فجّر مقتل 7 من عمال الإغاثة التابعين للمطبخ المركزي العالمي بغارة إسرائيلية وسط قطاع غزة ردودا غاضبة، مما دفع الرئيس الأميركي جو بايدن لإجراء مكالمة هاتفية وصفت بالأصعب مع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، حيث هدد بايدن بتغيير التعامل الأميركي مع الحرب على غزة الذي اتصف بالدعم الكامل للعدوان سياسيا وعسكريا.

ووجه بايدن ما وصف بأنه أقوى توبيخ أميركي لإسرائيل منذ بدء الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وجاء في غمرة خلافات أميركية إسرائيلية حول إدارة الحرب وأهدافها، ووصف بايدن خلالها نتنياهو بأنه يضر إسرائيل أكثر مما يساعدها.

ثم جاء الموقف الأميركي المضطر للتخلي عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرار بمجلس الأمن ليدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار بغزة.

وفي غمرة انتقادات لبايدن من يساريي الحزب الديمقراطي، وتراجع شعبيته في حملة انتخابات الرئاسة الأميركية، وبعد خلافات أميركية إسرائيلية حول اجتياح رفح وصفقة الأسرى وتدفق المساعدات الإنسانية لقطاع غزة ولخطة ما بعد الحرب، جاء القصف الإسرائيلي لقافلة المطبخ العالمي المكونة من 3 سيارات ليكون القشة التي تقصم ظهر البعير.

دعونا نتعرف على طبيعة المواقف الأميركية، وهل تشكل تغييرا حقيقيا في موقف واشنطن من الحرب؟ وما تأثيرها على مسارها فيما يتعلق بإدخال المساعدات وصفقة وقف إطلاق النار واجتياح رفح؟

ازدواجية المعايير

بدا قصف القافلة الإنسانية كقشة بالفعل أمام ما سببه العدوان الإسرائيلي على غزة من استشهاد أكثر من 33 ألف فلسطيني خلال 6 شهور، وهو ما كشف ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الضحايا، فضلا عن استهتار حكومة الاحتلال بقيمة الحياة البشرية واستهتارها بالقيم الإنسانية وبقوانين الحرب التي تقر بحق حماية المدنيين والجهات الإنسانية التي تقدم لهم الخدمات.

ومن خلال ما صدر عن البيت الأبيض ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وما تم تسريبه عقب المكالمة، فقد تركزت المطالب التي قدمها بايدن لنتنياهو خلال المكالمة على اتخاذ "سلسلة من الخطوات المحددة والملموسة والقابلة للقياس" متمثلة في:

زيادة هائلة في إدخال المساعدات الإنسانية لغزة، وفتح معابر إضافية، ووقف استهداف العاملين في المجال الإنساني. خفض العنف ضد المدنيين. تمكين المفاوضين الإسرائيليين من التوصل إلى اتفاق مع حماس دون تأخير لإعادة الرهائن الإسرائيليين إلى ديارهم. طلب تقرير مفصل عن مقتل عمال الإغاثة، ودعوة نتنياهو لتحقيق فوري يتضمن محاسبة شاملة للمسؤولين عن الحادثة. بايدن (يسار) هدد نتنياهو بتغيير التعامل الأميركي مع الحرب على قطاع غزة (رويترز)

وأكد بايدن أنه "إذا لم نر أي تغييرات في سلوك الجيش الإسرائيلي تجاه المدنيين، فموقفنا بشأن غزة سيتغير".

وحسبما نقل من مضمون المكالمة، فإن بايدن قال لنتنياهو إن "العالم تحوّل ضد إسرائيل، وإن حلفاء لواشنطن أبلغوها بتحوّل في سياستهم".

تمثل هذه العبارة مربط الفرس وتظهر دوافع الموقف الأميركي، إذ إن المطالب ركزت على الجانب الإنساني لأنه هو الذي يتسبب في تزايد السخط على إسرائيل في الغرب شعبيا ورسميا، بل يهدد بفقدانها الدعم السياسي.

