جوهر النظام.. غُرَّة الأراجيز العمانية
تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT
كان النَّظْم العلمي من طرائق التأليف القديمة التي استعملها العمانيون لما يزيد عن ألف سنة، إذا علمنا أن أقدم شواهده ترجع إلى القرن الثالث الهجري. ولعل شهرة المنظومات العلمية وانتشارها وتداولها متفاوت من زمان إلى آخر، كما أن شهرة بعضها ظلت ردحًا طويلًا من الزمن، وولجت إلى عالم الطباعة في العصر الحديث مثل كتاب (الدعائم) لأحمد بن النظر السمائلي (ق5هـ)، وهو أبرز الآثار من النظم العلمي في عمان خلال العصر الإسلامي.
وفي القرن الرابع عشر الهجري برز كتاب (جوهر النظام في الأديان والأحكام) لنور الدين عبدالله بن حميد السالمي (ت:1332هـ)، وقد قُدِّر له أن يلقى قبولًا وانتشارًا بين الخاصة والعامة في كثير من بلدان وقرى عمان، ولعل مكانة مؤلفه من بين أسباب ذلكم القبول والانتشار. ونوجز التعريف بالكتاب بأنه أرجوزة في الأديان والأحكام تتألف من نحو أربعة عشر ألف بيت، في أربعة أجزاء مرتبة على كُتُب تتفرع منها أبواب في أصول الدين والفقه والسنن والآداب. وقد شرع المؤلف في تأليفه بمكة المكرمة في رحلته إلى الحج سنة 1323هـ كما يقول في مقدمته:
شرعتُ فيه ببلاد اللهِ ** فكان هذا من عظيم الجاهِ
ومن الطريف في قصة التأليف أن نور الدين السالمي جدَّد بالكتاب رسوم أرجوزة فقهية أخرى أُلِّفت في القرن الذي سبقه وهي المسماة (دلالة الحيران)، من نظم العالم الفقيه سالم بن سعيد الصايغي المنحي (ق 12-13هـ) وقد صنفها الصايغي على مراحل حتى بلغت نحو 12 ألف بيت، ثم رتبها جُمَيِّل بن خميس السعدي (ت:1278هـ) صاحب كتاب (قاموس الشريعة) وجعلها في 63 بابًا. ومع أن أرجوزة الصايغي لم تحظَ حتى اليوم بالتحقيق والنشر غير أنه يدلُّ تعدد نُسَخها المخطوطة على انتشارها وتداولها بين أهل عُمان منذ زمان مؤلفها حتى جاء نور الدين السالمي فجعلها أصلًا لكتابه (جوهر النظام)، وذكر ذلك مع الثناء على الصايغي:
وبعدُ إن خير نظمٍ بالغِ ** في الفهم مبلغًا نظامُ الصايغي
فإنه حوى بيان الشرعِ ** من واجبٍ وجائزٍ ومنعِ
وانصبَّ في سهولة الألفاظِ ** وطاب حفظه لدى الحُفّاظِ
ثم فصَّل عن عمله في أرجوزة الصايغي من إصلاح العبارة وحذف التكرار والزيادة. وبعد أن ظهر الكتاب وانتشر على أيدي النُّساخ حينذاك احتفى به أهل عمان، ثم زاد الاحتفاء به إثر ظهور أول طبعة له بعناية أبي إسحاق إبراهيم اطفيش وتقريظ العلامة إبراهيم بن سعيد العبري، وهي نشرة المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1346هـ. ومنذ ذلك الحين توالت طبعات الكتاب حتى بلغت العشرين، وقاربت الخمسين بحساب المعاد تصويره مرارًا كما يذكر أستاذنا الباحث سلطان بن مبارك الشيباني في كلمته للطبعة الأخيرة التي صدرت هذه السنة عن مكتبة خزائن الآثار، وهي نشرة علمية متقنة في ثوب قشيب فاقت كل الطبعات الفائتة وأبقت على تعليقات العلّامتين أبي إسحاق أطفيش وإبراهيم بن سعيد العبري. ومما أود ذكره في شأن الاحتفاء بجوهر النظام والشغف به ما حكاه لنا المعلم سعيد بن عبدالله بن غابش (ت:1423هـ) أنه كان بنزوى أناسٌ يُسَمَّونَ (الجوهريين) وكانوا يجتمعون في حلقات لقراءة جوهر النظام وإنشاده غيبًا. ونحن