السّـودان ودبلومَاسِـية أهلِ الكَهف
تاريخ النشر: 5th, April 2024 GMT
العربي الجديد
السفير /جمال محمد إبراهيم
(1)
إذا كانت الكتبُ السماوية تأمر البشر بالاستقرار فيكون الإطعام، وبالسلام فيكون الأمان، فإنَّ ذلـك ما ارتضته الأمـم وتوافقـت عليه في مواثيـق رتبتْ أحوالها وأوضــاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. سنرى أنّ تلك المواثيق والاتفاقيات التي ابتدعها البشر لا تبـتعـد عن تلك الأوامر الرّبانيـة إلا بقـدرٍ طـفـيـف، وهي بلغة الزّمن الماثل صيغٌ للـتعاون الدولي والتعايش السلمي بين البشر، وذلك ما يندرج بلغة العصر تحت مظلة ما يعرف بالدبلوماسية المتعدّدة الأطراف.
تلك هي الدبلوماسية التي قنّنتها الأطرافُ التي تُشكّل ما يُعـرف بالمجتمع الـدّولي، وهي التي تستهدف توفير الاستقرار بمعناهُ السياسي والاقتصادي، بما يشمل الأمن وحمـاية البشـر والمنافع. لذلك، تجد عبارة "حفظ السلم والأمن الدوليين" في لُبّ كلّ المواثيق والمعاهـدات الدولية التي تحكم المجتمع الدولي وتضبط سلوكياته، منذ تحوَّل البشر من شعوبٍ وقبائل تتقاتل إلى ممالك ودول واتحادات تتعاون. تكون الدبلوماسية، إذاً، جملة الآليات والأساليب والفنّيات التي يتم عبرها تجنّب الصراع وتقريب التصالح، فلا جوع ولا خوف، بل استقرار وأمـان.
(2)
هذه السطور عن السودان، وعن اكتمال عام من حربٍ ضروس لم يهتدِ مشعلوها إلى التواضع لابتدار حوارٍ وتفاوض يخرجان بلادهم من ويلات الدّمار وإفناء البشر، وإحراق مؤسّسات الدولة وهياكلها جميعها. إنَّ الحوار والتفاوض هما السبيلان الوحيدان المتاحان لحلّ الخلافات بحُـسـنِ التفاهم السلميّ، لا بسـوءِ السـلاح المُدمّـر. ويتردّد كاتب هذه السطور في تصنيف الحرب في السودان، فهي حربُ بلـدٍ مع نفسه قضى فيها السودانيون أنفسهم على أخضر بلادهم ويابسها، فلا يصنّفها من وجـوه صـراع مع عــدو خارجي، كما لا يصنفها حرباً أهلية بين طرفين يتصارعان داخل حدودهما. وإنك لو أجلتَ بصرك فسترى من حسبوا أنفسهم وسطاء وأهلَ خيـر، من كلِّ حـدبٍ وصوْب، إقلـيمـييـن ودوليين وحاملي أجندات، قد تسمع من بعضهم قولاً عن حرب السودان إنها حربٌ منسية ولا مكان لها من الإعراب من بين كلِّ الحروب التي عرفها الناس. قبلها اندلعـتْ حربٌ بيـن روسيا وأوكرانيا، وبعدها اندلعتْ أخرى في قطاع غزّة مع دويلة إسرائيل. لكنّ حرب السودان لا تشـبه هذه ولا تلـك.
حربٌ منسية ولا مكان لها من الإعراب من بين كلِّ الحروب التي عرفها الناس
القاسمُ المشترك بين تلك الحروب الثلاث، وإنْ اختلفت مسبّباتها، هو الهوان الذي اعترى آليات المجتمع الدولي وأقعـد قدراته على احتواء مسبّبات مثل تلك الحروب، فيما لا يخفى عن أعين المجتمع الدولي تورّط فاعلين خارجيين في صبّ زيت الفتنة على نيران الحروب الثلاث. لم يُخفِ الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتّحدة خطوط إمداداتهما لأوكرانيا، كما لم تُخفِ الولايات المتّحدة خطوط إمداداتها للحليف "المُبجّل" في الشرق الأوسط؛ دويلة إسرائيل الساعـية إلى تدمير الفلسطينيين دماراً شاملاً بسلاح أميركي. ... أمّا عن السودان فقـد اتبعت دبلوماسـية جنرالاته ســـبيلاً آخر.
