مما روته المرحومة فاطمة أحمد إبراهيم أنها كانت “تتقنع”، أي تغطي وجهها دون العينين، متي دخلت سوق الخرطوم في نحو 1952 لطباعة مجلة “صوت المرأة” بمطبعة الصحف الاستقلالية. وكتبتُ عن هذا في كتابي “فاطمة أحمد إبراهيم: عالم جميل” لبيان ضروب شقاء المرحومة في سبيل قضية المرأة، بل وحيلها. فلبست الحجاب لا صاغرة، بل لتقتحم وكر الذكورة من وراء حجاب.
كنت اشاهد برنامجاً تلفزيونياً يعرض لمزاج النساء الأفريقيات الأمريكيات من وراء لبسهن قبعات كاسية للشعر ذات تصاميم مسرفة وألوان مؤنقة. وسمعت أحداهن تقول إنها حين تلبس قبعتها تشعر في قرارة نفسها بأنها سيدة حقاً. وسمي محرر البرنامج هذا المزاج من وراء القبعة ب”الهاتيتيود” HATITUDE. وهي كلمة مكونة من HAT أي قبعة وITUDE وهي المزاج والموقف والعزيمة. وعليه فنساء أمريكا الأفريقيات يلبسن القبعة علواً منهن في الإنسانية والوجاهة.
تساءلت بعد فراغي من مشاهدة ذلك البرنامج إن كان يصح القول إن انتشار الحجاب بين النساء المسلمات الطوعي في زماننا مما يمكن تسميته بال VEILITUDE من “فيل” وهو الحجاب و”تيود” وهو العزيمة. أي أنه حالة ذهنية ووجدانية ثورية تجيش في نفوس المسلمات وتدفعهن لطلب المساواة والزمالة والاحترام من وراء حجاب.
وكنت قد قرأت مقالة للمرحوم الدكتور إدوارد سعيد أورد فيها كلمة سمعها من أحد المصريين خلال زيارته لمصر. فقال المصري إن الحجاب شكل من اشكال التعبير الذاتي الذكي في زمن بائس. وواضح أنه قد ترك هنا جانباً مسألة منشأ الحجاب في المفهوم الرجالي للحشمة. ومثل نظرة المصري المار ذكرها تقربنا من دراسة علم سياسة الأزياء. وهو علم يحلل دلالات الهندام المعين بالنظر الي الوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتعينة في ثقافة وزمان ومكان ما.
وقد استمعت الي باحثة مسلمة من دولة النيجر تحلل دلالات حجاب النساء في بلدها على خلفية تطورات احتلت فيها النساء غير قليل من مراكز الصدارة في سوق العمل. وأوضحت الباحثة كيف أرادت المرأة من هؤلاء النساء اكتساب الاحترام الواجب لمن في مركزها بمحو جسدها كامرأة. وهو الجسد الذي يتهافت عليه الرجال في بيئة العمل التي لا تحرسها قوانين للأمن الجنسي. وكان الحجاب هو البديل عن هذه القوانين.
ولم أجد في علم سياسة الأزياء مثلاً بليغاً عليها مثل ما قرأته عن الحركة الزباستية. وهي الحركة الثورية المكسيكية المسلحة التي ظَاهرها أهل الدار الأصلاء المسميين بالهنود الحمر. وتريد الحركة إخراجهم من استضعافهم التاريخي تحت ذُرية الغزاة الأسبان الذين جاؤوا إلى الأراضي الجديدة في القرن الخامس عشر. وقد افتتن اليسار بقائد الحركة الكوماندور ماركوس، أستاذ الفلسفة، الذي يرتدي قناعاً لا يظهر من وجهه سوي العينيين والكدوس. ونقلت الصحافة منذ سنتين تقريباً خروج ماركوس وجماعة ملثمة من أنصاره في موكب من غابتهم البعيدة الي العاصمة مكسيكو سيتي. وقد قطع الموكب ألفي ميل واجتاز 12 ولاية على طريق قصدوا ان يكون متعرجاً لكي يقف أكثر الناس على أوجاع الهنود الحمر، وعلى تصميمهم لإنهاء غلبهم التاريخي. واستقبل مائة ألف مكسيكي المظاهرة في العاصمة المكسيكية.
وجدت بين ثنايا تغطية الصحافة لهذه المظاهرة إشارات الي الوجه والقناع واللثام غاية في الدلالة. فقال مسؤول مكسيكي ممن فاوضوا الثوار أن المكسيك بلد معطون في الاستبداد حتى اضطر الثوريون فيه دائماً لإخفاء هويتهم حتى لا يظهروا ويفشلوا. أما الكوماندور ماركوس فقال إنهم لم يرغبوا أصلاً في أن يتلثموا غير أن الهنود الحمر شعب من غير وجه وقد حمل السلاح لفرض إرادته.