قد أدركنا في أيام الصبا بعض الآباء يجلسون بين العشاءين لقراءة جوهر النظام بطريقة الإنشاد، ويتوقف القارئ بين حين وآخر كي يناقش الحضور بعض المسائل أو لشرح معنى كلمة، وتارة يأتون بشيء من الأخبار مما له صلة بالنص. وكانوا كثيرًا ما يستشهدون بأبيات من جوهر النظام في مجالسهم وفي شؤون حياتهم، ومن المواقف التي أذكرها في صباي أننا كنا نتبع طناء النخل في بلدنا فاختلف أحد رجال البلد مع الدلّال في طناء بعض النخل، وحجة الدلّال أنها لم تدرك بعد، فرد عليه ذلك الرجل بما معناه: هذه النخلة بدأت تصبغ (أي تزهو ويَصفَرّ لون الثمر)، ثم أردف: يقول الشيخ السالمي:
والزهو فيها وهو الاحمرارُ ** وهو الدَّراك وهو الاصفرارُ
وفي أيام تعلُّمنا في مدرسة القرآن قبل سن التعليم النظامي حَفَّظنا المعلم جملة من أبيات جوهر النظام، ومنها من باب العلم في أول الكتاب:
لا يورَثُ العلم من الأعمامِ ** ولا يُرى بالليل في المنامِ
لكنه يحصل بالتكرار ** والدرس في الليل وفي النهارِ
مثاله شجرة في النفسِ ** وسقيها بالدرسِ بعد الغرسِ
ولعل من أكثر أبواب الكتاب التي عُني بحفظها الخاصة والعامة، وترددت في المجالس والحلقات وحتى الكتاتيب أبواب الجزء الرابع في السنن والآداب، ومن بينها أبياتٌ من «باب الضوابط» في الكتاب، وهو بابٌ لغويٌ ضبط فيه المؤلف جملة من الألفاظ والمفردات، وذكر في أوله أن «الأصل» أي الصايغي صاحب الأرجوزة ذكر بعضها، ومنها كذلك «باب جامع الآداب» الذي صار حفظه في بعض المدارس القديمة من التقاليد، وهو بِحقّ نص شعري فريد في الحِكَم والأخلاق والآداب.
محمد بن عامر العيسري: باحث في التراث العماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المعارضة المصرية بين المبدئية والبراجماتية
مع تحميل النظام المصري الحاكم بقيادة السيسي المسئولية الكبرى عن حالة التأزم السياسي في البلاد؛ إلا أنه لا يمكن إعفاء المعارضة بشقيها الراديكالي والإصلاحي من المسئولية أيضا، أيا كانت النسبة. وليس خافيا أن سببا رئيسا من أسباب استمرار النظام حتى هذه اللحظة رغم فشله، ورغم حالة الغضب الشعبي الكبيرة منه، تعود إلى غياب المعارضة الموحدة والقادرة على تقديم بديل مقنع للشعب المصري، ولكل من يرغب في دعم عملية التغيير الديمقراطي.
يمكننا أولا التفريق بين المعارضة المنظمة، وتلك المعارضة العامة التي تنتشر بين قطاعات شعبية ونخبوية واسعة، وهذه الأخيرة تزايدت خلال السنوات القليلة الماضية مع تصاعد الأزمات الاقتصادية الناتجة عن سياسات الحكم القائم، وكذا شعور هذه القطاعات بتبدد الأمل في أي وعود لتحسين أوضاعها بعد تعهدات متتالية من رأس النظام بهذا التحسين خلال سنة أو سنتين.. إلخ، وقد مر من الوقت أضعاف ذلك دون تحقيق شيء سوى بناء مشروعات إسمنتية؛ من أكبر عاصمة إدارية (لا تمثل أولوية) إلى بناء أطول برج في أفريقيا، وأكبر مسجد وأكبر كنيسة، وبناء قصور رئاسية متعددة، وشراء طائرات رئاسية عملاقة دونما حاجة إلى ذلك، أو حتى شعور هذه القطاعات بجرح كرامتها وكرامة الوطن فيما يخص التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وحقوق مصر المائية، وتقزم دور مصر الإقليمي في مواجهة دول أو دويلات لا تساوي مساحة أحد أحياء القاهرةّ.
