اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نستكمل في محاضرة اليوم بقية قصة نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ" مع قومه، على ضوء الآيات المباركة القرآنية، وقد وصلنا إلى قول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود: من الآية36]، وقد تحدثنا في المحاضرات الماضية عمَّا بذله نبي الله ورسوله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ" من جهدٍ كبير، على مدى زمنٍ طويل (مئات السنين)، ومع أكثر من جيل من قومه.

فاستمر يبذل جهده معهم، يستخدم كل الأساليب والوسائل المشروعة، للدعوة لهم إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وتبليغهم برسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، التي هي رسالة عظيمة، تنسجم مع الفطرة، ولمصلحة الناس، للخير لهم في الدنيا والآخرة، ولكنهم لارتباطهم بملائهم، وما كان عليه ملؤهم من الضلال، والزيغ، والباطل، والطغيان، استمروا على ما هم عليه من الضلال، فلم يؤمن معه إلا قليل، وعلى مدى فترات زمنية طويلة ومتفاوتة، وصولاً إلى المستوى الذي وصلوا إليه من العناد الشديد، فلم يعودوا يصغون له، كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم، يُغَطُون على وجوههم وأعينهم؛ كي لا يشاهدوه وهو يتحدث إليهم، ثم لم يكتفوا بذلك، حتى أصبحت طريقتهم معه وأسلوبهم هو: السعي لمنعه من أن يتحدث معهم، وبالتهديد، والوعيد، والمضايقات، ومحاولة منعه من الحديث معهم أصلاً، فوصلوا إلى حالة- مع تكذيبهم وعنادهم، واستمرارهم في الطغيان، والانحراف، والمعاصي التي هم عليها، والتكذيب برسالة الله، والجحود بالحق، الحق الواضح المبين- خَبُثت نفوسهم، وساء واقعهم النفسي، حتى أصبحوا بعيدين تماماً ومنغلقين تماماً عن تَقبُّل هدى الله ورسالته.

وهي حالة خطيرة- تحدثنا عنها في المحاضرة الماضية- حينما يصل الإنسان في خبث نفسه وفساده إلى مستوى لا يتقبَّل فيه الحق أبداً، نفسيته أصبحت من الخبث ومن الفساد إلى درجة: لا تتقبل هدى الله وتعليماته، ولا تنسجم مع الحق، ولا مع الفضيلة، ولا مع الأخلاق، ولا مع الخير، ولا مع العدل، تصبح نفسيةً تجذَّر فيها الشر والفساد، وأصبحت في ميلها إلى الفساد، والانحراف، والظلم، والباطل، والمنكر، والفحشاء، إلى مستوى رهيب والعياذ بالله.

فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" عَلِمَ- وهو الذي يعلم بذات الصدور، ويعلم الغيب والشهادة، ويعلم خفايا النفوس، ويعلم واقع الإنسان، وحاضره، ومستقبله، وقبل ذلك ماضيه- عَلِمَ من حالهم أنهم لم يعودوا متقبلين أبداً، ولن يؤمن منهم أحد، غير تلك الفئة القليلة منهم، ذلك العدد القليل جداً منهم الذي قد آمن.

أمَّا نبي الله ورسوله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فبعد ذلك الزمن الطويل جداً، وبعدما استنفذ معهم كل الوسائل، واستخدم كل الأساليب لهدايتهم، وعمل عملاً جاداً، بنشاط، باهتمام، باستمرار على مدى مئات السنين، وتحرَّك على المستوى الفردي، الدعوة الجماعية، الدعوة الفردية... إلى غير ذلك؛ فهو قد شكى إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وبالذات أنهم أصبحوا يستهدفونه، ويمنعونه من تبليغهم، ويهددونه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء: من الآية116]، فشكى إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وذكر الله تقريره وشكواه في سورة كاملة في القرآن الكريم هي: سورة نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، قد قرأنا البعض من الآيات التي فيها.

ثم أوحى الله إليه، هو لم يتنصل عن أداء مسؤوليته، أو يمتنع، هو استمر بكل صبر، بصبر عظيم جداً، صبره على ذلك المدى الزمني الطويل، مع ما كان عليه قومه من الجحود، من الاستكبار، من العناد، يعتبر مدرسةً للأنبياء والرسل وللمؤمنين، وللدعاة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، في ذلك الصبر العجيب، فالله أوحى إليه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود: الآية36]، معنى ذلك: أنك قد أديت ما عليك، ولم تقصر في أداء مهمتك، والمشكلة ليست من عندك أنت، ولا في أسلوبك، ولا في طريقتك، أنت أديت مهمتك على أرقى مستوى، وبذلت جهدك معهم، ولكن المشكلة تعود إليهم هم: في أعمالهم السيئة، وفي عنادهم وتكذيبهم برسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، فلا تحزن من جانبهم؛ لأنه قد أتى الحسم الإلهي، فالوعيد والعذاب آتٍ لا محالة.

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}[هود: من الآية37]، فاتجه، لا تنشغل بهم، قد أديت ما عليك تجاههم، وقد أتى اقتراب نزول العذاب عليهم؛ ولذلك أنت ستتجه الآن- منذ أوحى الله إليه ذلك الوحي- إلى تلك المهمة: مهمة صناعة الفلك، يعني: صناعة السفينة، سفينة عظيمة، وسفينة كبيرة؛ لتكون سبباً ووسيلةً للنجاة، لنجاة نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، والمؤمنين معه، القلة القليلة، وما سيأتي أيضاً في أن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أمره أن يحمل معه أيضاً من الحيوانات.

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}[هود: من الآية37]، يعني: برعاية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، سيتجه لتلك المهمة، في صناعة السفينة الكبيرة تلك، برعايةٍ من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وحفظٍ من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ولذلك لن يتمكن أحد من أن يمنعه من ذلك العمل، أو يعيقه عنه، فسيعمل في ذلك بحفظ من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ورعاية من الله، ومعونة من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وحفظ من جانب الله "جَلَّ شَأنُهُ".

{وَوَحْيِنَا}، حيث ستأتيك التعليمات لكيفية صناعة تلك السفينة الكبيرة، التي ينبغي أن تكون على مواصفات معينة، بحيث تؤدي مهمتها؛ لأن هناك حمولة ضخمة ستحملها، وبالذات أنها ستحمل من كل زوجين اثنين، وإضافةً إلى ذلك أولئك المؤمنين الذين معه، وهي أيضاً ستحمل حمولتها تلك، وتتحرك في ظل الطوفان العظيم الذي سيأتي؛ ولذلك لابدَّ أن تكون في عملها متقنةً، محكمةً، أن تُصنع بإتقان وإحكام، وأن تكون كبيرةً ومتسعةً، بحيث تحمل الحمولة المطلوبة، فأمام حمولتها الكبيرة من جهة، وأمام حجم الطوفان العظيم، الذي ستحمل حمولتها فيه، وتجري فيه، لابدَّ أن تكون سفينةً كبيرةً، متقنةً، ومحكمةً في صناعتها؛ ولذلك ستأتيه التعليمات من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" على مستوى تفاصيل وكيفية صناعتها، وكيف تكون في حجمها، ومما تصنع، وماذا يختار لها من أنواع الخشب، وكيف تتم عملية تثبيت الأخشاب مع بعضها... وهكذا إلى بقية التفاصيل.

ويتضح- والله أعلم- أن تلك السفينة كانت هي السفينة الأولى التي صُنِعَت، يعني: لم يسبق قبلها أن كان لدى البشر سُفن وتنقلات بحرية؛ لأن قوم نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ" كانوا هم المجتمع البشري بكله، كانوا هم في عصره المجتمع البشري، وكانوا منتشرين في نطاق جغرافي محدود، يعني: لم يكونوا موزعين في قارات متعددة، حتى يحتاجون إلى التواصل البحري فيما بينهم؛ فلذلك الحركة فيما بينهم هي حركة في البر؛ وبالتالي لم يكن هناك قبل تلك السفينة سُفُن قد صُنِعَت قبلها، إضافة إلى أنَّ هذه مرحلة مبكرة في تاريخ البشرية، يعني: بحسب الدراسات- والله أعلم- الدراسات التي أُجريت على آثار السفينة تلك، تُقَدَّر المدة بمائة ألف سنة، بأكثر حتى من مائة ألف سنة إلى الآن يعني، ففي تلك المرحلة المتقدمة قد تكون تلك السفينة هي السفينة الأولى التي صُنِعَت في واقع البشرية، ومن بعدها صُنِعَت السُّفن، ثم من بعد ذلك في الأجيال اللاحقة، عندما توزَّع البشر وبدأ نشاطهم عبر البحار، والتنقل فيما بين المناطق التي يحتاج التنقل فيها إلى الحركة في البحر.

فتلك السفينة هيَّأ الله صناعتها لنبيه نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وأعطاه التعليمات، وكيف يعمل، وكما ورد أيضاً (في سورة القمر)، يقول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}[القمر: الآية13]، ويقولون أن (الدُّسُر) هي: المسامير التي استخدمت في تثبيت ألواح السفينة.

