انتهت اللعبة.. هيرست يتحدث عن انهيار حجج حلفاء إسرائيل لتبرير مذابح غزة
تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT
قال الصحفي البريطاني، ديفيد هيرست، إن الحجج التي ساقها حلفاء "إسرائيل" لتبرير مذابحها في غزة تحت ذريعة "الدفاع عن النفس" انهارت أخيرا، بعد ستة أشهر من الحرب التي حصدت أرواح أكثر من ثلاثة وثلاثين ألفا، وتشريد سكان القطاع.
وتحت عنوان "أيها المدافعون عن حرب إسرائيل على غزة، انتهت اللعبة"، كتب رئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي"، مقالا قال فيه، إن الحلفاء المتحمسون، الذين يسمون أنفسهم أصدقاء "إسرائيل"، أدركوا أنهم أيضاً أصدقاء من ارتكبوا جريمة قتل عمال الإغاثة الغربيين، وأصدقاء الإبادة الجماعية، وأصدقاء الفاشية.
وأضاف أنه "بعد مرور ستة شهور، بدأ ينهار بأسره ذلك الكيان الذي سمح للقوات الإسرائيلية بقتل ما يزيد عن 33 ألف فلسطيني، وجرح ما يزيد عن 75 ألفاً آخرين، وتشريد السكان الذين يزيد تعدادهم عن 2.3 مليون نسمة، وتجويعهم، وهدم شمال غزة، وتدمير الخدمات الصحية".
تاليا نص مقال ديفيد هيرست:
بعد مرور ستة شهور، بدأ ينهار بأسره ذلك الكيان الذي سمح للقوات الإسرائيلية بقتل ما يزيد عن 33 ألف فلسطيني، وجرح ما يزيد عن 75 ألفاً آخرين، وتشريد السكان الذين يزيد تعدادهم عن 2.3 مليون نسمة، وتجويعهم، وهدم شمال غزة، وتدمير الخدمات الصحية، ها هم الزعماء السياسيون الذين برروا هذه المذابح باعتبارها ممارسة من قبل إسرائيل لحقها في الدفاع عن النفس، والصحفيون الذين روجوا لحكايات الرعب الوهمية عن الرضع الذين قطعت رؤوسهم أو النساء الذين تعرضن للاغتصاب الجماعي يوم السابع من أكتوبر، والمحررون الذين ظلوا يومياً يتجاهلون التقارير التي تتحدث عن تعرض قوافل الإغاثة للاستهداف من قبل القوات الإسرائيلية، ها هم جميعاً يهرعون بحثاً عن ملاذ.
ها هي تنهار في أيديهم جميع الحجج التي استخدموها للدفاع عن هذا الذبح المستمر – الزعم بأن هذه حرب عادلة، وبأن إسرائيل ينبغي أن يُسمح لها بإنجاز المهمة، وبأن الفعل المتخذ متناسب، وبأن الإجراء القانوني في محكمة العدل الدولية يعيق محادثات السلام ولذلك يمكن تجاهله، وبأن بريطانيا والولايات المتحدة يمكنهما في نفس الوقت وعظ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والاستمرار في تزويده بالسلاح.
لقد انفجر السد، ولم يعد بإمكان وزير الخارجية اللورد كاميرون ممارسة لعبة القط والفأر مع رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان أليشا كيرنز، التي كشفت قبل بضعة أيام عن أن محامي الحكومة علموا بأن إسرائيل انتهكت القانون الإنساني الدولي.
ما يزيد عن 600 من الشخصيات البارزة، محامين وأكاديميين وقضاة سابقين، بما في ذلك الرئيسة السابقة للمحكمة العليا الليدي هيل واثنان من القضاة السابقين في المحكمة، وقعوا على خطاب يحذر الحكومة البريطانية من أنها تنتهك القانون الدولي من خلال استمرارها في تسليح إسرائيل.
أما الوزير السابق في الخارجية البريطانية السير ألان دانكان فتساءل كيف يمكن الاستمرار في اعتبار إسرائيل حليفاً لبريطانيا، وطالب بمحاسبة كبار أنصارها اللورد بولاك واللورد بيكلز وطوم توغندات على دعمهم لإسرائيل.
وكان قد قال في مقابلة مع إذاعة إل بي سي: "أظن أن أي شيء يدعم ما يوشك أن يتحول إلى طامة كبرى في غزة أمر غير مقبول أخلاقياً، وما يجب علينا أن نقبل به هو أنه ليس فقط أن ما يقومون به الآن خطأ – بل إن ما لم تزل تفعله إسرائيل منذ سنين خطأ لأن الجيش الإسرائيلي لا يلتزم بالقانون الدولي".
وأضاف: "فالجيش الإسرائيلي يساند ويدعم المستوطنين غير الشرعيين في الضفة الغربية الذين يسرقون الأراضي الفلسطينية. إن تلك السرقة للأراضي، عمليات الضم لأراضي فلسطين، هي أصل المشكلة، وهي ما أدى إلى تصاعد الأعمال الفظيعة التي ترتكبها حماس وإلى المعارك التي نراها الآن".
الاندفاع نحو الحافة
ما من شك في أن المزاج يتبدل. فقد وجد استطلاع للرأي نظمته مؤسسة يوغوف أن 56 بالمائة من الناخبين البريطانيين يفضلون الآن فرض حظر على تصدير الأسلحة وقطع الغيار، وأن 59 بالمائة يقولون إن إسرائيل تنتهك حقوق الإنسان في غزة.
