عربي21:
2024-06-30@12:16:10 GMT

قراءة سياسية في عبادة الصيام

تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا في الحياة أهمها تحرير الانسان من كلّ ما يحول بينه وبين ممارسة دوره الكامل في الحياة، والإنسان صاحب الإرادة الحرّة هو وحده القادر على ممارسة دوره دون أن يكبّل هذا الدور أيّ شيء سواء كان ذلك عاملا داخليا أو خارجيا، فهو متحرّر من آصار وأغلال قد تكون داخل نفسه أو كمؤثر من خارج هذه النفس، فكونه عبدا لله تعني أنه تحرّر من كلّ شيء سوى الله، ولا شكّ بأنّ الله الذي أمر هذا الإنسان أن يكون عبدا له يريده متحرّرا من أيّ خضوع أو تبعية أو خوف أو قلق أو توجّه أو أن يحسب حسابا لأحد غيره، فهو الحرّ الذي يتمتّع بالحرية التي تؤهله لدخول المعترك السياسي بكفاءة عالية قوامها الحرية.



وهو بذلك يتمتع بحريّة كاملة تامّة تؤهله بأن يطلق كلّ طاقاته وإبداعاته دون أن يكون هناك ما يعيق أو يضعف أو يكبّل إرادته التي حرّرتها العبادة لله من كلّ شيء لا ينسجم مع هذه العبادة.

هذه واحدة لها علاقة مباشرة بتفعيل المسلم تفعيلا كاملا غير منقوص في كل الميادين، من أهمّها الميدان السياسي فلا يعقل أن تنتج العبادة الإرادة الحرّة ثم لا تأخذ دورها في هذا الميدان الهامّ. ثمّة عبادة الصوم بالتحديد تأتي لتحرّر المسلم من الخضوع لشهواته وأهوائه ومن نفسه الأمّارة بالسوء وكلّ ما يعطّل هذه النفس من القيام بدورها الإيجابي في الحياة، وهنا نرى كتحصيل حاصل أن هذه العبادة ستقوم بفعلها الذي يطلق كلّ طاقاته وينشّط كلّ قدراته في ميادين الحياة كافّة والتي من أهمها الميدان السياسي.

وهو بدءا من شهواته مرورا بأهوائه ورغباته وطبائعه واهتماماته وانتهاء بقدراته الروحيّة والعقلية ينقله من موقع العبد الخاضع لشهوته أو الخاضع لأهواء غيره من البشر إلى موقع السّيد الحرّ المتصرّف بحكمة ورشد، ففرق شاسع بين من يكون سيّدا على شهواته ورغباته وبين من يكون عبدا لها، الاوّل يخرج من الدوران في فلك الذات الضيّقة إلى حيث القضية التي تدور أمّته في فلكها، وبالتالي هو صاحب الكفاءة العالية ليمارس دوره السياسي، بينما الاخرون يجدون أنفسهم يدورون في فلك الأشياء لتموت بهم القضية أو يدورون في فلك الأشخاص فيتحوّلون من أمّة حية إلى أمة مريضة، وهذا للأسف هو حال الامّة في زمن الغياب الحضاري إذ يضيع دورها بما تتمتّع شعوبها من حالة من الدوران حول الأشياء أو الأشخاص بعيدا عن الدوران حول الأفكار التي تصنع منهم أمّة حيّة (د. ماجد عرسان كتاب فلسفة التربية الإسلامية) قادرة على ممارسة دورها السياسي بحرية واقتدار.

العبادة ممارسة عملية كي تنقلنا من الأشياء والأشخاص إلى الأفكار، تبدأ بالاقتناع بالفكرة ثم تعمّق الإحساس بها إلى الدرجة التي تخرجه من دوائر الأشياء والأشخاص وبالتالي يمارس قيم الدين بحريّة واقتدار بعيدا عن آصار وأغلال الأشياء والأشخاص.

