تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

«عباقرة الظل»، حلقات نشرتها «البوابة»، منذ سنوات، للكاتب المبدع مصطفى بيومي، وصدرت فى كتاب بالعنوان نفسه، ويتناول الحديث عن عدد من الممثلين الأقل شهرة عن نجوم الصف الأول، وقدموا أدوارًا معقدة ظلت باقية فى أذهان الناس، ويطلق عليهم أعمدة الطبقة الوسطى فى السينما المصرية، ويرى «بيومي» أن كثيرًا من هؤلاء العباقرة لعبوا أدوارًا لا تقل أهمية عن أدوار البطولة، حملت مقولات معبأة بالفلسفة الشعبية الخالصة.

. تحيةً لروح كل نجم من هؤلاء النجوم، تعيد البوابة نشر بعض هذه الحلقات.

الرجل الطيب الوديع الوقور، البسيط العميق ذو الحضور والجاذبية، تشعر في حضرته الحانية بأنه الأب الذى تحن إليه، وترى فيه الحصن والملاذ وواحة الأمان، أو ربما حائط المبكى الذى تتخلص في أحضانه من أوجاع الروح.

ممثل قدير من طراز فريد، مسكون بهدوء الحكماء، خفيض الصوت كأنه يجد في الضجيج عيبًا ومرضًا. ما أكثر أفلامه التى تبرهن على موهبة أصيلة، جوهرها الإدراك الواعى لأبعاد الشخصيات التى يجسدها ويصادقها، فتبوح له بالأسرار والخبايا

الأستاذ عزيز في «مستر كاراتيه»

في آخر أفلامه: «مستر كاراتيه»، ١٩٩٣، يترك لعشاقه ومحبيه ذكرى لا تغيب؛ الأستاذ عزيز الذى يعيش مع سيارته القديمة، شريكة رحلة العمر، قصة حب غير تقليدية، تنعش الأرواح المرهقة في زمن بلا قلب. لا يشك المشاهد لحظة أن السيارة تبادله حبا بحب، وتشتاق إليه اشتياقه لها. ما أروعه وهو يحنو عليها ويأبى أن يتولى عامل الجراج الجديد عمر، أحمد زكي، مهمة تنظيفها، ويبوح له بحقيقة المشاعر التى يكنها: «عايز أقولك حاجة.. دى بتزعل قوى لو ما كنتش أنزل أصبح عليها.. عشرة عمر بقى يا ابني».

لا ذرة من التصنع والافتعال والإسراف الانفعالى المرذول في كلماته هذه، والسيارة رفيقة العمر هى كل ما يتبقى للشيخ الوحيد في الفصل الأخير من حياته. «ربنا يخليها لك يا حاج»!، كلمات يقولها عمر جادا صادقا، والدعاء العذب صادر عن قلب طيب بريء، يستوعب بفطرته النقية بلا شوائب ما تمثله السيارة في حياة الرجل الطيب.

عندما يصيبه الأرق ويعزّ النوم، لا يجد الأستاذ عزيز إلا حبيبته الأثيرة ليجالسها وتؤنسه، أو على حد قوله لعمر:

-أنا أصلى ما جليش نوم.. قلت أنزل أقعد معاها.

- مين؟

- عزيزة صاحبتي.

ما أنسنة السيارة إلا ترجمة أمينة دقيقة، مؤلمة موجعة، لتوحش البشر وهيمنة التشيؤ وطوفان الاغتراب. الأستاذ الطيب ليس مجنونا مضطرب الأعصاب، بل إنه سيد العقلاء في عالم بلا عقل.

مساحة المشهد محدودة، وكلمات عدوى غيث الهامسة قليلة بسيطة، لكن الممثل الفذ يقدم دورا غير مسبوق في عمقه الشجنى الخلاب. انفعاله محسوب بدقة المحترف المتمكن، وإحساسه المرهف بأزمة الشخصية ينم عن دراسة واستيعاب ومعايشة. من هنا يتعاظم التأثير، وينجح الفنان القدير في التفاعل الإيجابى مع المتلقى الذى يدرك حجم المأساة ويتعاطف بلا شفقة زائفة مع الأستاذ الذى يموت وحيدا، وتتهيأ السيارة بعده للضياع في سراديب اليتم. قبل أكثر من عشر سنوات، ١٩٨١، كان عدوى بارعا في تقديم شخصية العجوز رياض في «موعد على العشاء». زوزو ماضي، العجوز مثله، هى بديل السيارة في فيلمه الأخير، والحلم الذى يراهنان عليه أن يتزوجا ويسعدا في القليل الذى يتبقى لهما من العمر، لكن الموت يتدخل ليطيح بالعروس وهى تتهيأ للزفاف، ويسدل الستار قبل بداية العرض!.

