قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في محاضرته الرمضانية الثانية والعشرين: الإنسان يظلم نفسه ويظلم غيره بانحرافه ومخالفته لهدى الله سبحانه وتعالى
تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نستكمل في محاضرة اليوم بقية قصة نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” مع قومه، على ضوء الآيات المباركة القرآنية، وقد وصلنا إلى قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود: من الآية36]، وقد تحدثنا في المحاضرات الماضية عمَّا بذله نبي الله ورسوله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” من جهدٍ كبير، على مدى زمنٍ طويل (مئات السنين)، ومع أكثر من جيل من قومه.
فاستمر يبذل جهده معهم، يستخدم كل الأساليب والوسائل المشروعة، للدعوة لهم إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتبليغهم برسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، التي هي رسالة عظيمة، تنسجم مع الفطرة، ولمصلحة الناس، للخير لهم في الدنيا والآخرة، ولكنهم لارتباطهم بملائهم، وما كان عليه ملؤهم من الضلال، والزيغ، والباطل، والطغيان، استمروا على ما هم عليه من الضلال، فلم يؤمن معه إلا قليل، وعلى مدى فترات زمنية طويلة ومتفاوتة، وصولاً إلى المستوى الذي وصلوا إليه من العناد الشديد، فلم يعودوا يصغون له، كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم، يُغَطُون على وجوههم وأعينهم؛ كي لا يشاهدوه وهو يتحدث إليهم، ثم لم يكتفوا بذلك، حتى أصبحت طريقتهم معه وأسلوبهم هو: السعي لمنعه من أن يتحدث معهم، وبالتهديد، والوعيد، والمضايقات، ومحاولة منعه من الحديث معهم أصلاً، فوصلوا إلى حالة- مع تكذيبهم وعنادهم، واستمرارهم في الطغيان، والانحراف، والمعاصي التي هم عليها، والتكذيب برسالة الله، والجحود بالحق، الحق الواضح المبين- خَبُثت نفوسهم، وساء واقعهم النفسي، حتى أصبحوا بعيدين تماماً ومنغلقين تماماً عن تَقبُّل هدى الله ورسالته.
وهي حالة خطيرة- تحدثنا عنها في المحاضرة الماضية- حينما يصل الإنسان في خبث نفسه وفساده إلى مستوى لا يتقبَّل فيه الحق أبداً، نفسيته أصبحت من الخبث ومن الفساد إلى درجة: لا تتقبل هدى الله وتعليماته، ولا تنسجم مع الحق، ولا مع الفضيلة، ولا مع الأخلاق، ولا مع الخير، ولا مع العدل، تصبح نفسيةً تجذَّر فيها الشر والفساد، وأصبحت في ميلها إلى الفساد، والانحراف، والظلم، والباطل، والمنكر، والفحشاء، إلى مستوى رهيب والعياذ بالله.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عَلِمَ- وهو الذي يعلم بذات الصدور، ويعلم الغيب والشهادة، ويعلم خفايا النفوس، ويعلم واقع الإنسان، وحاضره، ومستقبله، وقبل ذلك ماضيه- عَلِمَ من حالهم أنهم لم يعودوا متقبلين أبداً، ولن يؤمن منهم أحد، غير تلك الفئة القليلة منهم، ذلك العدد القليل جداً منهم الذي قد آمن.
أمَّا نبي الله ورسوله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، فبعد ذلك الزمن الطويل جداً، وبعدما استنفذ معهم كل الوسائل، واستخدم كل الأساليب لهدايتهم، وعمل عملاً جاداً، بنشاط، باهتمام، باستمرار على مدى مئات السنين، وتحرَّك على المستوى الفردي، الدعوة الجماعية، الدعوة الفردية… إلى غير ذلك؛ فهو قد شكى إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبالذات أنهم أصبحوا يستهدفونه، ويمنعونه من تبليغهم، ويهددونه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء: من الآية116]، فشكى إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وذكر الله تقريره وشكواه في سورة كاملة في القرآن الكريم هي: سورة نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، قد قرأنا البعض من الآيات التي فيها.
ثم أوحى الله إليه، هو لم يتنصل عن أداء مسؤوليته، أو يمتنع، هو استمر بكل صبر، بصبر عظيم جداً، صبره على ذلك المدى الزمني الطويل، مع ما كان عليه قومه من الجحود، من الاستكبار، من العناد، يعتبر مدرسةً للأنبياء والرسل وللمؤمنين، وللدعاة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في ذلك الصبر العجيب، فالله أوحى إليه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود: الآية36]، معنى ذلك: أنك قد أديت ما عليك، ولم تقصر في أداء مهمتك، والمشكلة ليست من عندك أنت، ولا في أسلوبك، ولا في طريقتك، أنت أديت مهمتك على أرقى مستوى، وبذلت جهدك معهم، ولكن المشكلة تعود إليهم هم: في أعمالهم السيئة، وفي عنادهم وتكذيبهم برسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فلا تحزن من جانبهم؛ لأنه قد أتى الحسم الإلهي، فالوعيد والعذاب آتٍ لا محالة.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}[هود: من الآية37]، فاتجه، لا تنشغل بهم، قد أديت ما عليك تجاههم، وقد أتى اقتراب نزول العذاب عليهم؛ ولذلك أنت ستتجه الآن- منذ أوحى الله إليه ذلك الوحي- إلى تلك المهمة: مهمة صناعة الفلك، يعني: صناعة السفينة، سفينة عظيمة، وسفينة كبيرة؛ لتكون سبباً ووسيلةً للنجاة، لنجاة نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، والمؤمنين معه، القلة القليلة، وما سيأتي أيضاً في أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أمره أن يحمل معه أيضاً من الحيوانات.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}[هود: من الآية37]، يعني: برعاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، سيتجه لتلك المهمة، في صناعة السفينة الكبيرة تلك، برعايةٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وحفظٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولذلك لن يتمكن أحد من أن يمنعه من ذلك العمل، أو يعيقه عنه، فسيعمل في ذلك بحفظ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورعاية من الله، ومعونة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وحفظ من جانب الله “جَلَّ شَأنُهُ”.