لا يمكن الفصل بين العبادة ومظهرها السياسي إلا عند من أرادوا بعلم أو جهل تقزيم هذه العبادة وحرفها عن تحقيق أهدافها كاملة غير منقوصة.ثمّ إنّ تحديد الهدف المركزي والاستراتيجي من الصيام وهو (لعلّكم تتقون) وقد جاء بصورة الجماعة كما هو حال التكليف في الإسلام كي تخرج من دائرة التقوى الفردية وتنتقل من إنتاج إنسان التقوى إلى إنتاج مجتمع التقوى وأمّة التقوى، وهذا التزام كبير يجعل منها أمّة واحدة ذات قضيّة واحدة، فالقضيّة الفلسطينية مثلا واحتلال القدس والمسجد الأقصى يجعل من صميم تقوى الأمّة أن تكون هذه القضية هي قضية المسلمين أجمعين وأن إيلاءها ما تستحق من اهتمام وواجب والتزام هو من صميم قيمة التقوى التي جاء الصيام ليحقّقها ويرفع من شأنها كي تكون فعلا هي القضية المركزية لكلّ المسلمين، وهنا نجد أنه لا يمكن الفصل بين العبادة ومظهرها السياسي إلا عند من أرادوا بعلم أو جهل تقزيم هذه العبادة وحرفها عن تحقيق أهدافها كاملة غير منقوصة.

وكذلك لا يعقل هذا الفصل النكد بين تقوى المجتمع كقيمة عليا عليها أن تحقّق قيم الحريّة والعدالة والسيادة والكرامة والحياة الصالحة بكلّ ما تعنيه من أبعاد بينما هناك طغمة مستبدّة تتبع سياسة المستعمر وتخضع شعوبها لهذه السياسات وطريقه لذلك مصادرة هذه القيم واستبدالها بقيم الاستبداد من ظلم وفساد ومصادرة للحرية والكرامة، فأوّل ما تصنعه العبادة في الإسلام حرية وسيادة الانسان، ومعروفة قصة القبطي الذي شكى ظلم الوالي فعقد له الخليفة عمر المحاكمة في العبادة يوم عرفة في الحج، لأن العبادة والعدالة صنوان وأن من يركع لله لا يمكن ان نُركّعه لحكّام يركعون للمستعمر كي يحفظ لهم سلطانهم، وكانت كلمة عمر الخالدة: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

وهكذا وبشكل عملي وواعي تأخذ العبادة بأيدينا إلى عملية تحرير شاملة من عبادة العباد وعبادة الأشياء إلى فضاء حرّ ورحب يمارس فيه المسلمون الحياة الحرّة الكريمة بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما يحقّ لهم استقلالهم وسيادتهم الكاملة غير منقوصة بأيّ حال من الأحوال، وانتصارهم الكامل لقضيتهم المركزية فلسطين، هذا إذا فقهوا : خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، وكما قال عليّ رضي الله عنه: " لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا خير في تلاوة لا تدبّر فيها".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الصيام رأي رمضان صيام معاني مدونات مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه العبادة فی الإسلام

إقرأ أيضاً:

فرص السلام .. و جاهزية “تقدم”

