لجريدة عمان:
2025-04-26@08:04:11 GMT

تأملات في صراع المجتمعات والحضارات

تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT

يكتسب هذا المقال دافعيته من جذوة الشغف الذي يشتعل مع مظاهر الحياة وتجاربها؛ فيقترب حينا من محاولة فهم العقل البشري وماهيته الغامضة، ويقترب حينا أخرى من فهم سلوك الإنسان على مستوياته الفردية والجمعية التي تسعف في فهم حركته الحضارية واستشفاف مستقبلها. سبق أن سردت حديثا -في كتب سابقة- عن العقل والوعي والروح ومعضلة الجدلية الفلسفية والعلمية، وكذلك عن تطور الإنسان من الناحية البيولوجية والفكرية والحضارية، والحديث هنا يتجدد في هذا الشق المبهم الذي يعتبر مكونا رئيسا في حياتنا؛ إذ نلمح ديناميكيته في كل شيء؛ فنراه في سلوك الإنسان ومجتمعاته بما في ذلك صراعاته الساعية إلى تحقيق الأنا الفردية والجمعية، وتحقيق التطور في كل زوايا الحياة وأجزائها.

تتفاوت قوانين الحياة وتفاعلاتها مع المحركات العقلية الواعية التي لا يمكن أن تتوحد سبل فهم سلوكياتها وأنماط توجهاتها، وأحد قوانين الحياة صراعات الذات مع الذات وصراعات الذات مع الآخر وصراعات المجموعات مع المجموعات وصراع المجتمعات والحضارات. تتبنى كل هذه الصراعات موقفا واحدا يتصل بدافع البقاء وبلوغ أعلى مستويات هرم حاجات الحياة وفقا لتسلسل «ماسلو» الهرمي للاحتياجات «Maslow s hierarchy of needs» الذي يتفرّع من نظريته في الدافع البشري، وتتملكنا الكثير من التساؤلات عن دور العقل ومحفزاته ودور الدماغ ومنظومته البيولوجية العجيبة في صناعة هذا الدافع البشري الذي يتعلق بسد فجوات الشقاء والفناء عبر منطلقات البقاء التي يصرف جهده لأجلها بواسطة الصراعات سواء تلك التي يمكن تصنيفها بالنظامية وغير النظامية التي توجد أيضا عند بقية الكائنات غير العاقلة مثل الحيوانات والنباتات؛ فالكل في عملية صراع لأجل البقاء إلا أنّ الصراع غير النظامي الذي يرتبط بعالم النبات والحيوان يعود إلى مكتسبات فطرية لا واعية تتحرك وفق النمط الجيني الغريزي، وحينها تنتفي منها صبغة التمرد على قوانين الحياة وأخلاقياتها؛ فتبقى هذه التهمة ملتصقة بالكائن العاقل الوحيد «الإنسان» الذي يعبّر عن دافعه للبقاء وبلوغ أعلى مستويات التفوق في الحياة عبر ممارسات تشذّ في بعض حالاتها عن المنطق الإنساني وأبجدياته الأخلاقية التي يبرز وجودها في جوهر الوعي العقلي الذي يتميّز به الإنسان دون سواه من الكائنات الأخرى، إلا أنه بتمرده على هذه الأبجديات الأخلاقية تنتفض في داخله فرائصُ الوعي التي يمكن أن نطلق عليها «الضمير»؛ فتحرّك في بعض حالاتها وعيا داخليا بوجود المنزلقات الأخلاقية؛ فنجد من ينتبه ويصحح المسار، ونجد من يصنع التبرير الزائف ليغلب بواسطته توجساته الأخلاقية المستيقظة، ونجد من لا يذعن ولا يستجيب لنداءاته الداخلية الداعية إلى العودة إلى نظام العقل وسننه الأخلاقية.