(3)
فوجئ مجلس الأمن في المنظمّة الأممية بتقديم جنرالات السودان، الذين صاروا حكّامَ أمرٍ واقعٍ في الخرطوم الغائبة، شـكوى في أكثر من 40 صفحة، يتهـمـون فيها ثلاث دول أعضاء في الأمم المتحدة بالتورّط في حربٍ تدور رحاها داخل السودان، يخوضها متمرّدون سـودانيون ضدّ جيش الدولة السـودانية الرســمي. قد يعجب المرء حين يسمع أنّ دولة عـربية يشكوها السودان إلى الأمم المتحدة، فيما للسودان ولتلك الدولة العربية المُتهمة عضويتهما الكاملة في منظمّة إقليمية هي جامعة الدول العربية (!) والأعجب أيضاً، أن يشـكو السودان إلى الأمم المتحدة دولتين أفريقيتين أُخْرِيَيَنِ جارتين له، يشاركهـما السودان عضويةً كاملة في منظمة إقليمية أفريقية هي الاتحاد الأفريقي.
الحوار والتفاوض هما السبيلان الوحيدان المتاحان لحلّ الخلافات بحُـسـنِ التفاهم السلميّ، لا بسـوءِ السـلاح المُدمّـر
ماذا يقال عن جنـرالات السودان وقد توغّلـوا من قـبـل في مضيهم الشــرير إلى إجهـاض ثورة عظيمة خاضها الشباب السوداني، أسقط عبرها نظاماً ظالماً جـثم على صـدور آبائـهـم وأمهاتهم 30 عاماً؟ فتيات وفـتيان تفـتّحـت عيونهم على الدنيا ليجدوا جنرالاً اسمُه البشير يحكم بلادهم لا يعرفهم ولا يعرفونه، أعلن جنـرالاته وقـوفـهم الكاذب لنصرة تلك الثورة العظيمة، غير أنّ لهم ما أخفـوه من معـاول حفـروا بها مقبـرة لتلـك الثـورة، وغيّبوها تماماً. ها هُـم الآن وقد قطعـوا، هُـم ومن يصارعـونهم، أشــواطاً بعيــدةً في دمــار البــلاد، يسارعون إلى هـيئة الأمم المتحدة وهي في أضعف حالاتها، وهم أنفسهم الذين تعاملوا قبل ذلك مع منظمّات إقليمية، عربية وأفريقية، هم أعضاء فيها، بسـفهٍ وباستخفاف.
(4)
جنرالات السودان الذين يحاربون أنفسهم، ســواء جاؤوا من كـلّياتٍ عسكريةٍ أو مـن منازلهم وبواديهم، هُـم أكثر عجزاً من أن يُحسنوا مخاطبة المجتمع الدولي. لكأنهم لم يدركوا أنّ السودان الذي أكمل ما يقارب 70 عاماً منـذ نيله الاســتقلال، يملك جهـاز دبلوماسـية راسـخ الأداء عركته التجارب والخبرات، وفـيه من البـذل والمجـاهـدة والمساهمة في بناء الدبلوماســية العربية والأفريقية ما شهد به الكبار في جامعة الدول العربية، وفي منظـمّة الوحدة الأفريقــية التي صار اسمها الآن الاتحاد الأفريقي.
هل في جنرالات الخرطوم من سمع عن مشاركة جيش السودان ضمن قـوات في أول مهمّة عسكرية للأمم المتحدة في أزمة الكونغو عام 1960؟
تُرى، هل أدرك جنرالات الخرطوم أو شهدوا أو سمعوا بلاءات ثلاث أجيزت في الخرطوم عقب الهزيمة العربية عام 1967، لتعـيد إلى أمّـة العـرب بعض كبرياء أضاعته دولة الكـيان الصهيوني؟ وهل فيهم من سمع عن مشاركة جيش السودان ضمن قـوات في أول مهمّة عسكرية للأمم المتحدة في أزمة الكونغو عام 1960؟ ثمّ هل فيهم من ســمع عن قوات سودانيّة ضمن قوات عربيّة وقفت بين العراق والكويت في أوائل الستينيات أو عن الكتيـبة السودانية ضمن القوات العربيّة، بين بيروت الشرقية والغربية، في سبعينيات القـرن الماضي في لـبـنـان؟ تُرى هل أدرك جنرالات الخرطوم حقائق ذلك التاريخ، قـبـل أن يجأروا بالشكوى للأمم المتحدة من بعض دولٍ برزت للوجود بعد استقلال السودان بسنواتٍ طويلةٍ، فـإذا هُـم يُقزّمون قامـة بلـدٍ اسمه السودان، كان هو الأكبر قيـمـةً ومهـابةً؟ هل يدرك جنرالات السّـودان، الذين يحكمونه قـسـراً، أنّ دبلوماســـية الســودان التي أضاعوا بوصلتها هي التي شاركت بأقلام دبلوماسييها في صياغـة ميثاق منظمّة الوحـدة الأفــريقية عام 1963، في حين يكاد الاتحاد الأفريقي، الذي جاء من ضلع منظمّة الوحدة الأفريقية السابقة، أن يُقصي السّـودان من عضويته كما يُقصَى العنـزُ الأجرب مِـنْ قطيعـه؟
(5)
حين اجتمع الوسطاء في جدّة، كان من المثير للعجب والدهشة أن يطالب ممثلو طرفٍ من الطرفين السودانيين المتحاربين بأن لا يشـارك أيّ دبلوماسِـي من السودان في الحـوار بـيــن المتصارعين، وذلك ما يعزّز النية المبيتة لتغييب أيّ دور أو ذكر للدبلوماسية السودانية، والحوار لوقف الحرب في الأصل عمل دبلوماسيّ بامتياز. لكَ أن تتصوّر أن من جـاؤوا يجلسون للحوار والمسدّسات تتدلى على خصورهم، هم من قدّموا لإيقاف تلك الحرب.
