صحيفة التغيير السودانية:
2025-03-29@10:17:06 GMT

السودان وفيدرالية الحرب

تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT

السودان وفيدرالية الحرب

 

ناصر السيد النور

إن ما تفرضه الحرب الجارية في السودان من وقائع، كنتائج تتصل ببداياتها وطبيعتها، وحرب شنت لأجل أهدافٍ غير محددة، أو معروفة لدى أطرافها، ولو كانت صراعاً على السلطة، فقد تجاوزت كل ما يبرر قيامها، مثلها مثل أنماط الحروب الأخرى بمختلف صورها الكارثية، التي تعبر عن حدوثها، بما تتسبب به من دمار وقتل، في دائرة تتسع يوماً بعد آخر.


وتدفع هذه الحالة إلى التساؤل حول مدى استمرارية هذه الحرب، في وقت تتداعي فيه فظائعها المرتكبة بحق المدنيين؟ فالوسائل المتاحة الآن أمام كل الأطراف المتصارعة، ليس البحث عن حل فوري لإيقاف الحرب، كما يفرضه منطق مجريات الأحداث، وما يبدو أن كلا من الطرفين يسعى لتعزيز موقفه عسكرياً، عبر المزيد من استخدام وسائل الحرب، وما يمكن أن يشكله ذلك التمدد العسكري على أرض المعارك، بالمعنى التفاوضي والسياسي.

بعد إكمالها عامها الأول لا جديد في حريق السودان، سوى ما يطفو على سطح أحداثها الدامية، وما يتعقد منها على صعيد الموقف العسكري بتصاعد وتيرة الهجمات هذا الأسبوع على نطاق الانتهاكات ضد المدنيين، خاصة في ولاية الجزيرة وسط السودان، حيث تسيطر قوات الدعم السريع منذ ديسمبر الماضي، والقصف الجوي الذي ينفذه طيران الجيش في مدن دارفور والخرطوم، والمناطق الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، التي يكون ضحاياها من المدنيين. ومؤخراً الهجوم الأبرز بطائرة مسيرة على أحد التنظيمات الإسلامية الشعبية «قوات البراء» في مدينة عطبرة شمالي السودان، الذي يعد المرة الأولى التي تصل فيها نيران الحرب إلى مناطق بعيدة عن مناطق النزاع، وهو ما يرشح لتصاعد موجات من العنف الجهوي لما تمثله هذه الولاية ومناطقها وسكانها في الخطاب الجمعي، وحالات الاستعداد الشعبي والتهييج العرقي، بطرد المقيمين فيها من الولايات الأخرى، خاصة من دارفور، أو ما بات يعرف مؤخراً بالحواضن الاجتماعية لقوات الدعم السريع.

ومن المثير التطورات المفاجئة التي أعقبت هذا الهجوم على المستوى السياسي والقضائي، حيث أصدرت النيابة العامة أوامر بالقبض على رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، الذي يترأس «تنسيقية تقدم»، التي تضم عدداً من السياسيين المدنيين وقيادات حزبية، تحت دعاوى تقويض الدستور وإثارة الحرب ضد الدولة. على الرغم من فداحة هذه التطورات على الصعيد العسكري، ومجاعة تهدد حياة الملايين، تقترب حسب الأمم المتحدة من تهديد حياة نصف السكان بالبلاد، تتصاعد على الجانب العسكري حدة الخلافات بين قادته في خضم صراعاتهم، والشاهد أن ما حملته تصريحات قادة الجيش المتضاربة، في حملة تعبر عن تعدد مواقع اتخاذ القرار، وبالتالي المؤثرات والتدخلات المدنية الكثيفة للجهات المتهمة بإدارتها للجيش وظهور جماعات تصنف بالإرهابية، لها امتدادات إقليمية تتلاقى أيديولوجياً مع تيار الإسلام السياسي في السودان. الأمر الذي يرشح الموقف السياسي الرسمي للدولة لمزيد من الضغط الدولي والإقليمي، ويصعد بالتالي من مستوى المواجهة بين التنظيمات العابرة للحدود، وتلك التي أسفرت عن وجهها في المأزق السوداني.