ووجد الاستطلاع أن ثمة دعماً قوياً لفرض حظر على تصدير السلاح بين الناخبين الذين ينوون التصويت لحزب العمال في الانتخابات القادمة. واحد وسبعون بالمائة مقابل تسعة بالمائة ممن ينوون التصويت لحزب العمال يدعمون فرض حظر على تصدير السلاح، بينما سبعون بالمائة مقابل 14 بالمائة من ناخبي حزب الأحرار الديمقراطيين يؤيدون الحظر. أما ناخبو حزب المحافظين فنسبة من يؤيدون الحظر هي 38 بالمائة مقابل 36 بالمائة.
وحينما سئلوا عما إذا كانت إسرائيل تنتهك حقوق الإنسان، أجاب ناخبو حزب المحافظين بنسبة اثنين إلى واحد إن إسرائيل تنتهك حقوق الإنسان بالفعل. لا ريب أن دانكان كان يعبر عن المزاج داخل حزبه.
لقد تم وضع كاميرون على المحك، وعليه أن يختار بين أن يعترف بأن الحكومة بالفعل تنتهك القانون الدولي، ويمكن أن تحاكم على ذلك – بما في ذلك هو شخصياً – أو أن يوقف تجارة السلاح.
لم يكن الخطاب من عمل النشطاء المؤيدين لفلسطين، بل هؤلاء الذين يتحدثون هم نخبة المؤسسة القانونية، شخصيات مثل القضاة السابقين في المحكمة العليا اللورد سامبشون واللورد ويلسون، والقضاة السابقين في محكمة الاستئناف السير ريتشارد إيكنز، والسير أنطوني هوبر، والسير ألان موزيس، والسير ستيفن سيدلي.
كما تتضمن قائمة الموقعين على الخطاب المؤسسين والشركاء في بعض أكبر المكاتب القانونية في بريطانيا، وكذلك عدداً من كبار الأساتذة الجامعيين في جامعة أكسفورد، وكلية لندن للاقتصاد، وكلية الملك في لندن.
ولكن ما الذي تسبب في اندفاع الجميع نحو الحافة هذا الأسبوع؟ ما الذي دفع الصحف الشعبية الداعمة لإسرائيل إلى الانقلاب عليها؟
حصل الكثير يوم الاثنين الأول من إبريل قبل الهجوم على قافلة المطبخ المركزي العالمي، ولكن لم يحرك شيء من ذلك ساكناً.
طلع الفجر مع انسحاب القوات الإسرائيلية المحاصرة لمستشفى الشفاء، والتي تركت المستشفى أطلالاً، وتركت خلفها كومة كبيرة من الجثث. وراح قادة الجيش الإسرائيلي يهنئون أنفسهم على إنجاز عملية شديدة الإتقان.
أعلن رئيس الوزراء السابق وقائد العمليات الخاصة نفتالي بينيت في تغريدة عبر حسابه على منصة إكس (تويتر سابقاً): "إنجاز مذهل في ساحة المعركة. النتائج رائعة: تم إخلاء ستة آلاف مدني من قبل الجيش الإسرائيلي لضمان سلامتهم، وتم قتل 200 إرهابي من عناصر حماس، وألقي القبض على 500 إرهابي من عناصر حماس. لم يقتل مدني واحد، ولا واحد".
لم تكن تلك التجربة التي عاشتها الدكتورة أمينة الصفدي، التي منحت بضع ساعات لنقل المرضى من قسمها، وقد مات منهم 16 مريضاً كانوا في العناية المركزة.
تقول الدكتورة أمينة: "في اليوم الثاني أجبرونا على نقل جميع المرضى من المكان الذي كنا فيه، قسم جراحة العظام في المبنى الرابع، إلى منطقة الاستقبال، وحددوا لنا زمناً. كثيرون منهم توفوا، فقد كانوا في العناية المركزة ولم نتمكن من عمل شيء لهم".
وتضيف: "قبل ثلاثة أيام أعطونا هذه الأساور، وقالوا إنها من أجل القناصة، وأن كل من يغادر المبنى بدونها فسوف يُستهدف".
ولا كانت تلك التجربة التي عاشها رفيق، الشاب الذي غدا بسبب الهزال عموداً فقرياً، وبالكاد يتمكن من رفع رأسه.
يقول رفيق: "لقد عذبونا هناك، حيث لا طعام ولا مياه. بقينا بدون طعام أو ماء لخمسة أيام. كدنا نموت. عشنا في عذاب. لم توجد ضمادات لجروحنا. لم يكن هناك طعام. ما عاد بإمكاني تحمل ذلك."
المرضى والأطباء وحتى الأموات، الذين استخرجت جثثهم بالجرافات، كانوا جميعاً نفس الشيء بالنسبة لمن حاصروهم، والذين تركوا من خلفهم أرضاً خراباً.
اثنان من أبرز أطباء غزة المرموقين، أم وابنها، كانا من بين الأموات. أحمد المقادمة، جراح تجميل فلسطيني في الثلاثينيات من عمره، وأمه، يسرا المقادمة، طبيبة عامة، وجدا كلاهما بجوار جثة ابن عم لهما اسمه باسم المقادمة عند الدوار الذي يقع بجانب مركز تسوق كارفور في مدينة غزة، على مسافة قصيرة مشياً على الأقدام من مستشفى الشفاء.
هل أطلق القناصة النار عليهما؟ إنها أم هالها هول ما وقع من دمار. كل ما كانت تريده هو العثور على جثة ابنها.
