المجموعات الجماهيرية عقلانية بالضرورة
تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT
كثير ما تتهم المجموعات «الجماهيرية» بالعشوائية، وبعدم التنظيم، وبـ «عقلية القطيع» وتترسخ الصورة النمطية هذه مع مرور الزمن، ليس لأنها حقيقة مطلقة ولكنها تخفف من وطأة التأثير الذي تحدثه المجموعات «الجماهيرية»، وعلى أن هذا التأثير ينطلق من منهج عقلاني، بعيد عن الشطط، ومن هنا يجب التفريق بين ما تؤول إليه ممارسات وسلوكيات المجموعات الجماهيرية، وبين تجاوز الحقيقة في ترسيخ الصورة النمطية التي تشاع عنها.
في تقييم غير واع بالضرورة أن المجموعات الجماهيرية هي سيئة بالكلية، وأن حراكها لا يفضي إلا إلى كثير من التداعيات السلبية، وأن حراكها لا يعبر عن مجتمع واع، وأن فئاتها تحتاج إلى كثير من الدعم النفسي، والتربوي، وهذا التدافع من الإساءات تجاه المجموعات الجماهيرية يحتاج إلى كثير من التمهل، والمراجعة، والدقة، لأن في مجموعها تهم أغلبها غير دقيقة، وإنما بنيت على ترسخ صور نمطية، وأن كل ما يقع تحت تصنيف «المجموعات الجماهيرية» هي سيئة بالضرورة، وهذا فكر، أتصور، أنه قد تضاءل كثيرا في العهود المتأخرة من عمر الوعي الاجتماعي، على وجه الخصوص، وهذا التضاؤل تدعمه وسائل التواصل الاجتماعي التي أعطت الحرية الكاملة للأفراد لأن يعبروا عن كل ما يودون التعبير عنه، دون أن تمر تعبيراتهم عبر مقص الرقيب، كما كان في الماضي، بالإضافة طبعا إلى أهم منفذ يمكن التعبير من خلالها عن طموحات وآمال العامة، وهي المجالس البرلمانية، وهي المؤسسة المعبرة عن الشعوب كافة، حيث فوضت الشعوب من يمثلها في هذه المجالس، وكفلت المجالس، في المقابل، التعبير الحر الكامل، للحديث والمطالبة، والاعتراض، والنقد الموضوعي، على كل ما هو موجود في الميدان، ومعنى هذا أن أعضاء هذه المجالس هم مجموعة جماهيرية انتقاها الجمهور من بين أفراده الكثر، وسلمها أمانة المسؤولية للتعبير عنهم، وعن كل ما يودون طرحه، وبالتالي فهم أقرب إلى الحوار مع صاحب القرار من دون تشنج، وهذه المجموعة البشرية وإن نظر إليها بكثير من التنظيم، إلا أنها في النهاية هي صورة مصغرة للمجموعات الكبيرة خارج المؤسسة البرلمانية.
هل تحرك المجموعات الجماهيرية تحركا رأسيا «هرميا» أم أفقيا «تجانسيا»؟ فالذي ينتصر للصورة الأولى فهو يذهب إلى تعزيز الصورة النمطية المترسخة عن المجموعات الجماهيرية، وهي الصورة المتوجسة والخائفة، وقد ينظر إليها نظرة استفهام كبيرة عن أسباب نشأتها، وأن موضوعاتها التي تطرحها موضوعات غير قابلة للنقاش، وقد تتهم بأنها تنفذ أجندات خارجية، ولذا يجب أن تواجه بالقوة القاهرة، والذي ينتصر للصورة الثانية، فإنه يرى أن المجموعات تتحرك أفقيا، وبالتالي فهي تمارس أنشطتها وفق ممارسات عقلية تخضع لكثير من التنظيم، والترتيب، وتعتمد كثيرا على برامج وآليات تفضي إلى كثير من الخير؛ لأن هناك تجانسا كبيرا -بالتأكيد غير مطلق- لكنه يصل إلى حد الرضى، ولعلنا نشاهد مثل هذه الصورة أكثر في المجموعات الجماهيرية التي تسيرها الأحزاب في الدول الحزبية، ولها أجندة واضحة، ومشروع محدد تعمل عليه، وبالتالي فمتى تحقق لها ما أرادت بمجالات القوة الناعمة، وكتب لها النجاح، لا تلبث كثيرا في الساحة، وتعود أدراجها إلى حيث النشأة الأولى، ولعل الثانية ذات البعد الأفقي تخضع لكثير من تأثيرات ثقافة المجتمع الذي يحتضنها، وهو المجتمع الذي لا تشكل فيه المجموعات الجماهيرية ظاهرة اجتماعية ملفتة، وتحتاج إلى كثير من الرعاية والمتابعة، وإنما هي تتحرك في السياق الاجتماعي المعهود، فلا يثير تحركها استنفارا يجب مواجهته بالقوة، أو أن هذا التحرك يثير الخوف، ويخلق مجموعة من الأسئلة عن الأسباب والمسببات.