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود: الآية37]، فقد حكم الله عليهم بالهلاك والعذاب، وليس هناك من مجال للوساطة، ولا للشفاعة لأحدٍ منهم أبداً، فأعمالهم هي أعمال ظلم، كل أعمال الجرائم والمفاسد هي تندرج تحت عنوان الظلم، حتى الكفر بالله والشرك بالله هو من الظلم، مختلف أنواع المعاصي هي من الظلم، الإنسان يظلم نفسه ويظلم غيره، بانحرافه، بمخالفته لهدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، بانحرافه عن تعليمات الله، التي هي تعليمات خير، وحق، وفضيلة، وعدل، وصلاح للإنسان وللحياة، فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" قد حكم عليهم بالهلاك، وحكم عليهم بالعذاب، وسيهلكهم بالغرق: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}؛ ولذلك بيَّن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" لنبيِّه نوحٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" النهاية التي قد حتمها لهلاك قومه المكذبين والمعاندين، وهي: الغرق بالطوفان، الطوفان العظيم الذي ستأتي الآيات وتتحدث عنه، ووجَّهه وأمره بصنع تلك السفينة الضخمة الكبيرة، التي ستكون وسيلةً للنجاة، وسبباً للنجاة.

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}[هود: من الآية38]، اتَّجه نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ" إلى الاهتمام بعمل صناعة السفينة، ولم يعد يواصل أعماله مع قومه في محاولاته، قد أدّى ما عليه واكتملت المهمة، واتجه لذلك العمل: لصناعة السفينة؛ لأنه سيحتاج إلى جهد كبير، بالنظر إلى طبيعة الوسائل والإمكانات الموجودة في ذلك العصر، فهو يحتاج إلى قطع الأخشاب، وتوفيرها، وإعدادها كألواح، ويحتاج إلى أن يصنع المسامير الحديدية، التي سيثبت بها تلك الألواح، في عملية التصميم أيضاً... وهكذا بقية تفاصيل العمل تحتاج منه الوقت والجهد، واشتغل في ذلك بجهده، باهتمامه الكبير.

{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}[هود: من الآية38]، كانوا يذهبون ليتفرجوا عليه، ويَمُرُّون من عنده، وهو في المكان الذي قد اختاره لإعدادها وصناعتها فيه، فكانوا يذهبون ليمرُّوا من عنده بشكل تجمعات، كل وقت يمرُّ جماعة من عنده بينهم كبارهم؛ ليسخروا منه، ويستهزئوا به، ويضحكوا منه: [هل تحوَّلت إلى نجار؟ هل تركت مهمة الرسالة والنبوة؟ وأصبحت تعمل في النجارة؟ ما هذا العمل السخيف الذي تعمله...]، إلى غير ذلك، ويضحكون، ويسخرون، ويستهزئون، ويستمرون على هذه الحالة؛ ولهذا أتى في التعبير: (وَكُلَّمَا)، {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، فكانوا يَتَلَهُّون وينشغلون بالسخرية منه بتلك الطريقة، يذهبون في مجاميع (جماعة جماعة) ومعهم كبارهم؛ ليضحكوا ويسخروا في جوٍ جماعي، ويستهزئون به، ويوجهون إليه الكلام الجارح، والكلام الذي فيه استحفافٌ به وإساءةٌ إلى مقامه.

{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، انشغلوا، هم منشغلين بالسخرية منه بشكلٍ مستمر، خلال تلك الفترة الطويلة التي صنع فيها السفينة.

{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[هود: 38-39]، رد عليهم في مقابل سخريتهم واستهزائهم بهذا الرد، الرد المهم، وكان المفترض أن يأخذوا منه العبرة، لكنهم كانوا قد خُذِلوا تماماً.

{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ}، أنتم من أنتم في موضع السخرية، أنتم من ينشغل بالتَّلَهِّي والضحك والعبث، ولا يعرف ماذا سَيَحِلُّ عليه، ماذا سيصيبه من داهية كبرى، من هلاك عظيم، وأنتم مشغولون بالضحك والاستهزاء، فأنتم في موضع السخرية والعبث، أنتم من تعبثون، وأنتم تتجهون إلى مصير الهلاك.

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}، هي حالة فعلاً حالة مهزلة بالنسبة لهم، كمن يرقص وهم يجهزون له حفلة إعدام، فيقوم بالرقص، الحالة حالة رهيبة جداً، الذي سيأتيهم هو العذاب، وهم منشغلون بالتَّلَهِّي، والضحك، والسُّخريَّة، والعبث، والاستهتار، والاستخفاف، وبعد الهلاك: العذاب المقيم والعياذ بالله، الطامة الكبرى، الخسران الدائم الأبدي، ليس فقط الهلاك بذلك الطوفان، ولكن فيما بعد ذلك في الآخرة: نار جهنم، والخلود فيها للأبد والعياذ بالله، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.

وهكذا استمر الحال: هو دائبٌ في عمله في صناعة السفينة، مستمرٌ، لا يبالي بهم، وبإزعاجهم، وبسخريَّتهم، وباستهزائهم، ولا يؤثر عليه ذلك في مدى اهتمامه بعمله، بالرغم من أنهم يبذلون كل جهدهم في إزعاجه، وفي مضايقته، وفي الإساءة إليه، ويصنعون جواً يَتَلَهُّون به من السخرية، والاستهزاء، والضحك بشكلٍ جماعي، يذهبون جماعات، لكنَّ ذلك لم يؤثِّر عليه، فاستمر في عمله حتى أَتَمَّه، أصبحت السفينة جاهزة، وأكمل عملها، وأتمَّ مهمته في تصميمها وصناعتها.

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}[هود: من الآية40]، ثم أتى أمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، أتت اللحظة الحاسمة، التي ستحسم ذلك الحسم الهائل الرهيب، تؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ البشرية، وتهلكهم بكلهم الهلاك الرهيب.

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}، جاء أمر الله العظيم، ربِّ السماوات والأرض، {وَفَارَ التَّنُّورُ}، كانت العلامة التي قد جعلها الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" لرسوله ونبيه نوحٍ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" هي: أن يفور الماء في التنور، والتنور معروف، الذي يُخبَز فيه الخبز لينضج.

ويتضح أنَّ مثل هذه الأمور في معيشة الناس موجودة منذ ذلك الزمن الغابر والقديم، يعني: من مراحل متقدِّمة في تاريخ البشرية، ليست الحالة كما يصورها الغرب، فيما يحاولون أن يصوروه عن الماضي: [أن الإنسان بقي في حياة بدائية جداً كالحيوانات، يعتمد فقط على الصيد ولا يزرع، وأنه لم يتجه للزراعة إلَّا منذ عشرة آلاف عام فقط، وقبل ذلك لم يكن يزرع، لم يكن يعتمد على النباتات، لم يكن يتناولها]، تلك تخمينات وظنون لا أساس لها، وهم يحاولون أن يجعلوا أنفسهم وأن يقدِّموا أنفسهم أنهم أصل الحضارة في واقع البشر، وأنه لا حضارة في واقع البشر إلا منذ العهد الإغريقي واليوناني، ثم الروماني، ثم الأوروبي والأمريكي، هكذا يريدون أن يصوروا للبشرية، مع أنهم يواجهون إحراجات حتى في الآثار المكتشفة في أمريكا اللاتينية، والبلدان النائية، التي هي آثار قديمة جداً، تُبيِّن مدى ما كان عليه البشر في مراحل متقدِّمة من حضارة، من ظروف في حياتهم ظروف متقدِّمة، يعني: ليست بدائية بالشكل الذي يصورونه؛ ففي عهد نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ" هناك التنور، هناك الاستخدام للنار في إنضاج الطعام، هناك طبخ، هناك صنع للخبز، وهكذا، هناك زراعة بالتأكيد، اهتمام بالزراعة، وغير ذلك، فالحياة لم تكن بدائية بالشكل الذي يصوره الغرب؛ لأن لديه أهدافاً سياسية في طريقة تقديمه للتاريخ، لا يُقدِّم التاريخ بشكل موضوعي، بل وفق أهداف سياسية معينة.

{وَفَارَ التَّنُّورُ}[هود: من الآية40]، فار بالماء، فار الماء من داخل التنور، وتلك كانت علامة لنبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، أن الوقت وقت مصيري، أتت اللحظة الحاسمة، وأتى الوقت لتحمل إلى السفينة ما تحمله إليها، والاستعداد للحركة بها؛ لأن الماء سيبدأ والطوفان سيبدأ، وفوران الماء من التنور، التنور الذي هو مكان للنار، ويأتي منه هذا الحال: تأتي هذه الآية ليفور منه الماء، كان آيةً من جوانب متعددة:

علامة لمجيء هلاك قومه المعاندين، المكذبين، الصادِّين عن سبيل الله.
وفي نفس الوقت آية وتبيِّن أيضاً أن الأحوال ستتغير تماماً، فأتى الماء من حيث مكان النار، والمكان الذي يكون عادةً نائياً عن الرطوبة، وبعيداً عن المياه؛ ليشير إلى تبدُّل الأحوال وانقلابها بالكامل رأساً على عقب.
{وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا}[هود: من الآية40]، يعني: في السفينة، {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود: من الآية40]، يعني: من أهلك، {مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} يعني: الوعيد الإلهي، وأصبح ممن قرر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" إهلاكهم، {وَمَنْ آمَنَ}، يعني: احمل من آمن معك، احمل فيها: (من كُلِّ زوجين اثنين، وأهلك، ومن آمن)، وأتى الاستثناء في: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} مع قوله: {وَأَهْلَكَ}؛ لأنه منهم: {مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}، {وَمَنْ آمَنَ}: احمل كذلك معك من آمن فيها للنجاة بهم.