راحت تخاطب كل من حولها: "أرجوكم ابحثوا عنه. أين هو يا ربي؟ أرجوكم ساعدوني في العثور عليه. أريد أن أجمع عظامه. لا أريد أن أتركه ههنا. أرجوكم اعثروا عليه، أتوسل إليكم".
كان مستشفى الشفاء ذات يوم أكبر مستشفى في الأراضي المحتلة، يفي بثلاثين بالمائة من احتياجات غزة. لم يعد موجوداً الآن. إذا كانت الخطة منذ البداية هي تحويل غزة إلى مكان غير صالح للعيش، فإن تدمير مستشفى الشفاء جزء لا يستغنى عنه من ذلك المشروع.
كانت تلك أخبار الصباح الباكر يوم الاثنين. ولكن ما لبث أن توالى المزيد.
خط أحمر آخر يتم تجاوزه
كما لو أن المقصود هو مسح سجل هذه المشاهد المرعبة، تعهد نتنياهو بإغلاق المكتب الإقليمي لقناة الجزيرة.
كان ذلك بمثابة مسمار آخر في نعش السلام الذي يمكن أن يتحقق عبر المفاوضات. لم يزل المسؤولون الإسرائيليون حتى الآن يمتنعون عن اتخاذ إجراء ضد جوهرة التاج القطري، لإدراكهم لدور قطر في تمويل المشاريع الإنشائية في غزة ودورها في عملية المفاوضات التي تتم مع الجناح السياسي لحركة حماس، والذي تستضيف قيادته في أراضيها.
لم يكن من الجزيرة، التي تعرض العديد من العاملين فيها للقتل عمداً على أيدي الجيش الإسرائيلي في غزة، إلا أن رفضت الاتهام الموجه إليها بأنها تشكل تهديداً على الأمن القومي لإسرائيل، معتبرة أن ذلك "كذب خطير وسخيف".
ولكن مجرد الحديث عن حقيقة ما يجري داخل غزة يؤذي إسرائيل.
اتهم وزير الاتصالات شلومو كرهي الجزيرة بتشجيع الأعمال العدائية ضد إسرائيل، قائلاً: "يستحيل التساهل مع منصة إعلامية، حاصلة على ترخيص من مكتب الإعلام الحكومي ولديها مكاتب داخل إسرائيل، تعمل من الداخل ضدنا، وبالتأكيد في زمن الحرب".
هذه هي الطريقة التي تتصرف بها دولة، إذا جد الجد، يقال لنا عنها باستمرار أنها تشترك معنا في قيمنا. حرية التعبير؟ حدث بذلك شيرين أبو عاقله، وسامر أبو دقة، وحمزة الدحدوح، وما لا يحصى عدده من الصحفيين الآخرين الذين دفعوا حياتهم ثمناً لعملهم الصحفي.
ثم جاءت الضربة الجوية الإسرائيلية التي دمرت مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتلت محمد رضا زاهدي، ثاني أعلى قائد في الحرس الثوري الإيراني يموت منذ أن أمر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب باغتيال قاسم سليماني.
هذه المرة سارعت الولايات المتحدة بإخبار إيران بأنها لم يكن لها أي دور في الضربة الإسرائيلية، ولكن الهجوم كان بمثابة خط أحمر آخر يتم تجاوزه من خلال ضرب سفارة أو قنصلية.
اتباعاً لنفس النهج الذي زعم بأن مستشفى الشفاء لم يكن مستشفى وإنما مركز قيادة لحركة حماس، قال المتحدث العسكري الإسرائيلي دانيال هجاري في تصريح لشبكة سي إن إن: "أكرر، هذه ليست قنصلية وهذه ليست سفارة. بل هذا مبنى عسكري لقوات القدس يتخفى داخل مبنى مدني في دمشق".
ولكن إسرائيل تعلم جيداً ما الذي فعلته، وتعرف ما هو الخط الذي تجاوزته. إنها تسعى لاستفزاز إيران حتى تخوض الحرب. بحسب وزارة الخارجية الأمريكية، يعتبر الهجوم على سفارة هجوماً على البلد الذي تمثله تلك السفارة.
ولكن إسرائيل تعلم كذلك أنها لن تستخدم نفس المنطق حينما يتعرض معبد أو مركز يهودي لهجوم من قبل أحد وكلاء إيران في عملية انتقامية. سوف تتبرأ من المسؤولية عن تعريض حياة اليهود حول العالم للخطر، وإن كان ذلك بكل تأكيد هو ما تفعله.
"لا يمكن الدفاع عنه ... فظيع جداً"
ومن بعد، وفقط من بعد، جاءت الضربة الثلاثية التي نفذتها طائرة مسيرة، ونجم عنها مقتل سبعة من عمال الإغاثة التابعين للمطبخ المركزي العالمي، ثلاثة منهم بريطانيون.
لم يكن من الصفحات الأولى في بريطانيا وكندا وبولندا وأستراليا (البلدان التي ينتمي إليها عمال الإغاثة الذين قضوا نحبهم) إلا أن صبت جام غضبها رداً على ما جرى. بل وحتى صحيفة ذي صن، شديدة الحماس في تأييدها لإسرائيل، والمملوكة لمجموعة الأخبار البريطانية التابعة لعائلة ميردوخ، ردت بهجوم صاروخي.
