كما أي موسم زراعي لخضرة أو فاكهة هو موسم رمضان بالنسبة للدراما اليمنية، وكيمنيين لا نجد طوال العام أي عمل درامي، إلى أن يأتي رمضان حاملًا في جعبته عددًا من المسلسلات ذي المواضيع المستهلكة يتم إعادة عرضها بعد رمضان إلى أن يأتي رمضان في العام التالي.
بدأت الدراما اليمنية في تطور فني لا بأس به لما كانت عليه من قبل، لكن بالنسبة للمواضيع والأفكار التي تتناولها نلاحظ غياب للأولويات التي من الواجب تسليط دائرة الضوء عليها، ومن المؤلم جدًا أن يُترك الأمر بهذا الشكل إلى أن تتطرق له ذات يوم جهات خارجية.
في كل عام منذ حوالي أربعة أعوام أتفاءل خيرًا بأنه ربما هذا العام سيكون مختلفا بمواضيعه وأفكاره التي لا تحتاج البحث عنها في الأساس، فمنذ تسع سنوات صنعت الدراما الحقيقية (الحرب) آلاف المآسي والقصص الإنسانية التي لو تم تناولها بطرق مبسطة لدخلت اليمن مجال المنافسة الفنية من أوسع أبوابها.
تناولت المواضيع الدرامية خلال الأعوام السابقة مواضيع عدة كان من بينها موضوع العصابات واختطاف الأطفال كما في مسلسل (تكتيك)، لكن مثل هذه الأمور في أرض الواقع قليلة، كما أنها صوّرت حياة اليمنيين بنوع من الرفاهية من خلال عرض الفلل والشقق الفخمة التي يسكنها المؤدون للأدوار، ولا غريب إن شعر المواطن اليمني العادي أن هذا ليس واقعه ولا يمثله، فحياة العصابات والتجارة الممنوعة لا يمثل إلا نسبة بسيطة لا تكاد تصل إلى مسمى ظاهرة في مجتمعنا.
أما مسلسل (باقة ورد) فقد أفرط في عرض القدرات الاستخبارية في طريقة لا تخلو من التقليد لمسلسل الشبكة العنكبوتية أو مسلسلات مشابهة وبعيدًا كل البعد عن الواقع اليمني ومشاكله وحياة المجتمع البسيطة والخالية من كل هذه التعقيدات.
تناولت أيضا بعض الأعمال العادات والتقاليد في بعض المناسبات الدينية وأظهرت جمال وفن العمارة اليمنية ولا يختلف اثنان على الإبداع في التصوير في مسلسل (أبواب صنعاء) (والقريب بعيد)، لكن المواضيع التي تطرقت لها ليست بالأهمية تلك، وبالرغم من أنها عالجت ظواهر وركزت على أهمية هويتنا اليمنية، إلا أنها لم تصل إلى ما يحتاجه في هذا الوقت لن أقول المواطن اليمني فقط وإنما من في الخارج أيضا.
لا يستطيع أحد أن يعرف أو يشعر بحجم المأساة والمعاناة التي ذاقها اليمنيون خلال تسعة أعوام من الحصار والعدوان إن لم نجسد ذلك في أعمال درامية؛ وذلك لأنها الأقرب لقلوب الناس، في زمن تكاد تنتهي لغة الصحافة الورقية وينتهي المستمعون للراديو إلا من قلة يستمعون للبرامج المسابقاتية طمعًا في نيل الجوائز، ومع ذلك نرى غيابًا لهذه المواضيع بشكل مؤلم.
آلاف القصص جسدها أصحابها واقعًا وألمًا ومعاناةً على أرض الوطن (شهداء وجرحى وأسرى ونازحون وأيتام) لأطفال ونساء ولشباب في عمر الزهور تبدلت حياتهم وانقلبت في غضون أشهر ليعرجوا إلى طرقاتٍ لم تكن يومًا مكتوبةً في برامج أهدافهم، لكن الدراما اليمنية لم تستطع أن تجسدها إلا بمقتطفات لا تكاد تُذكر.