استجابة وإجراءات

وفي رد فعل سريع، وافقت إسرائيل على دخول 500 شاحنة مساعدات لغزّة يوميا، وفتح معبر بيت حانون (إيرز) لأول مرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وزيادة المساعدات الأردنية عبر معبر كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة، وكذلك فتح ميناء أسدود للمساعدة في تدفق المساعدات، بالإضافة إلى ذلك الميناء البحري الذي قرر الأميركيون إنشاءه بغزة، وذلك دون التطرق لزيادة تدفق المساعدات من معبر رفح مع مصر. وغير أن هذه التعديلات تتم تحت التحكم الإسرائيلي في دخول المساعدات.

وفي هذا السياق، نقل موقع "والا" العبري عن مصادر مطلعة أن بايدن أبلغ نتنياهو أن هناك حاجة لوقف القتال في غزة من أجل السماح باستئناف جهود المساعدات الإنسانية، لكن نتنياهو قال إن هناك إجراءات جديدة ستكون على الأرض، وبالتالي لن تكون هناك حاجة لوقف القتال، وإن وقف القتال يجب أن يأتي مع اتفاق لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وهذا يعني أن نتنياهو لم يتجاوب مع كل المطالب الأميركية، خصوصا تلك المتعلقة بوقف النار، واستمرار ربطها بمفاوضات الأسرى.

كما أعلنت إسرائيل أن التحقيق الداخلي الذي أجرته في مقتل موظفي الإغاثة خلص إلى "حدوث خطأ في تحديد الهوية وأخطاء في اتخاذ القرار"، وقررت تنحية قائد لواء الناحال وتوبيخ قائد المنطقة الجنوبية وضباط كبار آخرين. وهذا يشير إلى أن إسرائيل لم تجب على تعمد قتل موظفي الإغاثة، فجيشها قصف ثلاث سيارات لهم بثلاث قذائف متتالية، رغم أنه لديه إحداثيات تحرك هذه السيارات التي تضع علامات واضحة على سقوفها.

كما أنها بذلك أسدلت الستار على جريمة قتل موظفي المساعدات الغربيين ومعهم فلسطيني، ومن قبل قتلت 176 موظفا من الأمم المتحدة في هذه الحرب، وذلك دون أن يتعرض للمساءلة مسؤولوها السياسيون والعسكريون الأساسيون، وعلى رأسهم نتنياهو ووزير دفاعه أولاف غالانت، الذين يعطون أوامر إبادة الشعب الفلسطيني.

كما أن إسرائيل بهذا القرار جنّبت نفسها بالتواطؤ مع بايدن أن تتعرض لعقوبات أو حتى مطالبات بتحقيق مستقل من قبل الدول التي قُتل مواطنوها مثل بريطانيا وكندا.

وفي السياق نفسه، قرر نتنياهو إيفاد كل من رئيس الموساد ديفيد برنياع ورئيس الشاباك رونين بار، والمسؤول عن الأسرى والمفقودين في الجيش الإسرائيلي الجنرال نيتسان ألون، لعقد اجتماعات بخصوص صفقة الأسرى في العاصمة المصرية القاهرة.

تقييم المطالب والاستجابات أولا: لم تتطرق المطالب من قريب أو بعيد لوقف العدوان على غزة، وهو المطلب العالمي، واقتصر الأمر على الدعوة لإنجاز اتفاق تبادل أسرى ضمن وقف نار مؤقت وليس دائما، مع الاستمرار في تحميل حماس المسؤولية عن عدم التوصل للاتفاق حتى الآن! وهذا ما يعبر بالضبط عن الموقف المستمر للإدارة الأميركية بدعم استمرار العدوان. ثانيا: لم تتطرق المطالب لوقف خطط اجتياح رفح، وجاءت المطالبة بخفض العنف ضد المدنيين عامة، وهي تعني عدم معارضة اجتياح رفح، واشتراط ذلك بحماية المدنيين. وربما يؤدي التوصل لاتفاق وقف النار وعودة اللاجئين إلى الشمال إلى تحقيق جزء مهم من الشرط الأميركي لمهمة اجتياح رفح. ثالثا: لم تتضمن المطالب أي تلويح بوقف تزويد الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة أو حتى فرض قيود على تصديرها له، وهو مطلب متزايد في صفوف الحزب الديمقراطي وفي العالم، وجاءت بعد قرار أميركي حديث بتزويد الاحتلال بالأسلحة والذخائر اللازمة لاستمرار الحرب!

