إستراتيجية استمرار الحرب الإسرائيلية
تاريخ النشر: 5th, April 2024 GMT
لا تلوحُ في الأفق أية رغبة إسرائيلية بوقف العدوان الحالي على قطاع غزّة، وكل الشواهد العملية على الأرض، والتصريحات التي يردّدها مسؤولو الحرب الإسرائيليون، تدلّ على أن خيار الحرب المستمرة، هو الخيار المفضل لديهم، بل الخيار الوحيد.
ربما هي المرّة الأولى في تاريخ الكيان التي لا يكون قادتُه حريصين فيها على الوصول لوقف إطلاق نار، وهدنة ممتدة تسمح له بإعادة الاستقرار الداخلي، ومعالجة ما لحق به من أضرار نتيجة الحرب التي امتدّت لنحو ستة أشهر.
ففي الحروب الخمسة الماضية على غزة، كان الوصول لوقف إطلاق النار أمرًا يسعى إليه جميع الأطراف، سواء الإسرائيلي أو الفلسطيني، أو المحيط العربي، وخاصة الوسيط المصري، وكذلك الأميركي الذي أعلن بنفسه من واشنطن في حرب "سيف القدس" عام 2021 عن الوصول لوقف إطلاق النار، وفرض ذلك على نتنياهو الذي كان في ذلك الوقت رئيسًا للوزراء، ثم سرعان ما سقطت حكومتُه بعد ذلك على وقع نتائج الحرب.
فما الذي يجعل هذه الحرب مختلفة عن سابقاتها؟ ولماذا لا يحرص الاحتلال على إنهائها والعودة إلى الحياة الطبيعية؛ لترميم ما أصابه من أضرار بالغة وطويلة المدى؟
إنّ أول ما يتبادر للذهن للإجابة عن هذه الأسئلة، هو موضوع الأسرى، حيث لا يبدو أن وقف الحرب دون استعادة الأسرى، سيكون أمرًا سهلًا على الاحتلال؛ لأنه يدرك أن ثمن الإفراج عنهم بعد ذلك من خلال عملية تفاوضية سيكون أضعافَ ما يمكن دفعه أثناء عمليات عسكرية مستمرة وضاغطة على المفاوض الفلسطيني؛ بسبب آثارها الإنسانية، من قبيل المجاعة في الشمال، وانعدام الاستقرار والأمن في مختلف مناطق القطاع.
ومن المؤكد أن قادة الاحتلال يأملون أنهم في مرحلة ما من مراحل الحرب المستمرة، سيتمكنون من تحرير جزء من الأسرى، إما بالقوة العسكرية، أو باستجابة المقاومة تحت ضغط العمليات العسكرية.
أما الموضوع الشخصي؛ فيرتبط بخسارة نتنياهو موقعه، وبالتالي احتمال ذهابه للسجن؛ بسبب تهم الفساد في المحاكم، وكذلك التحقيقات التي ستصل إلى تحميله مسؤولية ما يسمّى الفشل في يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل. تضافُ لتلك الاحتمالات الدّعوة لانتخابات سيخسرُها قطعيًا هذه المرّة، حسبما تفيد استطلاعات الرأي.
وهو أمرٌ منطقيّ، فالناخبون سينظرون إلى الأشهر الستة الأخيرة من عُمر حكومته التي تسبّبت بأكبر الكوارث في تاريخ الاحتلال على كافّة المجالات. وأصلًا لم يكن هؤلاء الناخبون سعداء بحكومة تضمّ الأكثر تطرفًا في المجتمع الإسرائيلي بن غفير وسموتريتش، وكانت المظاهرات تعمّ الكيان الإسرائيلي على مدى تسعة أشهر؛ بسبب مقترحات التعديلات القضائيّة التي كان نتنياهو يرغب بتمريرها.
مع أن موضوع الأسرى يبدو منطقيًا بالنظر لحساسيته، ولكونه أحد أهم نتائج السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن هناك أسبابًا أخرى أكثر تأثيرًا في القرار الإسرائيلي، وتدفع نحو استمرار هذه الحرب حتى لو تم الإفراج عن الأسرى
الأسباب الموضوعية لاستمرار الحربيتصل الجانب الموضوعي بالأمن بين قطاع غزة، والاحتلال، وفيه نقطتان:
الأولى: هي الرغبة في الخلاص من المقاومة، وكسر قدرتها على الهجوم مجددًا، وتنفيذ عمليات مثل تلك التي حدثت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أو مجرد القدرة على إطلاق الصواريخ، وهذا الأمر كان يبدو ممكنًا في بداية الحرب، لكن مرور ستة أشهر دون تحقيق هذا الهدف، ودون الوصول لقيادة المقاومة، وعلى رأسها يحيى السنوار، يجعل استمرار الحرب أمرًا ضروريًا، ولا يمكن التراجع عنه. الثانية: هي من سيحكم قطاع غزة في حال استطاع الاحتلال القضاء على المقاومة فيه؟ وهذه قضية أثارت كثيرًا من الخلافات والجدل بين الاحتلال وحلفائه، وبين القوى ذات العلاقة مثل بعض الدول العربية.ولا يزال هذا الموضوع مثارَ خلاف بين نتنياهو والإدارة الأميركية. هذا الخلاف ليس أمنيًا فقط فكلاهما يرغب بأن يوفر أعلى درجات الأمن للاحتلال. الخلاف هنا سياسي بامتياز، فالإدارة الأميركية تريد إعطاء فرصة جديدة لمشروع قديم بدأ في "أوسلو"، ويتحدّث عن حل الدولتين، ولذلك هي تفضل إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة؛ تمهيدًا لاستئناف البحث في ترتيبات دائمة فلسطينية – إسرائيلية.
