مأزق العدو في غزة (1- 2)
تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT
محمد بن سالم البطاشي
الحرب هي السياسة ولكن بشكل آخر، وتُشن الحروب عادة لتحقيق أهداف سياسية تكتيكية واستراتيجية عندما تخفق الوسائل الدبلوماسية في تحقيق تلك الغايات، ثم تأتي الدبلوماسية لتثبت نتائج الحرب ومخرجاتها، وحين تتوافق الدول على الذهاب للتفاوض بدون الحرب فهذا يعني أنَّ القوي قد حصل على ما يريد بدون اختبار لقوته، والضعيف قد أعطى ما يستطيع دون إلغاء لذاته.
ولو نظرنا إلى أحداث طوفان الأقصى، فإننا نجد أن هذا الحدث الضخم قد جاء نتيجة لتعنت الاحتلال وتماديه في الغطرسة معتمدا على قوته التي توهم إنها الحصين الحصين له، ولقد تبارى زعماء الكيان في تبني المواقف الموغلة في التطرف والتوحش والعنصرية والاستهتار بكل القيم والمبادئ والقوانين والمواثيق التي تضبط دور الاحتلال في المناطق المحتلة، وذهب به التمادي والغرور والصلف إلى منتهاه من فرض وتشديد الحصار الطويل على قطاع غزة والتنكيل بالسجناء والموقوفين بدون وجه حق وتدنيس الأماكن المقدسة وعلى رأسها المسجد الأقصى دون رادع، مستغلًا الغطاء القانوي والسياسي والاقتصادي والعسكري الذي توفره الولايات المتحدة والغرب والمتواطئون معهما. ورغم كل الدلائل وكل التحذيرات التي أطلقها المفكرون والعقلاء من عواقب هذا السلوك المشين إلّا أن الغرور قد أعمى بصر وبصيرة قادة العدو سواء من كان منهم في الحكم أو في المعارضة.
ومع انطلاق الثورة في السابع من أكتوبر 2023. وما أحدثته من صدمة زلزلت الاحتلال بكل أركانه وكادت أن تسوي به الأرض لولا هرولة واشنطن وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي لإنقاذ ربيبتهم وقاعدتهم المتقدمة على وجه السرعة، ومع بدايات استفاقة العدو من هول الكارثة التي حلت بساحته وتوعده ووعيده وإطلاق حملته العسكرية أملا في استعادة زمام المبادرة وشيء من هيبته التي سقطت وصدور البيان العسكري لأهداف الحرب التي أراد منها حفظ ماء وجهه المسكوب والظهور بمظهر المتماسك أمام قطعان المستوطنين والعالم، والتي تتمثل في القضاء على حركة المقاومة حماس وباقي فصائل المقاومة واستعادة الأسرى لدى المقاومة.
بعد ستة أشهر من القتال الشرس لم يستطع العدو تحقيق أيٍ من أهدافه أو حتى الاقتراب من تحقيقها؛ فبالرغم من التدمير الممنهج للبنى التحتية للقطاع واستهداف البشر والحيوان والحجر يقف الاحتلال عاجزًا وفاغرًا فاهه أمام عظمة صمود المقاومة واستبسالها؛ حيث أظهرت المعارك حقائق ومعطيات ميدانية جديدة في مواجهة الروايات والتصريحات الإسرائيلية التعاقبة؛ سواء في أعداد قتلى العدو وجرحاه، أو من خلال المشاهد المصورة التي حرصت المقاومة على نشرها وحملت عناوين متعددة مثل الأنفاق والمسافة صفر والياسين 105 والميركافا والنمر وغيرها، إضافة إلى ذلك ما يواجهه جيش الاحتلال من انتقادات واسعة من بعض أعضاء حكومة الاحتلال وفي أوساط الجمهور الإسرائيلي، سواء بسبب فشله في منع الهجوم الصاعق أو في طريقة أدائه على ميادين المعارك أو فشله في تحقيق أي من أهداف هذه الحرب.
ويمكن تلخيص أبرز نقاط المأزق الذي تلبس الاحتلال وقادته في نقاط منها:
1- الفشل الذريع في إدارة الحرب وتعاظم أعداد القتلى وتفاقم أعداد الجرحى ذوي العاهات المستدامة.