كتبت الصحيفة تقول: "بطل خدمة القوارب الخاصة جون تشابمان وجندي البحرية السابق جيمز هندرسون كانا ينتقلان في سيارة معلمة بوضوح، تشغلها مؤسسة المطبخ المركزي العالمي الخيرية، حينما تعرض الموكب للقصف بثلاثة صواريخ أطلقتها مسيرة تابعة للجيش الإسرائيلي".
قالت وكالة التحقق سند، التابعة للجزيرة، إن عملية القتل كانت متعمدة، حيث تم استهداف ثلاث عربات تابعة للمطبخ المركزي العالمي بعد أن أوصلت المجموعة 100 طن من المواد الغذائية إلى مخزن في دير البلح.
وجاء في تقرير الوكالة: "استهدفت العربة الثانية تقريباً على بعد 800 متر من المكان الذي استهدفت فيه العربة الأولى. واستهدفت العربية الثالثة على بعد 1.6 كم من العربة الثانية، حسبما يشير موقعها بعد تعرضها للقصف".
وقال المطبخ المركزي العالمي إن قافلتهم تعرضت للقصف "على الرغم من أن إحداثيات تحركه تم تنسيقها" مع الجيش الإسرائيلي.
فكيف إذن يختلف هذا الهجوم المتكرر على القافلة عن جميع الهجمات الأخرى التي تعرضت لها قوافل الأونروا ونجم عنها موت المئات، والتي أفضت إلى فرض الحصار على مستشفى الشفاء؟
الفرق الوحيد هو أن عمال الإغاثة السبعة الذين قتلوا كانوا بريطانيين وبولنديين وأستراليين وكنديين، وأن مؤسس المطبخ كان من مشاهير الطهاة.
قال نيك فيراري، المذيع في محطة إل بي سي: "هذا أمر لا يمكن الدفاع عنه ... كل واحدة من الحقائق مريعة ... نصيحة من صديق إلى آخر، يجب أن يتوقف هذا الأمر".
ولكن من المؤكد أن كل الهجمات الأخرى على قوافل الإغاثة لا يمكن الدفاع عنها. الشيء الوحيد الذي كان مختلفاً هذه المرة هو جنسيات الأشخاص الذين كانوا داخل السيارات – جميعهم من بلدان تدعم استمرار الحرب.
كان بإمكان فيراري أن يخلص إلى أن سلوك إسرائيل باستهداف قوافل الإغاثة لم يكن مبرراً من اليوم الأول للحرب، وكان بإمكانه أن يقول ذلك في كل يوم من أيام بثه المباشر على الهواء. فما الذي منعه من ذلك؟ لأنه يصف نفسه بأنه صديق لإسرائيل. لربما يسأل نفسه اليوم: صديق ماذا؟
صديق الأبارتيد؟ صديق الإبادة الجماعية؟ صديق التجويع الجماعي؟ صديق المستوطنين الذين يضرمون النيران بالقرى الفلسطينية؟ صديق التطرف الديني؟ صديق الفاشية؟
غضب بايدن الزائف
ولكن ما من رد فعل قاصر مثل الغضب الزائف الذي عبر عنه رئيس الولايات المتحدة الحالي الهرم الذي يسعى لضمان إعادة انتخابه.
لقد قال جو بايدن إن حملة القصف على رفح، حيث يحاصر ما يقرب من 1.5 مليون لاجئ، تعتبر "تجاوزاً لخط أحمر". وقال إن الهجوم على قافلة المطبخ المركزي العالمي يثبت أن إسرائيل "لم تقم بما يكفي لحماية" قوافل الإغاثة، وكأنها فعلت أكثر من مجرد احتجاز المساعدات عند الحدود وقصف مراكز التوزيع بشكل مستمر.
خفض الصوت وتجاهل التصريحات المعبرة عن القلق والواردة من البيت الأبيض ومن وزارة الخارجية، وركز فقط على أفعال بايدن.
إن لدى بايدن صلاحية وقف كل عمليات التسليح، بما في ذلك القنابل التي تزن الواحدة منها ألفي رطل، أو صلاحية وضع قيود على استخدامها. ولكنه لم يفعل أياً من ذلك.
لقد أثبت عدم تردده في فعل ذلك في حالة أوكرانيا، التي لا يُسمح لها بإطلاق الأسلحة المصنعة في الولايات المتحدة على روسيا. لم يفرض بايدن مثل هذه الشروط على إسرائيل.
بل العكس من ذلك هو الذي يجري. فبينما يخمن علانية حول استبدال نتنياهو تراه ينظر في أمر ببيع إسرائيل خمسين مقاتلة جديدة من طراز إف 15، وثلاثين صاروخ متطور جو – جو متوسط المدى من طراز إيم 120، بالإضافة إلى مجموعات ذخيرة هجوم مباشر، وهي معدات بإمكانها تبديل "القنابل الغبية" إلى أسلحة موجهة بدقة، كما ذكرت ذلك بادئ ذي بدء صحيفة بوليتيكو.
المقاتلات من طراز إف 15 ليست من أجل قصف غزة، وإنما من أجل المبارزة الجوية مع إيران ومع مسيراتها الكثيرة.
ماذا فعل بايدن غير ذلك هذا الأسبوع؟ بعث مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان لكي يضغط على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كي يوقع على اتفاقيات أبراهام.
مزاج من التمرد المعدي
إذا كان بايدن يظن بجد، في خضم هذا الهرج والمرج الذي أوجدته حرب إسرائيل المستمرة منذ ستة شهور، أن التوقيع على قطعة من الورق سوف يكون كافٍ لكتم التمرد الذي يحتدم في القلوب العربية من عمان إلى المغرب، فإنه في حالة من الاضطرابات الوهمية تفوق ما كان يظنه محترفو مراقبة الرئيس داخل مبنى الكونغرس.
