"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"
تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT
زكريا الحسني
الأخلاق هي مجموعة قيم ومبادئ تختلف من مكان إلى آخر فالأخلاق في أصلها باطنية وتترجمها الأفعال والأقوال على هيئة سلوك يمارسه الإنسان. والأخلاق هي نواة الأمم وثراؤها.
يقول أحمد شوقي أمير الشعراء: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت // فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا". فمن غير الأخلاق تكون العبثية والشتات والضياع والنفس البشرية في صراع دائم بين الخير والشر وإذا لم تشغل هذه النفس بالأعمال الحسنة ستشغلك بالأعمال السيئة.
إننا نجد اليوم كثيرين يتحدثون عن الأخلاق وقد يلقون برامج ومحاضرات ودورات ويكتبون كتبا لكن حين تنظر إلى الممارسات تجد بعدا عن هذا التنظير أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هناك فجوة بين ما يدعو إليه وبين ما يفعله.
كم ينتابني شعور غريب ومحير في ذات الوقت كيف أرى ملتزمين دينيًا ولكن ما إن تأتي إلى التعامل ترى اختلافًا بين ما يقولون وبين ما يفعلون، فجعنا من الدين طقوسًا واحاديث نستأنس بها في المجالس، وكما يقول المتنبي: "أغاية الدّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ"؛ فالأخلاق هي حاجة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها والغاية من بعثة الرسول المصطفى هي الدعوة إلى مكارم الأخلاق فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق"، ويصف الله عزوجل الرسول: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4). ففي هذه الآية يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به وهو الإسلام وشرائعه؛ لأن الاخلاق كانت موجودة قبل الإسلام، لكن جاء الرسول ليتممها.
وهان نستحضر قصة رائعة جدًا؛ حيث خرجت أم سلمة رضي الله عنها وحيدة حاملة رضيعها مهاجرة من مكة إلى المدينة، وفي الطريق لقیھا عثمان بن طلحة وكان من مشركي قريش. فأخذته مروءة العرب ونخوتھم فأبى أن يتركها وحدها دون حماية، فانطلق بھا يقودھا إلى المدينة وما رفع نظره إليها قط وكلما نزل منزلًا استأخر عنھا مروءة. فلما وصل قباء قال: زوجك في ھذه القرية فادخلیھا على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.
الغريب موقف ذلك المُشرِك الذي صاحب ھذه المرأة المسلمة التي لیست على دينه لیوصلھا، وأحسن معاملتھا وغض بصره عنھا طیلة مئات الكیلومترات قطعھا في أيام، ثم عاد إلى مكة دون راحة، والأغرب بمقاييسنا اليوم أن الرجل لم يفكر أن (يسجّل) مأثرته ولم يرسل رسلًا إلى مضارب القبائل العربية يخبرها في تواضع أن من مآثره كذا وكذا! بل انصرف عائدًا مباشرة دون أن يراه أحد، ليواصل مسيرةً الطويلة رجوعًا الى مكة دون أن ينتظر من أحد جزاءً ولا شكورًا ، هكذا كانت اخلاق العرب. فقارن هذا الكلام بأخلاق العرب اليوم؛ حيث ربما نحتاج مروءة كفار ومشركي قريش!!
البعض يتساءل لماذا نحن المسلمين نعبد الله ولكننا متأخرين في التقدم الحضاري من حيث الاختراعات والصناعات والاكتشافات وما على هذا النحو. هنا يجب النظر إلى ما هي الاخطاء وما هي نقاط الضعف حتى نصحح اخطاءنا وندرك مسارنا ونمضي قدما لإتخاذ الاسباب المناسبة والحلول الجذرية. يقول الله عزوجل: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11).
يجب أن نفرق بين الاخلاق الاجتماعية والاخلاق التعاملية، فنحن نمتاز بالاخلاق الاجتماعية مثل الضيافة والكرم والترحيب ولكن إذا جئنا من حيث الاخلاق التعاملية هنا تتجلى الفروقات؛ فأخلاق التعامل والتي تتمثل في الانضباط في العمل والمصادقية والالتزام واستحضار الضمير في سائر الاعمال ونجعل ذلك منهاجًا يقودنا نحو التقدم والنجاح والازدهار.
وهنا نذكر قصة بائعة اللبن، إذ في جوف الليل يمشي الفاروق مع خادمه أسلم بين أزقة المدينة المنورة.. يتفقّد أحوال رعيته.. ينهكهما التطواف، فيسندان ظهريهما على جدار بيت متواضع الحال؛ ليتناهى إلى سمعهما حوارٌ خلّده التاريخ:
"قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء.
يا أُمَّاه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟
وما كان من عزمته؟
إنه أمر مناديًا فنادى: لا يُشَابُ اللبن بالماء.
يا بُنيّتي، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك فيه عمر، ولا منادي عمر.
واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فربّ أمير المؤمنين يرانا".