يشهد التاريخ وفقا لحركته الاعتياديّة المتماشية مع قوانين الحياة، ولنمط الإنسان المندفع لفرض وجوده وسبل بقائه أنّ الصراعَ حتميٌ لا محالة منه، وأن معطيات التاريخ تشير إلى ضرورة هذا الصراع، وفي الوقت نفسه تؤكد على خطره الجاثم على المجتمعات الإنسانية ومستقبلها؛ ولا غرو أن نجد لهذا الصراع أشكاله المتعددة التي تبدأ بصراع الإنسان مع ذاته وفق ظاهرة صراع الأفكار والتناقض في أنماط التفكير التي تحاول أن تستجيبَ لتوجهات دافع البقاء، ويشمل هذا الصراع مع الذات صياح الضمير حيث تقبع الذات الأخلاقية المتصلة بعالم الوعي، وهذا ما استدعى علم النفس أن يشخّصَ بعضَ حالاته أمراضا نفسية لا تقف عند تفسير محدد بل تتعدد وتتغاير نظرا لخلفيات كثيرة منها غياب الإيمان الذي يشمل الدين وظروف الحياة الكثيرة. تتنامى تطورات صراع الذات إلى صراع المجتمعات والحضارات، وجميعها ترتبط بالمحركات نفسها التي تحرك الصراع الفردي وأهمها محرك الدفع إلى البقاء وإقرار مبدأ الوجود، وهذا ما يفسّر حركة التاريخ التي تعجّ بالصراعات المتمثلة في الحروب وصعود الحضارات وسقوطها، ومهما تحرك الشعور الكاره لحركة التاريخ وضرورته الحضارية فإن قانون الحياة يحتّم وجود هذا الصراع الذي لا يمكن أن نجد له أداة تنظّم حركته أقوى من أداة الوعي الأخلاقي، ولا يمكن لهذا الوعي أن يترسّخ ويعمل دون منهج فكري صُلب، وهنا تتحرك كثير من الآراء نحو ضرورة وجود الإيمان الذي يمكنه أن يُثبتَ بُوصلةَ الأخلاق، ويحدد معنى الحياة وفلسفتها الكبرى دون أن يضعضع المنهجَ الفكري أيٌّ من تناقضات العقل وتنازعاته الداخلية؛ فينطلق السؤال: أيُّ صبغةٍ يمكن أن تحتوي الإيمان؟ أمنطلقات دينية أم مادية؟ تتعدد الصبغات التي يمكن أن تسكّن مفهوم الإيمان وتمنحه المعنى؛ فيمكن للصبغة العلمية الخالصة التي نعرفها بالمادية أن تُغلّفَ بغلاف إيماني يتمثل في تولّد المبادئ المادية مثل العلمانية والإلحاد والفلسفات ذات الطابع المادي المحض، وهناك الصبغة الدينية التي تتنوع أيضا في مشاربها المانحة في توصيف الإيمان إلا أن الإيمان المقصود يكمن في تسكين العقل في منطقة التوازن التي ترى ضرورة للتفاعل مع الجزء المادي «العلمي» بجانب التفاعل الروحي الذي يعكسه الإقرار بمسلمات الإيمان التي تبدأ بوجود الخالق «الله» وتكتمل بالممارسات الدينية. تتفاعل كل هذه الأدوات -المادية والدينية- في صناعة الوعي وتوليد الطاقة المعززة لحركة الأفراد والمجتمعات إلا أن التباين في قدرة كل من هذه الأدوات في التأثير السلوكي ملحوظ عبر مظاهر المجتمعات والحضارات الذي لا يمكن قياسها في المظاهر الحضارية مثل التطور المدني والصناعي والثقافي بل تمتد إلى المشاعر الإنسانية التي تترجمها ممارسات أخلاقية سامية. تكمن الإشارة في السياق السابق إلى مجتمعات تستأثر بالمنهجية المادية دون الدينية؛ فتتبنى العلم إيمانا ونظاما، ومجتمعات تتفرد بالمنهج الديني المتعصّب للتراث الكاره لأيّ تحديث علمي، ومجتمعات استطاعت أن تجد ملاذها في العلم والدين معا دون أن يطغى أحدهما على الآخر فيركسه. تُطْلِعُنَا قراءةُ التاريخ بنسبيتها أن كلا من هذه المجتمعات بأيديولوجياتها المتغايرة تشق طريقها في البناء الحضاري مع تفاوت الدرجات، ولا يمكن لهذا البناء الحضاري أن يتشكّل دون وجود غريزة الصراع المحكومة بالأطر العقلانية أو غير العقلانية، وهذه الأطر تحددها المنهجية التي لا يستقيم شأنها دون تحقق التوازن بين العلم والإيمان، ومن اليسير عبر أدوات رقمية متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي أن نعيد فهمنا بهذه العلاقة بين العلم والإيمان ونحللها؛ فيتجلى تأثيرها في البناء الحضاري مع تكامل العناصر الإنسانية المتمثلة في المُثُل الأخلاقية التي تضبط مبدأ صراع المجتمعات والحضارات وفق ضوابط عقلانية متزنة. من السهل كذلك عبر الذكاء الاصطناعي أن نقيس مستويات الوعي للمجتمعات والحضارات وفق القاعدة الشمولية الكلية التي تعتمد على عناصر جزئية مثل قياس ترددات «Frequencies» النشاط العقلي والوعي والدماغ للأفراد داخل المجتمعات، هذه أداة تتعلق بتحليل مفاهيم الوعي والطاقة عند العقل الإنساني ومستوياتها، ولعلّ مقالا قادما -بإذن اللّه- يتناول هذا المبحث العلمي-الفلسفي العميق.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الصراع لا یمکن یمکن أن إلا أن