الفيدرالية كصيغة حكم يقتضي تطبيقها، دولة قائمة بكل مؤسساتها، إلا أن الحالة السودانية الناتجة عن الحرب أفسحت المجال بانقساماتها المتعددة لتكوين ما يشبه الكيانات الفيدرالية المتقاتلة

أدت المواجهات العسكرية في حرب الجنرالين، وما اتبع فيها من سياسات وخطط عسكرية في التحشيد الاجتماعي والتداخل بين ما هو مناطقي وما هو قومي، بناء على أسس جهوية وعرقية، إلى التسيب السياسي والأمني، وإلى تقوية الجماعات المسلحة خارج الدولة من كل طيف، وبات الفصل متعذراً بين شرعية القوات المسلحة، وأولوية التنظيمات الشعبية، في توظيفها للجيش وتوجيهها للحرب. ولعل ما جاء في خطاب نائب القائد العام للجيش السوداني الفريق الكباشي، ما يفهم منه أنه تحول في الموقف المتشدد الذي اتخذته القيادات العسكرية. فقد حذّر مما يسمى بالمقاومة الشعبية والاستنفار، وما تمثله من خطر مقبل، مطالبا بتقنين وضعها. وقد أثارت هذه التصريحات موجات من الغضب والاستنكار، من داعمي الحرب المحسوبين على الإسلاميين، ومن ثم ووجهت تصريحاته بتصريحات مضادة من داخل قيادة الجيش، بما يشبه الرد، وجاءت من الفريق ياسر العطا، منتقدة بشكل مبطن تصريحات الكباشي المناوئة للتصعيد الشعبي للحرب.

كشفت هذه التجاذبات بين قادة الجيش، مستوى آخر وصلت فيه إدارة الحرب إلى نقطة لم يعد معها إخفاء الصراع بين قيادات الجيش ممكنا، وهذا الوجود الكثيف للتمثيل العسكري في إدارة الدولة والحرب، ينبئ بحدوث اهتزازات سياسية في جسد الدولة المتصدع على الطريقة العسكرية في تداول شأن الحكم في السودان.

يرجح العديد من المراقبين تصاعد الخلاف بين قيادات المؤسسة العسكرية، بما يأخذ الأمور إلى تطورات خطيرة، في ظل وجود انقسام حاد بين استمرار الحرب، والتفاوض على إنهائها سلميا. وإذا كانت الحرب قد قسمت وفق جغرافيا الحزم الأمنية، ولايات السودان بين أطراف الصراع، بين ولايات آمنة تحت سيطرة الجيش والأخرى بيد الدعم السريع، بما فيها مواقع استراتيجية في عاصمة البلاد، ويكون بذلك التقسيم الفيدرالي قد تحقق، لا بالمعنى الإداري في علاقات الحكم بين المركز والأطراف، ولكن على الأقل بالمعنى العسكري. وهو تحقق ينقصه الاعتراف والإعلان، إلا أنه فعلياً تم تطبيقه بالممارسة العسكرية وشرعية الأمر الواقع.

السودان الذي يقسمه النظام الفيدرالي إداريا وجغرافيا ولو شكلياً، يخفي وراءه تقسيمات مجتمعية وقبلية حادة، فجّرتها الحرب وساعدت في ظل تنامي خطاب العنصرية والكراهية على تقبلها كحقائق أكثر منها حدودا جغرافية إدارية افتراضية. فكل ما جرى ويجري في مناطق النزاع يعبر عن هذا التقسيم الشائه، فمنذ تطبيق الحكم الفيدرالي الذي حوَّل أقاليم السودان السابقة إلى ولايات بكامل وطأتها الإدارية والدستورية والتشريعية على مستوى الوزراء، وأعضاء المجالس وجيوش جرارة من زعامات وساسة، أنهكت ما شحّ من موارد ودمر البنية التنموية؛ وتعود هذه الولايات في ظل الحرب الدائرة مرة أخرى إلى الدفع بمكونات عسكرية وشبه عسكرية جديدة، انطلاقا من دوائرها الفيدرالية المناطقية. فيدرالية الحرب ليست بديلاً عن التقسيم الذي تحددت قسماته في خطابات الكيانات القبلية الهوجاء، ولكن أن تتخذ الحرب وجهاً وموقعاً جديداً يعرف على أسسها الناتج عن كثافة نيران الحرب. وقد زاد نظام الحكم الفيدرالي المطبق مسبقا من اتساع التقسيم الجغرافي والإداري من حدة صراعات حدود مناطق القبائل، ما يجعل الاعتراف والتعامل مع أي سلطة أمرا مشكوكا فيه، خاصة بعد هذا التنازع السياسي والعسكري.