{وَوَحْيِنَا}، حيث ستأتيك التعليمات لكيفية صناعة تلك السفينة الكبيرة، التي ينبغي أن تكون على مواصفات معينة، بحيث تؤدي مهمتها؛ لأن هناك حمولة ضخمة ستحملها، وبالذات أنها ستحمل من كل زوجين اثنين، وإضافةً إلى ذلك أولئك المؤمنين الذين معه، وهي أيضاً ستحمل حمولتها تلك، وتتحرك في ظل الطوفان العظيم الذي سيأتي؛ ولذلك لابدَّ أن تكون في عملها متقنةً، محكمةً، أن تُصنع بإتقان وإحكام، وأن تكون كبيرةً ومتسعةً، بحيث تحمل الحمولة المطلوبة، فأمام حمولتها الكبيرة من جهة، وأمام حجم الطوفان العظيم، الذي ستحمل حمولتها فيه، وتجري فيه، لابدَّ أن تكون سفينةً كبيرةً، متقنةً، ومحكمةً في صناعتها؛ ولذلك ستأتيه التعليمات من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على مستوى تفاصيل وكيفية صناعتها، وكيف تكون في حجمها، ومما تصنع، وماذا يختار لها من أنواع الخشب، وكيف تتم عملية تثبيت الأخشاب مع بعضها… وهكذا إلى بقية التفاصيل.
ويتضح- والله أعلم- أن تلك السفينة كانت هي السفينة الأولى التي صُنِعَت، يعني: لم يسبق قبلها أن كان لدى البشر سُفن وتنقلات بحرية؛ لأن قوم نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” كانوا هم المجتمع البشري بكله، كانوا هم في عصره المجتمع البشري، وكانوا منتشرين في نطاق جغرافي محدود، يعني: لم يكونوا موزعين في قارات متعددة، حتى يحتاجون إلى التواصل البحري فيما بينهم؛ فلذلك الحركة فيما بينهم هي حركة في البر؛ وبالتالي لم يكن هناك قبل تلك السفينة سُفُن قد صُنِعَت قبلها، إضافة إلى أنَّ هذه مرحلة مبكرة في تاريخ البشرية، يعني: بحسب الدراسات- والله أعلم- الدراسات التي أُجريت على آثار السفينة تلك، تُقَدَّر المدة بمائة ألف سنة، بأكثر حتى من مائة ألف سنة إلى الآن يعني، ففي تلك المرحلة المتقدمة قد تكون تلك السفينة هي السفينة الأولى التي صُنِعَت في واقع البشرية، ومن بعدها صُنِعَت السُّفن، ثم من بعد ذلك في الأجيال اللاحقة، عندما توزَّع البشر وبدأ نشاطهم عبر البحار، والتنقل فيما بين المناطق التي يحتاج التنقل فيها إلى الحركة في البحر.
فتلك السفينة هيَّأ الله صناعتها لنبيه نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وأعطاه التعليمات، وكيف يعمل، وكما ورد أيضاً (في سورة القمر)، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}[القمر: الآية13]، ويقولون أن (الدُّسُر) هي: المسامير التي استخدمت في تثبيت ألواح السفينة.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود: الآية37]، فقد حكم الله عليهم بالهلاك والعذاب، وليس هناك من مجال للوساطة، ولا للشفاعة لأحدٍ منهم أبداً، فأعمالهم هي أعمال ظلم، كل أعمال الجرائم والمفاسد هي تندرج تحت عنوان الظلم، حتى الكفر بالله والشرك بالله هو من الظلم، مختلف أنواع المعاصي هي من الظلم، الإنسان يظلم نفسه ويظلم غيره، بانحرافه، بمخالفته لهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بانحرافه عن تعليمات الله، التي هي تعليمات خير، وحق، وفضيلة، وعدل، وصلاح للإنسان وللحياة، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد حكم عليهم بالهلاك، وحكم عليهم بالعذاب، وسيهلكهم بالغرق: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}؛ ولذلك بيَّن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لنبيِّه نوحٌ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” النهاية التي قد حتمها لهلاك قومه المكذبين والمعاندين، وهي: الغرق بالطوفان، الطوفان العظيم الذي ستأتي الآيات وتتحدث عنه، ووجَّهه وأمره بصنع تلك السفينة الضخمة الكبيرة، التي ستكون وسيلةً للنجاة، وسبباً للنجاة.
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}[هود: من الآية38]، اتَّجه نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” إلى الاهتمام بعمل صناعة السفينة، ولم يعد يواصل أعماله مع قومه في محاولاته، قد أدّى ما عليه واكتملت المهمة، واتجه لذلك العمل: لصناعة السفينة؛ لأنه سيحتاج إلى جهد كبير، بالنظر إلى طبيعة الوسائل والإمكانات الموجودة في ذلك العصر، فهو يحتاج إلى قطع الأخشاب، وتوفيرها، وإعدادها كألواح، ويحتاج إلى أن يصنع المسامير الحديدية، التي سيثبت بها تلك الألواح، في عملية التصميم أيضاً… وهكذا بقية تفاصيل العمل تحتاج منه الوقت والجهد، واشتغل في ذلك بجهده، باهتمامه الكبير.
{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}[هود: من الآية38]، كانوا يذهبون ليتفرجوا عليه، ويَمُرُّون من عنده، وهو في المكان الذي قد اختاره لإعدادها وصناعتها فيه، فكانوا يذهبون ليمرُّوا من عنده بشكل تجمعات، كل وقت يمرُّ جماعة من عنده بينهم كبارهم؛ ليسخروا منه، ويستهزئوا به، ويضحكوا منه: [هل تحوَّلت إلى نجار؟ هل تركت مهمة الرسالة والنبوة؟ وأصبحت تعمل في النجارة؟ ما هذا العمل السخيف الذي تعمله…]، إلى غير ذلك، ويضحكون، ويسخرون، ويستهزئون، ويستمرون على هذه الحالة؛ ولهذا أتى في التعبير: (وَكُلَّمَا)، {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، فكانوا يَتَلَهُّون وينشغلون بالسخرية منه بتلك الطريقة، يذهبون في مجاميع (جماعة جماعة) ومعهم كبارهم؛ ليضحكوا ويسخروا في جوٍ جماعي، ويستهزئون به، ويوجهون إليه الكلام الجارح، والكلام الذي فيه استحفافٌ به وإساءةٌ إلى مقامه.