ربما ما يعاب على المجموعات الجماهيرية في عموميتها؛ هو حالات الحماس، أو الانفعالات التي يبديها بعض أفرادها، فيعلو سهم هذه الانفعالات إلى شيء من الضرر المادي للممتلكات العامة، وهذا يقينا، ليس من أخلاقيات وقيم المجموعات الجماهيرية التي تعي، تماما مسؤولياتها الوطنية والأخلاقية، وبالتالي فهذه تظل حالات استثنائية يتم معالجتها تلقائيا عبر العقلاء المنظمين للحراك الجماهيري، وإن حدثت فإن من قام بفعله السيئ، يقينا، أيضا، سيدخل في حالة تأنيب ضمير غير منكورة؛ لأن الهدف هو الإصلاح. وبالإضافة إلى ذلك سيدفع ثمن ما تسبب في إتلافه، عاجلا أو آجلا، فالقانون لا يحمي المغفلين، وهذا يصنف ضمن جنوح الممارسات غير الواعية، ومع ذلك، فهذه الاستثناءات لا يمكن أن تلغي أهمية الدور الذي تقوم به الجماعات الجماهيرية، ومدى فرض أجندتها التي تذهب إلى خدمة الصالح العام لا أكثر.
هناك منْ يَنْظُرُ إلى أن فعل المجموعات الجماهيرية على أنه يتخذ مسارين مهمين؛ الأول: المسار البنائي للمواقف الداعمة للخير والبناء، والصلاح كـ «المؤازرة للقضايا الإنسانية» والمسار الثاني: المسار المطالب بتحقق ما أخفقت في تحقيقه كلا السلطتين: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في أداء الأدوار التي تعهدت بها أمام المجموعات الجماهيرية، سواء في فترة الانتخابات بالنسبة للسلطة التشريعية، وبالنسبة لانخفاض أداء مستوى البرامج التنموية بالنسبة للسلطة التنفيذية، وبالتالي فإن لم يتحقق تجسير الهوة بين الطرفين (المؤسستان «التشريعية والتنفيذية/ الجماعات الجماهيرية) فيكون ذلك كفيل بأن تصل العلاقة بينهما إلى مستويات الاحتقان، وفي كلا الأمرين ليس هناك ما يتوجس منه من نتائج، فكل ذلك ذاهب إلى البناء والصلاح والاستقرار، ومسألة إسقاط أي نشاط جماهيري في مفهوم الـ «تحريض» لا يجب أن يدفع به كتقييم أولي حتى تتضح الصورة كاملة.