تجد المملكة الأردنية نفسها في حالة من الحيرة، لا تملك حكومتها القدرة على اتخاذ قرار إزاء ما الذي ينبغي أن تفعله: الاستمرار في قمع التظاهرات التي تهز عمان منذ أكثر من أسبوع من خلال اعتقال المنظمين والمتحدثين فيها، أو الإشادة بالاحتجاجات على أساس أنها تعبير عن المزاج الوطني العام.
حاول وزير الإعلام الأردني السابق سميح المعايطة في حديث مع قناة الحدث السعودية توجيه إصبع الاتهام إلى خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، والذي كان قد نجا من محاولة اغتيال على يد الموساد في الأردن.
ولكن، وكما يعرف المعايطة جيداً، غدت الاحتجاجات أكبر بكثير من مجرد تعبير عن التضامن مع غزة، إنها استعراض للقوة من قبل العشائر، حيث يتجاوز أهل الضفة الشرقية الفلسطينيين في تحديهم لسلطة الملك.
هذا المزاج من التمرد قابل للعدوى، تماماً كما كان عليه الحال في بداية الربيع العربي. تجد احتجاجات الأردن لها صدى في المسيرات الحاشدة التي تنطلق في المغرب، وكذلك في اعتصامات النقابات في القاهرة. ولذا ينتاب القلق المستبدين الذين قمعوا الربيع العربي، فراحوا يقدم بعضهم الدعم للبعض الآخر.
بات واضحاً ما الذي يحدث، وما الذي سوف يحدث، فيما لو سُمح لإسرائيل بالاستمرار في هذه الحرب لستة شهور أخرى.
ليس من السهل الاعتراف بأن حلم وجود وطن لليهود في الشرق الأوسط بدأ يتحول إلى كابوس. ولكن ليعلم كل من يدعمون هذا المشروع، أن ذلك بالفعل هو الذي يحدث.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية غزة فلسطيني المذابح فلسطين غزة مذابح حلفاء اسرائيل صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المطبخ المرکزی العالمی الجیش الإسرائیلی قوافل الإغاثة مستشفى الشفاء عمال الإغاثة ما یزید عن الدفاع عن ما الذی من ذلک لم یکن فی غزة من قبل
إقرأ أيضاً:
كاتب يهودي: لا ترتكبوا مذابح بحق الفلسطينيين باسمنا
قال الكاتب اليهودي، بيتر بينارت، إنه في الوقت الذي نستعد فيه للاحتلال بعيد البوريم "المساخر"، عبر ارتداء اليهود أزياء سخيفة، وأكل المعجنات المثلثة، والاستماع لحكاية قديمة عن ارتكاب إبادة جماعية، نرتكب إبادة جماعية باسمنا في قطاع غزة.
واستعرض الكاتب في مقال بصحيفة الغارديان، ترجمته "عربي21" قصة توراتية، عن محاولة لإبادة جماعية كان سيرتكبها ملك بحق اليهود، وكيف قامت فتاة عبر حيلة بإنقاذهم، مشيرا إلى أن "الدولة اليهودية تمارس سلطان الموت والحياة على ملايين الفلسطينيين".
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
في وقت لاحق من هذا الشهر، في عطلة البوريم، سوف يرتدي اليهود أزياء سخيفة، ويأكلون المعجنات المثلثة، ويستمعون إلى حكاية قديمة حول محاولة ارتكاب إبادة جماعية. ما نلاحظه وما لا نلاحظه بشأن تلك الحكاية يقول الكثير عما نلاحظه وما لا نلاحظه في إسرائيل وفلسطين.
مصدر الحكاية هو سفر أستير (في العهد القديم أو التوراة). تبدأ الحكاية بملك فارسي إباحي متهتك ينظم حفل عشاء، يشرب فيه حتى الثمل، ثم يأمر ملكته باستعراض جمالها أمام الحضور، وعندما ترفض ذلك يتخذ قراراً بإقصائها عن العرش. ثم يختار بديلاً لها أستير، وهي فتاة شابة جميلة، ولكنها، وهو ما لم يكن يعرفه، يهودية. ثم يتخذ قراراً شخصياً مشؤوماً باختيار هامان، شديد الكراهية لليهود، ليكون ذراعه الأيمن. وبذلك يصبح المشهد معداً لصدام ملحمي.
يقنع هامان الملك بالتوقيع على مرسوم يقضي بإبادة اليهود. يسمع بالخبر عم أستير، واسمه موردخاي، فيرسل لها قائلاً إن عليها أن تنقذ شعبها. على الرغم من أن الاحتجاج يعرض حياتها للخطر، إلا أن أستير تناشد الملك، ومن خلال سلسلة من المناورات الجريئة، تحرضه فينقلب ضد هامان، فيشنقه، ليحل محله موردخاي، وبذلك ينتصر الخير على الشر.