{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، انشغلوا، هم منشغلين بالسخرية منه بشكلٍ مستمر، خلال تلك الفترة الطويلة التي صنع فيها السفينة.
{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[هود: 38 – 39]، رد عليهم في مقابل سخريتهم واستهزائهم بهذا الرد، الرد المهم، وكان المفترض أن يأخذوا منه العبرة، لكنهم كانوا قد خُذِلوا تماماً.
{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ}، أنتم من أنتم في موضع السخرية، أنتم من ينشغل بالتَّلَهِّي والضحك والعبث، ولا يعرف ماذا سَيَحِلُّ عليه، ماذا سيصيبه من داهية كبرى، من هلاك عظيم، وأنتم مشغولون بالضحك والاستهزاء، فأنتم في موضع السخرية والعبث، أنتم من تعبثون، وأنتم تتجهون إلى مصير الهلاك.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}، هي حالة فعلاً حالة مهزلة بالنسبة لهم، كمن يرقص وهم يجهزون له حفلة إعدام، فيقوم بالرقص، الحالة حالة رهيبة جداً، الذي سيأتيهم هو العذاب، وهم منشغلون بالتَّلَهِّي، والضحك، والسُّخريَّة، والعبث، والاستهتار، والاستخفاف، وبعد الهلاك: العذاب المقيم والعياذ بالله، الطامة الكبرى، الخسران الدائم الأبدي، ليس فقط الهلاك بذلك الطوفان، ولكن فيما بعد ذلك في الآخرة: نار جهنم، والخلود فيها للأبد والعياذ بالله، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.
وهكذا استمر الحال: هو دائبٌ في عمله في صناعة السفينة، مستمرٌ، لا يبالي بهم، وبإزعاجهم، وبسخريَّتهم، وباستهزائهم، ولا يؤثر عليه ذلك في مدى اهتمامه بعمله، بالرغم من أنهم يبذلون كل جهدهم في إزعاجه، وفي مضايقته، وفي الإساءة إليه، ويصنعون جواً يَتَلَهُّون به من السخرية، والاستهزاء، والضحك بشكلٍ جماعي، يذهبون جماعات، لكنَّ ذلك لم يؤثِّر عليه، فاستمر في عمله حتى أَتَمَّه، أصبحت السفينة جاهزة، وأكمل عملها، وأتمَّ مهمته في تصميمها وصناعتها.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}[هود: من الآية40]، ثم أتى أمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أتت اللحظة الحاسمة، التي ستحسم ذلك الحسم الهائل الرهيب، تؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ البشرية، وتهلكهم بكلهم الهلاك الرهيب.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}، جاء أمر الله العظيم، ربِّ السماوات والأرض، {وَفَارَ التَّنُّورُ}، كانت العلامة التي قد جعلها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لرسوله ونبيه نوحٍ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هي: أن يفور الماء في التنور، والتنور معروف، الذي يُخبَز فيه الخبز لينضج.
ويتضح أنَّ مثل هذه الأمور في معيشة الناس موجودة منذ ذلك الزمن الغابر والقديم، يعني: من مراحل متقدِّمة في تاريخ البشرية، ليست الحالة كما يصورها الغرب، فيما يحاولون أن يصوروه عن الماضي: [أن الإنسان بقي في حياة بدائية جداً كالحيوانات، يعتمد فقط على الصيد ولا يزرع، وأنه لم يتجه للزراعة إلَّا منذ عشرة آلاف عام فقط، وقبل ذلك لم يكن يزرع، لم يكن يعتمد على النباتات، لم يكن يتناولها]، تلك تخمينات وظنون لا أساس لها، وهم يحاولون أن يجعلوا أنفسهم وأن يقدِّموا أنفسهم أنهم أصل الحضارة في واقع البشر، وأنه لا حضارة في واقع البشر إلا منذ العهد الإغريقي واليوناني، ثم الروماني، ثم الأوروبي والأمريكي، هكذا يريدون أن يصوروا للبشرية، مع أنهم يواجهون إحراجات حتى في الآثار المكتشفة في أمريكا اللاتينية، والبلدان النائية، التي هي آثار قديمة جداً، تُبيِّن مدى ما كان عليه البشر في مراحل متقدِّمة من حضارة، من ظروف في حياتهم ظروف متقدِّمة، يعني: ليست بدائية بالشكل الذي يصورونه؛ ففي عهد نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هناك التنور، هناك الاستخدام للنار في إنضاج الطعام، هناك طبخ، هناك صنع للخبز، وهكذا، هناك زراعة بالتأكيد، اهتمام بالزراعة، وغير ذلك، فالحياة لم تكن بدائية بالشكل الذي يصوره الغرب؛ لأن لديه أهدافاً سياسية في طريقة تقديمه للتاريخ، لا يُقدِّم التاريخ بشكل موضوعي، بل وفق أهداف سياسية معينة.
{وَفَارَ التَّنُّورُ}[هود: من الآية40]، فار بالماء، فار الماء من داخل التنور، وتلك كانت علامة لنبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، أن الوقت وقت مصيري، أتت اللحظة الحاسمة، وأتى الوقت لتحمل إلى السفينة ما تحمله إليها، والاستعداد للحركة بها؛ لأن الماء سيبدأ والطوفان سيبدأ، وفوران الماء من التنور، التنور الذي هو مكان للنار، ويأتي منه هذا الحال: تأتي هذه الآية ليفور منه الماء، كان آيةً من جوانب متعددة:
علامة لمجيء هلاك قومه المعاندين، المكذبين، الصادِّين عن سبيل الله.
وفي نفس الوقت آية وتبيِّن أيضاً أن الأحوال ستتغير تماماً، فأتى الماء من حيث مكان النار، والمكان الذي يكون عادةً نائياً عن الرطوبة، وبعيداً عن المياه؛ ليشير إلى تبدُّل الأحوال وانقلابها بالكامل رأساً على عقب.
{وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا}[هود: من الآية40]، يعني: في السفينة، {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود: من الآية40]، يعني: من أهلك، {مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} يعني: الوعيد الإلهي، وأصبح ممن قرر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إهلاكهم، {وَمَنْ آمَنَ}، يعني: احمل من آمن معك، احمل فيها: (من كُلِّ زوجين اثنين، وأهلك، ومن آمن)، وأتى الاستثناء في: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} مع قوله: {وَأَهْلَكَ}؛ لأنه منهم: {مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}، {وَمَنْ آمَنَ}: احمل كذلك معك من آمن فيها للنجاة بهم.
{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود: من الآية40]، على مدى تلك الفترة الطويلة، بجهوده العظيمة، وشخصيته العظيمة المؤثرة؛ لأن شخصية الأنبياء والرسل عظيمة ومؤثرة، والهدى بنفسه الذي يقدمونه هُدىً ينسجم مع الفطرة الإنسانية، وحقٌ واضحٌ، ودعوةٌ للخير، مع ذلك لم يؤمن على مدى ذلك الزمن الطويل (تسعمائة وخمسين سنة) إلا قليل، تختلف الروايات والأخبار في عدد تلك الفئة القليلة، من عدد بسيط، يعني: البعض يقول: [أربعة]، البعض يقول: [ثمانين]، أكثر رقم وأعلى رقم يقول: [ثمانين]، وهكذا أرقام متفاوتة… فهم بالمقارنة مع قومهم ومع الهالكين والمكذبين قلة قليلة جداً، الذين آمنوا ونجَّاهم الله معه.
وتحرَّك نوحٌ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” وفقاً لذلك، فبدأ ينقل إلى السفينة، قد أعدَّ السفينة، وأعدَّ فيها ما يحتاج إليه من يحمله فيها من الطعام، خلال تلك الفترة التي ستبقى فيها عملية الطوفان، ما يحتاجونه من الزاد، ما يحتاجونه من الغذاء، ما يحتاجون له من المتطلبات الضرورية، هي سفينة ضخمة، فبدأ ونفَّذ المهمة، {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}[هود: من الآية40]: من كل الحيوانات (ذكر، وأنثى)، فبدأ يحمل إليها، وساق الله له الحيوانات، ويسَّر له ذلك، أن تُقْبِل، وأن يتهيَّأ له أن يحمل منها: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
{وَأَهْلَكَ}[هود: من الآية40]، كذلك أهله، {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود: من الآية40]، وكان في هذا الاستثناء:
أولاً: زوجته؛ لأنها كانت منحرفةً عن نهجه ودينه الحق، وكانت تخونه في المعلومات التي تقدِّمها إلى أهلها وقومها، وقد تكون قد ابتعدت عنه في تلك المرحلة الأخيرة أصلاً، فهي كانت معنيةً؛ لأنه سبق عليها الوعيد بالهلاك.
ولكن كان هناك أيضاً ابنه، أحد أولاده ضمن ذلك، وربما كان لديه أمل في نجاة ابنه، ولم يكن يتوقع أنه من الهالكين، وسيأتي الحديث عنه أكثر.
والذين آمنوا- وهم القلة القليلة- كذلك ركبوا في تلك السفينة، {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}[هود: من الآية41]، في قراءة نافع: {مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}، الحركة بتلك السفينة، الركوب أولاً: {بِسْمِ اللَّهِ}: بسم الله، وبأمره، وبإذنه، وبتدبيره، وكذلك حركتها أيضاً، حركتها {بِسْمِ اللَّهِ}: بتدبيره، بهدايته، بتوفيقه، برحمته، بنعمته، بفضله، فهي ستجري برعاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وحفظه، وتدبيره، ونعمته، ورحمته، وهي آيةٌ عجيبة فعلاً؛ لأن الطوفان كان عظيماً جداً جداً، فبقاؤها، وحركتها، وحفظ من فيها من الركاب، من الحيوانات والبشر، والبشر هم الأقلية في تلك السفينة، هذا شيء مؤسف، يعني: أن يكون الأقلية هم البشر؛ بينما كان الأكثر هم الحيوانات الذين نجوا، مؤسفٌ على البشر، حسرةٌ عليهم عندما لا يقبلون الحق والهدى، ولا يقبلون ما فيه نجاتهم، وفلاحهم، وفوزهم، والخير لهم.
{وَمُرْسَاهَا}: توقفها واستقرارها سيكون أيضاً بتدبير الله، وبرحمته، وبنعمته، وبفضله، في المكان المناسب، بشكلٍ آمنٍ وسليم، وفي الوقت المناسب، {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[هود: من الآية41]، فبمغفرته، وبرحمته، وبفضله، تمَّت تلك النعمة والرعاية العجيبة لنجاة نبي الله، ومن معه من المؤمنين، ومن أيضاً كان في السفينة، ممن نقلهم وحملهم فيها.
وأتى المطر العظيم جداً، أتت الأحوال كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” (في سورة القمر): {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا}[القمر: 11 – 12]، تلبَّدت السماء بالغيوم الكثيفة جداً، المظلمة، الهائلة، وبدأت تمطر بغزارةٍ هائلةٍ غير مسبوقة، تمطر {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}: ينصب بغزارة هائلة جداً جداً جداً، الأرض فُجِّرت كلها بالعيون، من كل مكان بدأت العيون تخرج، عيون الماء تنبع من كل مكانٍ في الأرض، في وضعٍ مفاجئ، مفاجئ لأولئك الذين كان لهم مدة طويلة وهم في حالة جدب شديد.
لأن الفترة الأخيرة أتاهم فيها الجدب، وحتى عندما كان نبي الله نوح يدعوهم للاستغفار، والرجوع إلى الله، والإيمان برسالته: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 10 – 11]، لم يكونوا يقبلون، ولم يكونوا يصغون أصلاً لتلك الدعوة، التي فيها الخير لهم.
