ها هي أمة الإسلام تودع شهر رمضان، رمضان الذي كنا بالأمس القريب نستقبله، وها نحن وبهذه السرعة نودعه، مرَّ علينا وكأنه دقائق أو بضع ساعات، وكأني بك تسمع قول الله وهو يحذر المؤمنين من الفوات ويستحثهم على اغتنام الأوقات؛ فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}(البقرة:184:183).
ومرت الأيام المعدودات وكأنها غمضة عين أو ومضة برق، ولم يبق إلا سويعات وإنها والله مصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد شمر رمضان عن ساق، وأذِن بوداع وانطلاق، فقوضت خيامه، وتصرمت أيامه، وأزف رحيله.
لقد عزم رمضان على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، وجمعتنا هذه هي آخر جمعة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وربما كانت ليلتنا هذه هي آخر ليلة من لياليه.
غير أن الإنسان العاقل لا ينبغي أن يترك هذه الحادثة تمر حتى يتأمل في دروسها ويتعلم من عبرها:
وإن أول ما ينبغي أن نقف معه وعنده هو سرعة مرور رمضان، وما فيه من إشارة إلى سرعة انقضاء الأعمار وسرعة فناء هذه الدار، وأن الدنيا كلها أيام محدودة وأنفاس معدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، وأنها مهما طالت في أعين المخدوعين فإنها ظل زائل وسراب خاتل خادع. وإن أعقل الناس فيها من أخذ من شبابه لهرمه، ومن فراغه لشغله، ومن قوته لضعفه ومن حياته لموته، وعلم أن الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار.
إن لله عــبـــادا فطــنا .. .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا .. .. أنها ليست لحي وطــنا
جعلوها لجة واتخذوا .. .. صالح الأعمال فيها سفنا
ثم بعد لابد من وقفة للمحاسبة، فإنها من أصول السير إلى الله، يستدرك بها العبد ما فات ويصلح بها ما هو آت.. قال تعالى: {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}(الحشر:18).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
الأعمال بالخواتيم:
العبد الموفَق مَن أدرك أن حُسْن النهاية يطمس تقصير البداية.. فإذا كنت لم تحسن في استقبال رمضان فاجتهد لعلك تحسن الوداع، فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.. وما يدريك لعل بركة عملك في رمضان مخبأة في آخره فإنما الأعمال بالخواتيم. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها.
كان السلف كلما تناقصت أيام رمضان زادوا في العمل.
والخيل إذا شارفت على نهاية السباق أخرجت كل ما في جعبتها فلا تكن الخيل أعقل منك.
الفتور وارد، لكن احذر أن يكون فتورك وقت الغنائم وزمن السباق فيسبقك الآخرون، ويفوتك الخير العظيم.
من اجتهد أول رمضان وفتر آخره كمن زرع وسقى ورعى حتى إذا جاء وقت الحصاد راح وتركها، نعوذ بالله من الخذلان.
أيها المسلمون:
ما زال في رمضان مستعتب، وما زالت الفرصة باقية، وما زالت السوق قائمة.
ما زال هناك بقية لركعة أو لدمعة أو لسجدة أو لدعوة تغير مجرى حياتك، أو تحقق كل آمالك، وتذهب كل آلامك، وتسعد بها سعادة الدنيا والآخرة.. وإذا ضاق وقتك عن كثير العمل فلا يضق عن جميل الدعاء.
ما زال رمضان موجودا، فلا زال الباب مفتوحا، ولا زالت البركات والنفحات تتنزل، وما زال المنادي ينادي: يا باغي الخير أقبل.
إذا كان مر من رمضان أكثره فربما كان ما بقي منه هو التاج الأجمل والثمرة الأينع.
لقد أخفى الله رضاه في الطاعات ليرغب العباد في كل طاعة. وأخفى سخطه في المعاصي ليحذروا كل معصية، وأخفى ليلة القدر في العشر ليجتهد الناس فيها كلها. ولعلها تكون هذه الليلة الأخيرة.