{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود: من الآية40]، على مدى تلك الفترة الطويلة، بجهوده العظيمة، وشخصيته العظيمة المؤثرة؛ لأن شخصية الأنبياء والرسل عظيمة ومؤثرة، والهدى بنفسه الذي يقدمونه هُدىً ينسجم مع الفطرة الإنسانية، وحقٌ واضحٌ، ودعوةٌ للخير، مع ذلك لم يؤمن على مدى ذلك الزمن الطويل (تسعمائة وخمسين سنة) إلا قليل، تختلف الروايات والأخبار في عدد تلك الفئة القليلة، من عدد بسيط، يعني: البعض يقول: [أربعة]، البعض يقول: [ثمانين]، أكثر رقم وأعلى رقم يقول: [ثمانين]، وهكذا أرقام متفاوتة... فهم بالمقارنة مع قومهم ومع الهالكين والمكذبين قلة قليلة جداً، الذين آمنوا ونجَّاهم الله معه.

وتحرَّك نوحٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" وفقاً لذلك، فبدأ ينقل إلى السفينة، قد أعدَّ السفينة، وأعدَّ فيها ما يحتاج إليه من يحمله فيها من الطعام، خلال تلك الفترة التي ستبقى فيها عملية الطوفان، ما يحتاجونه من الزاد، ما يحتاجونه من الغذاء، ما يحتاجون له من المتطلبات الضرورية، هي سفينة ضخمة، فبدأ ونفَّذ المهمة، {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}[هود: من الآية40]: من كل الحيوانات (ذكر، وأنثى)، فبدأ يحمل إليها، وساق الله له الحيوانات، ويسَّر له ذلك، أن تُقْبِل، وأن يتهيَّأ له أن يحمل منها: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.

{وَأَهْلَكَ}[هود: من الآية40]، كذلك أهله، {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود: من الآية40]، وكان في هذا الاستثناء:

أولاً: زوجته؛ لأنها كانت منحرفةً عن نهجه ودينه الحق، وكانت تخونه في المعلومات التي تقدِّمها إلى أهلها وقومها، وقد تكون قد ابتعدت عنه في تلك المرحلة الأخيرة أصلاً، فهي كانت معنيةً؛ لأنه سبق عليها الوعيد بالهلاك.
ولكن كان هناك أيضاً ابنه، أحد أولاده ضمن ذلك، وربما كان لديه أمل في نجاة ابنه، ولم يكن يتوقع أنه من الهالكين، وسيأتي الحديث عنه أكثر.
والذين آمنوا- وهم القلة القليلة- كذلك ركبوا في تلك السفينة، {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}[هود: من الآية41]، في قراءة نافع: {مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}، الحركة بتلك السفينة، الركوب أولاً: {بِسْمِ اللَّهِ}: بسم الله، وبأمره، وبإذنه، وبتدبيره، وكذلك حركتها أيضاً، حركتها {بِسْمِ اللَّهِ}: بتدبيره، بهدايته، بتوفيقه، برحمته، بنعمته، بفضله، فهي ستجري برعاية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وحفظه، وتدبيره، ونعمته، ورحمته، وهي آيةٌ عجيبة فعلاً؛ لأن الطوفان كان عظيماً جداً جداً، فبقاؤها، وحركتها، وحفظ من فيها من الركاب، من الحيوانات والبشر، والبشر هم الأقلية في تلك السفينة، هذا شيء مؤسف، يعني: أن يكون الأقلية هم البشر؛ بينما كان الأكثر هم الحيوانات الذين نجوا، مؤسفٌ على البشر، حسرةٌ عليهم عندما لا يقبلون الحق والهدى، ولا يقبلون ما فيه نجاتهم، وفلاحهم، وفوزهم، والخير لهم.

{وَمُرْسَاهَا}: توقفها واستقرارها سيكون أيضاً بتدبير الله، وبرحمته، وبنعمته، وبفضله، في المكان المناسب، بشكلٍ آمنٍ وسليم، وفي الوقت المناسب، {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[هود: من الآية41]، فبمغفرته، وبرحمته، وبفضله، تمَّت تلك النعمة والرعاية العجيبة لنجاة نبي الله، ومن معه من المؤمنين، ومن أيضاً كان في السفينة، ممن نقلهم وحملهم فيها.

وأتى المطر العظيم جداً، أتت الأحوال كما قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" (في سورة القمر): {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا}[القمر: 11-12]، تلبَّدت السماء بالغيوم الكثيفة جداً، المظلمة، الهائلة، وبدأت تمطر بغزارةٍ هائلةٍ غير مسبوقة، تمطر {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}: ينصب بغزارة هائلة جداً جداً جداً، الأرض فُجِّرت كلها بالعيون، من كل مكان بدأت العيون تخرج، عيون الماء تنبع من كل مكانٍ في الأرض، في وضعٍ مفاجئ، مفاجئ لأولئك الذين كان لهم مدة طويلة وهم في حالة جدب شديد.

لأن الفترة الأخيرة أتاهم فيها الجدب، وحتى عندما كان نبي الله نوح يدعوهم للاستغفار، والرجوع إلى الله، والإيمان برسالته: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 10-11]، لم يكونوا يقبلون، ولم يكونوا يصغون أصلاً لتلك الدعوة، التي فيها الخير لهم.

وكذلك العقم، العقم استمر لنسائهم، فلا يَلِدْنَّ؛ ولذلك ورد في الروايات والآثار والأخبار: أنَّه عندما حلَّ بهم الطوفان والهلاك لم يكن فيهم أطفال صغار؛ لأن فترة العقم قد استمرت على مدى عشرات السنين، ولذلك لم يكن فيهم أطفال أثناء هلاكهم، كانوا بكلهم من كبارهم، ممن هم في مرحلة التكليف، وجديرين بالعذاب، مستحقين للعذاب.

فانهمرت الأمطار بغزارة هائلةً جداً من السماء، والأرض فجَّرها الله بالعيون من كل مكان، وطلع الماء من باطن الأرض، ونزل أيضاً بغزارة هائلة جداً من السماء.

في تلك الحالة، التفكير السائد الذي يفكِّر به الناس، وهم في حالة ذهول، ومتفاجئون جداً مما يجري، هو: التفكير بأن يذهبوا نحو الجبال، وأن يتَّجهوا إلى الجبال، لكي يصعدوا فيها؛ لأنهم يرون الماء يتكاثر، ويتعاظم، ويغمر الأرض في كل مكان؛ فلذلك يفكِّرون للنجاة من الغرق، أن يذهبوا نحو الجبال، ولكن المياه كانت تتكاثر وتتعاظم بسرعة، بسرعة، بسرعة، وتتزايد، وتطفو فوق سطح الأرض، وتعلو فوق سطح الأرض بشكلٍ هائلٍ جداً.

في تلك الحالة، التي تكاثرت فيها أمواج المياه، وتعاظمت، وغمرت الأرض، وتزايدت فيها، الماء يزداد، يزداد، في تلك الحالة: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ}[هود: من الآية42]، يعني: السفينة، {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}[هود: من الآية42]، لنا أن نتصور حجم هذه الأمواج الهائلة جداً، التي هي بحجم الجبال، أمواج من الماء عظيمة جداً جداً، والأرض بشكلٍ مستمر تخرج الماء منها، وتتفجر العيون منها، والأمطار تنهمر باستمرار، بغزارة مستمرة ولا تتوقف، والأمواج العظيمة التي أصبحت كالجبال تغمر الأرض في كل جنباتها وأنحائها، والسفينة تجري في تلك الأمواج الهائلة، التي هي بذلك الحجم الهائل: {كَالْجِبَالِ}، أبصر نبي الله نوحٌ "عَلَيْهِ السَّلَامُ" أبصر ابنه، الذي لم يلتحق به، كان في معزلٍ عنه، شاهده وهو يحاول أن ينجو بنفسه، ولكن أين ينجو الإنسان في مثل تلك الحال؟ كيف ينجو، وهو لا يريد أن يسير في طريق النجاة؟

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}[هود: من الآية42]، ناداه ليسمعه؛ لأنه مع انصباب الأمطار بغزارة هائلة جداً، وذلك الجو الهائل جداً من تَفَجُّر الأرض بالعيون، وحركة المياه، واضطرابها، وهي تغمُر كل مكان، لن يسمعه إلَّا إذا ناداه، فهو ناداه بصوتٍ مرتفع؛ ليسمعه، {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}[هود: من الآية42]، كان فيما سبق منعزلاً عن والده، اعتزل والده، واستقل بحياته؛ ليبتعد عن والده، يريد أن يكون بعيداً عمَّا يعانيه والده من المشاكل (نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ")، وأن يُظهِر نفسه وكأنه ليس مع والده، كان قد أثَّر عليه- كما في الأخبار والروايات- قرناء السوء، وتأثر بالجو العام الذي فيه تكذيب، وفيه إساءة، وفيه صد، وفيه سخرية، وفيه استهزاء، وفيه حملات دعائية، وفيه مضايقات، وفيه تهديدات، جو أثَّر عليه؛ فانعزل عن والده، وابتعد عنه.