للسودان الذي يحكمه جنرالات يقاتلون أنفسهم بأنفسهم ســفاراتٌ في الخارج عاجزة ليسَ إلّا، لأنها مُغيّبة بإرادة فاعل. هي دبلوماسية جالسة في مقاعد المتفرّجين خارج البلاد، فيما الصراع مُحـتـدم بين متصارعين لا يدركون أيّ بلـدٍ أضـاعوا.
شــكوى تُرفع عبر أوراق رسميّة باسم السّـودان إلى مجلـس الأمـن، تثير السخرية في تجاوزها التقاليد والأعـراف والأساليب الدبلوماسيّة المرعيّة، فالدول التي شكاها الجنرالات، ولا نقول الدبلوماسية السودانية، هي دولٌ ما زال للسودان ســفراء ودبلوماسيون معتمدون فيها، وكانت من أولى مهامّهم إدارة قنوات التواصل والتفاهم بين بلادهم وتلكم البلدان القريبة والجارة.
لنا أن نتصوَّر خـاتمة درامية لتلك المهزلة في ما لـو بلغتْ أوراق الجنرالات ومذكّراتهم تلك بالفعل إلى الأمين العام للأمـم المتحـدة أنطونيو غوتيريس، ولنا أن نتصوّره يطلب من دبلوماسيي السودان العاملين في الأمم المتحدة أن خذوا أوراقـكم هذه إلى جيـرانكم، لتنظروا أياً منهم تصالحون أو يصالحونكم، فأنتم والـلـه من أهـل كهـف الدبلوماسـية، يا رعاكم الـلـه.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المجتمع الدولی الأمم المتحدة الس ـودان منظم ة
إقرأ أيضاً:
المجلس النروجي: السودان يتجه نحو "مجاعة بدأ عدها التنازلي"
الخرطوم - قال رئيس المجلس النروجي للاجئين يان إيغلاند في مقابلة أجرتها معه السبت 23نوفمبر2024، وكالة فرانس برس، إن السودان الذي يشهد حربا مدمّرة يتجّه نحو "مجاعة بدأ عدّها التنازلي" ويتجاهلها قادة العالم، في حين تقتصر قدرات المساعدات الإنسانية على "تأخير الوفيات".
وشدّد إيغلاند في المقابلة التي أجريت معه في تشاد عقب زياته السودان هذا الأسبوع "لدينا في السودان أكبر أزمة إنسانية على هذا الكوكب، أكبر أزمة جوع، أكبر أزمة نزوح... والعالم لا يبالي".
منذ نيسان/أبريل 2023 يشهد السودان حربا بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، أوقعت عشرات آلاف القتلى وشرّدت أكثر من 11 مليون شخص.
ويعاني وفق الأمم المتحدة نحو 26 مليون شخص داخل السودان من الجوع الحاد.
وقال إيغلاند "قابلت نساء هن بالكاد على قيد الحياة، يتناولن وجبة واحدة من أوراق النباتات المسلوقة يوميا".
ويقول المجلس النروجي للاجئين، إحدى المنظمات القليلة التي تواصل عملياتها في السودان، إن نحو 1,5 مليون شخص هم "على شفير المجاعة".
