيا» وترسيخ ترابطهم مع الطبيعة عوضًا عن الجدران المغلقة، وأمثلة أخرى كثيرة مثيرة للإعجاب. في المقابل، كان أحد أكبر التحديات التي وقعنا فيها كأسرة حينما كنا نبحث عن بيت للاستئجار هو أن كثيرا من المؤجرين يرفضون تأجير أسرة ذات أطفال! وظللنا شهرًا كاملًا نعبئ استمارات التقدم للتنافس على الحصول على «رضا» المؤجرين، ولكننا كل مرة نخسر بسبب أنهم لا يُفضِّلون طلبنا لوجود أطفال لدينا. رغم أننا وفي ظل حالة اليأس التي مررنا بها - وضعنا إيداعا سخيا لطمأنتهم بأن كل شيء سيكون كما هو وأن الإيداع هو ضمان ألا تخريب سيحدث في البيت، ولكن دون جدوى.

ومن المُربكات أيضًا أن نمط الحياة المجتمعية لا يساعد أساسًا على إنجاب طفل! فالأسر تحتاج إلى حضانات لأطفالها خلال فترة الدوام، والحضانات ذات أسعار مُبالغ فيها جدًا وتستنزف الآباء بشكل لا يُصدق. فمن واقع خبرتي فإن التكلفة السنوية للحضانة تفوق التكلفة السنوية لطالب جامعي! كنتُ مصدومة كيف أن طفلة تذهب لتشرب الحليب وتنام وتلعب ببعض الألعاب البسيطة لمدة ثماني ساعات فقط في اليوم ثم يكون تكلفة ذلك ما بين سبعمائة إلى ثمانمائة ريال عماني! أمرٌ مكلفٌ جدا نتج عنه أن يظل الآباء مجاهدين بالعمل المتواصل والمضني لتلبية هذه المتطلبات المالية، بل والتغاضي عن كثير من أحلامهم - مثل شراء سيارة- حتى يكبر أطفالهم لعمر التعليم المجاني. مرة سألتُ إحدى البريطانيات المتزوجات منذ سنوات عن سبب تأخيرها للإنجاب رغم تصريحها الدائم بشغفها بالأطفال، فقالت: «لقد وضعتُ وزوجي كل دخلنا في شراء بيت لنا، ونحتاج مدة من الزمن حتى نكون جاهزين ماديا لتكاليف إنجاب طفل! إنها تكاليف باهظة بلا شك».

ومن المربكات المتصلة بالممارسات المجتمعية إزاء الأطفال هو إما التقدير الكبير لمشاعره أو تجاهله تمامًا! فمرةً اقترب أحد الكلاب من طفلتي بشكل كبير حتى أنه وضع وجهه بما يلامس رأسها من الخلف فصرختْ حتى خفتُ على قلبها الصغير من رعشة الخوف المفاجئ، فما كان من صاحبته إلا أن اعتذرت بشدة وظلت تبدي أسفها بشكل كبير وغضبت على كلبها، بينما في موقف مشابه ورغم بكاء الصغيرة أيضا مر صاحب الكلب وكأن شيئا لم يحدث، وكأن حيوانه لم يقتحم مساحتها لدرجة أنه وضع رأسه في طعامها!

ختاما أقول بأنه ليس هناك صورة واحدة لأي قضية، فهناك الإيجابي الذي نبحثُ عنه ونرغبُ فيه في مجتمعنا مثل تنصيب الناس أنفسهم أوصياء على مصلحة الأطفال كما كان لدى أجدادنا، وهناك السلبي الذي نستفيد من معرفتنا له بتجنبه مثل التكاليف الباهظة لحضانة طفل.

شميسة النعمانية. شاعرة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

طفلة أعادت المفكر عبد الوهاب المسيري إلى طريق الإيمان.. «غيرت مفاهيمه»

تعتبر رحلة الدكتور عبدالوهاب المسيري الفكرية من أبرز الرحلات التي شهدها المشهد الفكري العربي في القرن العشرين، فمن كونه شابًا مثقفًا تأثر بالفكر الماركسي إلى العودة لتعاليم الإسلام بشكل واعٍ ومدروس، وقد أطلقت «الوطن» 3 حملات توعوية لتعزيز الهوية الوطنية والدينية والاجتماعية تحت شعار «مجتمع صحي آمن.. أوله وعي وأوسطه بناء وآخره تنمية»، بهدف الحفاظ على تماسك المجتمع وتقوية الروابط الأسرية.

رحلة عبدالوهاب المسيري من الإلحاد إلى الإيمان

هذه الرحلة الفكرية الطويلة والمعقدة، وثقها المسيري في كتابه الشهير «رحلتي الفكرية»، تثير الكثير من التساؤلات، ففي بداية حياته الفكرية، تأثر «المسيري» بالفكر الماركسي والنظريات المادية، ما دفعه إلى الشك في وجود الله والآخرة، ثم كانت فترة دراسته في الولايات المتحدة والتي شكّلت نقطة تحول مهمة في حياته، إذ بدأ يتساءل عن الكثير من القضايا الفلسفية والدينية حتى عاد إلى الإسلام بشكل واعٍ، فلم تكن عودته مجرد اعتناق شكلي، بل كانت رحلة عميقة للبحث عن الذات والمعنى للحياة.