وكذلك العقم، العقم استمر لنسائهم، فلا يَلِدْنَّ؛ ولذلك ورد في الروايات والآثار والأخبار: أنَّه عندما حلَّ بهم الطوفان والهلاك لم يكن فيهم أطفال صغار؛ لأن فترة العقم قد استمرت على مدى عشرات السنين، ولذلك لم يكن فيهم أطفال أثناء هلاكهم، كانوا بكلهم من كبارهم، ممن هم في مرحلة التكليف، وجديرين بالعذاب، مستحقين للعذاب.
فانهمرت الأمطار بغزارة هائلةً جداً من السماء، والأرض فجَّرها الله بالعيون من كل مكان، وطلع الماء من باطن الأرض، ونزل أيضاً بغزارة هائلة جداً من السماء.
في تلك الحالة، التفكير السائد الذي يفكِّر به الناس، وهم في حالة ذهول، ومتفاجئون جداً مما يجري، هو: التفكير بأن يذهبوا نحو الجبال، وأن يتَّجهوا إلى الجبال، لكي يصعدوا فيها؛ لأنهم يرون الماء يتكاثر، ويتعاظم، ويغمر الأرض في كل مكان؛ فلذلك يفكِّرون للنجاة من الغرق، أن يذهبوا نحو الجبال، ولكن المياه كانت تتكاثر وتتعاظم بسرعة، بسرعة، بسرعة، وتتزايد، وتطفو فوق سطح الأرض، وتعلو فوق سطح الأرض بشكلٍ هائلٍ جداً.
في تلك الحالة، التي تكاثرت فيها أمواج المياه، وتعاظمت، وغمرت الأرض، وتزايدت فيها، الماء يزداد، يزداد، في تلك الحالة: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ}[هود: من الآية42]، يعني: السفينة، {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}[هود: من الآية42]، لنا أن نتصور حجم هذه الأمواج الهائلة جداً، التي هي بحجم الجبال، أمواج من الماء عظيمة جداً جداً، والأرض بشكلٍ مستمر تخرج الماء منها، وتتفجر العيون منها، والأمطار تنهمر باستمرار، بغزارة مستمرة ولا تتوقف، والأمواج العظيمة التي أصبحت كالجبال تغمر الأرض في كل جنباتها وأنحائها، والسفينة تجري في تلك الأمواج الهائلة، التي هي بذلك الحجم الهائل: {كَالْجِبَالِ}، أبصر نبي الله نوحٌ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أبصر ابنه، الذي لم يلتحق به، كان في معزلٍ عنه، شاهده وهو يحاول أن ينجو بنفسه، ولكن أين ينجو الإنسان في مثل تلك الحال؟ كيف ينجو، وهو لا يريد أن يسير في طريق النجاة؟
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}[هود: من الآية42]، ناداه ليسمعه؛ لأنه مع انصباب الأمطار بغزارة هائلة جداً، وذلك الجو الهائل جداً من تَفَجُّر الأرض بالعيون، وحركة المياه، واضطرابها، وهي تغمُر كل مكان، لن يسمعه إلَّا إذا ناداه، فهو ناداه بصوتٍ مرتفع؛ ليسمعه، {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}[هود: من الآية42]، كان فيما سبق منعزلاً عن والده، اعتزل والده، واستقل بحياته؛ ليبتعد عن والده، يريد أن يكون بعيداً عمَّا يعانيه والده من المشاكل (نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”)، وأن يُظهِر نفسه وكأنه ليس مع والده، كان قد أثَّر عليه- كما في الأخبار والروايات- قرناء السوء، وتأثر بالجو العام الذي فيه تكذيب، وفيه إساءة، وفيه صد، وفيه سخرية، وفيه استهزاء، وفيه حملات دعائية، وفيه مضايقات، وفيه تهديدات، جو أثَّر عليه؛ فانعزل عن والده، وابتعد عنه.
ناداه نبي الله نوح: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}[هود: من الآية42]، ناداه لنجاته، لطريق النجاة، لأن يركب معهم في السفينة، بدلاً من أن يذهب مع الكافرين، الهالكين، الذين مصيرهم هو الهلاك، ولكنه حتى في تلك اللحظة الحسَّاسة والحرجة لم يستجب لوالده، ولم يصغِ لندائه، ولم يقبل نصيحته، حتى في تلك اللحظة كان يتصوَّر أن المسألة لا زالت مسألة مطر غزير، وأنَّه يمكنه أن ينجو، مثلما ذكر: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}[هود: من الآية43]، كان يتصور أن الجبل يمكن أن يعصمه، وأن يحفظه من الماء، فلا يغرق مع الغارقين والهالكين، ولكن أنَّى له ذلك! الأمواج بنفسها كالجبال، والمياه تتعاظم وتتزايد وترتفع؛ حتى ارتفعت فوق الجبال.
في تلك اللحظة، قال له نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}[هود: من الآية43]، لا نجاة، لا نجاة إلَّا برحمة الله، والأخذ بأسباب رحمة الله واضح: أن يسير في اتجاه الإيمان، ومع المؤمنين؛ لينجو، فالإيمان هو سبيل رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو السبب الذي يحظى الإنسان من خلاله برحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ}[هود: من الآية43]، في تلك اللحظة وهو يخاطبه، أتى موجٌ من الماء، موجٌ عظيم حال بينهما، وأغرق ابنه وهو يشاهده في تلك اللحظة، {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}[هود: من الآية43]، غرق ابنه، وارتفع الماء حتى فاق الجبال، كان فوق الجبال، غمر كل شيء، غمرهم بأجمعهم، وهلكوا بكلهم، لم ينجوا إلَّا الذين كانوا في السفينة، كان طوفاناً عظيماً، شمل المعمورة، حيث هناك السكان، وحيث هناك من هم من المجتمع البشري بكلهم قد شملهم الطوفان، وغرقوا فيه، والله أعلم هل كان شاملاً لكل الكرة الأرضية، أم على المعمورة منها؟! فهو- على كل الأحوال- كان طوفاناً عظيماً جداً.