ناداه نبي الله نوح: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}[هود: من الآية42]، ناداه لنجاته، لطريق النجاة، لأن يركب معهم في السفينة، بدلاً من أن يذهب مع الكافرين، الهالكين، الذين مصيرهم هو الهلاك، ولكنه حتى في تلك اللحظة الحسَّاسة والحرجة لم يستجب لوالده، ولم يصغِ لندائه، ولم يقبل نصيحته، حتى في تلك اللحظة كان يتصوَّر أن المسألة لا زالت مسألة مطر غزير، وأنَّه يمكنه أن ينجو، مثلما ذكر: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}[هود: من الآية43]، كان يتصور أن الجبل يمكن أن يعصمه، وأن يحفظه من الماء، فلا يغرق مع الغارقين والهالكين، ولكن أنَّى له ذلك! الأمواج بنفسها كالجبال، والمياه تتعاظم وتتزايد وترتفع؛ حتى ارتفعت فوق الجبال.

في تلك اللحظة، قال له نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ": {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}[هود: من الآية43]، لا نجاة، لا نجاة إلَّا برحمة الله، والأخذ بأسباب رحمة الله واضح: أن يسير في اتجاه الإيمان، ومع المؤمنين؛ لينجو، فالإيمان هو سبيل رحمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهو السبب الذي يحظى الإنسان من خلاله برحمة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ}[هود: من الآية43]، في تلك اللحظة وهو يخاطبه، أتى موجٌ من الماء، موجٌ عظيم حال بينهما، وأغرق ابنه وهو يشاهده في تلك اللحظة، {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}[هود: من الآية43]، غرق ابنه، وارتفع الماء حتى فاق الجبال، كان فوق الجبال، غمر كل شيء، غمرهم بأجمعهم، وهلكوا بكلهم، لم ينجوا إلَّا الذين كانوا في السفينة، كان طوفاناً عظيماً، شمل المعمورة، حيث هناك السكان، وحيث هناك من هم من المجتمع البشري بكلهم قد شملهم الطوفان، وغرقوا فيه، والله أعلم هل كان شاملاً لكل الكرة الأرضية، أم على المعمورة منها؟! فهو- على كل الأحوال- كان طوفاناً عظيماً جداً.

وتمت المهمة: هلكوا بأجمعهم، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}[هود: من الآية44]، اكتملت المهمة، وأتى الأمر التكويني من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" للأرض، التي هي ملكه، وتحت سلطانه وقهره وإرادته: {ابْلَعِي مَاءَكِ}، ليعود الماء إليها؛ لأنها كانت تفجَّرت بما فيها من الماء عيوناً، وطلع الماء منها إلى سطحها، {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}: توقفي عن الإمطار، {وَغِيضَ الْمَاءُ}: نزل الماء وعاد من سطح الأرض، من حيث كان قد ظهر من فوق سطح الأرض إلى داخل الأرض، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}: انتهى أمرهم، وأهلكهم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، {وَاسْتَوَتْ}، يعني: السفينة، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، (الْجُودِيِّ): جبل استقرت السفينة فوقه بسلام.

{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود: من الآية44]: لا أسف عليهم، ولا ندم عليهم، ولا حزن عليهم؛ لأنهم بظلمهم، والظلم هو عنوان خطير جداً، عنوان للكفر، للشرك، للباطل، للجرائم، للمفاسد، يشملها بكلها، وهي بكلها، مثلاً: حالة الشرك، حالة الكفر، حالة الإعراض عن هدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هي تجعل الإنسان ظلوماً في الحياة، ظالماً في الحياة: بعيداً عن العدل، بعيداً عن الإنصاف، بعيداً عن الفضائل، بعيداً عن الرشد والتوازن في ممارساته في الحياة، في أعماله، في تصرفاته، فيغلب عليه الظلم في كل أحواله وأموره، {بُعْدًا}: هلاكاً لهم، هلاكاً لهم، لا أسف عليهم؛ لأنهم أصبحوا في ما هم فيه من العناد، والإصرار على ما هم عليهم من الكفر، والشرك، والظلم، والباطل، والصد عن سبيل الله، والمحاربة لرسالة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، لا أمل فيهم، والحالة إذا استمرَّت، يعني: استمرارها إلى ما هو أسوأ، إلى ما هو أسوأ، وهناك حد مُعيَّن للطغيان إذا وصل إليه؛ يأتي العذاب، تأتي العقوبة الإلهية.

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}[هود: الآية45]، حينما كان الله وعده أيضاً بنجاة أهله، قال له: {وَأَهْلَكَ}[هود: من الآية40]، واستثنى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود: من الآية40]، فربما كان يتوقع لابنه ألَّا يكون ممن سبق عليه القول، وأن تكون فقط زوجته، التي كان قد اتضح له حالها، ويئس منها، فهو يستوضح عن سبب هلاك ابنه؛ لأنه كان يأمل نجاته.

{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود: من الآية46]، يعني: ليس ممن وعدك الله بنجاتهم، لربما كان نبي الله نوح يتصوَّر أن ابنه انعزل عنه في مقابل الضغوط، والمشاكل، والقلق، القلق من الضغوط والمشاكل التي كان يعانيها نبي الله نوح، وأنه يريد أن يكون بعيداً؛ ليسلم المشاكل، يحايد، أن يكون محايداً كما يقول المحايدون، الذين يتصوَّرون أنَّ هناك حياد بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وليس هناك حياد، فكان يأمل له النجاة، ويتصور أنه لربما كان انعزاله عنه تهرُّباً من مواجهة المشاكل والضغوط، ولم يكن يتصور إلى أنه سيء إلى تلك الدرجة: إلى درجة ألَّا يحظى برحمة الله، ولا بالنجاة أصلاً، لكن الله بيَّن له حاله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: إنه فيما كان قد وصل إليه، وفيما كان عليه من الممارسات، من التصرفات، من الأعمال السيئة، أصبح إلى تلك الدرجة: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، الإنسان إذا ذاب في شيءٍ معين، وكان فيه في توجهه إليه، في ممارسته له، إلى درجة الاستغراق فيه، والذوبان فيه، يُطلَق عليه الوصف بنفسه: إمَّا بالخير، أو الشر، مثلاً:

إذا أردنا أن نثني على إنسان لسخائه وكرمه، وما هو فيه من الخير، نقول عنه مثلاً: [هو الكرم بذاته]، بمعنى: أنَّه بلغ درجة عالية في عطائه، في سخائه، في جوده...إلخ. حيث أنه يطلق عليه الوصف بنفسه.
في حالة الفساد، قد نقول عن شخص لاستغراقه في ممارساته في الفساد إلى درجة سيئة جداً، نقول: [هو الفساد بذاته].
الحالة التي وصل إليها ابن نوح من الانحراف، من الممارسات السيئة، من التأثر بقرناء السوء، الذين أثَّروا عليه، وانحرفوا به عن الأعمال الصالحة، وصلت به إلى ذلك المستوى الذي عبَّر عنه هذا التعبير، قال الله عنه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود: من الآية46]، فالحالة حالة سيئة جداً، تلك الحالة التي وصل إليها، وهذا درس، درس مهم جداً، ولم ينتفع من أنَّ والده هو نبي الله، تلك فرصة كانت تهيئ له أن يحظى بالتربية الإيمانية، بالتربية على الخير، والعمل الصالح.

عندما يكون الجو نفسه داخل الأسرة مما يساعد الإنسان على الاستقامة، على الصلاح، على التقوى، على الإيمان، هي نعمةٌ كبيرة، لكن إذا تنكَّر لها الإنسان، وخضع لمؤثرات أخرى؛ يمكن أن يخسر كل الفرص، وألَّا يستفيد من كل العوامل مهما كانت عوامل مهمة، ومفيدة، ومساعدة على الاستقامة والعمل الصالح، ألَّا يستفيد منها، وهذه مسألةٌ مهمة، ودرسٌ لكل الناس، وخاصةً داخل الأُسر المؤمنة، والأُسر الصالحة، على الإنسان أن يدرك النعمة التي هو فيها، أنَّه في جو وفي وضع أُسَري يساعده على الصلاح، على التربية الإيمانية، على زكاء النفس، على الاستقامة؛ فليستفد من تلك الفرصة، وليدرك أنها تمثل فعلاً عاملاً مساعداً، مساعداً إلى حدٍ كبير، فهناك فرق: بين أن يكون الإنسان في بيئة، أو وضع، أو أسرة سيئة، تحاربه على صلاحه، على استقامته حتى في داخل منزله؛ وبين أن يكون الإنسان في وضع يساعده على الصلاح والاستقامة، ويحظى حتى بالتشجيع على ذلك.

