لما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، وعُرض على أبى بكر (11-13هـ = 632-634م) تدوين القرآن فى مصحف وجمْعه من الرقاع رفض الفكرة أول أمره، وانشغل بحروب الردّة، ثم استُشهد فى حروب الردّة كثير من الصحابة حَفَظة القرآن الكريم، هنا شرح الله قلب أبى بكر واستجاب لرأى عمر بن الخطاب، وكان أول ما جمعوه بين دفتين، حيث جمع القرآن، فعهد إلى زيد بن ثابت فى ذلك برغم صغر سنة، لأنه أشهر الحُفاظ، وكان مداوماً على كتابة الوحى للرسول، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن، ونصحه أن يستمع لقراءات خمسة من الصحابة هم: عليّ، وعثمان، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس.

وكان منهج زيد بن ثابت (ت45هـ/665م) فى هذا الجمع مستحقا التأمل والدرس، بعد أن قال عمر (13-23هـ = 634-644م) لأبى بكر الصديق (ت 13هـ 573ـ634م):
«إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإنى أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمَواطن (جمع موطن أى مكان)، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإنى لأرى أن تأمر بجمع القرآن».
وتردد أبوبكر، وقال: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟، فقال عمر: هذا والله خير، فقال أبوبكر، فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك، وحين كلف زيد بن ثابت قال زيد: فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمرنى به من جمع القرآن».
القرآن الكريم أصدق الكتب والنصوص والمصادر بثقة سَنَدِه {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، فصّـلتْ، آمن بذلك المؤمنون، وصدّقه المنصفون من غير العرب، أمثال: «لوبلوا»، و«نولدكه».
إن جمع المصحف هو باكورة صناعة الكتاب فى المكتبة الإسلامية وفق منهج علمى سديد سبق منهج المعاصرين، وذلك بانتقال هذه المكتبة الإسلامية من الذاكرة الواعية الحافظة، إلى الصحيفة الخالدة، وها قد عهد أبوبكر إلى زيد بن ثابت أشهر الصحابة إتقاناً لحفظ القرآن الكريم، ووعيا لحروفه، وأداءً لقراءاته المختلفة، وضبطاً لإعرابه ولغاته، ومداومة لكتابة العرض، وشهد العرضة الأخيرة فى حضرة النبى، كما قدمنا، مع صفات ومزايا يذكرها له الخليفة والصحابة. لقد فوّضه أبو بكر فى اختيار مَنْ يعاونه ويسأله، وأوْدَع تحت يديه ما تركه النبى عند زوجته السيدة عائشة رضى الله عنها، وسأله أن يسمع جيدا لقراءات خمسة من الصحابة غيره وغير عمر، ومضى الصحابى زيد بن ثابت فى منهج علمى دقيق فى البحث والاستقصاء والإثبات والمراجعة، لجمع ما عند الصحابة من قرآن مكتوب على السعف واللخاف والرقاع، وجلس يدوّن ويراجع ويقرأ ما دُوِّن على الرجال، ويسمع ويستحفظ صدور المؤمنين ويتحرى فى كل لفظ وكل آية قبل أن يثبتها، ويعود إلى ما كان تحت يديه مما كُتب فى زمان النبى، ولا يترك آية حتى يتوثقها ويدقق أمرها ولفظها وضبطها على كثرة من الصحابة، ومضى فى منهجه هذا يلتزم التحرى والمتابعة والبحث والمراجعة والسماع للحفاظ حتى أتم جمع المصحف، وإنّما راعى ذلك كله مبالغة فى الضبط وزيادة فى الاحتياط حتى تكون الكتابة مُعَاضِدةً للحفـّاظ ومؤازرةً لهم، وهكذا حتى تم جمع المصحف فى صحائف واحدة فى قطعها ونوعها ونقشها وضبطها، لأول مرة فى عهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه بعد أن كان متفرقاً فى زمن النبى، وإثبات ما كان فى العرضة الأخيرة فى موضعه ومكانه وترتيبه، ما لم تنسخ تلاوته، وكان لا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدْلان أنه كُتب أمام رسول الله، وقَبِل ما فى آخر سورة (براءة) مع أنه لم يجدها إلا عند أبى خزيمة؛ لأن الجميع كانوا حافظين لها.
جُمع القرآن وكُتب على هذا النحو، وبجهد زيد بن ثابت، وبإشراف أبى بكر وعمر، رضى الله عنهما، فقال على بن أبى طالب: «أعظم الناس فى المصاحف أجراً أبو بكر - رحمة الله على أبى بكر - هو أول من صحّف كتاب الله تعالى وجمعه». أخرجه ابن ماجه، وابن أبى داوود فى مسنده.
قال الإمام أبو عبد الله المحاسبى: «كتابة القرآن ليست بمحْدثة، فإنه  كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرَّقاً فى الرقاع والأكتاف وغيرها، فأمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعة، وكان ذلك بمنزلة أوراق وُجدت فى بيت النبى وفيها القرآن منتشراً جمعها زيد وربطها حتى لا يضيع منها شيء».
تحدث أبوالفرج ابن النديم (ت 438هـ)، تحقيق إبرهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت ط2 1997، فى الفن الأول من المقالة الأولى من (الفهرست) ص 9 تحت عنوان (خطوط المصاحف)، ذاكرا خطوطه العديدة بين: المكي، والمدني، والمثلث، والمدور، والكوفي، والبصري، والمشق، والتجاويد، والسطواطي، أو السلواطى، والمصنوع، والمنايذ، والمراصف، والأصفهاني، والسجلي، والفيراموز، ومنه يستخرج العجم وله يقرأون، وهو نوعان: الناصرى، والمدور، وقال إن أول من كتب المصاحف فى الصدر الأول، ويوصف بحسن الخط هو خالد بن أبى الهياج «رأيت مصحفا بخطه»، وهو الذى كتب الكتاب الذى فى قبلة مسجد النبى صلى الله عليه وسلم بالذهب من: «والشمس وضحاها» إلى آخر القرآن، وذكر من كتـّاب المصاحف: خشنام البصري، ومهدى الكوفي، وكانا أيام الرشيد، ولم ير مثلهما حيث كتابة كتابه، ثم ذكر طائفة ممن تلوه.
 