يحل اليوم مفهوم جديد لـ «المجموعات الجماهيرية» وهو ما يعرف بـ «الترند» وإن كان ساحته التفاعلية عبر منصات التواصل الاجتماعي، إلا أنه لا يمكن فصله عن المجموعات الجماهيرية الذين يشكلون عنصره التفاعلي المهم، والحاضر، عبر مناقشة موضوع يظل مستحوذا على الاهتمام الكبير من قبل جميع الذين يدلون فيه بدلوهم؛ وإن خضعت هذه المشاركات كلها لفئات مختلفة: في الأعمار، في المستويات الثقافية، في الوعي الكامل بالقضية، في تباينات فئات المجتمع، في تباينات الجغرافيا، إذن فما الذي يفرق بين المجموعات الجماهيرية على الأرض وبين المجموعات الجماهيرية عبر منصات التفاعل الاجتماعي «الفضاءات الإلكترونية»؟ هنا قد نقف عند مجموعة من الفروقات من بينها: الساحة التفاعلية، ففي الأولى مادية على الأرض، وفي الثانية عبر منصات تفاعلية، غير مادية، ومن ضمن الفروقات أيضا أنه في الأولى يمكن احتواء المجموعات عبر مساحة محددة بحواجز مختلفة للسيطرة عليها، أما في الثانية فيصعب ذلك حيث يكون جميع المشاركين سابحين عبر الفضاء الإلكتروني الممتد عبر مشارق الأرض ومغاربها، وفي الأولى أيضا يمكن تحييد شخصية معينة ومعرفة هويتها، وثقافتها، وعمرها، وانتماءاتها الاجتماعية والسياسية، ولونها ونوعها، بينما يصعب في ذلك الثانية إلا في حالات ضيقة جدا، فالحسابات التي ينطلق منها الأعضاء، قد تكون حسابات وهمية، فلا يعرف حقيقة أصحابها، لا عن أعمارهم، ولا عن مستوياتهم الثقافية، ولا النوع (ذكرا/ أنثى)، فقير أو غني، ذي انتماء سياسي معين من عدمه، حيث تطغى على هذه الحسابات هوية الأسماء المستعارة، وهذا قد يشكل تحديا أمنيا غير منكور، في حالة المساءات القانونية؛ إن استدعى الأمر ذلك.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلى کثیر من
إقرأ أيضاً:
حين ينهار كلّ شيء في عالم الميليشيا
من يراجع تاريخ العلاقة بين الدولة والمجتمع اللبنانيّين وبين ميليشيا «حزب الله»، والتي بات عمرها يتعدّى الأربعة عقود، يلاحظ أنّ كلفة الميليشيا على هذين المجتمع والدولة سلكت مسلكاً تصاعديّاً في احتدامه، وأنّ تصاعديّته بالكاد عرفت التقطّع. فبدل وعد الانتقال من حماية إلى تحرير فإلى ثراء وازدهار، اتّجه الانتقال بنا إلى انكشاف أكبر واحتلال أكثر وبؤس أعظم. وليس معقولاً بأيّ معيار كان أن تنتهي بنا الحال، بعد ذاك الزمن المديد على انطلاق المقاومة، و»تحصيننا» الذي نُسب إليها، إلى ما نعيشه راهناً، حيث يمضي في نهشنا توحّش إسرائيليّ لا يرتوي طلبه لدمنا وخرابنا. أمّا الحجّة التي تقول إنّ هذه أكلاف التحرير فيمتنع قائلوها عن اقتراح مدّة زمنيّة، ولو تقريبيّة، لتحقُّق ذاك الوعد بالجنّة الأرضيّة، أو اقتراح محطّات إنجازيّة نصعد من واحدتها إلى واحدة أعلى على الطريق إلى تلك الجنّة. وهذا ما دفع أكثريّة من اللبنانيّين، يتنامى عددها يوماً بيوم، إلى افتراضين يعزّزهما طوفان من الوقائع والمعطيات التجريبيّة: أوّلهما أنّ التحرير المقصود ليس شيئاً محدّداً يتحقّق، بل هو مزيج من فكرة لا تتحقّق وطريقة حياة تمتدّ على العمر كلّه، بل على أعمار أجيال متعاقبة. أمّا الافتراض الثاني فأنّ التضحيات الهائلة التي تُبذل إنّما تُبذل مازوشيّاً، أي لإنزال ألم «لذيذ» بالذات، بحيث يقلّ القليل المتبقّي في اليد أو يُفقَد كلّه تباعاً.
فالأمر، بالتالي، أقرب إلى طقس علينا نحن أن نخدمه لمجرّد أنّه طقس، من دون أن نطالبه، في المقابل، بخدمتنا.
وما يزيد طين الميليشيات بلّةً، هي التي تدعو إلى تحرير وطنيّ ما، ارتباطها بمصالح أجنبيّة تتقدّم على مصالح الوطن نفسها، وهذا إن لم تكن تلك المصالح الأجنبيّة علّة وجودها الأولى والأهمّ. وفي ذلك ما يمعن في إضعاف مزاعم المقاومة المنتفخة في صدد فلسطين وقضيّتها إذ يتبدّى أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنّ شيئاً آخر، تحيط به الشبهات، هو ما يملي عليها حركاتها وسكناتها.