{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: من الآية46]، وهذا هو شبه عتابٍ له، لماذا هذا التساؤل؟ يكفي أن تعلم بما أنَّ الله قد أهلكه أنه غير صالح، وأنه لم يكن هناك أمل لصلاحه.

وهو اعتذر إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" على الفور: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هود: الآية47]، هو في سؤاله وتساؤله؛ لأنه لم يكن يعرف مستوى ما كان عليه ابنه من الفساد، والضلال، والخروج عن دائرة التقوى، والإيمان، والعمل الصالح، فعدم معرفته تلك هي السبب في تساؤله ذلك، ولكنه اعتذر إلى الله، واستعاذ بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ ليعصمه من أن يسأل، أو يتساءل عن شيءٍ لا علم له به، ويكفي التسليم فيه لأمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأن الله يعلم ما لا نعلم.

{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}[هود: 47-48]، أمره الله بالهبوط إلى الأرض بسلام؛ لأن الطوفان كان قد دمَّر كل شيء، فكان الهبوط:

أولاً: استقرار السفينة بسلام.
ثانياً: الخروج منها والنزول والعودة إلى الأرض بسلام، العودة إلى استئناف الحياة من جديد في الأرض أيضاً بسلام؛ لأن المتوقع- مثلاً- بعد دمار كل شيء: أن تكون هناك أوبئة، أن تكون هناك مضار، أن يكون الوضع في الأرض غير مهيأ بعد الطوفان مباشرة، لكن الله هيأ لهم استئنافهم لحياتهم بسلام من كل الآثار والنتائج التي أتت مع الطوفان نفسه؛ فسلَّمهم الله منها.
{وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}[هود: من الآية48]، بركات في الدين والدنيا لاستئناف الحياة من جديد، فانتهى تاريخ ومرحلة من تاريخ البشرية، وبدأ تاريخٌ جديد، بمجموعة مؤمنة، وبجيلٍ مؤمن، يبدأ يؤسس للحياة من جديد.

{وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[هود: من الآية48]، فسيتفرَّع من تلك الفئة المؤمنة أمم، من أولئك العدد القليل سيتفرَّع منهم أمم، البعض منهم ربما انقرض نسلهم فيما بعد، ولو لبعد أجيال، لكن الحالة بالنسبة لبعضهم في امتداد النسل البشري على الأرض، واستمرار الوجود الإنساني، استمر معه الخير والصلاح في نطاق معين، في أجيال، في فئات، وظهرت من جديد فيما بعد حالة الانحراف، وتكاثرت، وتزايدت، حتى وصلت من جديد إلى مستوى الشرك بالله، والجحود لرسالته، والكفر به وبأنبيائه، وكان لها آثارها ونتائجها على المجتمع البشري على مدى أمم، يُمَتِّعها الله في هذه الحياة، ويهيئ لها أن تعيش في نعمه بتمكينٍ في هذه الأرض، لكنها لا تشكر النعمة، تتنكَّر لنعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وتعصي الله، وتنحرف عن هديه، وعن تعليماته القيِّمة، التي بها صلاح الحياة، واستقامة حياة الإنسان، وبها نجاته في الآخرة، فيأتي بعد ذلك، بعد: {سَنُمَتِّعُهُمْ}، عندما لم يشكروا نعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، العذاب {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وهذا ما حصل لكثيرٍ من الأمم والأقوام، الذين انحرفوا فيما بعد، وسلكوا مسلك قوم نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ".

نكتفي بهذا المقدار...

وَنَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: المجتمع البشری تاریخ البشریة تلک السفینة ما کان علیه تلک الحالة فی السفینة الإنسان فی س خ ر وا م ن سطح الأرض ب ر ک ات ت ع ال ى س ب ح ان ه وصل إلیه من الماء إلى درجة إلى الله الماء من فیما بعد أن تکون کل مکان الأرض ف أن یکون ال ق و ل على مدى التی هی ع البشر بعد ذلک ال ف ل ک من الله من جدید کان قد ق علیه کان فی ة الله ن الله ات الس ولا مع لم یکن ر علیه ذلک لم الذی ی حتى فی ى الله فی ذلک

إقرأ أيضاً:

نص المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1446هـ

الثورة نت/..

نص المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي8 رمضان 1446هـ|8 مارس 2025م

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وصلنا بالأمس إلى قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في قصة نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام”، في الآيات المباركة من (سورة الأنعام): {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79].

كُنَّا بدأنا بالحديث عن هذه المفردة المهمة: (حَنِيفاً)، وكيف أنها تكررت في الحديث عن نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام” في مقامات متعددة، وفي الحديث عن مقامات مشابهة، فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المسلم، في توجهه نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالعبادة بمفهومها الشامل، وكذلك فيما ذكره الله عن الأمم السابقة من قبلنا، أنَّها كانت مأمورةً بذلك.

وتحدثنا عن المفهوم بمدلوله الواسع، بما تعنيه مفردة (حَنِيفاً)، وأنَّها ذات أهمية كبيرة غفل عنها المسلمون، يعني: ليس هناك تركيز على هذه المفردة بمفهومها بمدلوله الواسع.

وتحدثنا أن البعض من المفسرين قَزَّمُوا هذا المفهوم في نطاق محدود، تحدثنا عمَّا يعنيه هذا المفهوم، من اتِّجاهٍ للعبادة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وانطلاقةٍ إيمانيةٍ باستمرار، وثبات، وإخلاص، ومحبة، وخضوع وخشوع لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا هو روح الانطلاقة الإيمانية، المعبِّر عن حالة التسليم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والاستجابة لأمره برغبة، والالتزام بتعليماته وتوجيهاته بانطلاقة جادّة وصادقة.

وَنَبَّهْنَا عن الخطورة الكبيرة على الإنسان، عندما تكون انطلاقته الإيمانية متعثرة، يتحرك فيها وهو يعاني من الترسبات الكبيرة، المؤثِّرة في نفسه، ترسبات لم يُزَكِّ نفسه للتخلص منها، من الأمور السيئة، المؤثِّرة تأثيراً سيئاً على نفسية الإنسان، التي تتحول إلى عوائق، عوائق عن الاستجابة السريعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

ولـذلك– كما ذكرنا بالأمس- أتى أيضاً الحديث عن نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام” بمواصفات هي في هذا الاتِّجاه: اتِّجاه الاستجابة بخضوع لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وخشوع لله، في مثل قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وهو يتحدث عنه: قَانِتاً، {قَانِتًا لِلَّهِ}[النحل:120]، فهو بهذا التَّوجُّه الذي يُعبِّر القرآن عنه أيضاً في عبارة أخرى تحدثنا عنها بالأمس.

هذا يلفت نظرنا إلى واقعنا نحن، في انطلاقتنا الإيمانية، كيف نحرص، وكيف نسعى إلى أن تكون انطلاقتنا الإيمانية مبنية على الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والطاعة بخضوع وخشوع، بمحبة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن نتخلص من العوائق في النفوس، التي تجعل الإنسان ينطلق انطلاقة متعثرة وهو مُكَبَّلٌ، ويخضع للتأثيرات السلبية، التي تُعِيقه عن المبادرة، عن الاستجابة.

الإنسان إذا انطلق انطلاقةً صحيحة، يكفيه فيما ينطلق فيه من الأعمال، أن يكون فيه مرضات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأنه يحمل الحرص في نفسه على الاستجابة لله، على الطاعة، على الانقياد التام.

ولـذلك الحالة الأخرى المختلفة عن ذلك لدى البعض من الناس: قد ينطلق، حتى البعض انطلاقتهم إيمانية، لكنه ليس سريع الاستجابة، وليس متجهاً بدون عناء، يحتاج إلى عناء دائماً، أو في كثير من الأمور، إلى إقناعه ليستجيب، إذا اختلفت المسألة عن رغبته الشخصية، أو طموحاته الشخصية، فهو ذلك المتعب، المتعب جدًّا، الذي يعتمد على العناد، على العناد، فلا يستجيب إلَّا بعناء، لا يتحرك إلَّا بعناء، لا يتفهَّم إلَّا بعناء، لا تُدرس معه الأمور العملية إلَّا بعناء، هذه الحالة حالة سلبية لدى الإنسان، حالة سلبية بكل ما تعنيه الكلمة.