عادل إسماعيل
تداولت الأنباء خبر ترتيب الجارة مصر لمسعى جمع الأطراف السودانية التي تتجاذب تفسير الواقع المؤلم الذي يعيشه الشعب السوداني ، و نحن هنا نطلق عليه مجازا الصراع السياسي . و ليس هناك صراع سياسي في واقع الأمر ، إنما أفكار قديمة مبعثرة تجاوزها الواقع السوداني بحربه الأهلية و بثورته قبل ذلك .
فعقب الثورة التي أطاحت بحكومة الإسلاميين ، لم يكن لدى القوى السياسية و النقابية ، التي تصدرت المشهد ، برنامج عمل للانتقال السياسي من حكومة الحزب الواحد صاحب المشروع الحضاري الملفق ، إلى حكومة في مقام التحديات الكبيرة . و قد اشتكى الدكتور حمدوك ، قليل المعرفة بالفعل السياسي السوداني حينها ، من غياب هذا البرنامج .
و في حقيقة الأمر ، لم يدع شباب ثورة ديسمبر 2019 الفخيمة ، و لا يزالون لا يدعون أنهم يملكون تصورا لما بعد الإطاحة بالحزب الإسلامي الحاكم , فكانوا يقولون "تسقط بس" ، و كانوا يعتقدون أن بعد "بس" هذه تقع مسئوليته على عاتق القوى السياسية التي كانت في المعارضة ، و هو شيء منطقي منهم .
و في حقيقة الأمر ، قاد الثورة السودانية في ديسمبر 2019 ، وعيان إثنان: وعي شبابي و هو كثير الطموح و قليل المعرفة ، و وعي الطبقة الوسطى الجديدة و هو وعي قليل الطموح و كثير المعرفة . و قد تحدثنا عن ذلك في غير مقال بالتفصيل . و لكن ما نحب التوكيد عليه ، هنا ، أن هذين الوعيين لم يخرجا من مواعين الأحزاب ، حتى تساءل أحد الكتاب مندهشا: من أين خرج هؤلاء ؟ في تناص معكوس مع سؤال الطيب صالح الشهير .
و كما ترى ، جاء وعي الشباب قليلا لأنهم لم يتلقوا تعليما جيدا ، فقد جاء في استراتيجية فلسفة التعليم لحكومة الإسلاميين ، إن التعليم ينبغي أن يلبي أشواق "الأمة" و المقصود بهذا "أهل القبلة" بحسب فهم الإسلاميين للأهل و للقبلة . و توكيدا لهذا الاتجاه ، فرضت مادة "الثقافة الإسلامية" في الجامعات و المعاهد التي وضعها الدكتور عبد الحي يوسف ، و هو من السلفيين حلفاء الحزب الإسلامي الحاكم حينها ، و قيل إنه كان يشغل خمس عشرة وظيفة حكومية و يتلقى من الرئيس المطاح به شعبيا ، عمر البشير ، أموالا ضخمة (لنشر الإسلام) . و لكن مع هذا التعليم الهزيل ، كان الشباب يتلقون معرفة بصرية مبعثرة صبتها ، على عقولهم الجائعة الضيقة ، نوافير الري الفضائي المنهمرة من الأقمار الصناعية ، بما يتيح لهم مقارنة حياتهم الرثة بالحياة التي يستحقون . و هذا هو السر في مزيج الوعي القليل مع الطموح الكبير . و أما الطبقة الوسطى الجديدة ، و هم مفصولو "الصالح العام" و صغار الموظفين الذين يعتقد أنهم غير حسني الإسلام ، فقد تفرقوا في دروب الحياة يعافرونها في قطاع الاتصال و المواصلات و صناعة الأطعمة و بقية المهن الموقوتة ، و ذلك لتوفير مستلزمات الصحة و التعليم بعد ما افتخرت سلطة الإسلاميين بجعل الأخرين موردا من مواردها . فأكسبهم ذلك وعيا عمليا عنيدا استغرقه هذان البندان الملحان اللذان مثلا سجنا لطموحهما . و هذا هو السر في مزيج الوعي الكثير مع الطموح القليل هذه المرة .
فلو أدركت القوى التي تصدت لقيادة التغيير "قوى الحرية و التغيير" ، طبيعة الوعي الذي صنع الثورة ، لأدركت أن هذين الوعيين تكشحا خارج المواعين الحزبية ، و بالتالي كان عليها العمل خارج جنازيرها الحزبية ، و كيدها السياسي الكلاسيكي الصبياني .
أهدرت حكومة الانتقال زمنا ثمينا في محاكمات عقيمة و تسيير "مليونيات" تستهدف شركاءهم العسكريين ، الذين كانت تتظاهر بالعداء معهم ، كما كشفت ذلك عضو المجلس السيادي المستقيلة حينما قالت إن وزراء الحكومة المدنية لا يلتقونهم عندما يزورون القصر الجمهوري و يكتفون بالجلوس مع الشق العسكري .