ومن يدري فقد بقي من الليالي أرجاها وهي ليلتنا هذه القادمة فاحرصوا على تحصيل هذه الليلة. فوالله إن خيرها لكثير، وإن أجرها لكبير وإن أثرها في الموفقين لها لجليل.
أسأل الله أن يبلغنا وإياكم ليلة القدر، ويجعلنا من العتقاء من النار.
اللهم تقبل صيامنا ، وصلاتنا ، وقيامنا ، وركوعنا وسجودنا وسائر أعمالنا.
عن اسلام.ويب
المصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: ما زال
إقرأ أيضاً:
تطبيع سوريا مع إسرائيل.. فكّر فيها
نشرت عدّة مواقع إخبارية أجنبية الأسبوع المنصرم تقارير تحدّثت عن نيّة الحكومة السورية الجديدة التطبيع مع إسرائيل. وسرعان ما انتشرت هذه التقارير انتشار النار في الهشيم لاسيما في المواقع العربية مع تركيز على نيّة الرئيس السوري أحمد الشرع المبادرة بتطبيع العلاقات مع تل أبيب كوسيلة للمساعدة على رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا.
لكن اللافت للنظر أنّ هذه التقارير لم تأت على لسان الشرع نفسه وإنما على لسان بعض الشخصيات الغربيّة التي زارت دمشق وقيل أنّها التقته، وهي عضو الكونغرس الأمريكي كوري ميلز، وعضو الكونغرس الأمريكي مارلين ستوتزمان، والدبلوماسي البريطاني السابق كريغ موراي.
هذه الشخصيات تناولت موضوع التطبيع في سياقات مختلفة، إذ ذكر التقرير المتعلق بكوري ميلز، وهو التعليق الأحدث أنّ الرئيس السوري عبّر عن "اهتمام محتمل" بالانضمام إلى الإتفاقات الإبراهيمية تحت "ظروف مناسبة".
أمّا التقرير المتعلق بمارلين ستوتزمان فقد أشار إلى وجود شروط سوريّة تشمل من بين ما تشمل الحفاظ على وحدة سوريا وعلى سيادتها، أي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإنسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي السورية. أمّا التقرير المتعلق بالنائب البريطاني، والذي يعود إلى منتصف شهر أبريل، فقد أشار إلى أنّ الرئيس الشرع أكّد بشكل خاص أنّه سيقوم بتطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل وبتبادل السفراء نهاية عام 2026.
من الناحية التحليلية، يمكن ملاحظة أنّ التفاصيل المتعلّقة بهذه التصريحات ليست متطابقة أو منسجمة مع بعضها البعض، وهو ما يتناقض مع الإفتراض القائل أنّ الشرع فاتحهم بالتطبيع. فإذا كان موقف الشرع التطبيع، فإنّ روايته على الأقل ستكون واحدة. لكن خلفية الشخصيات المشار إليها وسياق التصريحات تشير على الأرجح إلى أن طرح موضوع التطبيع كان بمبادرة منهم وأنّ الجواب عليه يرتبط بهم أكثر مما يرتبط بموقف مبدئي.
بمعنى آخر، إذا طرح الزائر سؤال التطبيع، فهذا إما لأنّه يبحث عن لعب دور متعلق فيه، وإمّا لأنّه يبحث عن شهرة، وإنما لانّه يبحث عن مشكلة. بالنسبة إلى الشخص الذي يتم توجيه السؤال له، فإنّ السؤال قد يكون بمثابة فخ يجب تفاديه بأقل الأضرار الممكنة.