والحالة بالنسبة للعناد لدى الإنسان هي حالة ليست ايجابية أبداً؛ ولـذلك يصف الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الجبابرة بالعناد في القرآن الكريم: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[إبراهيم:15]، (عَنِيدٍ): لا يتقبَّل الحق، فالبعض من الناس- فعلاً- لديه هذه الحالة النفسية: أنه وهو في انطلاقته الإيمانية هو متعبٌ جدًّا، لا يتحرك إلَّا بعناء، لا يتفهَّم إلَّا بعناء، لا يستجيب إلَّا بعناء، وقد يصرفه- بعد جهدٍ جهيد حتى ينطلق- قد يصرفه أبسط عائق، أو أي إشكال، أو أي استفزاز، ويؤثِّر عليه في مدى استجابته.

الاتِّجاه إذا كان بإخلاص تام لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بمحبةٍ لله، بخشوعٍ لله، بخضوعٍ لله، فالإنسان يتحرك فيه بمبادرة، باستجابةٍ تامة، بطاعةٍ تامة، بانقيادٍ تامٍ لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبرحابة صدر، وبرغبة، وهذه المسألة مهمةٌ جدًّا؛ لأن البعض من الناس- فعلاً- حتى في طريق الجهاد في سبيل الله، لا يتَّجه هذا الاتِّجاه الذي يصف الله به عباده المؤمنين بأنهم (حُنَفَاءَ)، بأنهم كما يصفهم: {وَالْقَانِتِين}[آل عمران:17]، في مواصفاتهم في (سورة آل عمران)، كما يصفهم أيضاً بأنهم مُخْبِتِين إلى الله؛ وبالتالي منقادين، مستجيبين، لا يحتاج الأمر معهم إلى عناء، وعراقيل، وتعب، ولا يمكن للناس أن يُنْجِزوا خطوةً عملية في مسيرتهم الإيمانية والجهادية، إلَّا بعناء شديد، إلَّا بتعب، إلَّا بحلحلة الكثير من العقد… وهكذا، هذا درسٌ مهمٌ جدًّا؛ لأنه يمثِّل الروح للانطلاقة الإيمانية، كيف تكون بهذا المستوى: انطلاقة سليمة من العوائق السلبية.

{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79]، وهذه براءةٌ أيضاً، هو تبرأ من الشرك، وتبرأ أيضاً من المشركين، وتحدثنا بالأمس عن أهمية البراءة، وفي طريق الإيمان، الإنسان مع إيمانه له موقف، موقفٌ من الباطل، من الضلال، من الكفر، من الشرك، ليست المسألة مع الشرك، مع الباطل، مع الكفر بالله، مع الانحراف عن نهج الله، مع الصد عن سبيل الله، أنَّها وجهات نظر، يمكن التأقلم معها والتفهُّم لها، ثم ينظر الإنسان إلى الأمور في الحياة مثل نظرة البعض، وكأن المسألة وجهات نظر هنا وهنا وهنا، وجهة نظر عن الإيمان بالله، ثم وجهة نظر عن الكفر، والشرك، والفساد، والطغيان، والإجرام، والكفر، وسابر، كله سابر، لا، ليست المسألة كذلك، لابدَّ أن يكون للإنسان موقفٌ.

هذه البراءة من الشرك، من المشركين، عبَّر عنها القرآن الكريم في مقامات أخرى، فنبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام” هو أيضاً رمزٌ وقدوةٌ في البراءة، في البراءة من أعداء الله، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة:4]، فالله قدَّم لنا نبيه إبراهيم في القرآن الكريم على أنه رمزٌ للبراءة من أعداء الله، فعندما يحاول الأمريكي والإسرائيلي، ومن يدور في فلكهم من عملائهم الموالين لهم من العرب، أن يقدِّموه رمزاً للتطبيع والولاء لأعداء الله، فهذا إساءةٌ كبيرةٌ إليه، وتناقضٌ تامٌ مع الحقيقة، التي أكَّد الله عليها في القرآن الكريم، وسيأتي- إن شاء الله- في مقامات أخرى، تسليط الضوء من خلال الآيات القرآنية المباركة على هذه المسألة أكثر.

بعد هذا العرض، وبعد هذا الإعلان للموقف، الذي هو يوجِّه أيضاً دعوة ضمنية لهم، يعني: هو يُعبِّر عن موقفه هو، عن إيمانه، عن توحيده لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويتضمن في معناه وفي فحواه الدعوة الصريحة لهم، إلى ترك ما هم عليه من الشرك، وإلى التوحيد لله والإيمان به “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولكن بهذا الأسلوب، الذي كان هو الخطوة الأولى المناسبة معهم، التي يخترق بها الحاجز الكبير، والعوائق الكثيرة جدًّا، فيصل بهم، من خلال هذا الأسلوب العملي المتدرج، إلى أن يتفهَّموا الحقيقة، إن أرادوا أن يتفهَّموها، تُصبح مُتاحةً لهم.

كيف كانت ردة فعل قومه بعد هذا؟

ردة فعلهم تدل على أنه نجح- فعلاً- في لفت نظرهم إلى الحقيقة المهمة، في أن الكمال لله وحده، وفي نقص معبوداتهم المُزَيَّفة، التي يُسمُّونها بالآلهة، عن مقام الألوهية، ونجح بأسلوبٍ مناسب، يعني: لم تكن ردة فعلهم- مع أن الموضوع حساس للغاية- لم تكن ردة فعلهم عنيفة جدًّا، أو متصلِّبة جدًّا، هُمْ صُدِموا بالموقف، وتفاجأوا بالمسألة وبما وصل بهم إليه من حقيقة، لكن ردة فعلهم لم تكن بمستوى سخط كبير جدًّا، أو عقدة شديدة؛ لأن الأسلوب بنفسه، والبداية كانت بداية موفَّقة، بداية قدَّم نفسه فيها في صورة الباحث عن الحقيقة، كانت الدعوة فيها لهم دعوة ضمنية، بلفت أنظارهم إلى الموضوع، كان التصور بالنسبة لهم أنه يُعبِّر عن موقفه الشخصي، وتوجهه الشخصي، ولـذلك كانت أقل حساسية من المقامات التالية؛ لأن له ما بعد هذا المقام مقامات أخرى، كانت موجهةً لهم بشكلٍ أكبر، ودخل بهم إلى مرحلة أخرى من الاحتجاج، من الدلائل، من التوبيخ، من التذكير… إلى غير ذلك.

عموماً، عبَّر القرآن الكريم عن ردة فعلهم بقول الله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ}[الأنعام:80]، يعني: اتَّجهوا إلى أن يجادلوه في موضوع التوحيد، وموقفه من الشرك، وبالتأكيد أنهم لا يمتلكون الحجج، لا يمتلكون الحجج، ليس لديهم الأدلة التي يمكن أن تصمد، في مقابل ما قدَّمه هو من الحجة والبرهان.

{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ}[الأنعام:80]، هو هنا يلفت نظرهم إلى خطأهم الكبير في الجدال في الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن مسألة ادِّعاء الربوبية لغير الله تعالى والألوهية، فيه إساءةٌ إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن الله ليس له ندٌّ، ولا كفؤٌ، وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مُقَدَّس، مُعَظَّم، مُنَزَّه عن النِدّ والشريك، لا يحتاج إلى معاون؛ لأنهم عندما نسبوا إلى الألوهية شركاء مع الله، يزعمون أنهم يعينون الله، وأنهم مشتركون معه في تدبير أمور الخلق، فهم بذلك يسيئون إلى الله تعالى، وهو “جَلَّ شَأنُهُ” الذي له الكمال المطلق، والمنزَّه عن النِدّ والشريك، ومُنَزَّهٌ في عظمته وفي جلاله.

{وَقَدْ هَدَانِ}[الأنعام:80]، يعني: بعيدٌ أن أستجيب لكم، لا يمكن أن أستجيب لكم، الله قَدْ هَدَانِ، وما أمتلكه من الحجة والمعرفة في كمال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوحيده، وتنزيهه، هو بما يدحض باطلكم بكله؛ لأن الحقيقة واضحة في بطلان الشرك، حقيقة واضحة، حقيقة جليَّة.

هذا المنطق هو منطق يُعبِّر عن ثقة بما هو عليه، ثقة تامة، وعن ثبات بما هو عليه، وهذا مهمٌ جدًّا؛ لأنه يزرع اليأس لدى المجادلين، حينما يُعبِّر بكل هذه الثقة، وبكل هذا الثبات: [لن أستجيب لكم، كيف أستجيب لكم وأنتم تجادلون في الله؛ من أجل أصنام عاجزة، لا تملك لا نفعاً، ولا ضراً، ولا حياةً، ولا موتاً، ولا نشوراً… ولا أي شيء؟!]، فهو يعبِّر عن هذا الثبات، وعن هذه الثقة، تجاه ما هو عليه من الموقف؛ لأنه يستند فيه إلى هداية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

هنا كما لفتنا النظر سابقاً: أن الإنسان في معتقداته الدينية، في توجهه الديني، يجب أن يكون معتمداً على هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا هو المستند، والمعتمد الذي ينبغي أن يعتمد عليه الإنسان، وليس على الخرافات، وليس على الأساطير، وليس على التَّخَرُّصات والظنون والأوهام، وبالحذر عن طرق الباطل، وأهل الباطل… وغير ذلك.