إقرأ أيضاً:

صدمات الطفولة.. كيف تترك بصمتها في العقل والجسم؟

لا تمر مشاعر القلق أو الصدمات التي يختبرها الطفل مرورًا عابرًا، بل يستمر تأثيرها العقلي والنفسي والبدني حتى مراحل متقدمة من العمر، حيث قد تظهر اضطرابات في المزاج، والاكتئاب، وقد تصل إلى الإصابة بألزهايمر. لكن الأسوأ من ذلك هو أن هذه النتائج تتفاقم إذا لم يتم تلقي العلاج المناسب.

صدمات منذ اليوم الأول في الحياة

يمكن للطفل حديث الولادة أن يختبر في يومه الأول بعد الميلاد ما يكفي من التوتر والأحداث المجهدة التي قد تصل إلى مرحلة الصدمة أو ما يُعرف بـ"التروما"، والتي تهدد الأطفال من عمر يوم واحد وحتى 18 عامًا. وبحسب وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية، فإن أبرز أنواع الصدمات التي يتعرض لها الأطفال تشمل:

الإساءة أو الاعتداء النفسي أو الجسدي أو الجنسي. العنف المنزلي أو المدرسي أو المجتمعي. الحروب والكوارث الوطنية. فقدان الممتلكات أو النزوح. الفقدان المفاجئ أو العنيف لأحد الأحباء. تجارب اللجوء أو الحرب. الضغوط المرتبطة بعمل أحد أفراد الأسرة في المجال العسكري. الحوادث الخطيرة والأمراض التي تهدد الحياة. الإهمال والتجاهل والتعرض للتنمر. الأطفال في مراحل مختلفة يظهرون علامات واضحة على التأثر بالصدمات مثل القلق والاكتئاب (شترستوك)

وهو ما يظهر في صورة علامات واضحة وعديدة على الطفل، تؤكد إصابته بالصدمة أبرزها:

إعلان شعور الأطفال في سنة ما قبل المدرسة بالخوف من الانفصال والكوابيس والبكاء أو الصراخ كثيرا مع ضعف الشهية. إصابة الأطفال في عمر المرحلة الابتدائية بالقلق، والشعور بالذنب والخجل وعدم التركيز، مع صعوبة النوم والانسحاب من المجتمع وعدم الاهتمام، مع عدوانية واضحة. إصابة الأطفال في عمر المدارس المتوسطة والثانوية بالاكتئاب وإيذاء النفس وتعاطي المخدرات وأيضا الانسحاب أو عدم الاهتمام أو اتباع السلوك المحفوف بالمخاطر والعدوان. الصدمات تؤدي إلى تغيرات عصبية قد تزيد من خطر الإصابة بالأمراض النفسية (شترستوك) صورة أقرب لما يحدث حقا

في عام 2012، حاول مجموعة من الباحثين في البرازيل دراسة "تأثير ضغوط الطفولة على الأمراض النفسية" بصورة أعمق، تحديدا عبر التصوير بالرنين المغناطيسي، وقد أظهرت تقنيات التصوير العصبي العديد من التغيرات العصبية الهيكلية مثل:

انكماش الحصين وهو الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ، وأيضا انكماش الجسم الثفني وهي عبارة عن حزمة من الألياف العصبية تعمل على ربط نصفي الدماغ أحدهما مع الآخر وتبادل المعلومات. زيادة خطر الإصابة باضطرابات المزاج. زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب. زيادة خطر الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب. إمكانية الإصابة بالفصام. زيادة احتمالات إدمان المخدرات.

وفي مقال علمي نشر بمجلة "السلوك البشري في البيئة الاجتماعية" عام 2018 أشارت الباحثة هيثر دي إلى العواقب السلبية طويلة المدى للصدمات المعقدة، تقول دي "تتسبب مثل تلك الصدمات في تغيرات عصبية حيوية تؤثر على نمو الإنسان وتسبب تغيرات كبيرة في وظائف المخ وهياكله المسؤولة عن الأداء الإدراكي والجسدي، فضلا عن أعراض جسدية وعقلية وعاطفية يمكن أن تستمر حتى مرحلة البلوغ".