وبما أن الفيدرالية كصيغة حكم يقتضي تطبيقها دولة قائمة بكل مؤسساتها، إلا أن الحالة السودانية الناتجة عن الحرب أفسحت المجال بانقساماتها المتعددة لتكوين ما يشبه الكيانات الفيدرالية المتقاتلة. فغياب الدولة بسلطة مركزيتها القابضة، وخروج عدد من الولايات من سيطرتها بهزيمة الجيش، وإقامة تشكلات للقوة المسيطرة في بعض المواقع، مثلما حدث في بعض الولايات بإقامة سلطة مدنية تحت سيطرة قوات الدعم السريع. فتكوين إدارة مدنية، كما حدث في ولاية الجزيرة بهذه الطريقة من قبل قوات الدعم السريع يشير إلى سيطرة مطلقة لهذه القوات، وهي عسكرية بالأساس، وهذا يعني أنه لا يمكن لأي إدارة مدنية أن تتمكن من تنفيذ مهامها تحت ظل واقع عسكري غير محسوم. فهي سلطات تعد أقل من الدولة وأكبر من السلطات المحلية لكنها لا تنتزع اعترافاً دستوريا، أو وضعا إداريا واضحا. فهي تكوينات إدارية تفتقر أول ما تفتقر إلى مرتكزات بنية السلطة، وهي غير الولاء القبلي والعنصري والصراع الدموي. فما انتهت إليه التقسيمات التي أفرزتها الحرب قد تضطر أي حكومة مقبلة على إعادة توحيد السودان على طريقة الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر، فإن استعادة خريطة الجيوسياسية للسودان لم تعد قائمة.

 

الوسومالحكم الفيدرالي السودان انهاء الحرب حرب السودان ناصر السيد النور

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحكم الفيدرالي السودان انهاء الحرب حرب السودان

إقرأ أيضاً:

محاكمة نتنياهو ولجنة القضاة.. تعرّف على الأزمات التي تهدد بانهيار النظام القضائي الإسرائيلي

نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، مقالا، لرئيس معهد سياسة الشعب اليهودي (JPPI) وأستاذ القانون بجامعة بار إيلان، يديديا شتيرن، أكّد فيه: "في الوقت الذي يزعم فيه الاحتلال أنه يقاتل أعداءه على سبع جبهات حربية عسكرية، فإن هناك جبهة ثامنة لا تقل شراسة عن تلك الجبهات".

وأوضح المقال الذي ترجمته "عربي21"، أنّ الجبهة الثامنة تتمثّل بـ"الجبهة الداخلية، حيث تتمثل استراتيجية الحكومة في "قصفها" من خلال وضع العديد من القضايا الإشكالية على أجندة الجمهور".

"بالتالي إرهاقه، وتعزيز الأغراض التي لا يمكن الترويج لها في سياق الشؤون العادية، وبعضها قد تكون مجرد كلام فارغ" بحسب المقال نفسه، مؤكدا أنّ: "آخر عمليات القصف التي تقوم بها الحكومة على جبهتها الداخلية تمثّلت بقرارها حجب الثقة عن المستشارة القانونية".

وأضاف: "هذه خطوة دعائية لن تؤدي لنتائج عملية، إذ تقف في طريقها عقبات قانونية لا يمكن التغلب عليها، وفي حالات أخرى، يكون الهدف تغيير الواقع، مثل مشروع قانون تغيير تشكيل لجنة اختيار القضاة، الذي يوشك أن يدخل القانون الأساسي، دون أي احتجاج شعبي تقريباً، رغم خطورته الهائلة".

وأردف أنّ: "قرارات الحكومة تشعل بكل قوتها الجبهة الداخلية الثامنة: "إسرائيل ضد إسرائيل"، فالحكومة ووزراؤها يدفعون الإسرائيليين إلى حافة خلاف عميق حول القضايا الأكثر محورية في حياتهم، وكأنها: تقطع اللحم الحي أثناء الحرب". 

وأبرز: "عشية التعبئة الواسعة النطاق لجيش الاحتياط، وتثير عواقبها قلقاً هائلاً وإحساساً واضحاً بالطوارئ بين غالبية الجمهور، بما في ذلك أنصارها"، مشيرا إلى أنّ: "كل واحدة من هذه القضايا هي قضية رئيسية بحد ذاتها".

واستطرد: "في حين أن قضايا أخرى أكثر خطورة لا تستحوذ على اهتمام الحكومة، لاسيما معضلة إعادة الأسرى في مواجهة الحرب المتجددة في غزة، ما يثير أسئلة مهمة ذات طبيعة وجودية، وأخلاقية، وأمنية".


"صحيح أن اختيار القتال هو قرار الحكومة، لكن الاحتجاج ضده خشية ان يؤثر على عودة الأسرى، لا يجب أن يكون مرتبطا بالاحتجاجات الأخرى ضد تحركات الحكومة الأخرى ذات الطابع الإشكالي" وفقا للمقال نفسه الذي ترجمته "عربي21".

وأوضح أنه: "كان ينبغي أن تنتهي محاكمة رئيس الوزراء منذ زمن طويل، وقد تم اقتراح أفكار بشأن صفقة إقراره بالذنب، والوساطة الجنائية، وأكثر من ذلك، وعرضت الدوائر القانونية كثيرا من المقترحات لحلّ هذه الإشكالية، لاسيما من قبل أهارون باراك، الرئيس الأسبق للمحكمة العليا، المسمى "قائد الدولة العميقة"، وأفيخاي ماندلبليت، المستشار القانوني الأسبق للحكومة، الذي قدم لائحة الاتهام ضد نتنياهو".