لا يوجد لدي أدنى شك أنّ الإدارة الأمريكية والعديد من المسؤولين فيها قد يرغبون برؤية عملية تطبيع بين سورية وإسرائيل كما فعلوا سابقا بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ولا شك كذلك أنّ الظروف تسمح لهم لممارسة ضغوطات على الحكومة السورية في ظل حاجة الأخيرة إلى رفع العقوبات.لكن لتفترض جدلاً أنّ الشرع يريد التطبيع فعلاً بمبادرة منه، هناك الكثير من المعطيات التي تشير إلى أنّ إمكانية تحقيق ذلك صعب جداً. هل سيكون بالإمكان إجراء تطبيع وإسرائيل تحتل أراضي سورية وتخترق أجواءها بشكل شبه يومي وتقصف أراضيها؟ هل تعتقد أنّ نتنياهو سينسحب من سورية مقابل تطبيع مع الحكومة السورية؟ هل ستلتزم إسرائيل بأي تعهدات ستقطعها؟ ماذا عن شرعية الرئيس السوري داخلياً؟ هل سينسجم هذا الموقف مع غالبية الشوريين حتى ولو كان شرطاً لرفع العقوبات؟ من جهة أخرى، ماذا عن تجربة من طبّعوا بشكل سابق خلال الأعوام القليلة الماضية؟ وأين أصبح تطبيعهم اليوم؟ لا بل ماذا عن الدول التي لديها اتفاقيات سلام مع إسرائيل؟ كيف هو حال العلاقات الإسرائيلية مع مصر والأردن؟
القصد من طرح هذه الأسئلة الإشارة إلى أنّ الحديث عن التطبيع سهل بغض النظر عن المصدر التي يتحدث عنه، لكن تطبيقه حتى لو افترضنا وجود نية لذلك غير ممكن في الظروف الحالية، وغير ممكن لأنّ إسرائيل هي إسرائيل. علينا أن نفرّق أيضاً بين تصريحات الشرع الواضحة والمباشرة والتي ذكر فيها انّ الجانب السوري لا يريد التصادم مع إسرائيل وأنّه ملتزم بالاتفاقات الدولية وقرارات مجلس الأمن التي أنشات المنطقة العازلة، وبين الحديث عن تطبيع. فالشق الأوّل يتعلق بعملية تجنّب الصراع أو الصدام بينما يتعلق الشق الثاني بالسعي إلى الإعتراف والتطبيع والتمثيل، وسيكون من الخطأ خلط المعنى والهدف والغاية المتعلقة بالطرح الأوّل بالمعنى والهدف والغاية من الطرح الثاني.
لا يوجد لدي أدنى شك أنّ الإدارة الأمريكية والعديد من المسؤولين فيها قد يرغبون برؤية عملية تطبيع بين سورية وإسرائيل كما فعلوا سابقا بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ولا شك كذلك أنّ الظروف تسمح لهم لممارسة ضغوطات على الحكومة السورية في ظل حاجة الأخيرة إلى رفع العقوبات. والأمر نفسه قد ينطبق على بعض المسؤولين الإسرائيليين. لكن حتى لو نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر إسرائيلية، هل هناك من يعتقد أنّ إسرائيل نتنياهو ستنسحب من الأراضي السورية التي احتلّتها مؤخراً، وستقوم بإنهاء احتلالها للجولان وتفكيك المشاريع والمستوطنات هناك، وستتوقف عن الخروقات، وعن استهداف العمق السوري، وعن عمليات التوغل، وعن التدخل في الشؤن الداخلية السورية من أجل تطبيع مع حكومة سورية مؤقتة؟ لا أعتقد ذلك.
الخلاصة هو أنّه يجب ألاّ ننجر بشكل عاطفي إلى بالونات الاختبار التي يتم إطلاقها هنا وهناك أو الأخبار التي تأتي من خلف البحار. نظرياً التطبيع قد يحصل في أي مكان، لكن عملياً هل سيحصل ذلك؟ علينا أن نفكّر بمصالح مختلف الأطراف والظروف الداخلية والسياق الإقليمي، وهذه كلّها لا تشجّع الآن على حصول مثل هذا الأمر. لكن حتى لو افترضنا جدلاً مرّة أخرى أنّ هذا التحليل قد أثبت عدم صحته، وأنّ هناك اتجاه حقيقي لدى الحكومة السورية للتطبيع مع إسرائيل، فماذا سيكسب الشرع أو سورية من عملية التطبيع؟ رفع العقوبات ليس بمثابة عصا موسى، وعليه فإنّ التطبيع سيكون في هذه الحالة خطأ كبيراً في الحسابات.