ووفقًا لما ذكره الراحل في كتابه «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر»، فقد كانت قصة زواجه من الدكتورة هدى حجازي إحدى أهم القصص التي ألقت الضوء على أحد أبرز جوانب شخصيته، إذ كان حينها عضوًا في الحزب الشيوعي المصري، وعندما بدأ حبها يدق بابه طلب النصح من مسؤوله الحزبي عمّا يشعر به، فأخبره أنّها «برجوازية» والزواج من مثلها يسبب مشكلات كثيرة، وبذلك طرح تصورًا عقليًا أيديولوجيا (طبقيًا) للحب والزواج، وهو ما أهداه لأنّ يطلب النصيحة من والدته التي لم يستشرها في حياته قط فطرحت عليه سؤالًا بسيطًا وهو: «هل يشعر قلبك بالفرح حينما تراها؟»، فلم يجب عن السؤال، إلا أنّه شعر بأنّ أثقالًا أيديولوجية وتحليلات طبقية مادية سقطت على وجدانه، وأن أغلال العقل والقلب بدأت تنفك وقرر الارتباط بالدكتورة هدى، ولعل هذه كانت من أوائل أحداث حياته التي اهتز فيها النموذج المادي الوظيفي كإطار للرؤية.

الإنسان ليس كائن مادي

مرّ «المسيري» في مرحلة الخطوبة بمحطات من الحب جعلته يتسائل كيف يمكن للمرء أن يحب بهذه الطريقة اللازمنية، وأن يترك من يحب ويذهب إلى عمله، وكيف يتحمل الإنسان هذه العواطف بشكل يومي، وهل يتحمل جهازه العصبي مثل هذا العبء، وبعد الزواج اكتشف ميلاد جديد من الحب القادر على التعايش مع الزمن والتاريخ والمجتمع، فالحب في الزواج يتسم بنوع من الاستمرار، وحينها بدأ يعي مفاهيم مثل السكينة والمودة والألفة، وخضعت حياته الزوجية للتأمل أيضًا، فأصبح لديه رؤية ومفهوم للزواج تختلف عن ذي قبل.

ومنذ ذلك الوقت، حاول عبدالوهاب المسيري ألا يعيش في العام وحسب، وأن يختبر المقولات الأيدولوجية على محك الأشياء المباشرة والوجدانية، حتى توصل إلى أنّ الأيدولوجية قد تكون قناعًا يختفي وراءه الإنسان بحيث يتحول إلى عقل محض، وقد يختفي الإنسان تمامًا إلى درجة أنّه يموت قلبًا لا قالبًا، فكان ميلاد ابنته «نور» التي أسماها باسم أستاذته في الجامعة من أهم لحظات حياته، إذ شعر أنّ ميلادها شيء رهيب، وأنّه لا يمكن للنموذج المادي تفسير ما يحدث.

يقول عبدالوهاب المسيري: «عندما ولدت ابنتي وجدت أنّ زوجتي ابتعدت عني ودخلت في علاقة قوية مع هذا الشيء الصغير الذي وصل، وبدأت أتسائل هل ارتباطي المادي بابنتي هل يمكن أن يكون مصدره غدد؟، ووجدت أن النموذج المادي عاجز، وبالتدريج وجدت أن تركيبية الإنسان تتحدى القوانين المادية الحتمية، ووجدت أنه لا يمكن تفسير الإنسان إلا من خلال لا إله إلا الله، وأنه ليس كائنا ماديا، فالإنسان يصبح ثغرة في العالم الطبيعي يشير إلى الله سبحانه وتعالى، فـ أنا لا أنتقل من الله إلى الإنسان، ولكن من الإنسان إلى الله، وأنا من النادر أن أشير إلى القرآن والسنة إلا في الحديث عن تركيبة الإنسان لأنه أنجح طريقة للرد على العلمانيين». 

مقالات مشابهة

  • بلدية كليرفيلد بأمريكا تحول "رسمة" طفلة إلى حديقة ألعاب
  • مصرع طفلة تناولت قطعة "حشيش" من والدها
  • "طعنة في القلب".. أول صورة للطفلة "هنا" ضحية القتل على يد شاب في بولاق الدكرور
  • رضيعة تبتلع قطعة حشيس بالمعادي| التفاصيل الكاملة
  • تقرير: أطفال بريطانيا الأكثر تعاسة بالقياس مع أقرانهم في أوروبا.. ماذا وراء الأرقام الصادمة؟
  • إصابة طفلة إثر تناولها قطعة حشيش سقطت من والدها فى المعادى
  • الوزير صباغ: لا يمكن فصل جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي وعدوانها المستمر على سورية عن الدور التخريبي الذي انتهجته بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث واصلت تلك الدول انتهاك سيادة سورية ووحدة وسلامة أراضيها عبر استمرار وجود قوات
  • استمرار حبس المتهمين بقتل طفلة وإصابة والديها إثر مشاجرة ببولاق الدكرور
  • إحالة سائق للمحاكمة بتهمة دهس طفلة بالتجمع
  • طفلة أعادت المفكر عبد الوهاب المسيري إلى طريق الإيمان.. «غيرت مفاهيمه»