عندما يروي اليهود الحكاية في عيد بوريم اليوم، كثيرون منا يتوقفون عند ذاك. ولكن هذا ليس صواباً على الإطلاق. إذ أن سفر أستير لا ينتهي بموت هامان، بل يستمر إلى ما بعد ذلك، لأنه بالرغم من أن هامان لم يعد موجوداً، إلا أن مرسومه بقتل اليهود يبقى ساري المفعول، ولا يتمكن الملك من التراجع عنه. إلا أن ما يستطيع فعله هو تمكين موردخاي وأبناء عشيرته من تولي زمام الأمور وإطلاق أيديهم. وهو ما يفعلونه. يعلن سفر أستير أن "اليهود انهالوا على أعدائهم بالسيوف ذبحاً وتدميراً، وصبوا جام غضبهم على أعدائهم." في اليوم الثالث عشر من آذار، يقتل اليهود 75 ألف إنسان، ثم يعلنون الرابع عشر "يوماً للاحتفال والتعبير عن الفرح." يقوم اليهود، ولما تجف دماء خصومهم بعد، بالاحتفال والابتهاج. وذلك هو أصل عيد البوريم.
لا يتعلق عيد البوريم فقط بالخطر الذي يشكله الأغيار علينا، وإنما أيضاً بالخطر الذي نشكله نحن عليهم.
طوال الجزء الأكبر من تاريخنا، عندما لم تكن لدى اليهود القدرة على فرض إرادتهم بحد السيف، كانت خلاصة سفر أستير خيالاً لا يضر، بل وأمراً يمكن تفهمه. فمن يملك لوم قوم على أن يحلموا بعالم مقلوب رأساً على عقب؟ إلا أن النهاية تبدو مختلفة عندما تمارس دولة يهودية سلطان الحياة والموت على ملايين الفلسطينيين الذين لا يملكون حتى جواز سفر. ينبغي أن تقلقنا اليوم تلك الآيات المغموسة بالدماء. عندما نتلوها بصوت مرتفع في المعابد، ينبغي أن نستخدم اللحن الموجوع والحزين الذي ننشد به سفر المراثي، والذي يصف تدمير معابدنا القديمة.
بدلاً من ذلك، يختار معظمنا تجاهل العنف الذي ينتهي إليه سفر أستير، بل ينزع بعض اليهود المعاصرين إلى تبريره باعتباره دفاعاً عن النفس. وهناك في اليمين المتطرف من يحتفي به. إلا أن هؤلاء هم الاستثناء، لأن ما جرت عليه العادة هو أن نشيح عنه بوجوهنا، ونركز على ذلك الذي حاولوا هم فعله بنا. ثمة دعابة بأن كل عيد يهودية ينتهي إلى نفس المآل: "حاولوا قتلنا، ولكننا نجونا، فهيا بنا نأكل." تلك هي الطريقة التي يروي بها كثير من اليهود ليس فقط بوريم، بل وكذلك كثيراً من أعيادنا الأخرى المحببة إلينا. فعيد الفصح يذكرنا بتحريرنا من العبودية في مصر، وحانوكا (عيد الأنوار) يحتفي بالمكابيين الذين حررونا من قهر اليونانيين السوريين.
كل الاحتفالات التي لا نتمكن من إقحامها في مثل هذا النص الروائي فهي في الأغلب ليست مما يستحوذ على ذاكرتنا الجمعية. فلماذا شفوعوت (عيد العنصرة) أقل شهرة في أوساط اليهود المعاصرين من بوريم وحنوكا، رغم أنها أعياد أقل أهمية من الناحية الدينية؟ هناك أسباب متنوعة، إلا أن أحدها هو الآتي: لم يعد شفوعوت يتناسب مع الحكاية التي نرويها عن أنفسنا. ففي الحداثة، صار اليهود أكثر علمانية. وفيما عدا قلة قليلة من الملتزمين دينياً، لم نعد نصف أنفسنا بأننا قوم اختارهم الله حتى يتّبعوا الأحكام التي نُقشت في سيناء. بدلاً من ذلك نصف أنفسنا بأننا شعب كتب عليه التاريخ إلى الأبد مواجهة الإبادة ولكننا في نهاية المطاف ننجو بأعجوبة.
ومع هذه العلمنة جاء التفلت الأخلاقي. عند تفسير المعاناة اليهودية، يكاد التقليد الحاخامي يكون مسكوناً بمطالبة اليهود بالنظر في الذات والاعتبار بما جنيناه من خطايا. يلوم التلمود اليهود على صعود هامان لأنهم شاركوا في حفلة السكر والمجون التي دعا إليها الملك. بل يرى تفسير توراتي لنشيد الإنشاد أن الإسرائيليين الذين استعبدوا في مصر لم يكونوا يستحقون الحرية لأنهم عبدوا الأصنام. بل يخصص التلمود رسالة تلمودية بأسرها لتعليمنا كيف ينبغي على اليهود التعامل مع القحط. والجواب هو: علينا أن نصوم ونتوب من سيئات أعمالنا.
يصعب تحمل هذه العقيدة، ولا أدل على ذلك من أنها حينما تطبق على الفواجع المعاصرة مثل الهولوكوست (المحرقة)، يعتبر معظم اليهود، محقين، أن أي مقترح بأن علينا أن نلوم أنفسنا إنما هو مقترح بغيض للغاية. ولكن في غياب الإيمان بالثواب والعقاب الإلهي، توقفنا إلى حد كبير عن الصراع مع ما تقوله نصوصنا المقدسة حول المسؤولية الأخلاقية اليهودية، وحولناها إلى حكايات حول البراءة اليهودية.
