جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-29@05:50:24 GMT

"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"

تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT

'وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ'

 

زكريا الحسني

 

الأخلاق هي مجموعة قيم ومبادئ تختلف من مكان إلى آخر فالأخلاق في أصلها باطنية وتترجمها الأفعال والأقوال على هيئة سلوك يمارسه الإنسان. والأخلاق هي نواة الأمم وثراؤها.

يقول أحمد شوقي أمير الشعراء: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت // فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا". فمن غير الأخلاق تكون العبثية والشتات والضياع والنفس البشرية في صراع دائم بين الخير والشر وإذا لم تشغل هذه النفس بالأعمال الحسنة ستشغلك بالأعمال السيئة.

والنفس البشرية جبلت على التمرد فلذلك جاءت القوانين والنظم لتنظيم حياة الإنسان ليعلم ما له وما عليه حتى لا يقع تحت نطاق العقوبة. وينبغي على الإنسان أن يراقب نفسه قبل أن يراقبه أحد فلذلك من احترم نفسه احترم الآخرين فهذه العبارة عميقة وصحيحة من حيث المبنى والمعنى.

إننا نجد اليوم كثيرين يتحدثون عن الأخلاق وقد يلقون برامج ومحاضرات ودورات ويكتبون كتبا لكن حين تنظر إلى الممارسات تجد بعدا عن هذا التنظير أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هناك فجوة بين ما يدعو إليه وبين ما يفعله.

كم ينتابني شعور غريب ومحير في ذات الوقت كيف أرى ملتزمين دينيًا ولكن ما إن تأتي إلى التعامل ترى اختلافًا بين ما يقولون وبين ما يفعلون، فجعنا من الدين طقوسًا واحاديث نستأنس بها في المجالس، وكما يقول المتنبي: "أغاية الدّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ"؛ فالأخلاق هي حاجة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها والغاية من بعثة الرسول المصطفى هي الدعوة إلى مكارم الأخلاق فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق"، ويصف الله عزوجل الرسول: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4). ففي هذه الآية يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به وهو الإسلام وشرائعه؛ لأن الاخلاق كانت موجودة قبل الإسلام، لكن جاء الرسول ليتممها.

وهان نستحضر قصة رائعة جدًا؛ حيث خرجت أم سلمة رضي الله عنها وحيدة حاملة رضيعها مهاجرة من مكة إلى المدينة، وفي الطريق لقیھا عثمان بن طلحة وكان من مشركي قريش. فأخذته مروءة العرب ونخوتھم فأبى أن يتركها وحدها دون حماية، فانطلق بھا يقودھا إلى المدينة وما رفع نظره إليها قط وكلما نزل منزلًا استأخر عنھا مروءة. فلما وصل قباء قال: زوجك في ھذه القرية فادخلیھا على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.

الغريب موقف ذلك المُشرِك الذي صاحب ھذه المرأة المسلمة التي لیست على دينه لیوصلھا، وأحسن معاملتھا وغض بصره عنھا طیلة مئات الكیلومترات قطعھا في أيام، ثم عاد إلى مكة دون راحة، والأغرب بمقاييسنا اليوم أن الرجل لم يفكر أن (يسجّل) مأثرته ولم يرسل رسلًا إلى مضارب القبائل العربية يخبرها في تواضع أن من مآثره كذا وكذا! بل انصرف عائدًا مباشرة دون أن يراه أحد، ليواصل مسيرةً الطويلة رجوعًا الى مكة دون أن ينتظر من أحد ‏جزاءً ولا شكورًا ، هكذا كانت اخلاق العرب. فقارن هذا الكلام بأخلاق العرب اليوم؛ حيث ربما نحتاج مروءة كفار ومشركي قريش!!

البعض يتساءل لماذا نحن المسلمين نعبد الله ولكننا متأخرين في التقدم الحضاري من حيث الاختراعات والصناعات والاكتشافات وما على هذا النحو. هنا يجب النظر إلى ما هي الاخطاء وما هي نقاط الضعف حتى نصحح اخطاءنا وندرك مسارنا ونمضي قدما لإتخاذ الاسباب المناسبة والحلول الجذرية. يقول الله عزوجل: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11).

يجب أن نفرق بين الاخلاق الاجتماعية والاخلاق التعاملية، فنحن نمتاز بالاخلاق الاجتماعية مثل الضيافة والكرم والترحيب ولكن إذا جئنا من حيث الاخلاق التعاملية هنا تتجلى الفروقات؛ فأخلاق التعامل والتي تتمثل في الانضباط في العمل والمصادقية والالتزام واستحضار الضمير في سائر الاعمال ونجعل ذلك منهاجًا يقودنا نحو التقدم والنجاح والازدهار.