والراهن أنّ ما من شعب، إلاّ إذا كان مصاباً بمرض جماعيّ، يمكن أن يوعَد بهذا «التحرير»، وأن يُطالَب بالاستماتة في طلبه! فالطبيعيّ الذي يحصل، والحال هذه، شعورٌ عميق بالخيبة والخذلان يدفع أصحابه إلى مراجعة حسابات الأكلاف الهائلة ومقارنتها بالمنافع المعدومة ثمّ الوصول إلى النتائج المنجرّة عن ذلك.
وما نشهده في لبنان، ممثّلاً بـ «حزب الله»، واحد من أفدح أشكال الظاهرة الميليشيويّة، وهو بالتأكيد أعرقها في المشرق العربيّ، إلاّ أنّ لبنان ليس المسرح الوحيد لاشتغالها الكارثيّ. فها نحن نلاحظ مثلاً كيف يعلن سكّان البوكمال في شرق سوريّا بَرَمهم بالميليشيا وعجزهم عن تحمّل الأكلاف المتعاظمة التي يرتّبها وجودها ونشاطها. وعلى نطاق أعرض تتعالى أصوات عراقيّة متزايدة تلحّ على إشهار خوفها من سياسة التوريط بالموت التي تتسبّب بها الميليشيات. ذاك أنّ الأخيرة، وفي كلّ مكان من المشرق تقريباً، توسّع رقعة انتهاكها التي تشمل التمييز السياسيّ بين السكّان، ورفض تطبيق القانون، وتوسيع هوامش الفساد، وفرض ضرائب تصاعديّة على الحياة الاقتصاديّة، وهذا فضلاً عن التجرّؤ على الأعراف الأهليّة والتقاليد الشعبيّة.
هكذا يُلاحَظ أنّ تداعي الميليشيات القويّة يشبه تداعي الأنظمة الإمبراطوريّة، أو ذات الادّعاء الامبراطوريّ، حيث التجرّؤ واسع وشامل يمسّ أوجه الحياة كلّها. وفي سياق كهذا يسود التشكيك الشعبيّ المشوب بسخرية لا ترحم، سخريةٍ تطال كلّ شيء طالته رواية تلك الميليشيا عن نفسها وعن عالمها المحيط، فيما روايتها تطال كلّ شيء تقريباً. فانكشاف الوعد المزغول خطير على الواعد، وكلّما كان الوعد متضخّماً تضخّمَ انكساره واتّخذ شكلاً فضائحيّاً. وفي عداد ما يتداعى تأويلٌ كاذب للتاريخ وللوقائع جعلته الميليشيا تأويلاً سائداً، مقلّدةً بهذا ما تصنعه الأنظمة التوتاليتاريّة حين تعيد كتابة التاريخ فتمحو منه ما تمحو وتضيف إليه ما تضيف. وبين ما يتداعى أيضاً لغةٌ غالباً ما تعني عكسها، حيث الهزيمة انتصار والانتصار هزيمة والقوّة ضعف والضعف قوّة، توشّيها تعابير شبه وثنيّة يُراد للجماعة كلّها أن تردّدها طرداً منها للأرواح الشريرة. وبالطبع فإنّ الرواية هذه تجد حارسها المنزّه في رجل ساحر أُوكلت إليه مهمّة السير بنا، فيما أعيننا مغلقة، نحو المجد والسؤدد.
لكنْ فجأةً، وفيما ينهار هذا كلّه انهيار جبل من كرتون، يبدأ الناس بقول الكلام الصحيح والدقيق في الوقت عينه، حيث تحضر الأرقام لتعزيز الرأي أو لنفيه، كما يحضر ما تراه العين بدلاً من دفع العين لأن ترى ما لا يُرى. وبين نهار وليلة يجد الناس أنفسهم وجهاً لوجه أمام مسؤوليّاتهم عن ذواتهم وعن أوطانهم: كيف يدبّرونها من دون سحر وساحر ومن دون رواية تريد تلقينهم، كما يُلقّن الأطفال، أنّ الأسود ابيض والأبيض أسود. والمشرق العربيّ، وسط صعوبات هائلة وقسوة استثنائيّة، ربّما كان اليوم أمام امتحان المسؤوليّة الكبير هذا.