بطولات كذلك جسدها اليمنيون ومعجزات قد لا يستوعبها أو يصدقها من لم يعشها أو يرَهَا متجسدةً أمامه في مسلسل درامي يحكي تفاصيلها، رأينا أكثر من يتناول هذه المواضيع هي الصحف والبرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تخلو في كثير من الأحيان من الإثارة والتشويق، ولا يهتم بها إلا فئة قليلة من الناس، ولِحَدِّ الآن لم نجد إلا تمثيلية إذاعية واحدة هي (جحيم مأرب في ظل الاحتلال) تُعرض هذا العام من إنتاج إذاعة سام، تحكي قصة أحد المُختَطَفين المُحَرَّرين من سجون مأرب وتفاصيل ما يحدث في غياهب سجون المرتزقة، وكما قلنا سابقًا رغم وجود مئات القصص من هذا النوع فقط –قصص المختطفين– إلَّا أن أحدًا لم يكتب سيناريو عنها ليتم عرضها دراميًّا في التلفاز.
لن أُعرّج في مقالي عن أدوار الممثلين المتكلفة وأداء نفس الأدوار، وبعض الملاحظات في الآونة الأخيرة التي تُظهِرُ تصرفات دخيلة على مجتمعنا في مسلسلات من قنوات محسوبة على اليمنيين، وهذا النقد السلبي المتكرر من المتابعين العاديين قبل النُّقَاد، لكن ما يؤلمُ من وجهة نظري حقًا هو عدم توثيق مئات المآسي يصل عمرها الآن لِتِسْعَةِ أعوام.
يعرف الجميع أن عدد كُتَّاب السناريو في اليمن قلة، ولكن لا يعني ذلك أنه ليس هنالك أقلام جديدة تحتاج لفرص فقط، وكما في مسلسل العاقبة يستطيع البعض أن يكتب القصة، ويكتب السيناريو شخص آخر قد يكون المخرج أو أحد القادرين على كتابة السيناريو، أو ربما التفاتة بسيطة من وزارة الثقافة أو حتى من أي مؤسسة إنتاجية لكُتَّاب الروايات والقصص في عمل دورة تدريبية لهؤلاء في كتابة السيناريو تظهر بعدها نتائج وأعمال لم يكن أحد ليتوقعها.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
زنزانة 65: الدراما كسلاح لمواجهة النسيان السياسي
في زمن ينتج فيه السيسي الاختيار، حيث يزيف الحقيقة جهارا نهارا في رمضان في حضرة يوتيوب وكاميرا الديجيتال والبث المباشر، وحيث يصبح التاريخ ساحة معركة لإعادة صياغته وفق مصالح القوى المسيطرة.. في هذا السياق، كان مسلسل "زنزانة 65" كعمل درامي يعيد الاعتبار للأصوات المهمشة، ويقاوم محاولات طمس المعاناة التي تعرض لها المعتقلون السياسيون. من خلال حبكة وشخصيات تنهش بقاياها عتمة السجن وظلم النظام، يفتح المسلسل نافذة على تجربة الاعتقال السياسي وما تخلفه من ندوب نفسية وجسدية، محاولا استعادة ذاكرة جمعية أُريد لها أن تُنسى.
شهدت السنوات الأخيرة موجة متزايدة من الأعمال الدرامية التي تعيد قراءة الأحداث السياسية بطريقة تخدم أجندات النظام، وتلجأ إلى إعادة رسم صورة الجلاد كحامٍ للوطن، فيما يتم تشويه صورة الضحايا وتغييب الحقائق. هذا النهج يفرغ الدراما من رسالتها الأخلاقية ويحولها إلى أداة تطبيع مع القمع.
يأتي "زنزانة 65" ليعيد التوازن ويمنح صوتا لفئة سعى النظام جاهدا لتغييبها عن المشهد ومحو وجودها، كما محا بعضهم من سجلات الدولة وحقهم في المواطنة. من خلال الاستناد إلى شهادات حقيقية وتجارب موثقة، يكشف المسلسل الوجه الحقيقي للسجون السياسية وما تمثله من آلة قمعية تهدف إلى سحق الكرامة الإنسانية
على النقيض من ذلك، يأتي "زنزانة 65" ليعيد التوازن ويمنح صوتا لفئة سعى النظام جاهدا لتغييبها عن المشهد ومحو وجودها، كما محا بعضهم من سجلات الدولة وحقهم في المواطنة. من خلال الاستناد إلى شهادات حقيقية وتجارب موثقة، يكشف المسلسل الوجه الحقيقي للسجون السياسية وما تمثله من آلة قمعية تهدف إلى سحق الكرامة الإنسانية. ولا يكتفي المسلسل بعرض المأساة، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة الصمت الاجتماعي والتواطؤ السياسي الذي يسمح باستمرار هذه الانتهاكات.