وتمت المهمة: هلكوا بأجمعهم، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}[هود: من الآية44]، اكتملت المهمة، وأتى الأمر التكويني من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” للأرض، التي هي ملكه، وتحت سلطانه وقهره وإرادته: {ابْلَعِي مَاءَكِ}، ليعود الماء إليها؛ لأنها كانت تفجَّرت بما فيها من الماء عيوناً، وطلع الماء منها إلى سطحها، {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}: توقفي عن الإمطار، {وَغِيضَ الْمَاءُ}: نزل الماء وعاد من سطح الأرض، من حيث كان قد ظهر من فوق سطح الأرض إلى داخل الأرض، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}: انتهى أمرهم، وأهلكهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَاسْتَوَتْ}، يعني: السفينة، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، (الْجُودِيِّ): جبل استقرت السفينة فوقه بسلام.
{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود: من الآية44]: لا أسف عليهم، ولا ندم عليهم، ولا حزن عليهم؛ لأنهم بظلمهم، والظلم هو عنوان خطير جداً، عنوان للكفر، للشرك، للباطل، للجرائم، للمفاسد، يشملها بكلها، وهي بكلها، مثلاً: حالة الشرك، حالة الكفر، حالة الإعراض عن هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هي تجعل الإنسان ظلوماً في الحياة، ظالماً في الحياة: بعيداً عن العدل، بعيداً عن الإنصاف، بعيداً عن الفضائل، بعيداً عن الرشد والتوازن في ممارساته في الحياة، في أعماله، في تصرفاته، فيغلب عليه الظلم في كل أحواله وأموره، {بُعْدًا}: هلاكاً لهم، هلاكاً لهم، لا أسف عليهم؛ لأنهم أصبحوا في ما هم فيه من العناد، والإصرار على ما هم عليهم من الكفر، والشرك، والظلم، والباطل، والصد عن سبيل الله، والمحاربة لرسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لا أمل فيهم، والحالة إذا استمرَّت، يعني: استمرارها إلى ما هو أسوأ، إلى ما هو أسوأ، وهناك حد مُعيَّن للطغيان إذا وصل إليه؛ يأتي العذاب، تأتي العقوبة الإلهية.
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}[هود: الآية45]، حينما كان الله وعده أيضاً بنجاة أهله، قال له: {وَأَهْلَكَ}[هود: من الآية40]، واستثنى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود: من الآية40]، فربما كان يتوقع لابنه ألَّا يكون ممن سبق عليه القول، وأن تكون فقط زوجته، التي كان قد اتضح له حالها، ويئس منها، فهو يستوضح عن سبب هلاك ابنه؛ لأنه كان يأمل نجاته.
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود: من الآية46]، يعني: ليس ممن وعدك الله بنجاتهم، لربما كان نبي الله نوح يتصوَّر أن ابنه انعزل عنه في مقابل الضغوط، والمشاكل، والقلق، القلق من الضغوط والمشاكل التي كان يعانيها نبي الله نوح، وأنه يريد أن يكون بعيداً؛ ليسلم المشاكل، يحايد، أن يكون محايداً كما يقول المحايدون، الذين يتصوَّرون أنَّ هناك حياد بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وليس هناك حياد، فكان يأمل له النجاة، ويتصور أنه لربما كان انعزاله عنه تهرُّباً من مواجهة المشاكل والضغوط، ولم يكن يتصور إلى أنه سيء إلى تلك الدرجة: إلى درجة ألَّا يحظى برحمة الله، ولا بالنجاة أصلاً، لكن الله بيَّن له حاله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: إنه فيما كان قد وصل إليه، وفيما كان عليه من الممارسات، من التصرفات، من الأعمال السيئة، أصبح إلى تلك الدرجة: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، الإنسان إذا ذاب في شيءٍ معين، وكان فيه في توجهه إليه، في ممارسته له، إلى درجة الاستغراق فيه، والذوبان فيه، يُطلَق عليه الوصف بنفسه: إمَّا بالخير، أو الشر، مثلاً:
إذا أردنا أن نثني على إنسان لسخائه وكرمه، وما هو فيه من الخير، نقول عنه مثلاً: [هو الكرم بذاته]، بمعنى: أنَّه بلغ درجة عالية في عطائه، في سخائه، في جوده…إلخ. حيث أنه يطلق عليه الوصف بنفسه.
في حالة الفساد، قد نقول عن شخص لاستغراقه في ممارساته في الفساد إلى درجة سيئة جداً، نقول: [هو الفساد بذاته].
الحالة التي وصل إليها ابن نوح من الانحراف، من الممارسات السيئة، من التأثر بقرناء السوء، الذين أثَّروا عليه، وانحرفوا به عن الأعمال الصالحة، وصلت به إلى ذلك المستوى الذي عبَّر عنه هذا التعبير، قال الله عنه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود: من الآية46]، فالحالة حالة سيئة جداً، تلك الحالة التي وصل إليها، وهذا درس، درس مهم جداً، ولم ينتفع من أنَّ والده هو نبي الله، تلك فرصة كانت تهيئ له أن يحظى بالتربية الإيمانية، بالتربية على الخير، والعمل الصالح.
عندما يكون الجو نفسه داخل الأسرة مما يساعد الإنسان على الاستقامة، على الصلاح، على التقوى، على الإيمان، هي نعمةٌ كبيرة، لكن إذا تنكَّر لها الإنسان، وخضع لمؤثرات أخرى؛ يمكن أن يخسر كل الفرص، وألَّا يستفيد من كل العوامل مهما كانت عوامل مهمة، ومفيدة، ومساعدة على الاستقامة والعمل الصالح، ألَّا يستفيد منها، وهذه مسألةٌ مهمة، ودرسٌ لكل الناس، وخاصةً داخل الأُسر المؤمنة، والأُسر الصالحة، على الإنسان أن يدرك النعمة التي هو فيها، أنَّه في جو وفي وضع أُسَري يساعده على الصلاح، على التربية الإيمانية، على زكاء النفس، على الاستقامة؛ فليستفد من تلك الفرصة، وليدرك أنها تمثل فعلاً عاملاً مساعداً، مساعداً إلى حدٍ كبير، فهناك فرق: بين أن يكون الإنسان في بيئة، أو وضع، أو أسرة سيئة، تحاربه على صلاحه، على استقامته حتى في داخل منزله؛ وبين أن يكون الإنسان في وضع يساعده على الصلاح والاستقامة، ويحظى حتى بالتشجيع على ذلك.