وحينما سُئل الرئيس الأميركي جو بايدن عما إذا كان هدد بفرض حظر على الأسلحة على إسرائيل خلال محادثته مع نتنياهو، أجاب "طلبت منهم أن يفعلوا ما يفعلونه".

رابعا: الموقف لم يتضمن أي إدانة لإسرائيل لارتكابها مجزرة ضد موظفي المطبخ المركزي العالمي، ولا للمجازر الإسرائيلية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، بل إن هذه المطالب الغاضبة جاءت فقط بعد مقتل 7 غربيين، دون أن يحركها مقتل 33 ألف مدني فلسطيني. خامسا: لم تحدد إدارة بايدن ما الخطوات التي ستتخذها في حالة عدم التزام إسرائيل بالمطلوب منها، ولا المعايير التي ستقيس بها التزامها بها. سادسا: الاستجابة الإسرائيلية جاءت لتنفيس الضغوط الأميركية بالدرجة الأساسية، ولامتصاص النقمة العالمية على مجازر الاحتلال والتي لم تتوقف قبلها أو بعدها، كما أن إرسال وفد التفاوض للقاهرة لا يعني أن نتنياهو قرر عقد صفقة أسرى سريعا كما تريد واشنطن، فهو لم يوافق على السماح للغزيين النازحين بالعودة للشمال قبل أن يرسل وفده، ولا يعلم ما الصلاحيات التي أعطاها للوفد. الخلاصة

ومن خلال الملاحظات السابقة، نخلص إلى أنه لا يوجد تغيير جوهري في الموقف الأميركي الداعم لاستمرار الحرب، لكنه يريد أن تدار بخفض كلفتها على المدنيين، التي تؤثر بشكل مباشر على شعبية الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، وكذلك امتصاص الغضب الشعبي والرسمي لدى الغرب، والذي أصبح بالفعل يهدد بتفكيك الدعم لها.

وهذا يعني استمرار الحرب والاستعداد لاجتياح رفح، مع تأجيله إلى حين استكمال الاستعدادات الإسرائيلية له سواء من ناحية استدعاء الاحتياط الإسرائيلي أو بإنجاز الخطط والترتيبات لإخراج النازحين وعددهم نحو 1.5 مليون فلسطيني من رفح.

وستشهد المرحلة المقبلة تنفيسا عن المدنيين بالسماح بالمزيد من المساعدات دون وجود ضمانة لاستمرارها بالكثافة المطلوبة، ودون وجود تعهد إسرائيلي بعدم استهداف المدنيين الذين يهرعون إلى استلامها.

طموح نتنياهو بالبقاء في الحكم سيدفعه للاستمرار في تعطيل اتفاق تبادل الأسرى (الأوروبية)

وهذا بالنتيجة سيخفف الضغوط على الحاضنة الشعبية المؤيدة لحماس، ولكن عمليات الإخلاء قد تهيئ الأجواء بشكل أفضل للاحتلال لاستهداف المقاومة، وهو ما تعتقد واشنطن أنه الطريقة المثلى لمحاربة حماس، ولكن نتنياهو يعتبر أن استمرار استهداف المدنيين وتجويعهم وتهجيرهم يشكل ضغطا أكبر على المقاومة لإضعافها وربما دفعها للاستسلام!