وهنا نذكر قصة بائعة اللبن، إذ في جوف الليل يمشي الفاروق مع خادمه أسلم بين أزقة المدينة المنورة.. يتفقّد أحوال رعيته.. ينهكهما التطواف، فيسندان ظهريهما على جدار بيت متواضع الحال؛ ليتناهى إلى سمعهما حوارٌ خلّده التاريخ:

"قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء.

يا أُمَّاه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟

وما كان من عزمته؟

إنه أمر مناديًا فنادى: لا يُشَابُ اللبن بالماء.

يا بُنيّتي، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك فيه عمر، ولا منادي عمر.

واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فربّ أمير المؤمنين يرانا".

كلّنا يعرف تلك القصة، لكن ليس كلّنا يتمثّل مقولة أم عمارة بنت سفيان بن ربيعة الثقفي التي تختزل مبدأ من مبادئ النزاهة "إن كان عمر لا يرانا، فربُّ عمر يرانا". ذلك المبدأ الذي وجدت أثره في الدنيا قبل الآخرة؛ فهذه القصة تعلمنا درسًا في الضمير الذي تحكمه المبادئ الراقيك والقيم المثلى والتي تتحلى في التعامل.

ومن أروع العبارات التي كتبت ونسجت عن روعة الأخلاق هي تلك الحكمة للخوارزمي:

يقال إن شخصا وجه سؤالا الى الخوارزمي عن قيمة الإنسان فأجاب:

‏إن كان الإنسان ذا أخلاق فهو = 1

‏وإن كان الإنسان ذا جمال أيضا فأضف الى الواحد صفرا أي = 10

‏وإذا كان ذا مال فأضف صفرا آخر = 100

‏وإذا كان ذا حسب ونسب فأضف صفرا آخر = 1000

فإذا ذهب العدد واحد وهو الأخلاق ذهبت قيمة الإنسان وبقيت الأصفار التي لا قيمة لها..

هذه المعادلة الرائعة تعرفنا أن الأخلاق هي الأصل وكل الإضافات ما هي إلّا تكاملية، فإذا ذهب الجوهر فلا قيمة تبقى ولا كيان يذكر.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

في الحرب كما في الهُدنة: غزة تأسِرُ العالم

في الحروب عادة، ينتبه المتابعون إلى ما هو عسكري في بعده التقني ويتعاملون مع ما هو أرقام، سواء ما تعلق بعدد الجنود والطائرات والدبابات والجرافات أو ما تعلق بعدد القتلى والأسرى والجرحى، ولكن في غزة وحدها كانت المعايير مختلفة وزوايا النظر غير معهودة، وكانت الكتابة حول الطوفان كتابة شاعرية تتجاوز وصف الأحداث لتنفذ إلى أعماق المعاني وأسرار الوجود وعوالم المعجزات والجماليات والكمالات الإنسانية، لقد كان وسيظل طوفان الأقصى عَرْضا مُبهِرا تعجز كل لغاتِ العالم عن تحويله إلى نصّ يُقرأ بتهجّي حروفه وتأويل كلماته.

كل المعايير التقليدية لا تسعف المحللين لا بالفهم ولا بالتوقع ولا بالوصف، إننا لسنا بصدد متابعة معركة عسكرية تتحكم بها الآلات وأعداد الجنود وطبيعة الجغرافيا ولا حتى الأحوال الجوية.

لقد تجلى "الإنسان" في طوفان الأقصى في أجلى حقيقته وحقانيّته، "الإنسانُ" المُعجز المبدع الشجاع المحبّ القوي اللطيف الذي يَصله بعالم الألوهية حبلٌ متين غير مرئي، لقد كان الله يُمدّ شباب المقاومة بما يفوق التقديرات البشرية من صمود وصبر وتفاؤل وثقة، لقد تحملت غزة بشموخ كل حمم الأحقاد العالمية تُصَبّ عليها طيلة عام وثلاثة أشهر، وكلما تابع العالم احتراق ما فوق الأرض تفاجأ بتدفّق صُناع الحياة من تحتها يُبدعون في تقديم مشهدية مبهرة يواجهون الآلة العسكرية الصماء بروح استشهادية لطيفة وبحركات رشيقة وبتكبيرات تخترق أزيز الحديد لتنفذ إلى عوالم الحق والحقيقة، فإذا بفطرة الله السوية التي فطر عليها عباده تنبجس في قلوب جموع واسعة من البشر في مختلف أنحاء العالم تهتف لغزة وللقدس ولفلسطين.