كلّنا يعرف تلك القصة، لكن ليس كلّنا يتمثّل مقولة أم عمارة بنت سفيان بن ربيعة الثقفي التي تختزل مبدأ من مبادئ النزاهة "إن كان عمر لا يرانا، فربُّ عمر يرانا". ذلك المبدأ الذي وجدت أثره في الدنيا قبل الآخرة؛ فهذه القصة تعلمنا درسًا في الضمير الذي تحكمه المبادئ الراقيك والقيم المثلى والتي تتحلى في التعامل.
ومن أروع العبارات التي كتبت ونسجت عن روعة الأخلاق هي تلك الحكمة للخوارزمي:
يقال إن شخصا وجه سؤالا الى الخوارزمي عن قيمة الإنسان فأجاب:
إن كان الإنسان ذا أخلاق فهو = 1
وإن كان الإنسان ذا جمال أيضا فأضف الى الواحد صفرا أي = 10
وإذا كان ذا مال فأضف صفرا آخر = 100
وإذا كان ذا حسب ونسب فأضف صفرا آخر = 1000
فإذا ذهب العدد واحد وهو الأخلاق ذهبت قيمة الإنسان وبقيت الأصفار التي لا قيمة لها..
هذه المعادلة الرائعة تعرفنا أن الأخلاق هي الأصل وكل الإضافات ما هي إلّا تكاملية، فإذا ذهب الجوهر فلا قيمة تبقى ولا كيان يذكر.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
البحر والمدينة: ثنائية القسوة والخلاص عند حنا مينا
في أدب حنا مينا، البحر ليس مجرد خلفية مكانية، بل كائنٌ حي، قوةٌ طاغية، وخصمٌ أبديّ يتحدّى الإنسان بلا هوادة. ليس زرقةً هادئةً، بل امتدادٌ لقدَرٍ لا يرحم، ولمصائر تتلاطم كما الأمواج العاتية. البحر عنده ليس مجرد طبيعة، بل اختبارٌ للإنسان، ساحةٌ للصراع بين الإرادة البشرية والوجود القاسي.
في كل موجةٍ متكسّرة، في كل ريحٍ تعصف بسفينةٍ منهكة، يعيد القدر كتابة المصير، حيث لا يمكن فصل معركة الإنسان ضد البحر عن معركته ضد الاستغلال والقهر. البحر هو النقطة التي تتقاطع عندها المأساة الفردية مع المأساة الجمعية، وهو المساحة التي يكشف فيها حنا مينا هشاشة الإنسان أمام العناصر الطبيعية، لكنه أيضًا المكان الذي يُعيد فيه تأكيد كرامة الكادحين والمقهورين، الذين وإن هُزموا، فإنهم لم يتخلوا عن المواجهة.
لم يكن حنا مينا كاتبًا معزولًا عن عصره، بل كان ابنًا لزمنٍ ملتهب، رأى الفقر ممتزجًا بالقهر السياسي، وعاش الاشتراكية لا كنظريةٍ مجرّدة، بل كضرورةٍ ملحّة لمن سُحقوا تحت عجلة النظام الطبقي. كان يرى الأدب فعل مقاومة، وليس ترفًا فكريًا، بل سلاحًا يواجه به الإنسان مصيره، كما يواجه البحّار أمواج المحيط الهائج.
ولهذا لم تكن العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي في رواياته مجرد مواضيع عابرة، بل روحًا تسري في شخصياته، حيث يتحول الفقراء والعمال والمهمشون إلى رموزٍ لصراعٍ أوسع، في مواجهة عالمٍ يفرض عليهم الفقر كما لو كان قَدَرًا محتومًا. في هذا السياق، يتجلّى تأثير الفكر الاشتراكي في أعماله ليس كموقفٍ سياسيّ مباشر، بل كرؤيةٍ فلسفية للوجود، حيث يصبح النضال الاجتماعي ضرورةً حتمية لا تقتصر على الأيديولوجيات، بل تتجذر في التجربة اليومية للطبقات المسحوقة، من الصيادين والبحارة إلى الفلاحين وعمال الموانئ.
هذه الفئات، التي تشكل العمود الفقري لعوالمه الروائية، هي ذاتها التي تكتب تاريخها بعرقها وصمودها، رغم أنها لا تملك حق تسجيله رسميًا في كتب المنتصرين.
وسط هذا العالم القاسي، تتجلى المرأة في أدب حنا مينا ليست كضحيةٍ فقط، بل كقوةٍ فاعلة في ملحمة الصراع. هي الحبيبة التي تشارك الرجل أعباء الحياة، والأم التي تحمل أوزار الفقر، والمتمردة التي ترفض الانحناء. شخصياته النسائية، رغم معاناتها، تحمل قلقًا وجوديًا عميقًا، نداءً داخليًا لا يرضى بالخضوع، وكأنها صورةٌ أخرى للبحر ذاته: قاسيةٌ، عنيدة، عصيّةٌ على الكسر.
لم تكن المرأة في أعماله مجرد تابع للرجل، بل كانت شريكةً في الوجود، في الألم، وفي الثورة على القهر. تتجسد عبرها صورة مزدوجة للمعاناة والقوة في آنٍ واحد. يضعها الكاتب في مواجهة القدر ذاته الذي يواجهه الرجل، لكنه يمنحها بُعدًا إضافيًا: مقاومة أعباء المجتمع الذي يفرض عليها قيودًا مزدوجة، سواء عبر الفقر أو التقاليد أو القوانين الجائرة.
