الجزيرة:
2024-11-22@02:18:06 GMT

رواندا.. 30 عاما من ذاكرة مثقلة بالدماء

تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT

رواندا.. 30 عاما من ذاكرة مثقلة بالدماء

تزامنا مع إحياء رواندا ذكرى مرور 30 سنة على الإبادة الجماعية التي شهدتها عام 1994 وراح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص غالبيتهم من عرق التوتسي، التقت الجزيرة نت الباحث والمؤرخ توم نداهيرو والباحث في الشأن السياسي غاتيتي نييرينغابو، الروانديين، لشرح سياقات تلك المذبحة المأساوية.

توجهتُ للقاء نداهيرو، حضّرت جيدا للمقابلة، محاور صعبة ومتشابكة عن تاريخ أمة ثم دولة طبعت بالمأساة مرارا.

أردت محاولة فهم جذور الفاجعة، وكيف يمكن أن يُقتل 800 ألف إنسان في 100 يوم. وهو تقدير غير نهائي، فالرقم قد يصل لنحو مليون ضحية.

مع حلول الذكرى الـ30 للإبادة الجماعية بحق التوتسي، تلمح في شوارع العاصمة كيغالي شعارات تدل على رسوخ تلك المذبحة في الذاكرة الجماعية للروانديين، فالطريق الذي أسلكه كي أصل للسيد توم نداهيرو، هو أحد الأماكن التي شهدت عمليات قتل جماعية.

تتزاحم الأسئلة، وللخيال ثقل كبير في هذه الحالة. تُرى كم شخصا فقد حياته على جنبات الطريق التي تشقها سيارة الأجرة؟ أين دفنوا؟ وما هي قصصهم؟

حزن دفين

مشاهد متخيلة، وتساؤلات، تتلاشى أمام سمات نداهيرو. يغلب على محياه حزن دفين، يبتسم دون تكلف، يرحب بقدومي ويقول لي إنه يقدّر اهتمام الساعين لمعرفة التاريخ، وقد يكون في التذكر محاولة لمنع مأساة مشابهة، في بقعة أخرى من العالم.

سأعرف لاحقا خلال حديثنا، أن الحزن الطاغي على قسماته، يبدأ من طفولته، لاجئا مطارَدا مع عائلته بين دول الجوار. ليدفن لاحقا في سنوات شبابه، 12 فردا من عائلته قضوا في مجزرة على مقربة من مكان لقائنا.

"الإبادة الجماعية ليست شيئا يحدث فجأة، إنها جريمة كراهية يتم التحضير لها، وبناء ظروف تسمح بوقوعها، إنها شيء لا يخطط له أفراد، هي فعل ترتكبه دول وحكومات"، هكذا بدأ نداهيرو الحديث عن الإبادة الجماعية ضد التوتسي في رواندا، مضيفا "التخطيط للإبادة يحتاج أيديولوجيا تغذي مشاعر الكراهية، وفي رواندا بدأت كراهية التوتسي قبل عام 1994".

وخضعت رواندا وبوروندي للاستعمار الألماني، أواخر القرن الـ19 استمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حينما استبدلت الهيمنة الألمانية بالاستعمار البلجيكي.

وحافظت سلطات الاستعمار خلال الحقبتين، الألمانية والبلجيكية، على الحكم الملكي الذي كان بيد أقلية التوتسي، وبدأت بتعزيز امتيازاتهم في البلاد. ونظمت بلجيكا عام 1933 إحصاء سكانيا أصدرت بموجبه هويات تحدد الانتماء الإثني للروانديين.

تلا ذلك، بروز نظريات لأوروبيين أنثروبولوجيين بلجيكيين على وجه الخصوص، حول الأصول العرقية للهوتو والتوتسي وقبائل "توا".

وحسب المؤرخ في تلك الحقبة "وضعوا فرضيات حول أصول الهجرات لسكان رواندا، فادعوا أن التوتسي هاجروا من الشمال وأنهم ليسوا من السكان الأصليين".