لو أنجزت حكومة الانتقال شيئا حياتيا واحدا ، لثبتت الفترة الانتقالية ، و لكنها كانت في حالة تلمظ دائم للاستحواذ على السلطة ، و لم تعاد العسكر إلا بعد أن فكر العسكر في استبدالهم بمدنيين آخرين كانوا جزءا منهم . و هذا التلمظ للسلطة زين لهم إهمال الشباب و هم الركن الركين في تفجير ثورة ديسمبر 2019 الفخيمة ، حتى أنهم كانوا يتزاوغون من لقائهم حين يزورهم الشباب في مكاتبهم بحجة أنهم مشغولون . و في واقع الأمر لم تكن الحكومة الانتقالية تفعل شيئا بل كانت تنتظر البعثة الدولية ( اليونيتامز) لتعمل عملها بدلا عنها ، على كل المستويات ، حتى أن وزارة الإعلام نقلت لليونسكو ملفات الوزارة لتصيغ منها برامج إعلامية لتحقيق أهداف الثورة .. و شجع هذا الجو الخمولي أحد الوزراء الخملاء أن يقول إنهم لم يجدوا قاعدة بيانات يشتغلون عليها ، دون أن يكلف نفسه أن يشرح لنا ماذا يفعل كل يوم في مكتبه الوثير .. إن هذا العطب الأدائي ، إن لم تقل المعرفي ، جعلهم يتحججون بعرقلة "الدولة العميقة" الإسلامية لهم ، كأنهم أخذوا منها عهدا لمساعدتهم في إنجاح الانتقال . و هذا ما أتلف الانتقال و بدد زخم الثورة و أحبط الشعب السوداني ، حتى أن كاتبا محترم الكتابة ، و هو عبد الله مكاوي ، قال إن أسوأ ما في هذه الحكومة أننا مضطرون لدعمها .. و عندي ، إن هزال أداء "قوى الحرية و التغيير" و تفاهة أفكارها هو الذي نفخ الروح في الحركة الإسلامية و أطمعها في السلطة مجددا .
و كما ترى ، فإن فشل الحكومات المدنية يغري العسكر بالتدخل الغليظ في إدارة الدولة ، و هذا الأمر ينتظم كل التاريخ السياسي في السودان و في غيره . و حتى إنقلاب 21 اكتوبر الأخير ليس استثناء من ذلك ، وقد تناولناه بشئ من التفصيل في مقال حمل عنوان "نعم انقلاب و لكنه ملء تلقائي للفراغ" ، و لا ضرورة لإيراد محتواه مجددا . و ما نحب الإشارة إليه هنا ، هو أن هذه الحرب البليدة الدائرة الآن ، ما هي إلا وجه من تجليات فشل الحكومة المدنية الانتقالية و خوائها السياسي . و لا يهمني في هذا المقال من بدأ الحرب ، سواء أكانوا إسلاميي المؤسسة العسكرية أم إسلاميي ا"لدعم السريع" ، أو غيرهم . ما يهمني بالدرجة القصوى هو كيفية وقف هذه الحرب التي احتشدت فيها القبور و امتد فيها الموت حوالي هذا الشعب الكريم ..
و عندما تريد أن توقف فعلا عن الاستمرار ، فإنك تضع يدك على الفاعلين المباشرين ، و هم ، هنا ، قيادة الجيش السوداني و قيادة "الدعم السريع" ، و ليس غيرهم .
و الجيش قديم ، و ا"لدعم السريع" حديث . و الجيش كيان قومي و لعل هذا ما يفسر ميله ذات الشمال مرة و ذات اليمين مرة . كما إنه لم يصطنعه حزب سياسي ، إنما تستغله المجموعات السياسية التي نطلق عليها مجازا أحزابا في صراعها البليد و الإفنائي على السلطة . فما أن وطأت مجموعة سياسية أرض الجيش ، حتى سفحت الأخرى الدمع على موطئها ..
و في ميله ذات اليمين و ذات الشمال ، تعرض الجيش لتخريب كبير ، جاء جله مع الإسلاميين الذين كان انقلابهم قبضة إسلامية بقفاز عسكري عام 1989 . و بالرغم من هذا التخريب المدروس ، لم يطمئن الإسلاميون له ، و هم محقون في ذلك ، فأنشئوا ترياقا له قوات "الدعم السريع" ، و سامحوها في إذلالها لكبار الضباط و حموا فظائعها من إدانة المجتمع الدولي الذي يستعطفون ، الآن ، إدانته لها ..