تتغلغل البراءة الزائفة في النقاش اليهودي داخل التيار السائد حول إسرائيل. ولهذا السبب، حينما يُطرح تأسيس إسرائيل للنقاش، يلوم زعماء اليهود الأمريكيين الفلسطينيين ويحملونهم المسؤولية عما حصل لهم من طرد جماعي. فها هي رابطة مناهضة التشويه (إيه دي إل)، أشهر المنظمات الأمريكية في مجال مكافحة معاداة السامية، تفسر ذلك قائلة: "تعود قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1948، عندما قامت خمس جيوش عربية بغزو دولة إسرائيل بعد ساعات فقط من تأسيسها." تتجلى هنا أخلاقية الترتيب الزمني للأحداث: لقد غادر الفلسطينيون ديارهم لأن الدول العربية بدأت الحرب. صحيح أن الفلسطينيين عانوا، ولكن الضحية الحقيقية هنا كانت إسرائيل.
تكمن المشكلة في هذا التوصيف في أن ما بين ثلث إلى نصف الفلسطينيين غادروا فعلياً قبل الرابع عشر من مايو (أيار) من عام 1948، اليوم الذي أعلنت فيه إسرائيل استقلالها وأعلنت الحكومات العربية الحرب عليها. عندما هاجمت الجيوش العربية كانت القوات الصهيونية قد أجلت سكان يافا وحيفا، أكبر مدينتين فلسطينيتين. كما أن أبشع المذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين في الحرب، والتي قتلت فيها المليشيات الصهيونية أكثر من مائة رجل وامرأة وطفل في قرية دير ياسين، وقعت في شهر إبريل (نيسان). عندما يزعم زعماء اليهود أن الغزو العربي هو الذي حمل الفلسطينيين على المغادرة، فإنهم يعكسون السبب والمسبب. وهذا ما خلص إليه المؤرخ وليد الخالدي بعد الرجوع إلى كم هائل من وثائق الحكومات العربية والتقارير الصحفية، حيث يقول: "لم يكن دخول الجيوش العربية هو الذي سبب الهجرة الجماعية، وإنما كانت الهجرة الجماعية هي السبب في دخول الجيوش العربية."
والطريقة الأخرى التي يلجأ إليها زعماء اليهود لتبرئة إسرائيل من التطهير العرقي الجماعي الذي ارتكبته في عام 1948 هو الزعم بأن الفلسطينيين إنما غادروا لأن الزعماء العرب طلبوا منهم ذلك. في كتابه الأضخم بعنوان "مكان بين الأمم" يقول بنيامين نتنياهو أنه في كثير من الحالات "رجا اليهود جيرانهم العرب الفلسطينيين أن يبقوا. وكان هذا على العكس تماماً من التوجيهات التي تلقاها العرب الفلسطينيون من الحكومات العربية، والتي حثتهم على المغادرة من أجل تمهيد الطريق أمام الجيوش الغازية." وهذا الزعم أيضاً أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة. ففي تقرير صدر في عام 1948 خلص جهاز المخابرات الإسرائيلي نفسه إلى أن الهجمات الصهيونية نجمت عن إجلاء ما يقرب من سبعين بالمائة من الفلسطينيين بينما كان نصيب القوات العربية خمسة بالمائة تقريباً.
لا يكتفي الزعماء اليهود بالتهرب من المسؤولية الأخلاقية اليهودية فحسب عندما يستعرضون ماضي إسرائيل، بل ويفعلون ذلك عندما يناقشون حاضر إسرائيل كذلك. لا ريب في أن معظم اليهود كانوا قد أصيبوا بالغثيان والامتعاض الشديد من المذبحة التي ارتكبتها حماس يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ولكن عندما ردت إسرائيل على تلك المذبحة بشن هجوم ضار على قطاع غزة، كان رد الفعل الأولى لكثير من المسؤولين الإسرائيليين والزعماء اليهود في الولايات المتحدة هو التشكيك فيما إذا كان عدد ضخم من الفلسطينيين قد قتلوا. حينها، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) أعلنت إيباك، وهي أكبر جماعات للوبي المناصر لإسرائيل نفوذاً في الولايات المتحدة، بأن "وزارة الصحة في غزة، أو وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، تتحكم بها حماس، ولا يمكن الوثوق بالمعلومات التي تصدر عنها." وأضاف سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة مايكل أورين إن أرقام الوفيات الواردة من غزة "بكل بساطة ليست صحيحة."
والحقيقة هي أن أرقام وزارة الصحة في غزة كانت بالفعل خطأ، ولكن في الاتجاه المعاكس تماماً لما ذهب إليه الزعماء اليهود، لقد كانت أقل بكثير من الواقع. فقد قدّرت دراسة صدرت في يناير (كانون الثاني) 2025 عن خبراء الصحة العامة من جامعة ييل ومن كلية الصحة والطب الاستوائي في لندن بأن إجمالي عدد الوفيات في غزة كان يزيد أربعين بالمائة عن تقديرات وزارة الصحة في غزة. كان متوقعاً أن تكون الحسبة متدنية. وذلك لأن وزارة الصحة خلال الشهور الأولى من الحرب كانت تحسب فقط الجثث التي وصلت إلى المشرحة، مع أن كثيراً من الناس الذين قتلوا في غزة لم تصل جثثهم إلى أي مستشفى. ولكن بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين والزعماء اليهود في أمريكا هذه التفاصيل ليست ذات أهمية، وإنما المهم هو تبرئة إسرائيل من كل ذنب، تجنباً لمواجهة إمكانية أن تكون دولة يهودية قد ارتكبت أي خطأ.