أصبحت غزة مدرسة في علم "الإنسان" وعلم الأخلاق وعلم الشجاعة والكرامة، مدرسة تتهاوى أمامها كل مدارس الحضارة المادية الليبرالية التي أنتجت فلسفات باردة حول كونية الإنسان وكونية الحقوق، ولكنها لم تكن إلا فلسفات ميّتة لا ينبض فيها الحق ولا تنتصر لمظلوم ولا تُدين ظالما، ولا يمتلك أصحابُها شجاعة حتى ليقولوا كفى تدميرا وتخريبا وتقتيلا للأطفال والنساء والشيوخ
لقد أصبحت غزة مدرسة في علم "الإنسان" وعلم الأخلاق وعلم الشجاعة والكرامة، مدرسة تتهاوى أمامها كل مدارس الحضارة المادية الليبرالية التي أنتجت فلسفات باردة حول كونية الإنسان وكونية الحقوق، ولكنها لم تكن إلا فلسفات ميّتة لا ينبض فيها الحق ولا تنتصر لمظلوم ولا تُدين ظالما، ولا يمتلك أصحابُها شجاعة حتى ليقولوا كفى تدميرا وتخريبا وتقتيلا للأطفال والنساء والشيوخ.

من دخل أنفاق غزة من أسرى العدو، خرج وعلى وجهه علامات الانبهار لا يقدر على إخفائها، بل إنها تجبره على إبداء سعادة تطفح من أعماقه ولا تحتاج خطابا لفهم ما حدث معهم داخل تلك الأنفاق، إنها قيم الإسلام العظيم في التعامل مع الإنسان في مختلف وضعياته، الحسمُ في الجبهاتِ واللطافة عند الأسر.

في يوم التبادل، وقع كل العالم في الأسر، لقد أسِرت غزة قلوب وأنظار وأرواح من تابعوا العرضَ الإنساني المبهر أثناء عملية تسليم أسيرات العدو، ظهرت الأسيرات الأربع في كامل رشاقتهن ولياقتهن ونضارتهن، وكأنهن لم يكنّ أسيرات حرب وإنما كنّ في حفل تكريم أو في مناسبة سعيدة، كن مبتسمات، ولا أعتقد أن مصدر سعادتهن، فقط، هو حصول اتفاق تبادل، وإنما مصدر سعادتهن هو ما اكتشفوه في أهل غزة من بعض جوهر الإنسان الكامن في قوم يقاتلون ببسالة وقسوة ويعاملون أسراهم بتلطف وترفّق.

ولا حاجة لما كتبه بعض الكتاب الإسرائيليين حول أهل غزة، ولا حاجة أيضا لمقارنة بين سلوك مقاتلي المقاومة مع أسراهم وسلوك جيش العدو، وهو يُنغّص على أهالي المحررين فرحتهم بلقاء أبنائهم بعد سنوات وعقود من السجن وما لقوه من سوء معاملة بهدف كسر إرادتهم وتهشيم كبريائهم.

سينشغل كتّابٌ ودارسون ومتخصصون في العسكرية وفي الاستراتيجيات سنوات لفهم "أسرار" طوفان الأقصى، وما يعني العدو من الفهم ليس تغيير نظرته للإنسان وللحق وللحرية، وإنما كل ما يعنيهم هو كيف يُجهزون على هذه المدرسة الملهمة حتى لا تترسخ قيمها ومعانيها في شعوب الأرض.

x.com/bahriarfaoui1

مقالات مشابهة

  • كيف نربي أبنائنا في ظل وجود السوشيال ميديا؟.. أستاذ بالأزهر يجيب
  • بُشرى سارة لكل مُبتلى ومهموم.. طريق رئيسي للخير "فيديو"
  • أستاذ بجامعة الأزهر: الابتلاءات فرص كبيرة للخير والبركة
  • عالم أزهري يوضح طريقة تربية الأبناء في ظل انتشار وسائل السوشيال ميديا
  • أقوال الأسوياء.. ماذا قال مصطفى حسني عن شكر نعمة الستر
  • علي جمعة: الدراما المصرية أسهمت بشكل كبير في نقل الأخلاق إلى المجتمع
  • في الحرب كما في الهُدنة: غزة تأسِرُ العالم
  • ميريت ميشيل تقدم “مش كده” على روابط.. الخميس المقبل
  • صفات الملائكة وأعمالهم في حياة الإنسان
  • الفلم الأمريكي ( السديم The Mist )