ومن خلال هذه الشخصيات، يعيد تشكيل صورة المرأة ليس كرمزٍ سلبي للاستسلام، بل كفاعلٍ تاريخي قادر على صنع مصيره، تمامًا كما البحارة الذين يقفون في وجه العاصفة رغم معرفتهم بالمخاطر المحدقة بهم.
لكن الاشتراكية التي آمن بها لم تكن شعارًا خطابيًا في رواياته، بل نسيجًا متغلغلًا في العوالم السردية، تتجسد في شخصيات ترى العمل قيمةً عليا، وفي ثنائيات الغني والفقير، القوي والضعيف.
في البحر، لا تسود الألقاب، بل القدرة على الصمود. أما على اليابسة، فالقوانين تُصاغ لخدمة أصحاب النفوذ، والتفاوت الطبقي يُحدّد المصير قبل أن تبدأ المعركة. البحر، رغم قسوته، أكثر عدلًا من المجتمع، حيث لا يمنح امتيازاته إلا لمن يستحقها، بلا محاباةٍ أو استغلال.
هذه المقارنة بين البحر والمدينة ليست سطحية، بل تحمل في عمقها فلسفةً خاصة، حيث يصبح البحر رمزًا للعدالة النقية التي لا تنحاز إلا للكفاءة، بينما تتحول المدينة إلى متاهةٍ من الطبقية والفساد والقوانين التي تحكمها المصالح الضيقة.
وفي هذا المفهوم، يمكن فهم البحر كبديلٍ عن المدينة، كمكانٍ يحمل في طياته إمكانية النجاة رغم المخاطر، مقابل استحالة النجاة داخل المدن التي تلتهم أرواح المقهورين دون أن تمنحهم حتى شرف المواجهة.
الهجرة والنفي في أدب حنا مينا ليسا مجرد انتقالٍ مكاني، بل تجربةٌ وجودية تشبه اغتراب الإنسان عن نفسه. شخصياته المهاجرة لا تبحث فقط عن وطنٍ بديل، بل عن معنى، عن حياةٍ لا تفرض عليها الهزيمة مسبقًا. إنها رحلةٌ دائرية، تبدأ بالقهر وتنتهي عنده، وكأن كل الطرق، مهما تفرقت، تعيد الإنسان إلى نقطة البداية: إلى البحر، إلى الريح التي تعصف بالأشرعة، إلى المصير الذي يحاول الهروب منه، لكنه يطارده كظله.
ليست الهجرة مجرد فعلٍ جغرافي في أدب حنا مينا، بل هي قدرٌ آخر يُفرض على الإنسان حين تصبح الأرض مكانًا طاردًا، حين تتحول المدن إلى جدرانٍ باردة تمنع الحلم بالنجاة.
لكن المهاجر في رواياته لا يجد وطنًا جديدًا، بل يكتشف أن الاغتراب حالةٌ داخلية لا يمكن تجاوزها بمجرد تغيير المكان. هذه الرؤية تجعل من شخصياته رموزًا للإنسان الممزّق، الباحث عن الخلاص في أماكن لا تقدّم سوى أوهام الخلاص.
أسلوبه السردي يلتقط هذه العوالم بوضوحٍ أخّاذ، حيث يكتب بلغةٍ تحمل قسوة البحر وعذوبته معًا. لا يلجأ إلى تجميل المأساة، بل يتركها تتكشف دون أقنعة. ثمة شيءٌ فطريّ في لغته، كأنها امتدادٌ لصوت العمّال والصيادين، مملوءةٌ بموسيقى داخلية تنبع من صدى الواقع ذاته، لا من زخارف البلاغة.
كل جملةٍ لديه تحمل أثر العرق والملح والرمل، كل حوارٍ يكشف عن مرارةٍ لا تحتاج إلى تفسير. أسلوبه لا يعتمد على البهرجة اللغوية، بل على الدقة في التقاط التفاصيل، على البساطة التي تخفي وراءها عوالم معقدة، على الاقتصاد في الكلمات الذي يُنتج تأثيرًا عميقًا دون حاجةٍ إلى الإطالة أو الخطابة.
عالم حنا مينا هو عالم الذين لا يملكون ترف الاختيار، لكنه أيضًا عالم الذين يرفضون الاستسلام، الذين يقفون في وجه البحر رغم يقينهم بأنهم قد يُهزمون، لأن الهزيمة الحقيقية ليست في الغرق، بل في التوقف عن المجابهة.
في هذا الإيمان العميق بالنضال كقَدَرٍ محتوم، يكمن سرّ خلود أدبه. لهذا لم يكن حنا مينا كاتبًا عابرًا في تاريخ الرواية العربية، بل كان شاهدًا على عصره، وحاملًا لآلام المقهورين، وناقلًا لصوتهم الذي لم يكن ليسمع لولا وجود أدبٍ يعيد إليهم حقهم في الحكي، وحقهم في الحلم، وحقهم في النضال حتى آخر رمق.
zoolsaay@yahoo.com