كما أن طموح نتنياهو بالبقاء في الحكم سيدفعه إلى الاستمرار في تعطيل اتفاق تبادل الأسرى، والإصرار على اجتياح رفح دون استكمال متطلبات الإدارة الأميركية، مما سيجعله على خلاف مع موقف بايدن الذي يريد توسيع وقف إطلاق النار. وفي حال التوصل لاتفاق وقف النار، فإنه سيتم تطبيق المرحلة الأولى منه، مع احتمال تعثر أو تأجيل المرحلتين الثانية والثالثة، واحتمال استئناف الحرب بشن الهجوم على رفح.

ويعتقد بايدن من خلال تقارير أجهزة استخباراته أن نتنياهو فشل في مهمة إنهاء حماس خلال المهل السابقة التي أعطاها إياه، ولم ينجح في تحرير الأسرى -وبينهم أميركيون- بالقوة، وأن عليه بالتالي الموافقة على وقف إطلاق نار يؤدي للإفراج عن أسرى إسرائيليين، مع وقف استهداف المدنيين والتركيز على المقاومة في نهاية المطاف بهدف إضعافها.

ويرى الرئيس الأميركي أن ذلك سيهيئ الأجواء لتسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية بغطاء عربي، والسماح بترويج الدولة الفلسطينية وانتزاع مواقف عربية جديدة من التطبيع بما يشكل إنجازا يرفعه في مواجهة خصمه دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية.

ويبدو أن مهمة بايدن في الضغط على نتنياهو لن تكون سهلة، في ظل سعي الأخير للبقاء أطول مدة ممكنة في الحكم وما يعانيه من توسع ضغوط المعارضة الداخلية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات اجتیاح رفح الحرب على قطاع غزة على غزة کما أن

إقرأ أيضاً:

المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا

في ظهيرة يوم شديد الصعوبة من أبريل/ نيسان عام 1975، بثت إذاعة الجيش الأميركي خبراً مفاده أن "درجة الحرارة في سايغون تبلغ 105 درجات وترتفع"، كانت تلك رسالة مشفرة تعني أن الوضع قد وصل إلى حد الانفلات التام في أعقاب هجوم واسع لقوات حكومة فيتنام الشمالية، وأنه قد بدأ الإجلاء الفوري لجميع الأميركيين المتبقين في فيتنام، بعدما كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها القتالية من فيتنام وفقا للاتفاقية الموقعة في باريس عام 1973، تاركة نحو 5000 أميركي في مهام دبلوماسية واستخباراتية.

وخلال ساعات؛ وثقت الكاميرات مشهد عشرات الأميركيين والجنود الفيتناميين الجنوبيين واقفين على سطح مبنى في سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية)، أعينهم معلقة بطائرة هليكوبتر أميركية تهبط على عجل. رجال ونساء وأطفال يصطفون على درج معدني ضيق، يتدافعون بحذر وخوف نحو الطائرة التي لا تسع إلا عدداً قليلاً.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟list 2 of 2في حال وقع المحظور النووي هل ستنحاز أميركا للهند أم باكستان؟end of list

كان ذلك المشهد ذروة عملية الإجلاء السريع التي عُرفت باسم "عملية الريح المتكررة" (Operation Frequent Wind)، وأصبحت رمزًا مريرًا لنهاية أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين.


لكن كيف وصلت فييتنام إلى هذه اللحظة؟ وكيف تحوّل بلد زراعي صغير على هامش خريطة آسيا إلى ساحة صراعٍ دوليّ دمويّ، وإلى اختبارٍ عسير لطموحات القوى الكبرى ومرآة لانكساراتها؟ ولفهم هذه التحولات التي باتت تمثل واحدة من أهم المعارك العسكرية في القرن العشرين؛ لا بد من العودة إلى البدايات؛ إلى الحسابات الجيوسياسية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وماقبل ذلك في زمن الاستعمار القديم، تلك الحسابات التي تجاوزت حدود فيتنام الضيقة وجعلت منها ساحةً لصراع استمر أكثر من عقدين من الزمن.

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية (الفرنسية) المحطة الأولى: فيتنام تحت الظل الاستعماري

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية، إلى جانب لاوس وكمبوديا (كانت الدول الثلاث تعرف باسم الهند الصينية). وكانت البلاد أشبه بساحة خلفية للإمبراطورية الفرنسية، حيث نُهبت ثرواتها الطبيعية، وقُمعت حركاتها الشعبية، وزُرعت فيها بذور الانقسام الطبقي والثقافي.