مزيد من التأثيرات البدنية والنفسية والعقلية تظهر على الأطفال بوضوح عقب التعرض للصدمات أبرزها:

إعلان الشعور بالإجهاد البدني وأعراض جسدية مثل الصداع وآلام المعدة غير المبررة. تأثر القدرات المعرفية والعمليات العاطفية العقلية فتصبح أمور مثل حل المشكلات والتخطيط وتعلم معلومات جديدة، والتفكير وفق منطق فعال أمرا صعبا وغير ممكن. تدني احترام الذات والشعور بعدم القيمة والعار، والذنب واللوم المتواصل للذات والشعور بالعجز. صعوبة في إدارة العواطف التي تصبح مع الوقت عامرة بالخوف والقلق. تأثر قدرات الطفل على تكوين علاقات اجتماعية مع الأصدقاء أو مقدمي الرعاية أو المحيطين به بشكل طبيعي. مشاعر القلق والصدمات التي يختبرها الطفل تؤثر عليه حتى مراحل متقدمة من العمر (شترستوك) من التهاب الأعصاب إلى ألزهايمر

الأطفال أكثر عرضة للتأثر بالأحداث المجهدة في حياتهم بسبب ضعف قدرتهم على التعامل مع التوتر. وقد ربط باحثون من معهد برشلونة للصحة العالمية -بالتعاون مع عدة مراكز أخرى- بين ضغوط منتصف العمر وصدمات الطفولة، وزيادة خطر الإصابة بمرض ألزهايمر نتيجة لارتفاع مستويات بروتين بيتا أميلويد، الذي يعد بروتينًا أساسيًا في تطور مرض ألزهايمر، بالإضافة إلى زيادة احتمالات الإصابة بالتهاب الأعصاب.

ويقول الباحث إيدر إرينازا أوركيو، أحد المشاركين في الدراسة، إن الاستجابة للتوتر تختلف بين الأفراد؛ ففي حين يتراكم بروتين الأميلويد لدى الرجال، تصاب النساء بضمور الدماغ. ويزداد الأثر بشكل أكبر لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ من الأمراض النفسية، حيث يتأثرون لاحقًا بانخفاض حجم المادة الرمادية في أدمغتهم مع تقدمهم في العمر.

هكذا تُجنب طفلك المعاناة مبكرا

"لا يمكن تجنيب الأطفال الصدمات أو المعاناة، فهي خارج دائرة التحكم، كالمرض أو التعرض لمشاهد سيئة، أو الحوادث وغيرها". تحسم الأخصائية النفسية دعاء السماني الأمر مؤكدة للجزيرة نت "سوف يعاني الطفل ويتعرض للصدمات على طول الطريق، ولذلك جانب إيجابي فهي تساهم في تهذيب النفس، وتساعد الطفل على النمو وتكوين أساليب ومهارات أفضل للتكيف، لكن هذا مرهون بالطريقة التي يتم التعامل بها مع الطفل عقب الصدمات".

إعلان

وتنصح السماني بإسعافات نفسية أولية إن تعرض الطفل لصدمة أو إجهاد نفسي شديد، تقول "في البداية ندع الطفل يتحدث بحرية عما حدث بطريقته، دون أسئلة تشعره بالتقصير أو أنه مسؤول عما جرى، أو أنه كان يمكن أن يتصرف بطريقة أفضل، التعافي من الصدمات يستغرق وقتا، يختلف من طفل لآخر بحسب شخصيته وطبيعة الصدمة التي تعرض لها، المهم ملاحظة سلوكه، والطريقة التي يتعامل بها مع من حوله، مادامت طبيعية فهو في طريقه للتحسن، أما إذا تأثرت حياته أو بدا عليه تغييرات فيجب اللجوء لمختص نفسي".

مقالات مشابهة

  • خطبتا الجمعة بالحرمين: حين ينفصل العقل عن الإيمان ينهار العمران وتنحرف القاطرة عن القضبان.. والإفلاس الحقيقي إتيان المرء يوم القيامة متلبسًا بظلم الناس
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • عاجل. ترامب: عدم السيطرة على كامل أراضي أوكرانيا هو التنازل الذي يمكن أن تقدم
  • تأملات قرآنية
  • هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبدالعزيز الملكية ترفع مستوى الوعي في المجتمعات المحلية حول حماية البيئة والحفاظ على موائلها الطبيعية
  • مشاكل شائعة في الفك تسبب صداع
  • المفتي من جامعة الصالحية الجديدة: إحياء القيم الأخلاقية ضرورة دينية
  • الأرض المباركة في خطبة الجمعة.. تأملات في تاريخ وتجليات سيناء
  • صدمات الطفولة.. كيف تترك بصمتها في العقل والجسم؟
  • موقف عمومي