2- طول مدة الحرب وما رافقها من دمار وخسائر بدون نتائج حتى الآن.
3- الفشل في تحقيق أي من نتائج الحرب المعلنة أو حتى الاقتراب منها.
4- تصاعد الغضب الشعبي وتفاقمه من قبل عائلات الأسرى ومناصريهم بحيث بات يهدد بانقسام داخلي عميق.
5- عدم رضوخ نتياهو للمطالب الشعبية العارمة بالاستقالة والذهاب الى انتخابات مبكرة تأتي بحكومة تستطيع التفاوض وإطلاق سراح الأسرى وإنهاء الحرب.
6- استمرار النزيف الاقتصادي نتيجة التهجير القسري الذي مارسته المقاومة في نطاق مغتصبات غلاف غزة والتهجير الآخر الذي فرضته المقاومة على المغتصبات والمغتصبين في شمال فلسطين المحتلة في مناطق الجليل الأعلى، حيث إن تلك المغتصبات هي الرئة الاقتصادية للكيان، وما يفرضه التهجير وإسكان النازحين والمهجرين من تكاليف اقتصادية ونفسية وتعويضات هائلة.
7- هذا الصراع الداخلي الذي نشهد تصاعده بين العلمانيبن والحرديم على خلفية قانون التجنيد الإجباري الجديد الذي لا يفرق بين المتدينين والعلمانيين في التجنيد، والذي تراه الجماعات الدينية بمثابة تهديد وجودي لها، وتفضل الموت على القبول به.
8- التراجع الواضع في مكانة وسمعة الكيان على الصعيد العالمي وتنامي الانتقادات العالمية لتصرفاته الهمجية التي فاقت كل وصف في مواجهة المدنيين العزل وارتكابه جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية وتنامي الغضب الدولي في أوساط الكتاب وقادة الرأي والمفكرين والفنانين والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي.
وللحديث بقية..
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وحدة الساحات وتعدد الجبهات
لا يماري أحد في الفرق الهائل بين إمكانات العدو وداعميه وإمكانات المقاومة المحاصرة في غزة وداعميها، هذا الفارق هو الذي يعظّم الإنجاز الذي حققته المقاومة سواء بصمودها في الميدان أو بثباتها على أهدافها وإرغامها العدو على النزول إلى شروطها.
تمثلت عبقرية المقاومة في أمرين:
الأول: العمل على وحدة الساحات، فلأول مرة يجد العدو نفسه يصد هجمات قادمة من لبنان وتصيبه مسيّرات قادمة من العراق ويفاجأ بجبهة مفتوحة من اليمن على بعد آلاف الأميال تحاصره من الجنوب، ويضطر إلى طلب النجدة من أمريكا لصد الهجوم القادم من إيران.
الثاني: أن المقاومة رغم ضعف إمكاناتها ورغم حصارها أدركت أن مواجهتها مع العدو هي مواجهة في جبهات كثيرة لا بد أن تعمل فيها جميعا. فالعدو يمتلك التفوق العسكري عددا وعتادا، والتطور التكنولوجي الذي جعل الكيان مصدرا للبرمجيات ومتعاونا ومشاركا لمعظم مراكز الأبحاث والجامعات حول العالم، وهو ما كشف عنه الحراك الطلابي في أمريكا وأوروبا.
والعدو يمتلك أجهزة من أعتى أجهزة المخابرات والمعلومات والتجسس على مستوى العالم، ويتعاون ويتبادل المعلومات مع أجهزة الدول الكبرى والإقليمية.
والعدو يسيطر على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الأوروبية والأمريكية ومن خلالها روج لأكاذيب لا يصدقها عقل؛ من قبيل أن هذا الكيان واحة للديمقراطية وسط غابة من الأشرار والوحوش، وأنه يبحث عن السلام ولكن العرب الإرهابيين يرفضون، وأن الفلسطينيين يعتدون على المستوطنين المساكين، في سردية طويلة عمل عليها وترسخت لعقود من الزمان.
وهناك الجبهة الداخلية أو الحاضنة الشعبية التي سيقع عليها عبء إجرام العدو وإمعانه في القتل والتخريب. هذه الجبهة الأخيرة عملت عليها المقاومة حتى ارتبط معظم أهل غزة بمشروع المقاومة والتحرير، وكان الأساس في هذا هو التكافل الإسلامي والسعي في حوائج الناس وارتباط الجميع بالمساجد وحلقات حفظ وسرد القرآن.