إعلان

لم تكن فيتنام تحديدا مجرد مستعمرة بعيدة، بل كانت عقدة حيوية في خريطة النفوذ الفرنسي في آسيا. ميناء "هايفونغ" التجاري الأهم في فيتنام، والمزارع التي كانت تنتج الأرز والمطاط، وخطوط السكك الحديدية التي تربط الهضاب بالمرافئ، كلها كانت تُدار لخدمة باريس، وليس لخدمة هانوي.

المحطة الثانية: فرصة خاطفة للاستقلال

في منتصف القرن العشرين، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ بدأ التوازن الاستعماري القديم يتصدع. اجتاحت اليابان الهند الصينية عام 1940، تاركة الإدارة الاسمية لفرنسا الفيشية، لكنها عمليًا أضعفت القبضة الفرنسية وأفسحت المجال لنمو تيارات المقاومة المحلية. من بين هذه التيارات، برزت شخصية استثنائية ستغيّر وجه آسيا، ويحمل الفيتناميون صورته اليوم وهم يحتفلون بالذكرى الخمسين لتوحيد بلادهم: هو تشي منه.

أسّس هو تشي منه "رابطة استقلال فييتنام" أو "الفييت مينه"، وهي حركة قومية شيوعية، مزجت بين الكفاح المسلح والتحريض الشعبي. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، وإعلان استسلام اليابان، كانت الفرصة سانحة أمام هو تشي منه، فأعلن استقلال فيتنام عن الامبراطورية اليابانية في ساحة "با دينه" بهانوي.

جنود فيتناميين خلال حرب الهند الصينية الأولى (غيتي) المحطة الثالثة: عودة الاحتلال الفرنسي

لم يعمر حلم الاستقلال طويلًا. فرنسا، التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، أرادت استعادة "هيبتها" من خلال إعادة بسط نفوذها على مستعمراتها القديمة. تجاهلت إعلان الاستقلال في هانوي، ونزلت قواتها مجددًا إلى الأراضي الفيتنامية، لتبدأ بذلك حربًا دموية جديدة. وبذلك؛ وُلدت حرب الهند الصينية الأولى، والتي ستُشكّل الأساس لحرب فيتنام القادمة.

لم يكن الاستعمار هذه المرة مثل الاستعمار القديم منحصرا فقط في استغلال الموارد؛ بل برز في قلبه صراع أيديولوجي ناشئ حول رؤيتين للعالم: فرنسا التي تمثّل الغرب الرأسمالي الإمبريالي، وفيتنام التي بدأت تتجه نحو الفكر الشيوعي، مدفوعة بإرث الاحتلال، وبحلم العدالة الاجتماعية.

إعلان

كانت التربة الفيتنامية قد تشبعت بما يكفي من الغضب، وكان المشهد الإقليمي والعالمي مهيأً لانفجار طويل الأمد، لن ينتهي إلا بعد ثلاثة عقود من الدم والنار.

المحطة الرابعة: "ديان بيان فو" حيث دفنت فرنسا رايتها وورثت أمريكا عبء الإمبراطورية

في وادٍ بعيد تحيط به التلال شمالي غرب فيتنام، خسرت فرنسا آخر رهاناتها الاستعمارية الكبرى. بدأت المعركة في مارس 1954، واستمرت 57 يومًا من القصف والحصار والنار. حاصرت المقاومة الفيتنامية بقيادة  فو نغوين جياب الجنود الفرنسيين. واعتبرت المعركة لاحقا  أحد الدروس التاريخية المذهلة في فنون وتكتيكات حرب العصابات وقدرتها على التفوق على الجيوش النظامية.