لا يمكن قراءة "زنزانة 65" بمعزل عن سياقه السياسي، فالعمل يُعرّي بشكل مباشر ممارسات الأنظمة القمعية التي جعلت من السجون وسيلة لإسكات الأصوات الحرة. من خلال مشاهد دقيقة التفاصيل، يُبرز المسلسل كيف يتم تفكيك شخصية المعتقل ومحاولة تحطيم إرادته، وإعادة تفكيك شخصية الضابط النفسية وما تحمله من تشوهات ونقص مريض يتحول لممارسات وأفعال؛ يعكس من خلالها نفسية النظام السياسي واختلاله إنسانيا في معاملته لهذه الفئة تحديدا وانتقامه منها في خصومة سياسية تجاوزت عقدا من الزمن.
كما يتناول المسلسل أيضا البنية السياسية التي تنتج القمع وتغذيه. فالسجون ليست مجرد مبانٍ، بل هي امتداد لنظام سياسي قائم على الهيمنة وإخضاع المجتمع.
يركز المسلسل بشكل عميق على الأثر النفسي والاجتماعي الذي يتركه الاعتقال على الأفراد وعائلاتهم. عبر شخصيات متعددة، يقدم "زنزانة 65" صورة شاملة للمعاناة: هناك من يُكسر تماما تحت وطأة القهر، وهناك من يحوّل الألم إلى طاقة مقاومة. ومن خلال هذه الثنائيات، يتحدى المسلسل الصور النمطية التي تصوّر المعتقلين إما كأبطال خارقين أو ضحايا عاجزين.
في وقت تحاول فيه الأنظمة القمعية كتابة تاريخ بديل يمحو معاناة الضحايا، يأتي "زنزانة 65" كشهادة حية ضد النسيان، يُذكّرنا بأن لكل معتقل قصة يجب أن تُروى، وأن معركة الحرية ليست شأنا فرديا، بل هي مسؤولية جماعية.
الحكايات التي تُروى، والأصوات التي تعلو رغم القمع، تظل شواهد على مقاومة لا تنكسر. وبهذا المعنى، يتجاوز المسلسل كونه عملا دراميا إلى كونه أداة توثيق ومقاومة
يُبرز المسلسل أن القمع مهما كان ممنهجا وشرسا، لن ينجح في محو الحقيقة بالكامل. فالحكايات التي تُروى، والأصوات التي تعلو رغم القمع، تظل شواهد على مقاومة لا تنكسر. وبهذا المعنى، يتجاوز المسلسل كونه عملا دراميا إلى كونه أداة توثيق ومقاومة.
وعلى الرغم من قلة الإمكانات والتحديات الإنتاجية، إلا أن المسلسل كان تحديا في ذاته أن تكون القصة في هذا الحيز المحدود وفي مسارات قصص متوازية مع خلق رتم رشيق للأحداث دون ملل أو مط، حاولنا أن نوصل رسالتنا بما توفر لنا من إمكانات تحترم المشاهد وتحترم من أردنا أن نوصل صوتهم.
وسعينا أن نستخدم الدراما كسلاح في مواجهة السلطة؛ هذا النوع من الدراما الذي لا يسعى إلى الترفيه فقط، بل يحفز التفكير النقدي ويدفع المشاهدين إلى طرح أسئلة صعبة حول العدالة والحرية والمسؤولية.
في النهاية، أردنا أن نؤكد أن الدراما، حين تكون صادقة في طرحها وملتزمة بجوهر الحقيقة، تمتلك القدرة على اختراق الحواجز، وكشف المستور، وإبقاء ذاكرة المظلومين حيّة في وجه كل محاولات الطمس والإخفاء.