أما جبهة التطور التكنولوجي والعسكري، فقد سعت المقاومة للتزود بكل ما تستطيع من وسائل القوة وسعت إلى التصنيع الذاتي فأقامت ورشها ودربت أجيالا، وفي نفس الوقت فإن هذا التفوق للعدو يركن إليه ويقل اعتماده على المجهود البشري هربا من التكلفة البشرية للحروب.
كانت النتيجة أن المقاومة امتلكت أسلحة بسيطة ولكنها مؤثرة واشتهرت قذائف الياسين و"تي بي جي" ومسيرات الزواري وعبوات ثاقب والشواظ والعبوة الرعدية والتلفزيونية والبرميلية، حتى إذا كانت المواجهة البرية رأينا دبابات الميركافا وحاملة الجنود النمر تحترق في الميدان وتخرج عن الخدمة.
أما على جبهة الاستخبارات والمعلومات فقد بذلت المقاومة جهدا كبيرا:
1- على مدار عقود من الزمان وقبل انتفاضة الحجارة في نهاية الثمانينات التي أظهرت خطورة الجواسيس وعملاء الكيان وأدت إلى استشهاد عدد كبير من القادة، مما جعل المقاومة تتابع مجموعات التجسس ولا تتسامح معها مطلقا فطهرت القطاع منهم، وكانت النتيجة أن العدو فقد عينه التي يرى بها غزة وفقد أصابعه التي يعيث من خلالها الفساد.
2- التصدي لكل محاولات جيش العدو لزراعة أجهزة تجسس في غزة وإفشالها على النحو الذي حدث في 2018، عندما اكتشفت المقاومة سيارة للعدو بها كل التجهيزات واشتبكت معها مما اضطر طيران العدو للتدخل لإنقاذ القوة المتسللة التي قتل قائدها وأصيب آخر، ودمر طيران العدو السيارة واستشهد 7 من المقاومة منهم القائد نور بركة.
3- عملت المقاومة مئات المواقع الوهمية على وسائل التواصل واصطادت من خلالها مئات وآلاف الجنود والضباط، واخترقت هواتفهم وحواسيبهم وحضرت اجتماعاتهم.
4- جرت محاولات عديدة لتعطيل عمل القبة الحديدة، وظهر ذلك عندما أنقذت المخابرات التركية الشاب الفلسطيني الذي اختطفه الموساد في ماليزيا لأنه ساهم في فك شفرات القبة الحديدية.
5- اكتشاف أجهزة تنصت زرعها العدو داخل قطاع غزة وتركها تعمل مع إرسال رسائل خاطئة لتضليل العدو. أثمر عمل المقاومة في هذا المجال أن العدو بنى استراتيجيته على أن حماس غير معنية بالحرب وأنها تريد تحسين الأحوال المعيشية في القطاع، ومن هنا كانت المفاجأة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
حرب العقول هذه ما زالت تعمل حتى الآن وفشل العدو في مواجهتها رغم ما يملك من إمكانات، حتى إنه لم يكتشف أن السنوار كان يقاتل فوق الأرض من المسافة صفر ولم يكن في الأنفاق ويحمي نفسه بالأسرى كما قالوا، وأن قائد كتيبة بيت حانون الذي أعلن العدو مقتله قبل ثمانية أشهر ما زال مع رجاله في الميدان.
يزيد من قيمة ما عملته المقاومة في هذا المجال أنها كانت تواجه ليس مخابرات العدو، وإنما معها مخابرات بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وربما أجهزة الدول المحيطة بالقطاع.
كانت النتيجة أن اعترف العدو بالفشل وعاد يبحث عن الصفقة وتشير التقديرات إلى هروب مليون مستوطن إلى الخارج، أما شعب غزة الذي أبهر العالم وأفشل مخططات الاحتلال فما يزال متشبثا بأرضه مقيما على انقاضها عازما على إعادة بنائها وإعمارها. أما عن المواجهة الإعلامية والمواجهة في الجبهة الأخلاقية فلها حديث آخر.