وفي السابع من مايو 1954، استسلمت القوات الفرنسية في ديان بيان فو، بينما كانت قادة فرنسا يبحثون في جنيف عن مخرج مشرّف. وفي يوليو 1954، اجتمع القوى الكبرى في العالم في مؤتمر جنيف، حيث تقرر تقسيم فييتنام مؤقتًا على طول خط العرض 17، الشمال بقيادة هو تشي منه الشيوعي، عاصمته هانوي. والجنوب بقيادة نظام مدعوم من الغرب، برئاسة إمبراطور صوري ثم رئيس فعلي هو نغو دينه ديم. لكن الاتفاق نص أيضًا على إجراء انتخابات وطنية موحدة عام 1956، لكنها لم تحدث، لأن الولايات المتحدة خشيت من فوز الشيوعيين.

من هنا، بدأت واشنطن تتدخل في فييتنام. لم يكن هناك إنزال عسكري بعد، وكانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو": إذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا! وهكذا، تحوّلت فييتنام من ساحة استعمار قديم إلى مسرح للصراع الأيديولوجي العالمي الذي تصاعد بعد الحرب الباردة.

كانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو"، فإذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا (غيتي) المحطة الخامسة: تقسيم البلاد وصعود ديان دينه ديم

انتهى الوجود الفرنسي رسميًا في جنوب فييتنام في أبريل 1956، وبقيت البلاد منقسمة بحكم الواقع بين حكومة “جمهورية فييتنام” في الجنوب، وحكومة “جمهورية فييتنام الديمقراطية” بقيادة هو تشي منه في الشمال.

إعلان

دشن ديان دينه ديم (حليف أمريكي) سياسة أيديولوجية قومية وعنيفة ضد المعارضين داخليًا، معطياً امتيازات واسعة للكاثوليك وهو ما أشعل اضطرابات اجتماعية وانتفاضات بوذية ضد حكمه. عام 1960 تأسست «جبهة التحرير الوطني» المعروفة بـ"الفيت كونغ" لإعادة توحيد كل قوى المعارضة في الجنوب تحت قيادة الشمال​. اعتمدت الفيت كونغ على تكتيكات حرب العصابات وبنية تحتية سرية في الدول المجاورة من الهند الصينية لتأمين الإمداد اللوجيستي.

المحطة السادسة: خليج تونكين؛ الذريعة التي فتحت أبواب الجحيم

في أغسطس من عام 1964، زعمت البحرية الأمريكية أن مدمّرتها يو إس إس مادوكس تعرّضت لهجوم من زوارق طوربيد فيتنامية شمالية في خليج تونكين. لم تكن التفاصيل واضحة، والصور غير حاسمة، لكن الرئيس ليندون جونسون لم يحتج لأكثر من هذه الشرارة لطلب تفويض مطلق من الكونغرس لاستخدام القوة في فييتنام. وهكذا، صدر قرار خليج تونكين، الذي منح البيت الأبيض يدًا طليقة لشن الحرب دون إعلان رسمي.

كانت الحادثة التي لا يزال الجدل قائمًا حول صحتها الكاملة نقطة تحوّل فاصلة، إذ انتقلت أمريكا من دور المستشار والراعي في الظل إلى قوة محتلة، تمطر الأدغال الفيتنامية بعشرات الآلاف من الجنود والقنابل.

وبحلول عام 1965، بدأ التصعيد العسكري الكبير: إرسال أولى وحدات القتال، ثم القصف الجوي المكثف على شمال فييتنام في حملة سُمّيت "رعد متواصل" (Operation Rolling Thunder).

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب (أسوشيتد برس) المحطة السابعة: أميركا ضد نفسها

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب. اللحظة المفصلية جاءت عام 1968، بعد هجوم مفاجئ شنّه الفيتكونغ في رأس السنة القمرية (هجوم تيت) على عشرات المدن في الجنوب، بما فيها سايغون نفسها. ورغم أن الهجوم ألحق خسائر هائلة بالمقاومين الفيتناميين وربما يعتبر خسارة عسكرية، إلا أنه زلزل ثقة الأمريكيين بقدرتهم علي تحقيق النصر. فقد بدا لهم كأن العدو "المنهك" لا يزال قادرًا على الضرب بقوة في عمق المناطق الآمنة، سيظل كذلك.
المحطة الثامنة: "فتنمة الحرب".