وبمرور الوقت أصبح اللثام رمزاً لحالة “الغياب التاريخية” للهنود الحمر من ساحة السياسة المكسيكية. وأضاف ماركوس مخاطباً الدولة التي قبلت التفاوض معه: “لقد أجبرتمونا على ارتداء القناع غير اننا اجبرناكم على الاستماع إلى مظالمنا بقوة غيابنا من وراء قناع. ولعل أبلغ ما قرأت عن سياسة اللثام المكسيكي قول امرأة عن الكوماندور ماركس: “إنه يرتدي كل وجوهنا لأنه وجهه قد ضاع منه وراء قناع”.
لقد وجدت في عبارة المرأة الأخيرة ما خطر لي عن حجاب المرأة المسلمة الطوعي. وتلك التي في الشادور خاصة. فأنا ادير وجهي بعيداً عن لابسات الشادور، متي اعترضن سبيلي، خجلاً. فأنا وهن نغيب معاً متي تقاطعت طرقنا. وقياساً بقول المرأة المكسيكية الهندية الحمراء فالمسلمة المحجبة ترتدي كل وجوهنا لأنها فقدت وجهها من وراء حجاب.
ربما لم يكن الحجاب مجرد عنوان لاضطهاد المرأة كما في تنظير اليسار الشائع. إنه بالأحرى VEILITUDE. وهذا وصف يشمل أكثر من مجرد الاضطهاد. إنه الاضطهاد ومقاومته في وقت معاً.
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
نهاية زمن العاهرات
بقلم : هادي جلو مرعي ..
كنا كتبنا في زمن مضى عن زمن العاهرات، ويبدو إننا أخطأنا فليس لهن من زمن، فهن سيدات الأزمنة جميعها، يتحكمن بأصحاب الأموال والتجارات، والنافذين في المجتمع، وذوي السلطة، والممسكين بشؤون البلاد والعباد، ويحصلن على مايردن من تأثير وتدبير، ولهن كامل التقدير من الكبير في منصبه والصغير، ولعل الأخطر من ذلك إننا في زمن لم نعد نميز فيه بين العاهرة والطاهرة، وكنا نسمع إن العاهرة من تعاشر أكثر من رجل، ولاتكتفي بواحد، وتهب نفسها لمن يدفع، ولاتتحسب لردات الفعل، فهي خارج حسابات الأدب والأخلاق، وفي زمننا الراهن صرنا نتفرج على أصناف من النساء لم يعدن يعرن إهتماما للحشمة والخلق، ولا للمظهر. فوصف الكاسيات العاريات يليق بهن، ولم تعد الواحدة تحتشم وهي في محضر الرجال، وتنبعث منها رائحة الكوكو شانيل كما تنبعث رائحة المبخرة في مكان واسع، ويشمها الجميع، وتلتقطها الأنوف دون عناء، ولاتتردد الواحدة منهن في إظهار ماشاءت من زنود وقدود، وتكشف عن ساقيها الى مافوق الركبة، وتتفنن في تكبير الأرداف وتنحيف الخصر و الصدر والمؤخرة، وتتباهى في ذلك، ولم يعد من أحد يستنكر عليهن شيئا من ذلك، بل كثرت مراكز التجميل، ومستشفيات عمليات التصغير والتكبير والتجميل والقص والرص، وكثرت أعداد بنات الملاهي والمقاهي وهن يستعرضن بالأجساد أمام الأولاد بحثا عن متسوق.
وكنا نستنكر تحويل الجسد الى سلعة، فإذا بأصناف من النساء يسارعن الى سوق النخاسة الذي إصطنعنه بعد أن هجره تجار الجواري والعبيد الى غير رجعة، وكأن هناك من النساء من تقول: نحن عبيد ذواتنا، وجوار رغباتنا، وماكنا نعده إمتهانا، صرنا نراه حرية، وقدرة على فعل مانريد، ومن يعترض ينقرض، فلاحساب ولاعقاب خاصة وإن العاهرات اللاتي في البال، ومن الموديلات القديمة كأننا نراهن طيبات وجيدات وعفيفات مقارنة بماتفعله أصناف من النساء على السوشيال ميديا في زمننا الراهن، ومايستعرضنه من فاحش القول، ومايقمن به من حركات إغراء، وسكنات إشتهاء، وصار عديد الرجال يحاكيهن في ذلك، ويقدم لهن الدعم ليتعرين على البث المباشر، ويتحدثن بمايرغبن.. فهناك مريدون يدعون نصرة حرية الفرد الشخصية وهم في سرهم غرائزيون حيوانيون، لكنهم خبثاء الى مستوى القدرة على خداع النساء، وتصوير مايفعلنه بوصفه عملا رائعا وجيدا، ومن متطلبات العصر الحديث، والتطور الذي عليه البشرية، ولايخشين في الإنحطاط لومة لائم.
على الجميع أن يخرس، فالحرية تتطلب العهر بوصفه نوعا من الطهر، والعربدة اللفظية بوصفها شكلا من الحرية، وليس لأحد الحق في الرفض والإعتراض، فزمن العاهرات ولى، ولاعاهرات على عدد الأصابع، بل عاهرات دون عد ولا حد…