هذه المعارضة الشعبية تتصاعد كمّا وكيفا، وترتفع الأصوات تدريجيا بنقد رأس النظام مباشرة، وتحميله مباشرة المسئولية عن كل مظاهر الفشل والفساد، والاستبداد، والإفقار، بعد أن كانت تقتصر على من هم دونه، لكن هذه المعارضة لا تجد من ينظمها ويتبنى مطالبها، ويضعها في المسار الصحيح، وكان المفترض أن تقوم بذلك المعارضة المنظمة في أحزاب وحركات شعبية.
المعارضة الشعبية تتصاعد كمّا وكيفا، وترتفع الأصوات تدريجيا بنقد رأس النظام مباشرة، وتحميله مباشرة المسئولية عن كل مظاهر الفشل والفساد، والاستبداد، والإفقار، بعد أن كانت تقتصر على من هم دونه، لكن هذه المعارضة لا تجد من ينظمها ويتبنى مطالبها، ويضعها في المسار الصحيح
المعارضة المنظمة بدورها منقسمة حتى الآن تأثرا بحالة الاستقطاب السياسي التي أعقبت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، ولا يزال أغلبها واقفا عند حدود 2013 لا يستطيع أو لا يريد تجاوزها بكل ما تحمله من مرارات وأوهام، ولا يزال بعضها يرى عدوه الحقيقي ليس النظام الاستبدادي الحاكم؛ بل جزءا آخر من المعارضة التي تشاركه تجرع كأس المرار، والعذاب، والتنكيل.
عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 انقسمت قوى يناير إلى فريقين، أولها وقف ضد الانقلاب من البداية، وثانيهما دعم ذلك الانقلاب بدرجات متفاوته، أو سكت عنه، لحسابات سياسية خاصة بكل فريق. وقف الفريق الأول مدافعا عن شرعية الخيار الديمقراطي وما أنتجه من برلمان منتخب وأول رئيس مدني، وضم هذا الفريق بشكل أساسي الإخوان المسلمين وأنصارهم من عموم التيار الإسلامي، أو من تيار الشرعية عموما بما شمله من شخصيات ليبرالية أو يسارية، فيما أيد الفريق الثاني المسار الجديد الناتج عن الانقلاب، ظنا أن الجنرالات لن يبقوا في الحكم، بل سيتنازلون عنه لصالحهم، وضم هذا الفريق أحزابا وقوى ليبرالية ويسارية.. الخ.
لم يستمر شهر العسل طويلا مع الحكم الجديد الذي استعان في البداية بحكومة يرأسها سياسي ليبرالي هو حازم الببلاوي، ومعه عدد من الوزراء الليبراليين والناصريين واليساريين، وإلى جانبهم نائب رئيس جمهورية كان أيقونة لثورة يناير هو محمد البرادعي، لكن الحكم العسكري وحاضنته الصلبة (البعيدة عن هذه القوى) أنهت عمل هذه الحكومة خلا بضعة شهور، ثم بدأ النظام الجديد ينطلق في تنفيذ سياساته الخاصة، وغير المدروسة، بعيدا عن أي شراكة سياسية. وكانت القاصمة الكبرى التي دفعت معظم القوى الليبرالية واليسارية (الينايرية) بعيدا عن النظام هي قبوله تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وما تلا ذلك من سياسات تفريط أخرى، وسياسات الاستدانة الواسعة، وتعويم الجنيه، ورفع الأسعار.. إلخ، وما تبع ذلك من تضييق واسع على تلك المعارضة في الداخل، واعتقال العديد من كوادرها بل من رموزها الكبرى، حتى امتلأت السجون بهؤلاء القادة والنشطاء، إلى جوار قادة ونشطاء الفريق الأول.
رغم اتساع قمع النظام ليشمل جميع معارضيه من كل القوى السياسية دونما تفريق، إلا أن ذلك لم يدفع تلك القوى لتوحيد جهودها في مواجهة هذا القمع، ولإنقاذ الوطن، إذ ظلت رواسب الماضي القريب غالبة على تفكيرها وأدائها، وهو ما انعكس سلبا على أدائها الباهت في معظمه، والذي لا يرقى إلى مستوى الغضب الشعبي.
كانت المعارضة الخارجية -ولاتزال- هي الأعلى صوتا، والأكثر مبدئية بحكم تحررها من قيود النظام، وبحكم حجم التضحيات التي قدمتها، لكنها ظلت قليلة الفعالية، كما أنها لا تزال في حالة تشرذم، بينما أصبحت المعارضة الداخلية التي اختارت البراجماتية السياسية أسيرة العمل تحت القصف، مع استمرار تشرذمها أيضا. ومع ذلك، نشير إلى بعض التجارب المتعثرة للعمل الوطني المشترك.