عضو المجمع العلمى وأستاذ النقد الأدبى
بجامعة عين شمس

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: بجامعة عين شمس لغتنا العربية جذور هويتنا 4 د يوسف نوفل القرآن الکریم من الصحابة

إقرأ أيضاً:

الكتاب أصل الأشياء

وأنا أشاهد فـيلم (هاري بوتر وحجر الفـيلسوف) الذي جرى عرضه فـي دار الأوبرا السلطانية مسقط، مصحوبًا بعزف موسيقيّ حيّ أدّته أوركسترا الدولة السيمفوني فـي أرمينيا، استحضرت الجزء الأول من رواية (هاري بوتر) للكاتبة البريطانية جوان رولينج، التي بنى عليها الفـيلم أحداثه، وهي من الروايات التي نالت شهرة عالمية كبيرة، إذ بيعت منها ملايين النسخ منذ صدور جزئها الأول فـي منتصف 1997 وترجمت إلى العديد من اللغات،

ويكفـي أن الجزء السادس من الرواية الذي حمل عنوان (هاري بوتر والأمير الهجين) بيعت منه 10 ملايين نسخة يوم صدوره، وكان لا بدّ للسينما العالمية أن تستثمر هذا النجاح، فأنتجت 8 أفلام من أجزائها، كلّها حققّت أرقاما قياسيّة فـي الإيرادات.

روايات أخرى شقّت طريقها إلى السينما، لعلّ من أبرزها رواية (العرّاب) للكاتب الأمريكي ماريو بوزو الصادرة عام 1968م التي أخرجها للسينما المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا، بدءا من جزئها الأول عام 1972م وكان من بطولة مارلون براندو وآل باتشينو، أعقبه بجزأين آخرين، وقد اعتبر نقّاد السينما الجزء الثاني من الفـيلم ثالث أفضل فـيلم فـي تاريخ السينما،

وكانت هوليوود قد اشترت حقوق تحويل الرواية إلى فـيلم قبل انتهاء الكاتب من كتابتها، وحقّق الفـيلم شهرة مدوّيّة حتى عاد فريق العمل، وأنتج الجزء الثالث عام 1990م، وكلّنا نعرف أن الرواية تتحدث عن نفوذ إحدى عائلات المافـيا الإيطالية، وتحكّمها فـي مجريات الأمور، لتشكّل دولة داخل الدولة.