يا لتعاسة البسطاء المحرومين قهرا من اختلاس لحظات السعادة القصيرة الاستثنائية، وما أكثرهم.

كابتن «مورو» في «الحرّيف»

العجوز الطيب الوديع مورو، في «الحريف»، لاعب قديم متقاعد يتعذب قرب نهاية العمر بالفقر والفراغ والوحدة، ويتشبث بعشقه لكرة القدم عبر المشاهدة والمتابعة والتشجيع. المحبة والاحترام المتبادل قوام علاقته مع فارس، نجم الساحات الشعبية والمراهنات، وفى نظرات عينى الممثل القدير للنقود في القهوة ما يكشف عن قسوة الفاقة والحرمان وإدمان الصمت. لا مهرب من تجهم الواقع إلا بالعودة إلى ذكريات الزمن البعيد المندثر، الحافل بالخير والطعام الوفير الرخيص، والحياة البسيطة السعيدة بلا تعقيدات وجفاف. الحاضر مختلف مسرف في شحه، لا متسع فيه للسمن البلدى والتهام خروف كامل:

-أومال انت دلوقتى بتعمل إيه يا كابتن مورو؟

-بأديها رز ومكرونة عشان تتملى».

يمتهن العجوز المرهق عملا متواضعا محدود العائد، وليس مستغربا أن يتعاطف معه فارس الأقل فقرا، ويقدم له دعما ماديا: دول سلف لغاية ربنا ما يسهلها.. امسك.. خلاص بقى.. دا انت خيرك سابق علينا من زمان».

لا يبوح الرجل عزيز النفس بمتاعبه وهمومه، ولا يشكو شيئا مما يواجهه من عنت واضطراب، بل إنه يبدى الحزن الصادق ويتوجع متعاطفا مع الأكثر تعاسة وتدهورا، كما يتجلى في حواره مع فارس:

-انت فاكر الواد لوقا كابتن شبرا؟

-آه.. عارفه.. بقاله مدة مش باين.

-قابلته النهارده جهة الباطنية.. وصدقنى يا فارس ماعرفتوش.. حالته بقت تصعب على الكافر.

-إيه.. حصل له إيه؟

-بيريل وأصفر وممصوص زى الغابة.. بقى واحد تانى خالص لدرجة إنى ما عرفتوش..

-وإيه اللى عمل فيه كده؟.

المخدرات تقود لوقا إلى الانهيار الشامل الذى يحيله إلى جثة حية، فهل يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للكابتن مورو؟. ليس مدمنا، ويعتز بكبريائه وكرامته، ويعيش أيامه الأخيرة متدثرا بزاد من الذكريات الإيجابية، متشبثا باللعبة التى يحبها ويتابع تحولاتها المثيرة من مقاعد المتفرجين الخبراء.

في المشهد الأخير من الفيلم، يندمج مع الفارس الذى يلعب مباراته الأخيرة كأنه يخوض معه معركة حاسمة للانتصار والدفاع عن الوجود أو بقاياه: «يا سلام يا فارس.. قلبى معاك».

الكابتن مورو نموذج ثالث للرجل الطيب المقهور التعيس، مثل عزيز ورياض، وفى هذا النمط من الشخصيات يتحقق عدوى غيث ويتألق، لكنه لا يكرر نفسه. لكل شخصية خصوصيتها، والمشترك الراسخ هو الإرهاق متعدد الأسباب والتوتر الذى يعكر صفاء الروح والوقوف على حافة الهاوية؛ هاوية النهاية المأسوية.

عبدالستار أفندى في «الحب فوق هضبة الهرم»

في «الحب فوق هضبة الهرم»، ١٩٨٦، لا يعيش عبدالستار أفندى وحيدا مثل عزيز، ولا يحلم بحياة جديدة قرب نهاية العمر كما يحلم رياض، ولا يتقاعد متحسرا على ماضيه الكروى حسرة الكابتن مورو. إنه موظف عادى من المحسوبين على الطبقة الوسطى الصغيرة قبل انهيارها، ورب أسرة يعانى أفرادها شظف العيش ويتعذبون بالتحولات الانفتاحية الكارثية التى يقودها السادات لتدمير ما تبقى من منظومة القيم المتماسكة في المجتمع المصري.