إعلان

حين تولّى ريتشارد نيكسون الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1969، كانت فييتنام قد أصبحت كابوسًا سياسيًا وعسكريًا. أدرك نيكسون أن النصر الكامل مستحيل، لكنه لم يشأ الانسحاب فجأة. فطرح استراتيجية سمّاها: "فتنمة الحرب" (Vietnamization)، أي تحويل عبء القتال إلى الجيش الفيتنامي الجنوبي، بينما تبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب التدريجي.

المرحلة التاسعة: رحيل آخر الجنود المقاتلين

لم تكن "فتنمة الحرب" أكثر من محاولة لتأجيل الهزيمة، لا تجنّبها. فالجيش الجنوبي كان ضعيف التدريب، ويفتقر للحافز القتالي، في حين كان الشمال يزداد صلابة. في الوقت نفسه، وسّع نيكسون الحرب عبر قصف كمبوديا ولاوس بحجة ضرب خطوط الإمداد الفيتنامية (طريق هو تشي منه)، ما أدى إلى توسيع رقعة الصراع، وخلق المزيد من الفوضى في المنطقة، وأشعل المعارضة داخل الولايات المتحدة.

لم يستجب الفيتناميون لرغبة الأمريكان في التفاوض مباشرة، واستمروا في إلحاق الخسائر بهم، حتى عام 1973 حين وقّعت أميركا اتفاقية باريس للسلام مع حكومة فيتنام الشمالية، معلنة انسحابها الرسمي من الحرب، بعد أن خسرت أكثر من 58 ألف جندي، وأبقت على نحو 5000 آلاف جندي فقط في مهام غير قتالية.

 

المحطة العاشرة: سقوط سايجون

في ربيع عام 1975، بدأ الجيش الشمالي الزحف النهائي نحو العاصمة الجنوبية سايغون. كانت القوات الفيتنامية الشمالية مدعومة بخبرة طويلة، وعقيدة قتالية متماسكة، بينما كان الجنوب، رغم الأسلحة الأمريكية المتروكة، منهارًا معنويًا. سقطت المدن الواحدة تلو الأخرى، بلا مقاومة تُذكر. أما واشنطن، فقد اكتفت بالمراقبة، بعد أن قطعت المساعدات العسكرية.

في 30 أبريل 1975، دخلت دبابات الشمال سايغون. لم تكن هناك معركة حقيقية. رفع الجنود علمهم الأحمر بنجمة صفراء فوق القصر الرئاسي، وانتهت الجمهورية الفيتنامية الجنوبية إلى الأبد. لم يُعلن عن هزيمة أمريكية رسميًا، لكنها بقيت محفورة ومستقرة في التاريخ العسكري والاستراتيجي: أن الفيتناميين هزموا الولايات المتحدة.

إعلان

 

مقالات مشابهة

  • عاجل | وفد قطر أمام محكمة العدل: إسرائيل تستخدم المساعدات الإنسانية سلاحا ضد المدنيين
  • هل معادن أوكرانيا النادرة التي أشعلت الحرب ستوقفها؟
  • ألف طائرة مسيّرة لكل فرقة قتالية: الجيش الأميركي يطلق أكبر تحول عسكري منذ الحرب الباردة
  • ترامب: بايدن المتسبب بانكماش الاقتصاد الأميركي
  • المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا
  • عندما تغفو العدالة.. الحرب المنسية على المدنيين في اليمن (ترجمة خاصة)
  • الجارديان: وعد ترامب بالسلام في اليمن لكنه جلب معه زيادة سريعة في عدد الضحايا المدنيين (ترجمة خاصة)
  • 50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم
  • البيت الأبيض: ترامب يركز على تراجع معدلات التضخم التي خلفتها إدارة بايدن
  • الإنفاق العسكري العالمي يسجل أعلى مستوى له منذ نهاية الحرب الباردة