{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: من الآية46]، وهذا هو شبه عتابٍ له، لماذا هذا التساؤل؟ يكفي أن تعلم بما أنَّ الله قد أهلكه أنه غير صالح، وأنه لم يكن هناك أمل لصلاحه.
وهو اعتذر إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على الفور: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هود: الآية47]، هو في سؤاله وتساؤله؛ لأنه لم يكن يعرف مستوى ما كان عليه ابنه من الفساد، والضلال، والخروج عن دائرة التقوى، والإيمان، والعمل الصالح، فعدم معرفته تلك هي السبب في تساؤله ذلك، ولكنه اعتذر إلى الله، واستعاذ بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ليعصمه من أن يسأل، أو يتساءل عن شيءٍ لا علم له به، ويكفي التسليم فيه لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن الله يعلم ما لا نعلم.
{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}[هود: 47 – 48]، أمره الله بالهبوط إلى الأرض بسلام؛ لأن الطوفان كان قد دمَّر كل شيء، فكان الهبوط:
أولاً: استقرار السفينة بسلام.
ثانياً: الخروج منها والنزول والعودة إلى الأرض بسلام، العودة إلى استئناف الحياة من جديد في الأرض أيضاً بسلام؛ لأن المتوقع- مثلاً- بعد دمار كل شيء: أن تكون هناك أوبئة، أن تكون هناك مضار، أن يكون الوضع في الأرض غير مهيأ بعد الطوفان مباشرة، لكن الله هيأ لهم استئنافهم لحياتهم بسلام من كل الآثار والنتائج التي أتت مع الطوفان نفسه؛ فسلَّمهم الله منها.
{وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}[هود: من الآية48]، بركات في الدين والدنيا لاستئناف الحياة من جديد، فانتهى تاريخ ومرحلة من تاريخ البشرية، وبدأ تاريخٌ جديد، بمجموعة مؤمنة، وبجيلٍ مؤمن، يبدأ يؤسس للحياة من جديد.
{وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[هود: من الآية48]، فسيتفرَّع من تلك الفئة المؤمنة أمم، من أولئك العدد القليل سيتفرَّع منهم أمم، البعض منهم ربما انقرض نسلهم فيما بعد، ولو لبعد أجيال، لكن الحالة بالنسبة لبعضهم في امتداد النسل البشري على الأرض، واستمرار الوجود الإنساني، استمر معه الخير والصلاح في نطاق معين، في أجيال، في فئات، وظهرت من جديد فيما بعد حالة الانحراف، وتكاثرت، وتزايدت، حتى وصلت من جديد إلى مستوى الشرك بالله، والجحود لرسالته، والكفر به وبأنبيائه، وكان لها آثارها ونتائجها على المجتمع البشري على مدى أمم، يُمَتِّعها الله في هذه الحياة، ويهيئ لها أن تعيش في نعمه بتمكينٍ في هذه الأرض، لكنها لا تشكر النعمة، تتنكَّر لنعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتعصي الله، وتنحرف عن هديه، وعن تعليماته القيِّمة، التي بها صلاح الحياة، واستقامة حياة الإنسان، وبها نجاته في الآخرة، فيأتي بعد ذلك، بعد: {سَنُمَتِّعُهُمْ}، عندما لم يشكروا نعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، العذاب {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وهذا ما حصل لكثيرٍ من الأمم والأقوام، الذين انحرفوا فيما بعد، وسلكوا مسلك قوم نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”.
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: الحكم على الدين من خلال تصرفات المنتسبين إليه ظلم بيِّن
ألقى الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، محاضرة بعنوان "التطرف وأثره على المجتمع"، بجامعة عين شمس، ضمن ندوة تثقيفية أقامتها الجامعة بحضور نخبة من القيادات الأكاديمية والطلابية.
وصرَّح “عياد”، بأن الحديث عن التطرف ليس من باب الرفاهية، بل هو من الأمور التي ينبغي أن تسير عليها المؤسسات، خاصة في ظل مواجهة المؤسسات الدينية باتهامات باطلة تربطها بالإرهاب.
وأضاف مفتي الجمهورية، أن التطرف ليس مقتصرًا على الدين فقط، بل هو مجاوزة الحد في الفكر، سواء كان ذلك بالتشدد أو بالتحرر المبالغ فيه، حيث يدعو البعض إلى تمييع الدين واجتزاء النصوص، موضحا أن الغلو في التمسك بأمور خارجة عن المألوف يُعَدُّ من أشكال التطرف التي يجب التحذير منها.
وأكد المفتي، أنه عندما نتحدَّث عن التطرف يجب التفرقة بين الدين نفسه وبين أتباعه، فالحكم على الدين من خلال تصرفات المنتسبين إليه ظلم بيِّن، موضحا أن الدين جاء لتحقيق مجموعة من المقاصد، وإذا تمَّ الاعتداء على هذه المقاصد يكون ذلك تطرفًا فكريًّا واضحًا. فالمقاصد الكلية للدين إذا غابت، أدى ذلك إلى فساد الدنيا والدين معًا.
وأشار إلى أن هناك بعضَ أصحاب الأجندات المختلفة الذين يسعون إلى تشويه صورة الدين وتقليل قيمة العقل والاستهانة بالدماء، مؤكدًا أنَّ الدين في جوهره رسالة إصلاحية تحقِّق الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وتضع إطارًا للعلاقة بين الإنسان وربه.
ونوه بأن هذا الدين العظيم لم يترك حتى العلاقات الإنسانية دون ضوابط دقيقة تنظِّمه، بل وضع أطرًا للتعامل مع الجميع.
وشدد المفتي على أنه من الخطأ الكبير إلصاق التشدد بالدين، موضحًا أن أسباب التطرف بعيدة كل البُعد عن جوهر الدين.