أما "الدعم السريع" تحت قيادة حميدتي ، و هو الطرف الثاني المباشر الذي يحمل السلاح ، فأمره غريب و مسيرته درامية . كان لحميدتي رغبة جامحة ، و دعني أتجرأ و أقول و صادقة أيضا في مساعدة الشعب السوداني ليكون مقبولا رائدا لحقبة ما بعد ثورة ديسمبر 2019 . فكان انحيازه لهذه لثورة عاملا حاسما منقطع النظير لإنجاحها . فإذا كان إطلاق الرصاص حاسما في تاريخ الثوارات ، فإنه في حالة حميدتي كان صمت الرصاص هو العامل الحاسم . و كما تعلم ، يا ابن ودي ، إن في الصمت كلاما .. و بالرغم من قدرة حميدتي للتعلم السريع ، إلا أنه لم يجد حوله من يرسم له طريق القبول و الريادة . فوجد نفسه صاحب أموال ضخمة و قوة عسكرية كبيرة و لكن بلا "دماغ" ، أي بلا فكرة تعبر عنها هذه القوة و الثروة ، فجعل يبحث عن "فكرة" كما سنرى .
غني عن القول ، إن كل حركات الكفاح المسلحة بدأت بفكرة تكافح من أجلها ، بغض النظر عن صوابية هذه الفكرة و بغض النظر عن إحسان منتسبيها للتعامل مع الفكرة و غاياتها ، لكن لابد من وجودها أولا . فالفكرة إنما هي الكتاب المنير لحركة الكفاح المسلح ، تمشي على هداه ، و تجتذب بها مؤمنين جددا ، و تفتح بها مدرسة كادرها لتعلمهم السلوك المنضبط في الحرب و السلم لتحقيق مراميها . و لكن حميدتي انفصل عن الفكرة التي أنشأته ، فأصبح يبحث عن فكرة تعبر عنها قوته و ثروته . و لعل هذا ما يفسر تيه و ضياع مستشاريه ، فمرة هم يكافحون دولة 56 و مرة هم يكافحون التهميش و مرة هم يكافحون الإسلاميين "الكيزان" ، و مرة هم يكافحون من أجل المدنية و الديمقراطية . كما يفسر السلوك البربري لمسوبي الدعم السريع في المناطق التي يسيطرون عليها . ففي غياب الفكرة ، لا شيء يغري بالقتال سوى أن يقال لهم إن ما تتحصلون عليه يعتبر ملكا لكم . و بالرغم من غياب الفكرة إلا أن وجود حميدتي في بداية الحرب كان له أثر كبير في ضبط سلوك منسوبيه . فالرجل الذي كان يرغب في إعادة كتابة سيرته ليكون مقبولا في المجرى العام للمشهد السوداني ، يعلم بفطرته القوية أن الاعتداء على ممتلكات الغير و نهبهم و تخريب البنى التحتية إنما يحطم أحلامه للأبد . و لكن سرعانما أختفى الرجل ، فانطلق قمقم البربرية و الإجرام من محبسه الموقوت ، فماذا تنتظر من ثروة و سلطة بلا "دماغ" ؟؟
عاد حميدتي و هو طويل الظهر ، لكنه وجد خرابا لا يمكن إصلاحه ، و لا يمكن قبوله . على أية حال ، أنا أحب أن أصدق أنه حميدتي لكى أوقف به هذه الحرب البليدة ، فما يزال للرجل نفوذ على قوات "الدعم السريع" و إن طال ظهره .
و في الجهة المقابلة ، تجد أن "قوى الحرية و التغيير" ، و هي القلب النابض لجبهة "تقدم" ، بعد فقدانها للسلطة بانقلاب البرهان و نائبه حميدتي ، ظنت أن رفض الشارع للعسكر إنما هو دعم تلقائي لها ، فأطلقت تصريحات مهينة للعسكر ، و تأففت من الجلوس معهم مجددا ، وصل حد وصفهم بالبوت ، و للرمز دلالته ، أما حميدتي أصبح مجرد الجلوس معه انتقاصا لوزنهم "النضالي" . و لما شعرت "قوى الحرية و التغيير" بسحب السلطة من تحتها و من فوقها ، باستدراج البرهان لمجموعة منها ، عرفت في الأدب أو قلة الأدب الصحفي ، بجماعة الموز و المحاشي ، لتكون وجها مدنيا للعسكر ، و هي جماعة ظهر فسادها و هي داخل معطف "الحرية و التغيير" و لم تحرك الأخيرة ساكنا بشأنها . و أما فقدان السلطة من فوقها ، فقد جسدته السفيرة الأمريكية مولي في ، التي كانت تشرف على "الرباعية" في بيت السفير السعودي ، بقولها إن الولايات المتحدة على استعداد للتعامل مع أي حكومة مدنية و ليس بالضرورة أن تكون "قوى الحرية و التغيير" شريكا فيها . فلم تجد "قوى الحرية و التغيير" ، القلب النابض لجبهة "تقدم" ، سوى الرجوع للشوارع التي لا تخون . و لأن الشوارع لا تخون بالفعل ، فقد رفضت وجودهم بينهم و شوهدت أكثر من حالة لطردهم الخشن من "مليونيات" هذا الشارع .