لا يملك عبدالستار غير الحيرة بلا قدرة على المقاومة، والاستسلام حتمى جراء الطوفان العارم الذى لا قِبل له بمواجهته. ثيابه تشهد على أزمته، ونبرة صوته تعبير عن اليأس والتعب، والتنازلات التى يقدمها تباعا لا مهرب منها ولا بديل لها. الأمر هنا ليس فرديا خالصا، ويعى الممثل الكبير أنه ينوب عن طبقة تحتضر، وعندئذ يكتسى وجهه بحسرة تشبه شواهد القبور وعلامات السقوط الأخير.

لا يختلف الأمر إلا قليلا في «النمر والأنثى»، ١٩٨٧، حيث ضابط الشرطة المتقاعد والد الضابط الشاب وحيد، عادل إمام. قد يكون صحيحا أن المستوى الاجتماعي أرقى نسبيا، وأن الستر لم يتبخر بعد، لكن الشرفاء مهما تعلو مناصبهم عرضة للحياة على الهامش البعيد عن الاستقرار. ربما يتوهم المشاهد الشاب أن ملامح الفنان الوديع لا تتوافق مع مهنة تقترن في أذهان المعاصرين بالشراسة وغطرسة القوة، لكنه يتغافل عن حقيقة ينبغى الوعى بها: لم يكن ضابط الشرطة في العهود القديمة إلا جزءا أصيلا من منظومة آحاد الناس، يمتهن وظيفة مدنية لا شيء يميزها ويحيطها بهالة من التفرد والاختلاف.

بملامحه الطيبة الرقيقة يبدو عدوى غيث مقنعا في الأدوار التى تتوافق مع شكله الوديع الذى يناسب رجال الدين والشيوخ الورعين والمواطنين الصالحين، لكنه قادر على كسر النمط عبر تجسيده لشخصيات مغايرة، لا يتخلى فيها عن طيبته المعهودة، لكن التوظيف يختلف جذريا، كما هو الحال في «احنا بتوع الأتوبيس»، ١٩٧٩، و«كراكون في الشارع»، ١٩٨٦»، و«كتيبة الإعدام»، ١٩٨٩.

رجل الدين المعتقل في «احنا بتوع الأتوبيس»، لا بد أن يكون من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ذلك أن النظام الناصرى لم يُعرف عنه اعتقال الأزهريين، لكن صانعى الفيلم يجدون حرجا محسوبا في التصريح بإخوانية الشيخ، ويقدمونه في إطار المتدين المتسامح المظلوم، والهدف الكامن سياسى بغية إدانة عبدالناصر وعهده. يجتهد عدوى في تقديم الدور المكتوب بكل ما في بنائه من خلل، لكنه يبدو قلقا يدرك في أعماقه ما تتسم به الشخصية «ورقيا» من اهتزاز واضطراب.

على النقيض من ذلك تماما ما نجده في «كراكون في الشارع». الأجواء والعلامات الدينية التى تحيط بشخصية المقاول وتنم عن الورع والتقوى، اللغة والملابس وديكورات المكتب، ليست إلا أدوات الاحتيال والنصب التى يتسلح بها لإتقان عملية الخداع والسرقة الفاجرة. من يرى الممثل القدير لا يشك لحظة في صدقه وجديته، وهكذا الأمر مع محترفى استثمار التدين الشكلى المزيف.

مصطفى الغريب، عم الدكتورة نعيمة في «كتيبة الإعدام»، شيخ ضرير يعيش لهدف واحد: الثأر من الأعداء التاريخيين وحلفائهم المحليين، أولئك الذين يقتلون الابن والأخ في حرب ١٩٧٣. مشهد وحيد يظهر فيه مع ابنة أخيه، معالى زايد، ويعبر بوجهه ودهاليز روحه عن نيران القلق ولهفة الانتظار التى تسكنه. دور صغير ربما، لكن الرجل يقترب فيه من قمة التعبير عن أعماق الشخصية المعذبة.

لا تتيح السينما المصرية لعدوى غيث، وأمثاله من أفذاذ الموهوبين الجادين، فرصة الكشف عن إمكاناتهم الخارقة، لكن القليل المتاح لهم يعلن عن معادنهم النفيسة التى لا يطولها الصدأ.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: عباقرة الظل مصطفى بيومي السينما المصرية

إقرأ أيضاً:

وزير الشباب والرياضة يشهد مراسم إجراء قرعة عباقرة الصحاب الموسم الخامس

شهد الدكتور أشرف صبحي، وزير الشباب والرياضة، اليوم، بمركز الابتكار الشبابي والتعلم بالجزيرة، مراسم إجراء قرعة الموسم الخامس من برنامج "عباقرة الصحاب"، والتي تنفذها الوزارة من خلال الإدارة المركزية لمراكز الشباب "الإدارة العامة لأنشطة وفعاليات مراكز الشباب"، بمشاركة ١٦ فريق من مراكز الشباب علي مستوي الجمهورية، بحضور الروائي ومقدم برنامج " عباقرة الصحاب" الدكتور عصام يوسف، ولفيف من قيادات وزارة الشباب والرياضة.