وأضاف أنّ: "الجهات القانونية الحالية في الدولة تتجاهل هذه الصيغ الوسط لحل معضلة محاكمة نتنياهو، وهي في ذلك لا تتخذ القرارات الشجاعة التي ترى الصورة الكبيرة، وبالتالي تتحمل المسؤولية عن مستقبل الدولة، ومقدمة لـ"هدم المعبد على رؤوس الإسرائيليين جميعاً" وفق صيغة علي وعلى أعدائي، وهذا منهج لا ينبغي لنا أن نسير على خطاه، مما يجعل من خطوة إنشاء لجنة تحقيق حكومية في كل أخطاء الحكومة وإخفاقاتها أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز بقاء الدولة".

ولفت أنّه: "سيتم الاتفاق مسبقًا على أن يقتصر تفويض اللجنة على التحقيق في العمليات والمؤسسات، وليس بالضرورة العثور على الجناة، الأمر الذي يتمثل بعدم توجيه إصبع الاتهام إلى فرد بعينه، بل التحقيق في إخفاقات البنية التحتية في عمليات التفكير والتشغيل للنظام المسؤول عن أمن الدولة".

"وأن يكون هدف اللجنة هو تصحيح مسارها، وهنا يُمكن إجراؤه بكفاءة أكبر، دون تحذيرات أو محامين، وبصورة علنية، ودون أن تُصبح نتائجه موضع جدل، وبالتالي يتم تقويضها من قبل صناع القرار في الدولة" استرسل المقال ذاته.

وأكد أنّ: "العديد من إخفاقات حكومة الاحتلال بحاجة لتوضيح كامل، لأن تقويض النظام السياسي للدولة هو الخطر الأكبر على مستقبلها، وهذا ممكن بعد أن نجحت التحركات الحكومية في خلق حالة من عدم الثقة لدى الكثيرين تجاه الأفراد والمؤسسات المسؤولة عن سيادة القانون".


ومضى بالقول: "يجب أن نعترف بصراحة أن قرارات وسلوك أجزاء من النظام القضائي ساهمت أيضًا في هذه النتيجة الكارثية، مع أن جزءً أساسياً منها قد يكون استوحاه بنيامين نتنياهو من أفكار الرئيس دونالد ترامب".

وفي السياق نفسه، حذّر من أنّ: "القلق الكبير والفوري أن تحكم المحكمة العليا بأن إقالة رئيس جهاز الشاباك رونين بار غير قانونية، لكونها إجراءً غير سليم، ولأن المعايير القانونية المنصوص عليها في القانون الإداري، وتشكل شرطاً لشرعية الإقالة، لم يتم استيفاؤها".

وختم بالقول إنه: "في هذه الحالة سيجادل رئيس الوزراء بأن المحكمة تجاوزت سلطتها، ولا ينبغي الامتثال لحكمها، وفي هذه الحالة قد يُرسّخ رئيس الشاباك نفسه في منصبه، وهنا سيسأل الجميع: من سيقرر، أم ستصبح دولة الاحتلال "جمهورية موز"، وتدخل في مواجهة مباشرة ومصيرية بين مراكز قواتها".

مقالات مشابهة

  • توقف الحرب… من الذي كان وراءه
  • السودان .. سيطرة الجيش على الخرطوم بداية لـ «الاستقرار» أم استمرار لـ «الحرب»
  • اعلان تطهير عاصمة السودان بالكامل من فلول المليشيات التي هربت بشكل مخزي
  • القدس المنسية: المدينة التي تُسرق في ظل دخان الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة
  • الرئيس اللبناني: لن نسمح بتكرار الحرب التي دمرت كل شيء في بلادنا
  • شاهد| حركة حماس تنشر: نتنياهو مجرم الحرب الذي لا يشبع من الدماء وأول الضحايا أسراه
  • عبد المسيح: دورة الصمود التي رُقِّي بموجبها 26 رتيبًا في أمن الدولة إلى رتبة ملازم تواجه اليوم خطر إلغاء مرسومها
  • محاكمة نتنياهو ولجنة القضاة.. تعرّف على الأزمات التي تهدد بانهيار النظام القضائي الإسرائيلي
  • الجيش الإسرائيلي يعلن عدد الأهداف التي قصفها في غزة وسوريا ولبنان
  • الجيش السوداني ما بعد الحرب: مقاربات للتحول المؤسسي وتحديات إعادة بناء الدولة