ففي الخارج جرت محاولات مثل تأسيس الجبهة الوطنية المصرية والتي استمرت عامين ليخلفها اتحاد القوى الوطنية المصرية في الخارج، ومعهما بعض المحاولات الشبابية، لكن التعثر وعدم القدرة على تمثيل أطياف متنوعة كان سمة جميع المحاولات.
وفي الداخل كانت المحاولة الأبرز هي تأسيس الحركة المدنية الديمقراطية، ولكنها اقتصرت على جزء من فريق 30 يونيو (الأكثر براجماتية)، حيث استُبعدت من البداية القوى أو العناصر التي رفعت سقف معارضتها للنظام. وتعيش الحركة حاليا شبه جمود بعد انقسام مكوناتها حول الانتخابات الرئاسية الماضية، والاستعداد للانتخابات النيابية المقبلة، وبديلا عن ذلك تأسست جبهة يسارية (مجموعة أحزاب يسارية غير ممثلة في البرلمان)، كما جرت محاولة لتأسيس مظلة ليبرالية ماتت في مهدها أيضا. وإلى جانب ذلك، رأت بعض الأحزاب فرصتها الحقيقية لكسب عدد أكبر من نواب البرلمان في التنسيق مع الأجهزة الأمنية التي تحدد مسبقا أسماء وحصص الفائزين.
إضافة إلى تشرذم المعارضة المصرية حتى الآن، فإن أيا منها لم يقدم مشروعا سياسيا واضحا للتغيير يمكن الاشتباك معه قبولا أو رفضا أو تعديلا، ينطبق ذلك على معارضة الخارج كما ينطبق على معارضة الداخل. والفرصة لا تزال متاحة على الأقل في الخارج لبدء حوارات جادة بين قوى ورموز المعارضة الذين يمثلون كل الطيف الوطني الآن، والذين يتمتعون بحرية العمل والحركة
في ظل هذا الوضع المتردي للمعارضة المصرية لا يمكن أن نتجاهل المحاولة الجادة التي قادها النائب البرلماني السابق أحمد طنطاوي، بهدف الترشح للانتخابات الرئاسية الماضية من خارج المسرحية المرتبة سلفا، والتي شارك فيها (أي المسرحية) رؤساء أحزاب معارضة آخرون مقابل زيادة عضوية أحزابهم في البرلمان المقبل. لقد صنع طنطاوي حالة سياسية نشطة داخل مصر وخارجها؛ عبر عملية جمع التوكيلات التي كانت أشبه بمعركة عسكرية (من طرف واحد هو النظام)، ونجحت حملة طنطاوي في جذب شباب وكبار من كل التيارات الوطنية تقريبا، وصنعت تيارا جديدا (تيار الأمل)، لكن النظام لم يحتمل التجربة فسارع إلى اعتقال رائدها وعدد من داعميه، بعد أن حرم طنطاوي من جمع التوكيلات المطلوبة للترشح..
في كل التجارب النضالية العالمية ضد الاستبداد لم تنجح جهود التغيير إلا بعد توحيد المعارضة خلف أهداف وطنية جامعة، تمثل إرادة الشعب، حدث ذلك في تشيلي، وفي جنوب أفريقيا، وفي عدة دول أفريقية أيضا في السنوات الأخيرة.
إضافة إلى تشرذم المعارضة المصرية حتى الآن، فإن أيا منها لم يقدم مشروعا سياسيا واضحا للتغيير يمكن الاشتباك معه قبولا أو رفضا أو تعديلا، ينطبق ذلك على معارضة الخارج كما ينطبق على معارضة الداخل. والفرصة لا تزال متاحة على الأقل في الخارج لبدء حوارات جادة بين قوى ورموز المعارضة الذين يمثلون كل الطيف الوطني الآن، والذين يتمتعون بحرية العمل والحركة، والتواصل، ولو نجحت هذه القوى في هذه الخطوة فإنها ستلقى ترحيبا معلنا أو مستترا من معارضة الداخل ومن عموم الشعب المصري، وستتمكن من تقديم بديل وطني حقيقي مؤهل لإنقاذ البلاد والعباد، غير ذلك فإن جريمتها بحق الشعب والوطن تتزايد يوما بعد يوم.
x.com/kotbelaraby