وخلال كلمته، أكد وزير الشباب والرياضة على أن  "عباقرة الصحاب" هو جزء من رؤية الدولة لتعزيز دور الشباب في المجتمع، مشيرلً إلى أهمية المبادرات التي تعزز الثقافة العامة والعمل الجماعي بين الشباب، مشيداً بدور برنامج "عباقرة الصحاب" في تحفيز روح التنافس الإيجابي ونشر المعرفة في مختلف المجالات، مضيفاً أن الوزارة تحرص على دعم مثل هذه الفعاليات التي تسهم في إعداد جيل واعٍ قادر على التفكير النقدي والإبداع، مشيداً بالمستوى المتميز الذي وصل إليه البرنامج في مواسمه السابقة.

أشار وزير الشباب إلى حرص الوزارة دائماً على دعم المبادرات التي تعزز الثقافة العامة، وتوفر بيئة تنافسية تحفز الشباب على البحث والتعلم والتفكير النقدي، موضحاً أن برنامج "عباقرة الصحاب" أصبح نموذجاً ناجحاً للبرامج التنافسية التي تجمع بين المعرفة والترفيه، ونحن سعداء برؤية هذا الحماس الكبير من الفرق المشاركة.

ولفت "صبحي" إلى أن وزارة الشباب والرياضة مستمرة في دعم الأنشطة التي تهدف إلى تنمية قدرات الشباب، ليس فقط في الرياضة، ولكن أيضاً في المجالات الثقافية والعلمية والاجتماعية، داعياً جميع المشاركين إلى استثمار هذه الفرصة لتنمية مهاراتهم، والتعلم من التجربة بغض النظر عن النتائج، فالمعرفة هي المكسب الحقيقي، مشيراً إلى أن الوزارة تعمل على توسيع نطاق مثل هذه البرامج لتصل إلى أكبر عدد من الشباب في مختلف المحافظات.

وأعرب الدكتور أشرف صبحي عن إيمانه بأن المعرفة والثقافة هما أساس بناء جيل قادر على قيادة المستقبل، ولذلك ندعم بقوة مثل هذه المسابقات التي تجمع بين التحدي الفكري والعمل الجماعي، مشيراً إلى أن نجاح برنامج "عباقرة الصحاب" في مواسمه السابقة يعكس تعطش الشباب لمثل هذه المسابقات، ونحن ملتزمون بمواصلة دعم الفعاليات التي تعزز الفكر النقدي وروح الابتكار.

وفي ختام كلمته، وجه وزير الشباب والرياضة الشكر إلى القائمين على البرنامج، والفرق المشاركة، وأولياء الأمور الذين يدعمون أبناءهم في خوض مثل هذه التجارب المميزة، مؤكدًا أن الوزارة ستظل شريكًا أساسيًا في رعاية وتنمية المواهب الشبابية في مختلف المجالات.
 

مقالات مشابهة

  • وزير الشباب والرياضة يشهد مراسم إجراء قرعة عباقرة الصحاب الموسم الخامس
  • بعد حادثة التمثال.. من يمول الدكتور زاهي حواس وبعثته؟ ولماذا تصمت وزارة السياحة والآثار؟!
  • وزير الشباب يشهد مراسم إجراء قرعة عباقرة الصحاب الموسم الخامس
  • أعزَّك الله.. سيدنا عزيزَ الإسلام
  • مواطنون يشكون ارتفاع أسعار الغاز في عدن بنسبة 90% ويتهمون الجهات الحكومية بحماية التجَّار
  • أحمد الزيات عن شهر رمضان: استراحة الروح بعد عامٍ من صخب الحياة
  • ترند زمان.. أنا ضحية جبروت امرأة .. اعترافات المذيع إيهاب صلاح بقتل زوجته
  • "رمضان يعنى".. ابتهالات النقشبندي والأذان بصوت محمد رفعت وخواطر الشعراوى
  • مسلسلات رمضان 2025.. مواعيد عرض وإعادة «حكيم باشا» لـ مصطفى شعبان على الحياة وCBC
  • وزير الخارجية يؤكد دعم مصر للشعب الفلسطيني وصموده على أرضه وعدالة قضيته