وعندما أقر مسؤولو المؤسسة اليهودية بأن الفلسطينيين كانوا بالفعل يموتون بأعداد كبيرة، لاموا حماس على ذلك. وهذا ما أعلنت عنه إيباك يوم الرابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) حين قالت: "حماس مسؤولة عن التسبب في قتل المدنيين الفلسطينيين." والسبب: أنها تستخدمهم "دروعاً بشرية".
يراكم ادعاء الدروع البشرية المغالطات بعضها فوق بعض. من المؤكد أن حماس تنشط داخل المناطق المدنية، ولكن هذا هو ما تفعله المجموعات الثائرة. لا يوجد قوة فدائية ترتدي الزي العسكري بألوانه البراقة، أو تمشي في الحقول المفتوحة، أو تقاتل جيشاً تقليدياً يفوقها بمراحل قوة وعدة وعدداً. وعن ذلك يقول أستاذ القانون الدولي المولود في إسرائيل نيف غوردون: "من الثورة الأمريكية إلى الثورة الإيطالية إلى النضالات المناهضة للاستعمار في الملايو والهند وسريلانكا وفيتنام وكذلك في الجزائر وأنغولا وفلسطين، يختبئ المسلحون وسط المدنيين. وحماس من هذه الناحية ليست خارجة عن النسق."
في الحقيقة حتى الجيوش التقليدية كثيراً ما تعمل قريباً من المدنيين. فها هو المقر الرئيسي للجيش الإسرائيلي يقع في المركز من مدينة تل أبيب. هناك أربع وعشرون مدرسة ضمن مسافة كيلومتر واحد من مبنى الأركان العامة للجيش، والذي يشتمل على مكاتب كبار قادة الجيش. ونظراً لأن مثل هذا التداخل بات شائعاً، فإن القانون الدولي واضح، إذ ينض على أنه لا يجوز تحويل المدنيين إلى صيد مباح لمجرد وجود المقاتلين في الجوار. وحسبما ينص عليه البروتوكول الإضافي في معاهدة جنيف الرابعة، فإن تواجد المقاتلين في منطقة ما "لا يُعفي أطراف الصراع من مسؤولياتهم القانونية تجاه السكان المدنيين." وأحد الالتزامات القانونية هو التناسب. وبحسب البروتوكول الإضافي فإن "الخسارة في أرواح المدنيين" بسبب هجوم ما لا يجوز "أن يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة."
أصبح هجوم إسرائيل على غزة مفرطاً يوم التاسع من أكتوبر عندما قطعت الطعام والكهرباء عن كل سكان القطاع. في اليوم التالي، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي أنه "أزال جميع القيود" على كيفية خوض إسرائيل للقتال، وأعلن الناطق العسكري الإسرائيلي أن "المعول عليه هو الضرر الحاصل وليس مدى الدقة." كشف تحقيق قامت به مجلة +972 وجميعة "المكالمة المحلية" أنه خلال الأيام الخمسة الأولى فقط من القتال، قصفت إسرائيل أكثر من ألف من "أهداف القوة" – والتي اشتملت على أبراج سكنية وبنوك وجامعات ومكاتب حكومية – والتي ضربتها ليس بسبب قيمتها العسكرية وإنما لمجرد الأثر النفسي المترتب على ذلك. كان المسؤولون الإسرائيليون يرجون أن يصدم الدمار سكان غزة فيثيرهم ضد حماس. إن تبرير ذلك من خلال التذرع بالدروع البشرية يقوض المبادئ الأساسية للقانون الدولي. ولكن من الضروري إثبات أن إسرائيل دائماً بريئة. وحتى عندما تُسقط دولة يهودية القنابل التي تقتل عشرات الآلاف من الناس، فهي ليست المسؤول الحقيقي عن التسبب بهذا الموت الجماعي.
والآن، بدلاً من المضي قدماً نحو الجولة الثانية من وقف إطلاق النار، والتي تطالبها بسحب قواتها من غزة، عادت إسرائيل وشنت الحرب من جديد بضراوة أشد. فقد منعت جميع المساعدات الإنسانية من الوصول إلى الناس في غزة. جاء رد فعل إيباك على النحو التالي: إسرائيل ليست مسؤولة عن سياسة التجويع هذه لأن حماس ترفض إعادة صياغة صفقة وقف إطلاق النار بما يعفي إسرائيل من التزاماتها.
وبهذه الطريقة، يسعى خطاب المؤسسة اليهودية إلى تبييض السلوك الإسرائيلي بنفس الشكل الذي يبيض به كثير من اليهود سفر أستير. حكايتنا الجماعية – والتي يرويها زعماء اليهود من القدس إلى نيويورك – ليست خاطئة لأنها تتحدث عن الشرور التي يعاني منها اليهود، بما في ذلك الشرور التي ارتكبتها حماس يوم السابع من أكتوبر، ومازالت ترتكبها من خلال احتفاظها بالإسرائيليين كرهائن. وإنما يكمن الخطأ في هذه الحكاية في أنها تنكر الشرور التي يرتكبها اليهود. إن رفضنا للتعامل مع الجانب المظلم من بوريم يعكس رفضنا للتعامل مع الجانب المظلم فينا، أن نقر ببشريتنا الكاملة، والتي تجعلنا قادرين على أن نكون ليس فقط ضحايا وإنما معتدين كذلك.
رجائي في هذا البوريم هو أن تقشعر أبداننا عندما يأتي اليهود على المذبحة التي ينتهي إليها سفر أستير. وأن يتولد من هذا الاشمئزاز التزام جديد بإنهاء المذبحة التي ترتكب حالياً باسمنا في قطاع غزة.