عززت هذه الهويات التقسيم المجتمعي، كان الهوتو والتوتسي وأقلية صغيرة جدا من شعب "توا" جزءا من النسيج المجتمعي، لكن إصدار هويات تحدد الانتماءات كان بمثابة وصمة تنبئ بالكارثة، هكذا يصف توم نداهيرو تأثير التقسيم الإثني.

بث الكراهية

خلال سعيي لإعادة تشكيل صورة عما شهدته رواندا قبل 3 عقود، التقيتُ غاتيتي نييرينغابو، الباحث في الشأن السياسي، شاب غزير الثقافة دونما تكلف، اختار أن يكون اللقاء في مقهى "كيفو نوار" الذي يقدم صورة عن رواندا الحديثة، عصري لكنه يبتعد عن البهرجة.

بدأ غاتيتي حديثه للجزيرة نت، بتقديم سياق ما قامت به سلطات الاستعمار، "لقد كرست بلجيكا مصالح أقلية أرستقراطية من أثرياء التوتسي، وتركت البقية يغرقون في فقر مدقع، بصرف النظر عن إثنيتهم".

ويضيف "هذه العوامل أدت ابتداء من عام 1957 إلى وقوع أول أعمال العنف ضد التوتسي بذريعة سيطرتهم على مقدرات البلاد وإقصاء الهوتو".

في تلك الفترة تم الإعداد للأيديولوجيا الممهدة للإبادة ضد التوتسي -بحسب نداهيرو- حيث "تم الإعلان عما سُمي مانيفستو باهوتو (البيان السياسي للهوتو) الذي يدعوهم إلى انتزاع حقهم بالبقاء والوجود وبتجريد التوتسي من صلاحيات الحكم".

وُضع البيان، بدفع من سلطات الاستعمار وبتشجيع من رجال الدين الكاثوليك الذين تحولوا لرسل يبثون الكراهية بين الروانديين، وفق نداهيرو، وتأسست على إثره حركة "بارميهوتو" أو "انعتاق الهوتو" التي يصفها المؤرخ بأنها كانت أقرب إلى المليشيا منها إلى الحزب السياسي.

استمر التوتر بالتصاعد مع استقلال رواندا عام 1961، ووقعت أولى المجازر ما بين العامين 1963و1964، قُتل الآلاف من التوتسي ولجأ قرابة 130 ألفا إلى بوروندي وأوغندا وجمهورية الكونغو (زائير حينها).

يُقرّب نييرينغابو صورة تلك المرحلة، ويقول "انظر لما يجري في فلسطين، وستفهم السياق. هناك تغيب المحاسبة عن عمليات القتل، عندما يقتل مستوطن فلسطينيا هل تحاسبه إسرائيل؟ بالطبع لا، يقتلون الفلسطينيين ويأخذون منازلهم مكافأة لهم. في رواندا حدث أمر مشابه، استمر الهوتو بقتل التوتسي والاستيلاء على أملاكهم دونما تدخل من السلطات لردعهم أو محاسبتهم".

انسداد الأفق السياسي

وعلى مدى العقود التالية، يبقى اللاجئون في مخيماتهم خارج حدود البلاد، ويبدأ التضييق عليهم. فتشكلت عام 1989 "جبهة رواندا الوطنية" ومُنيت بخسارة في أولى معاركها عام 1990 ضد قوات الرئيس جافينال هباريمانا. فشلت محاولات التوصل لاتفاق سياسي وارتفعت حدة التحريض ضد التوتسي، وصولا لمقتل هباريمانا.

يروي لنا نداهيرو الظروف التي أفضت لتشكيل الجبهة، ويقول "كنت لاجئا في ذلك الوقت في تنجانيقا (تنزانيا حاليا) وهكذا كان اسمها عندما وصلت إليها مع والدي".

ويضيف "بعد عقود بدأت الدول التي لجأنا إليها بمحاولة طردنا، لم يكن أحد يريدنا على أرضه. فتنامى لدينا شعور بضرورة الكفاح من أجل وطننا، كنا دون وطن ودون دولة ودون حقنا بالاعتراف بنا روانديين، فحملنا السلاح".