فالعبارة نستفيد منها أيضاً في قوله: {وَقَدْ هَدَانِ}[الأنعام:80]، الاعتزاز بالهدى، وإدراك قيمة الهدى، وعظمة أن تكون في طريق الهدى، وهذه مسألة مهمة جدًّا للإنسان، حينما يوفِّقك الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن تكون في طريق الهدى، فاعرف قيمة وعظمة وأهمية ما أنت فيه، ونعمة الله عليك، هي نعمة عظيمة، الإنسان إذا لم يكن للهدى عنده عظمة، أهمية، قيمة، قدر؛ يمكن أن يبتذل الهدى، أن ينحرف عن طريق الهدى، أن يتأثر بأي بدائل من الضلال والباطل، وهذه حالة سلبية لدى الإنسان، حتى فيما يتعلق بالتوفيق الإلهي، إذا كان الإنسان لا يقدِّر نعمة الهدى، فهو لا يُقدِّر النعمة عليه، يعني: حتى من باب الشكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على النعمة؛ لأن أعظم النعم على الإطلاق هي نعمة الهدى، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7].

وكما نَبَّهنا، الهُدى والضلال هما عنوانان بارزان وأساسيان في مسيرة حياة البشر، فإما أن يكون الإنسان في مسيرة حياته على هدى، وإلَّا فالبديل هو الضلال، هو الضلال والعياذ بالله، والمسألة ليست مجرد دعاوى، يعني: أن تلك الطريق تعتبر طريق هدى؛ لأن الذين على رأسها يدَّعون ذلك، أو الذين يتحركون فيها يدَّعون لأنفسهم ذلك.

فرعـون، بكل ما هو عليه من الضلال والباطل، يُخاطب قومه، يقول لهم: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29]، يَدَّعي الهداية لنفسه. المشركون، فيما هم عليه من الضلال الرهيب، يقولون وهم يوجهون التهمة إلى من؟ إلى رسول الله محمد “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، الذي هو رسولٌ من الله، ومنحه الله الهدى، ودعوته دعوة حقٍّ وهدى، يقولون: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}[الفرقان:42]، يعني: يتهمونه بالضلال. وهكذا هي المقامات التي أشار الله إليها، وتحدث عنها في القرآن الكريم، كثيرة من هذا القبيل؛ فلـذلك المسألة ليست مرتبطة بمجرد الدعوى، هناك طريقٌ واضح للهدى: طريق كتب الله ورسله، والهداة من عباده، الذين يسيرون في دربهم، وفي طريقهم.

هم فشلوا في مسألة الاحتجاج؛ لأنهم لا يمتلكون حجةً من الأساس، يعني: المسألة بالنسبة لهم استناد إلى عاداتهم، إلى تقاليدهم، إلى أشياء لا تمثل- بنفسها- حُجةً لهم فيما هم عليه من الباطل، فانتقلوا من مسألة الاحتجاج إلى العامل النفسي؛ بهدف التأثير بالتخويف من الأصنام؛ لأنهم لا يمتلكون حُجةً مقنعة، حُجةً من الأساس يعني، اتَّجهوا إلى العامل النفسي؛ بهدف التأثير بالتخويف من الأصنام.

فهم حاولوا أن يخوِّفوه، وأنه سيسبب لنفسه مصائب، ومشاكل… وغير ذلك، فهو رد عليهم بطريقة حاسمة وحكيمة، ومهتدية في نفس الوقت: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}[الأنعام:80]، لا أخاف، في مقابل حملة التخويف التي استخدموها معه، وأسلوب التخويف هو أسلوب يعتمده أهل الباطل، حتى لو قد اتَّضح باطلهم، يعني: هم يحاولون أن يكون وسيلة للضغط، للضغط على الإنسان؛ للتراجع عن الحق الذي هو حقٌّ واضح، من أجل باطلهم الذي هو باطلٌ واضح، بأسلوب التخويف، وحملات التخويف، فهو لم يتأثر بأسلوب التخويف، وكان رده مُفحماً لهم؛ لأنه لا يخاف مما يشركون به، من أصنامهم تلك، هو يعرف حقيقتها: أنها لا تملك النفع ولا الضر، ولا تملك أي قدرة أصلاً، لا للإيجابية بأن تنفع، ولا سلبية بأن تضر، وهو يُقدِّم مقارنة- ستأتي- هي مقارنة مهمة جدًّا في مسألة الخوف، من يجب أن يخاف، من حيث أنه مذنب، ومن حيث أنه في مقام المؤاخذة من الله المقتدر، ومن حيث العقوبة الإلهية، من يجب أن يخاف؟ ستأتي هذه المقارنة.

هو في البداية يقول لهم: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}[الأنعام:80]، هذا الاستثناء يأتي في حديث الأنبياء، ومع أكثر من نبيٍ في القرآن الكريم، وهو استثناء مهم جدًّا، يعني: هم لا ينطلقون من منطلقات شخصية في مواقفهم، وحتى المقام هنا ليس في مقام الاعتماد على النفس، يعني: بالاعتماد على نفسي، لا أخاف ما تشركون به، معتمداً على نفسي، على قوتي، على قدرتي، ليس كذلك، الأنبياء يحرصون على أن يربطوا موقفهم بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يشدَّوا الناس إلى الله “جَلَّ شَأنُهُ”، وأن يترفَّعوا عن الاعتبارات الشخصية، والمواقف الشخصية، وهذه مسألة مهمة جدًّا.

هو هنا يُعبِّر عن أنه ينطلق عبداً لله، مُسَلِّماً نفسه لله، وأن الأمر كله لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويعبِّر عن توكله على الله، وتسليمه لأمر الله، فيشبه ما ذكره الله في تعليماته لنا في القرآن الكريم لنبيه وللمؤمنين: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}[التوبة:51]؛ لـذلك هذا المنطق مهم جدًّا: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الأنعام:80]: يعني: لن يأتي شيءٌ من جهة الأعداء لا يعلمه الله، هو الواسع علماً، المحيط علماً بكل شيء، فأنا مخلصٌ له، ومهتدٍ بهديه، ومؤمنٌ به وحده، وأعلم أنه بكل شيءٍ عليم، فلن يحصل شيءٌ يضرني في وقتٍ يكون الله غير عالمٍ به، فهو الذي لا يخفى عليه شيءٌ، وأنا أستند إلى رعايته تعالى، وأُسلِّم أمري له “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فإذا أتى شيءٌ بعلم الله، فليكن ما كان، يُعبِّر عن ثقته بالله، عن التجائه إلى الله، عن اعتماده على الله، عن توكله على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}[الأنعام:80]، وهو هنا بعد أن ذكَّرهم بالحق، لفت نظرهم إلى الحقيقة، إلى ما كانوا غافلين عنه، جاهلين به، والمفترض بالإنسان في مثل هذه الحالة أن يتفاعل، بالتقبُّل، بالاستجابة، عندما يكون الإنسان في الاتِّجاه الخطأ، وأتى من يُذكِّره، ومن يلفت نظره، ومن يُنَبِّهه، فالاتِّجاه الصحيح للإنسان الذي يدل على الرشد، يدل على الإنصاف، هو: أن يتفاعل إيجاباً، أن يتقبَّل؛ بينما إذا كان الإنسان مُتبلِّد الذهن، ومعقَّد النفس، لا ينفع فيه أن يُذَكَّر، تُعرَض له الحقائق، تُعرَض له البراهين، تُقدَّم له الحُجج، لا ينفع معه شيء، مهما كانت الحُجَّة، مهما كان وضوح الحق، مهما كان وضوح الحقيقة؛ يبقى معانداً، لا يتفاعل؛ لأنه مقفل الذهن، متبلِّد الذهن، وهو في نفس الوقت معقَّد النفس، ومكبَّلٌ بالضلال، وأسيرٌ للباطل، البعض من الناس يصل به الحال إلى هذا المستوى: أن يكون أسيراً للباطل، ومُكبَّلاً بالضلال.

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}[الأنعام:81]، يستمر في مخاطبتهم تجاه مسألة التخويف، التي حاولوا أن يؤثِّروا عليه بها، {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، هنا قدَّم مقارنة مهمة جدًّا:

(كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ): الأصنام التي تنحتونها أنتم، لا تملك شيئاً، لا حياةً، ولا نفعاً، ولا ضراً، ولا أي شيء، وليس لها أي قدرة، هل أخاف منها؛ لأنكم منحتموها أنتم وسام الألوهية كصفة زائفة، ليس لها أي حقيقة في الواقع، اسم فقط، اسم ليس له حقيقة ولا واقع، {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}.{وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}[الأنعام:81]، يعني: أنتم المذنبون، أنتم الذين يجب أن تخافوا من ذنب شرككم بالله تعالى، فأنتم تُقِرُّون بالله، وَتُقِرُّون بقدرته على كل شيء، وأنه الذي فطر السماوات والأرض، وعلى كل شيءٍ قدير، ونؤمن جميعاً نحن وأنتم به؛ إذاً يجب أن تخافوا أنتم؛ لأنكم أنتم المذنبون ذنبًا خطيرًا جدًّا، وأنتم في مقام المؤاخذة الإلهية، في مقام العقوبة الإلهية، أنتم في الموقف الخطر جدًّا، يعني: في الذنب، الذي هو ذنب خطير على الإنسان: من حيث المؤاخذة من الله، من حيث العقوبة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من حيث أنه يصبح في مشكلة مع الله “جَلَّ شَأنُهُ”، فأنتم الذين يجب أن تخافوا أنكم أشركتم بالله.