ولفت إلى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بُعث بالحنيفية السَّمحة التي تراعي حقوق الله والكون والبلاد والعباد دون إفراط أو تفريط.
وأعرب عن شُكره للمؤسسات التربوية والجامعات التي تهتمُّ بمثل هذه القضايا المهمة، لأن هذه المؤسسات تعدُّ من أهم الأماكن التي ينبغي أن تُعنى بتشكيل وعي الأجيال لمواجهة التطرف.
وأوضح المفتي أن التطرف ليس ظاهرة حديثة، بل هو نتاج تراكمات اجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية واقتصادية. قد تكون هناك أسباب دينية، لكنها ليست الأكثر تأثيرًا في نشأة التطرف وانتشاره. لذا، فإن مواجهة هذه الظاهرة تتطلَّب تكاتف جميع المؤسسات للعمل وَفْقَ رؤية واضحة وشاملة.
وألمح إلى أن الدين هو طوق النجاة للأمم، حيث نجد أنَّ الحضارات التي ازدهرت ماديًّا شهدت في الوقت نفسه انحدارًا أخلاقيًّا وسلوكيًّا، وهو ما يعكس أهمية الحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية.
كما أشار المفتي إلى أن الله أيَّد الخلق بوحيين: الوحي المنظور وهو العالم الخارجي الذي نراه ونتأمله، والوحي المسطور وهو الكتاب السماوي.
وبيَّن فضيلته أن هناك جوانب يتشابك فيها العلم مع الدين وجوانب أخرى تستقل كل منهما عن الآخر، وهذا يعكس التكامل بينهما لا التعارض.
وأكَّد أن الإنسان يجب أن يُترك للبحث دون قيود، ولكن في إطار أخلاقيات البحث العلمي حتى لا نصل إلى مرحلة "نشتري الموت بأيدينا".
وشدَّد المفتي على أن الإنسان قد غزا الفضاء، واستولى على البر والبحر، وحقَّق إنجازاتٍ عظيمةً ورفاهية غير مسبوقة، لكنه يبقى عاجزًا أمام سرِّ وجوده في الحياة الدنيا.
وأشار إلى أنَّ العلم رغم تقدماته لا يمكنه تفسير كل شيء، وأن هذا يؤكد محدودية العلم، مضيفا أن {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] هي حقيقة علمية تؤكِّد أن الإنسان لا يستطيع إدراك كل ما يتعلق بالوجود.
وتابع إنه عندما يُقحم العقل في أمور ليست من مجاله، فإن ذلك يؤدِّي إلى الغلوِّ والتطرُّف. لذلك، يجب أن تسلط المناهج التربوية الضوءَ على محاسن الدين، الذي بدأ مع خلق الإنسان تحت شرائع مختلفة تدعو للتعايش والتسامح والتراحم.
وأوضح أن الرسالات السماوية جاءت بالوصايا العشر التي يجب أن تكون جزءًا أصيلًا في المناهج التعليمية.
وأضاف فضيلةُ المفتي أنه على الرغم من وصولنا إلى القرن الواحد والعشرين، ما زلنا نواجه مشكلة الثأر، رغم أن أطراف النزاع قد يكونون من ذوي العلم والوجاهة.
وقال إن العقلية التي تقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ما زالت سائدة في بعض البيئات التي تُحكم بالعادات أو الفهم الخاطئ لثقافة معينة، مما قد يُنتج تطرفًا فكريًّا، مما يؤكد على دَور المورثات الخاطئة أيضًا في تفشي ظواهر التطرف لدى المجتمع.
كما أشار إلى أنَّ الصحبة لها تأثير كبير في تكوين الفكر، حيث إنَّ الكثير من العائدين من الجماعات الإرهابية أشاروا إلى أن الصاحب والصديق كانا البوابة الأولى للتطرف.
وشدد المفتي على ضرورة تحري الصاحب الصالح الذي يأخذ بيد صاحبه إلى الحق والثبات عليه.
وفي حديثه عن العوامل التي تؤدي إلى التطرف، ذكر المفتي أن الفقر والجهل والمرض هي ثلاثة أضلاع خطيرة تهدد المجتمع، حيث إن الكثير ممن انضموا إلى الجماعات المتطرفة كانوا ضحية للفقر المدقع والجهل.
وأضاف أن الإعلام قد يكون أداة بناء أو هدم، حيث يمكن أن يُسهم في نشر القيم السلبية من خلال الترويج لمسلسلات وأفلام تدعو للمثلية والانحلال الأخلاقي.
كما أكد على ضرورة مواجهة الفكر بالفكر والآلة بالآلة، واستخدام المحتوى الإعلامي والتربوي لنشر القيم الصحيحة.
وأضاف أنَّ المؤسسات التعليمية والإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي يجب أن تتكاتف للتصدي للألعاب الإلكترونية التي تدعو للعنف والقتل وللحدِّ من تصدير الفكر المتطرف. وأشار إلى أن بعض القضايا قد تكون بسيطة، لكن بعض وسائل الإعلام قد تعمَّد إلى تضخيمها لتحقيق "الترند"، دون مراعاة للمآلات والآثار والنتائج؛ مما يستوجب من الإعلاميين تحرِّي المسؤولية في نشر الأخبار.
وتوجَّه المفتي للإعلاميين قائلًا: أنتم على ثغر خطير من ثغور الدين والوطن، فاتقوا الله فيما وضعكم فيه.
وفي ختام كلمته، أشار المفتي إلى أن الغلو والتشدد يؤديان إلى تضييق الحياة على الناس من خلال التكفير والتفسيق، مما يعطي مبررًا للتخريب بدلًا من الإعمار.
وأكد أن العلم مفتاح التطور، ويجب الانفتاح على مختلف مجالاته، بما فيها علم الفلك، للاستفادة من أدواته لتحقيق التقدم والرقي.
وفي ختام الندوة تقدَّم رئيس الجامعة بالشكر له مهديًا إليه درع الجامعة في لفتة تقدير وامتنان لما يبذله فضيلة المفتي من جهود لنشر الوعي والفكر الوسطي.