وتابع إيغلاند "العنف يمزق المجتمعات بوتيرة أسرع بكثير من قدرتنا على إيصال المساعدات"، وأضاف "فيما نكافح من أجل الاستجابة لذلك، فإن مواردنا الحالية تؤخر الوفيات بدلا من منعها".
- سياسة تغلّب المصالح الفردية -
قبل عقدين، لفتت اتهامات بارتكاب إبادة جماعية انتباه العالم إلى إقليم دارفور الشاسع في غرب السودان حيث أطلقت الحكومة السودانية آنذاك يد مليشيات قبلية عربية في مواجهة أقليات غير عربية تشتبه بدعمها لمتمردين.
وقال إيغلاند "من غير المعقول أن تستحوذ الأزمة في السودان حاليا على جزء يسير من الاهتمام الذي استحوذت عليه قبل 20 عاما بالنسبة لدارفور، عندما كانت الأزمة في الواقع أصغر بكثير".
وقال إن حربي إسرائيل في غزة ولبنان وحرب روسيا مع أوكرانيا ألقت بظلالها على النزاع في السودان.
لكنه أشار إلى أنه رصد تحوّلا في "المزاج الدولي" بعيدا من نوع الحملات التي يقودها مشاهير والتي جلبت نجم هوليوود جورج كلوني إلى دارفور في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وتحدّث عن "ميول أكثر قومية وأكثر تطلعا إلى الداخل" لدى حكومات غربية يقودها سياسيون يضعون في المقام الأول "أمتهم، وأنفسهم وليس البشرية".
وندّد بمسؤولين "قصيري النظر" سيدفعون ثمن مواقفهم عندما يتدفق أولئك الذين لم يساعدونهم إلى بلادهم لطلب اللجوء أو بصفة مهاجرين غير نظاميين.
وقال إنه التقى في تشاد بشبان نجوا من التطهير العرقي في دارفور وقرروا عبور البحر الأبيض المتوسط لمحاولة الوصول إلى أوروبا رغم غرق أصدقاء لهم سبقوهم في المحاولة.
- "مروع ويزداد سوءا" -
في السودان، نزح واحد من كل خمسة أشخاص بسبب النزاع الحالي أو النزاعات السابقة، وفق أرقام الأمم المتحدة.
ومعظم النازحين في دارفور حيث يقول إيغلاند إن الوضع "مروع ويزداد سوءا".
وترزح مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، منذ أشهر تحت وطأة حصار تفرضه قوات الدعم السريع، ما أدى إلى تعطيل جميع عمليات الإغاثة في المنطقة تقريبا وتسبب بمجاعة في مخيم زمزم القريب للنازحين.
لكن حتى المناطق التي هي بمنأى من دمار الحرب "بدأت تعاني الأمرين"، وفق إيغلاند. ففي كل أنحاء الشرق الذي يسيطر عليه الجيش، تكتظ المخيمات والمدارس والمباني العامة الأخرى بالنازحين الذين تُركوا لتدبّر أمورهم بأنفسهم.
وفي ضواحي بورتسودان، المدينة الواقعة على البحر الأحمر حيث تتّخذ الحكومة المدعومة من الجيش ووكالات الأمم المتحدة مقرا، قال إيغلاند إنه زار مدرسة تؤوي أكثر من 3700 نازح حيث لم تتمكن الأمهات من إطعام أطفالهن.
وقال "كيف يعقل أن الجزء الذي يسهل الوصول إليه في السودان يشهد جوعا؟".
وتقول الأمم المتحدة إن كلا الطرفين يستخدمان الجوع سلاحا في الحرب. وتعرقل السلطات على نحو روتيني وصول المساعدات بعقبات بيروقراطية، فيما يهدّد مقاتلون في قوات الدعم السريع طواقم الإغاثة ويهاجمونهم.
وأضاف إيغلاند "الجوع المستمر هو مأساة من صنع الإنسان... كل تأخير، وكل شاحنة يمنع وصولها، وكل تصريح يتأخر هو حكم بالإعدام على عائلات لا تستطيع الانتظار يوما آخر للحصول على الطعام والماء والمأوى".
لكنه قال إنه رغم كل العقبات "من الممكن الوصول إلى كل أصقاع السودان"، داعيا المانحين إلى زيادة التمويل ومنظمات الإغاثة للتحلي بمزيد من "الشجاعة".
وأضاف أن "أطراف النزاعات متخصصون في إخافتنا ونحن متخصصون في الخوف"، وحضّ الأمم المتحدة ووكالات أخرى على "التحلي بقوة أكبر" وطلب تمكينها من إيصال مساعداتها.
Your browser does not support the video tag.