من جانبه، يقول نييرينغابو إن تلك الفترة اتسمت بانسداد الأفق السياسي، "قادة الهوتو رفضوا أي اتفاق، وبدأت وسائل الإعلام ببث خطاب الكراهية بشكل ممنهج". ويضيف "كانوا يخشون نزع الامتيازات التي تتمتع بها الطبقة الحاكمة، لقد دفع الفقراء الثمن سواء من الهوتو أو التوتسي، تم الزج بهم لقتال بعضهم بدلا من القتال ضد الفقر".

ويتابع "ووقف المجتمع الدولي متفرجا، مرة أخرى، وتخلى عنا بأسوأ الطرق الممكنة. كذب الفرنسيون في مجلس الأمن وادعوا أن المجازر غير حقيقية، وكذب الإعلام الغربي أيضا. يتكرر الشيء نفسه الآن حول ما يجري في فلسطين. هل يكترث مجلس الأمن أو الإعلام الدولي؟".

في السادس من أبريل/نيسان 1994، تحطمت طائرة تقل الرئيس هباريمانا، واعتُبرت الشرارة لما سيجري لاحقا. اتُهم التوتسي بإسقاط الطائرة، وبدأت أعمال عنف سرعان ما تحولت إلى مذبحة. في اليوم التالي بدأ القتل المباشر للمعارضين السياسيين داخل البلاد ولم ينج رئيس الوزراء آنذاك.

على مدى 100 يوم، قُتل قرابة مليون شخص غالبيتهم من التوتسي، داخل الكنائس وفي المجمعات الرياضية، وفي العاصمة والقرى، وفرّ من استطاع إلى دول مجاورة. وبحلول منتصف يوليو/تموز 1994 بسطت "جبهة رواندا الوطنية" سيطرتها على البلاد.

"كان الأمر فظيعا، قتلوا النساء والأطفال والرجال، كانوا يقتلون كل من يحمل بطاقة هوية كُتب عليها توتسي. خسرتُ 12 فردا من عائلتي، عندما عدت إلى كيغالي بعد انتهاء المجازر كان عليّ أن أحاول معرفة أين قُتلوا وأين أُخفيت جثثهم كي نتمكن من دفنهم بشكل لائق"، يقول نداهيرو بصوت ملؤه الألم.

استعمار وفقر

اطلعتُ على شهادة مصورة، يصف فيها جان دو ديو تواهيرا، وهو أحد الذين شاركوا في عمليات القتل، هجوما على كنيسة في كيغالي. يقول إن "الجيش آنذاك سمح لمجموعة من الشبان، وهو من بينهم، بالدخول إلى الكنيسة حيث لجأ المئات".

ويضيف تواهيرا "كنا ننتقي عددا منهم ونأخذهم إلى حفرة في الباحة الخارجية ونقتلهم بالسلاح الأبيض، وكنا برفقة أشخاص نظموا العملية برمتها".

وبحسب شهادة الرجل الذي خضع للمحاكمة، "تراكمت الجثث، وكان يحثنا القادة على الإسراع، بالقول إن مقاتلي جبهة رواندا الوطنية يقتربون من المكان". ولا يحاول -في شهادته- تبرير ما اقترفه، ويقول إن الشباب في ذلك الوقت "كانوا تحت تأثير خطاب كراهية إثني لم يكن وليد اللحظة".

يقدم لنا غاتيتي نييرينغابو ما يراها أسبابا أفضت للفاجعة، "كانت المنطقة تشهد صراعا حفيا بين القوى الاستعمارية السابقة والجديدة، كل دولة تدعم فريقا، فرنسا تدعم الهوتو بينما حاولت الولايات المتحدة دعم "جبهة رواندا الوطنية".

ويضيف "هناك عوامل أخرى تتعلق بغياب التنمية والفقر الشديد مما حوّل الروانديين إلى أدوات بيد قلة حاكمة". أما الأخطر -وفق نييرينغابو- فهو "غياب المساءلة والمحاسبة على مدى عقود منذ ما قبل الاستقلال، عندما فشلت الدولة بوقف استهداف التوتسي، بل شجعت عليه".