و كما ترى ، أصبحت هناك "فكرة" تهيم على وجهها في طريق العراء السياسي ، تبحث عن ثروة و سلطة .. ثم لمع برق الحرب الخلب في هذا الطريق ، فإذا بها ترى في نهايته "ثروة و سلطة" تبحث عن فكرة . فهرول الهائمان نحو بعضهما ، فلما الركب بالركب التقى ، قضى حاجاته الشوق الملح (ضم الميم إلى صدرك و أشدد من أزر الحاء المهملة) .. و هذا هو السر في الانجذاب المغناطيسي بين "تقدم" و "الدعم السريع" .. إنه تحالف مصيري ، إنه تحالف سيامي يلتصقان بالرأس و السواعد .. و غني عن القول ، إن السواعد في زمن الحرب تكون أعلى كعبا .
الدكتور عبد الله حمدوك الاقتصادي الأممي ، تقبل العمل رئيسا لوزارة الانتقال ، و بالرغم من براعته الاقتصادية ، إلا أنه كان شحيح المعرفة بالفعل السياسي . و هذا ليس مستغربا ، حيث تمنع منظمة الأمم المتحدة كبار موظفيها للتوغل في العمل السياسي ضمانا لحيدتها .. هذا الرجل يملك برنامجا اقتصاديا كبيرا ، قسم فيه السودان لخمس ولايات انتاجية ، تحدث هو عنه في أخريات أيامه في الوزارة . و ظني أنه في فترة الثلاث سنوات قد عرف قدرا لا بأس به من الفعل السياسي الضروري لإنجاح هذا المشروع الاقتصادي الكبير .
قلنا أعلى هذا المقال ، إن وقف الحرب يتطلب الاقتصار على اتفاق وقف النار بين الفاعلين المباشرين . و هذا يعني بتر الصلة بين أي تفاوض عسكري الطابع و أي عمل آخر اصطلحنا عل تسميته مشروعا سياسيا . و لتستمر المجموعات السياسية أن تعك عكها بمؤتمرها الوطني أو بدونه . ما يهمني أنا وقف القتل و التشريد و العذاب ، و توصيل الأغذية و الأدوية لهذا الشعب الكريم .
بعد ترتيبات وقف الحرب ، اقترح تكوين حكومة تسيير للتعافي و الانتقال برئاسة حمدوك بعد استخلاصه من أيدي "تقدم" و نزعه منها . و لتتقدم "تقدم" من دونه كما تشاء ، و ليتقدم الإسلاميون كما يشاءون ، فموعدهم المجلس التشريعي الانتقالي بنسبة 25% أجمعين و 25% أخرى للحركات المسلحة و 50% للشباب ، و ذات النسب للجنة إعادة الإعمار . فلا وجود ل"تقدم" أو غيرها في حكومة التعافي و الانتقال ، إنما قيادة الجيش و قيادة "الدعم السريع" فحسب ، فهما اللذان أوقفا الحرب ، و هما اللذان يقع على كاهلهما فرملة منسوبيهما و القضاء على متلفي السلام فيهما إذا لزم الأمر ، سواء أكانوا إسلاميين أو غير ذلك . ثم تشكيل الحكومة من الصف الثاني في الوزارات الحالية ، الذي أطلقنا عليها من قبل "حكومة النواب" .
كان في النفس شيء يقال بشأن تضخيم "تقدم" و "الإسلاميين" لبعضهما البعض من أجل إظهار أهمية ذاتية تجعلهم مهمين في هذا المشهد الدرامي العجيب ، لكن هذا المقال قد طال ، و يحسن ختامه هنا .


adil.esmail@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • “مشروع أمديست”.. هذا هو الدور الحقيقي لمعهد أمديست وهكذا كان يتم استهداف الشباب واستقطابهم وما هي “الأشياء الإلزامية” التي كانت تفرض على الطلاب والطالبات لكسر الحواجز بينهم (صور+فيديو)
  • جولة إعادة وسط انقسامات.. قراءة في نتائج رئاسيات إيران 2024
  • قراءة لقصيدة اغتراب للشاعرة (آمال صالح)
  • لا تنسوا الدعاء فهو عبادة يحبها الله
  • فرص السلام .. و جاهزية “تقدم”
  • تاج الشمس فوق رؤوس الغلابة.. فضل السعي على الرزق في لهيب الحر
  • بوتين يعيد رسم تحالفاته من بيونغ يانغ.. قراءة في الأهداف
  • أسباب توقف العرض المسرحي "الحلم حلاوة"
  • طريقة سحرية تخلصك من دهون البطن العنيدة في أسرع وقت.. طبيبة توضح
  • ندوة سياسية طالب بدعم الجيش والمقاومة لاستعادة صنعاء وتؤكد على عدمية الحل السياسي مع الحوثيين