{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}[الأنعام:81]، وهذا كما نَبَّهْنا في كل المواطن الماضية: أن المستند والأساس في المعتقدات الدينية هو ما ثبت أنه من الله، بالحُجَّة، وبالبرهان، وليس بالشبه وبالادِّعاءات الفارغة، بالحُجَّة وبالبرهان؛ ولـذلك يجب أن يكون الإنسان مُتنبِّهاً لهذه المسألة، إيمانك يكون مبنياً في مبادئه، في أسسه، في عقائدك الدينية، على أساس ما هو من الله، من هدى الله، ببرهانٍ واضح، بدليلٍ واضح من هدى الله “جَلَّ شَأنُهُ”، وأن يكون الإنسان حذراً من الآراء الباطلة، والزخارف الزائفة، والخرافات التي باسم أنها من دين الله وليست من دين الله؛ لأن هناك من يفترون على الله الكذب، هناك من يزخرفون زخارف القول؛ للإقناع بالباطل، فئات ضالَّة، أهل الضلال، ينشطون في التضليل للناس، اليهود في هذا العصر لهم نشاط هائل، ويركِّزون على الاختراق الفكري، والثقافي، والعقائدي، ولهم ناشطون، كُتَّاب يكتبون في مواقع التواصل وغيرها، في شبكة الإنترنت، في القنوات الفضائية التي هي منابر للضلال، وتستخدم للضلال من قِبَلِهِم، القنوات التابعة للمُضِلِّين.

فهو هنا يُنَبِّه على هذه الحقيقة: {أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}[الأنعام:81]، يعني: ليس لكم مستندٌ في باطلكم من الله، ليس هناك حُجَّة، ليس هناك برهان، لا هدى من الله، ولا كتاب من كتب الله، تستندون إليه فيما قمتم به، فيما وصلتم إليه من الانحراف، بالشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، من الذي هو آمن، ويستحق أن يقال له: هو آمن، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؟ والفريقان في الآية، حين قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ}:

فريق من آمن بالله، وأخلص له، إيماناً سليماً من الشوائب.والفريق الآخر: الفريق الذي أشرك بالله ما لم يُنزِّل به سلطاناً.

{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، يعني: تفهمون الأشياء برؤية واضحة من خلال المقارنة.

المقارنة في موضوع التخويف درسٌ مهمٌ جدًّا، من أحوج ما نحتاج إليه في هذا الزمن؛ لأن من أكثر ما يركِّز عليه الطغاة والمجرمون، والضالُّون، والمضلُّون، والمنافقون، كل فئات أولياء الشيطان، هو: التخويف، وكل القائمة التي يخوِّفون منها هي في قائمة: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}[الزمر:36]، يخوِّفونك بأمريكا، بما تمتلكه أمريكا من قوات عسكرية، وقدرات عسكرية، بما تقوم به من ضغوط اقتصادية… وغير ذلك، ويؤثِّر التخويف على الكثير من الناس، يعتبر التخويف من أكثر العوامل المؤثِّرة على الكثير من الناس.

يعني: ربما لو نتأمل في واقع أمتنا الإسلامية، كيف تتعامل مع قضايا واضحة، الحقُّ فيها واضحٌ تماماً، ليس هناك التباس لدى الناس فيها، مثل: القضية الفلسطينية، والمظلومية الفلسطينية، مظلومية الشعب الفلسطيني، وهذا التخاذل في واقع الأمة، أكبر سببٍ فيه لدى الكثير هو الخوف، لم يتحركوا، لم يجرؤوا أن يكون لهم موقف؛ خوفاً من أمريكا، على مستوى الحكومات والأنظمة، وكذلك خوفاً من الحكومات والأنظمة على مستوى الكثير من الشعوب، وهذه إشكالية خطيرة على الناس؛ لأنها ليست منجية، يعني: ما يخاف منه الناس، وبالتالي يتنصلون عن مسؤولياتهم الإيمانية والدينية، هم يسببون لأنفسهم من سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، ما هو الشيء الذي يجب أن يخافوا منه فعلاً، وما لا يُقارن، ما يخافون منه، وقد تخلَّوا عن ذلك بسببه، يعني: عندما يخافون من أمريكا- مثلاً- من قدراتها العسكرية، ما هي قدرات أمريكا العسكرية في مقابل عذاب الله وسخط الله، في مقابل لحظة واحدة من جهنم، عذاب الله في الدنيا والآخرة؟ لا شيء، أو في مقابل ما بحوزة إسرائيل من قدرات للقتل والبطش والجبروت؟ كذلك لا يساوي ساعة واحدة في نار جهنم، ولا لحظة واحدة في نار جهنم.

ولـذلك يجب أن يكون الإنسان واعياً، يعني: حتى بحساب الخوف، بحساب الخوف، ما هو الذي يجب أن أخاف منه؟ أين هو الخطر الأكبر؟ أين هو الضرر الأشد، الذي يجب أن أحسب حسابه: ما يأتيني من جانب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إن عصيته، إن فرَّطت في مسؤولياتي، إن تنصلت عن واجباتي، إن خالفت هدى الله وتعليماته؛ أو ما يأتيني من جهة الناس؟ ما يأتي من جهة الناس هو لا شيء في مقابل عذاب الله وسخط الله.

ولـذلك يجب أن يكون المعيار في مسألة ما يجب أن نخاف منه، يجب أن يكون المعيار معيار القرآن الكريم، فأولئك الذين اتَّجهوا من أبناء هذه الأمة للخضوع لأمريكا، وطاعتها، والولاء لها، وتقديم الدعم لها (المال)، والطاعة لها؛ هُمْ ابتعدوا عن الله، أصبحوا في واقعهم يعتبرون أمريكا وكأنها أكبر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكأنها نِدٌّ لله “جَلَّ شَأنُهُ”، هُمْ في الموقف الخطير على أنفسهم من عذاب الله، ومن سخط الله “جَلَّ شَأنُهُ”؛ لأنهم بخضوعهم لأمريكا يدعمون الباطل، يقفون مع الباطل، يخدمون الباطل، يُتيحون المجال للظلم، للإجرام، أكبر عامل استفادت منه إسرائيل، في عدوانها على الشعب الفلسطيني، هو: تخاذل الأمة، أمكن لها أن تفعل ما تفعل، بذلك المستوى من الوحشية والإجرام والطغيان.

الآن، على مستوى أكبر، ومستوى يُعبِّر عن المبادئ والدين، ما الذي يعيق أكثر الأمة عن الاتِّجاه وفق هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أن يكون لهم الموقف القرآني، أن يتحركوا وفق توجيهات الله “جَلَّ شَأنُهُ”؟ هو الخوف، مؤثرٌ عليهم إلى درجة كبيرة جدًّا.

ولـذلك يجب أن يكون هناك تذكير بهذه المقارنة، وترسيخ لها؛ لأنها سَتُمثِّل علاجاً وحلاً لهذه العقدة، لهذه العقدة لمن يتذكر، لمن يتفهَّم. من هو في الموقف الأقوى: من يعتمد على الله، ويتوكل عليه، ويعتمد على نصره وتأييده، أو من باءوا بغضبٍ من الله، وسخطٍ من الله، ولهم الوعيد الشديد في القرآن الكريم توعدهم الله به، ومن يواليهم؟

{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنعام:81]، أنت عندما تخاف من عذاب الله، وتتَّجه لما يقيك من عذابه؛ فأنت أولاً ستأمن من عذابه، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو قادرٌ أيضاً على أن يُؤمِّنك من ضُرِّ الآخرين، ونجد الدرس العظيم في قصة نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَام”، كما سيأتي في مقامات أخرى، حاولوا حتى أن يحرقوه بالنار، لكنهم فشلوا في ذلك؛ ولـذلك هذه المقارنة مهمة جدًّا.

نكتفي بهذا المقدار.

وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • من (وعي) المحاضرة الرمضانية السابعة للسيد القائد 1446هـ
  • المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (نص + فيديو)
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد القائد 1446هـ
  • نص المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1446هـ
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (9) للسيد القائد 1446
  • من (وعي) المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد القائد 1446هـ
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الـ8 للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد القائد 1446هـ
  • نص المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1446هـ
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (8) للسيد القائد 1446