أما نداهيرو فيرى أنه يمكن لوم سلطات الاستعمار على ما شهدته رواندا من انقسامات عرقية قبل الاستقلال، "لكن لحظة الاستقلال تعني أننا نتحمل المسؤولية عما جرى لنا".

وبينما أشكر نداهيرو على اللقاء، وأتحضر للمغادرة، إذ به يقول لي "أعول عليك لنقل قصتي، وأتمنى لمن يقرأ شهادتي أن يدرك كم يصعب العودة بالذاكرة لتلك الحقبة المأساوية. نتذكرها كي لا نكرر تلك الأخطاء".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات

إقرأ أيضاً:

هل من أستاذ يزيل جهلي السياسي في قضية الحرب علي السودان؟

من الثابت غير القابل للنقاش – إلا من متورط أو غبي مستحكم الغباء – أن السودان يتعرض لغزو إستعماري علي أسنة ميلشيا إرهابية نكلت بالشعب السوداني من مدنيين عزل في مدن وقري لا يوجد بها جيش ولا كوز. في هذا السياق غير القابل للتزوير، حتي ألان لا أفهم كيف يمكن الدفاع فكريا وأخلاقيا عن موقفين:

– موقف الحياد تجاه الإغتصاب الواسع للسودان بمعني الكلمة الحرفي والمجازي.
– الموقف الذي يساوي ضمنا بين ميليشيا تغتصب وبين جيش(رغم عيوبه المعروفة) لا يفعل عشر ما تفعل الميليشيا من جرم ويهرب المواطن إلي مناطق سيطرته لان المدنيين فيها أمنين علي حياتهم وعرضهم ومالهم.

إما أن المدنيين الهاربين إلي مناطق سيطرة الجيش أغبياء لا يعرفون مصالحهم ولا يفهمون أن الجيش لا يختلف عن المليشيا الإقطاعية أو أن الأفراد والجماعات التي تساوي ولو ضمنا بين “طرفي الحرب” قد أسقطت كرامة الشعب وسلامته من حساباتها لصالح مسبقاتها السياسية أو لأن التموقع في المنتصف أكثر أمنا علي المدي الطويل لانه يقلل من مخاطر محتملة قد تنجم من إنتصار الحلف الجنجويدي بالضربة القاضية أو عودته إلي السلطة في شراكة مع الجيش. وفي هذا خيانة للشعب المستباح تحدث في أشد الساعات حلكة في التاريخ الحديث.
التاريخ لا ينسي وكتابه الطويل سيقول قولته.

لا أستبعد أن تكون عدم قدرتي علي فهم الموقفين أعلاه ناجمة عن قصور ذاتي وضعف تحليلي، لذلك كلي أمل أن يشرح لي أصحاب الحياد وأصحاب المساواة الضمنية بين “طرفي الصراع” كيف يمكن الدفاع الفكري والأخلاقي عن هذين الموقفين.

معتصم أقرع

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أي هروب ممكن؟ «ذاكرة في الحجر» لكوثر الزين: الخلاص ممكن خارج الوطن
  • عضو السياسي الاعلى الحوثي يصدر توضيح بشان تركيا
  • جهود دولية تنجح في إجلاء مهاجرين من ليبيا إلى رواندا
  • بشأن وقف إطلاق النار في لبنان.. هذا ما أبلغه قادة الجيش الإسرائيلي للمستوى السياسي
  • الحرب في السودان: تعزيز فرص الحل السياسي في ظل فشل المجتمع الدولي
  • بيان من المكتب السياسي للحزب الإشتراكي الديمقراطي الوحدوي (حشد الوحدوي)
  • ذاكرة الحروب والفيتو
  • هل من أستاذ يزيل جهلي السياسي في قضية الحرب علي السودان؟
  • «شاكر عبد الحميد».. حكاية إبداع في ذاكرة مؤتمر أدباء مصر
  • هل تعاني من عودة زيادة الوزن سريعا بعد فقدانه؟.. «ذاكرة السمنة» السبب