وبعيدا عن (هاري بوتر)، و(العرّاب)، باعتبارهما ظاهرتين فـي تاريخ الأدب العالمي والسينما، لو ألقينا نظرة على أهم الأفلام التي أنتجتها السينما العربية والعالمية لرأينا أنّها استندت إلى روايات عالمية أخرى، كـ(البؤساء)، و(أحدب نوتردام) لفـيكتور هوجو، و(زوربا اليوناني) لكازنتزاكي، و(بائعة الخبز) للفرنسي كزافـييه دومونتبان، وروايات دوستويفسكي وأجاثا كريستي، وتشارلز ديكنز، وماركيز، ومن أسماء الكتّاب العرب الذين تحوّلت أعمالهم إلى أفلام: نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ويوسف السباعي، والطيّب صالح، رغم أن المخرجين يأخذون من الروايات ما يحتاجون إليه فـي أفلامهم، ويستغنون عن صفحات كثيرة، فلغة السينما التي تقوم على الصورة،

تختلف عن لغة الرواية التي تستند إلى الكلمة المكتوبة، فهناك قواعد فـي الفن السينمائي ينبغي مراعاتها عندما تدخل السينما حرم الرواية، وهذه تعتمد على عوامل عديدة أبرزها رؤى المخرجين، والإنتاجيات المرصودة، لتنفـيذ تلك الأفلام، وكم من مشهد بصري قصير اختصر صفحات عديدة دبّجها الكاتب فـي وصف ذلك المشهد! وهذا موضوع متشعب، «لكن، لولا النجاح الباهر لتلك الروايات،

وقوة حبكتها السردية، والتوقعات العالية لإيرادات شباك التذاكر، هل كانت لتحظى باهتمام المنتجين وتلفت أنظارهم؟»؟ أرقام تلك الإيرادات تجيب عن هذا السؤال، فالسينما صناعة، وأنجح الأفلام وحتى المسلسلات التلفزيونية، والمسرحيات، هي تلك التي قامت على روايات ناجحة، فمنها يستلهم المخرجون رؤاهم،

وبين حين وآخر، يعود المنتجون إلى كتب الروايات، التي تحقّق أرقاما عالية فـي الكتب الأكثر مبيعا، يتصفّحونها، ويفكّرون فـي تحويلها إلى أفلام وكم من رواية عاد القرّاء إليها بعد مشاهدتها فـي السينما! فاستثمر الناشرون نجاحها وأعادوا طباعتها، فاستفادوا من الشهرة التي حقّقتها السينما لتلك الروايات التي تبقى نتاج عبقريات فذّة، وتجارب حياتية كبيرة، ومخيّلة خصبة، ولهذا شقّت طريقها إلى السينما ولولا الجهد الذي بذله كتّابها لتكدّست فـي المكتبات ولم يلتفت إليها أحد.

وإذا كان الفـيلسوف اليوناني أرسطو طاليس يرى بأن الماء هو أصل الأشياء،

فالورق الجيد يقف وراء نجاح أي فـيلم جيد، فهو الأصل، والورق بلغة المشتغلين بالسينما هو النص، والنص نجده فـي بطون الكتب ومن هنا فالكتب أصل الأشياء.

مقالات مشابهة

  • لماذا سميت سورة يس بهذا الاسم؟.. 5 معجزات لا يعرفها كثيرون
  • معلمات في الدورات الصيفية لـ”الأسرة” :السلاح أمام حرب العدو الناعمة هو التربية الإيمانية والرجوع إلى الثقافة القرآنية
  • أرض الوحي والانتصارات.. خطيب الأوقاف بسيناء يعدد مكانة أرض سيناء المباركة
  • دعاء تحصين المنزل.. من القرآن الكريم والسنة المطهرة
  • ما هو الخمار المقصود في القرآن؟.. أمين الفتوى يوضح المعايير وكيفية تطبيقه
  • تكريم الفائزين في مسابقة القرآن الكريم بالسويق
  • خطيب حوثي يكذب علنًا ويزعم أن رسول الله ''لم يُحِط بعلم القرآن الكريم'' !
  • اختتام مسابقة وزارة التعليم للقرآن الكريم للعام 1446هـ
  • الكتاب أصل الأشياء
  • رئيس منطقة مطروح الأزهرية يتفقد مقر رواق الطفل للقرآن الكريم