أما نتنياهو فيرى أن حلَّ الدولتين بمثابة كابوس ثقيل؛ لأنّ أيديولوجيته ومواقف شركائه في الحكومة ترفض إعطاء الفلسطينيين دولة تحت أي ظرف، وتفضّل الاستمرار في السياسات الاستيطانية والتهويدية، وإضعاف البنية الفلسطينية من خلال الملاحقات الدائمة، والاعتداءات والاعتقالات، وتحويل الحياة الفلسطينية في الضفة والقطاع إلى جحيم لا يطاق؛ ما سيدفع الكثيرين للهجرة، وتفريغ الأرض ليستولي عليها الاحتلال.
الحرب أصبحت غاية لا وسيلةأمام كل ذلك، تحوّلت الحرب الجارية على غزة إلى غاية وهدف، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحقيق الأهداف التي أعلن عنها نتنياهو مرارًا وتكرارًا، وذلك ببساطة لأنها أهداف لا يمكن تحقيقها بالحرب، بل يلزم أن يرافقها فعلٌ سياسي جدي يأخذ بعين الاعتبار تطلعات كل الأطراف، بمن فيها الشعب الفلسطيني، وتصورات الحل المقبول فلسطينيًا، والذي لا يقلّ عن دولة فلسطينية على حدود 67، وعاصمتها القدس، وحقّ اللاجئين بالعودة.
لقد استفاد نتنياهو خلال الأشهر الماضية من ردة الفعل الأميركية التي أيدت الحرب مدفوعة بالخوف على مستقبل المشروع الصهيوني، أو الرغبة في كسب الشارع الأميركي، الذي يستعد لتصويت جديد في الانتخابات المقررة نهاية العام. وقد كانت استطلاعات الرأي تظهر دعمًا كبيرًا للحرب، بينما تراجع هذا التأييد تدريجيًا حتى وصل أدنى مستوى له حسب نتائج استطلاع معهد غالوب الذي كشف أن 75 ٪ من مؤيدي الحزب الديمقراطي الحاكم يعارضون الحرب، مقابل 18٪ فقط ممن لايزالون يؤيدونها.
كما أنّ مؤيدي الحزب الجمهوري، تراجع تأييد الحرب عندهم، ووصل إلى 64٪ فقط بدلًا من 71٪ في نوفمبر الماضي. ويفيد الاستطلاع أيضًا بأن 55 ٪ من مجموع الأميركيين يعارضون استمرار الحرب
هذه النتائج ربما تفسّر التغير في موقف الإدارة الأميركية، الذي ظهر بأوضح صورة خلال التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الأخير، حين سمحت الولايات المتحدة بتمريره عبر الامتناع عن التصويت، وعدم الاستجابة لمطلب نتنياهو باستخدام الفيتو، وهو القرار الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار.
سيكون إذن على نتنياهو وفريق المتطرفين في حكومته أن يعيدوا التفكير في مسار الحرب برمته، وهو أمر سيضع حكومتهم ومستقبلهم السياسي على المذبح. تلك هي المعضلة الكبرى التي تواجه نتنياهو وفريقه مما دفعهم للصراخ بأعلى صوت ممكن بأنهم لن يستجيبوا لقرار مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب، فذاك قرار يتعارض تمامًا مع الإستراتيجية التي باتوا يتمترسون خلفها، ألا وهي الحرب من أجل الحرب، والقتل بلا حدود، ولَيكن ما يكون.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات استمرار الحرب
إقرأ أيضاً:
اتفاق المنامة السوداني الذي يتجاهله الجميع
"إذ نؤمن بضرورة رفع المعاناة عن كاهل شعبنا والتوصل إلى حلول للأزمة السودانية، تنهي الحرب التي بدأت في الخامس عشر من إبريل 2023، والتي يستلزم وقفُها تكاتف أبناء الشعب السوداني بمختلف مكوناته وانتماءاته. وإذ نقرّ بأن الأزمة السودانية منذ الاستقلال هي أزمة سياسية، وأمنية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية شاملة يجب الاعتراف بها وحلّها حلاً جذرياً. وإذ ندرك أنّ الحرب الحالية قد سبّبت خسائر مروّعة في الأرواح ومعاناة إنسانية لم يسبق لها مثيل، من حيث اتّساع النطاق الجغرافي، وأنها دمّرت البنيات التحتية للبلاد، وأهدرت مواردها الاقتصادية، لا سيّما في الخرطوم ودارفور وكردفان. وإذ نؤكد رغبتنا الصادقة في تسوية النزاع المستمر على نحوٍ عادل ومستدام عبر حوار سوداني/ سوداني، يُنهي جميع الحروب والنزاعات في السودان بمعالجة أسبابها الجذرية، والاتفاق على إطار للحكم يضمن لكل المناطق اقتسام السلطة والثروة بعدالة، ويعزّز الحقوق الجماعية والفردية لكل السودانيين" ... بهذه الديباجة، وأكثر، تبدأ اتفاقية المنامة الموقّعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في 20 يناير/ كانون الثاني 2024، وجاءت بعد خمسة أيام من رفض قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان لقاء قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتأكيده أنه لا حاجة لأيّ تفاوض جديد، بل يجب تنفيذ نتائج قمة "الإيقاد"، التي عُقدت في جيبوتي في ديسمبر/ كانون الأول 2023، على نحوٍ طارئ لمناقشة حرب السودان. وخلصت إلى التزام من قائد الجيش وقائد "الدعم السريع" بالاجتماع الفوري ووقف الأعمال العدائية.
في خطابه إلى القمة العربية الطارئة، أكد البرهان أن أولوليات حل الأزمة (الحرب) هي الالتزام بإعلان جدّة للمبادئ الإنسانية، ووقف إطلاق النار، وإزالة معوقات تقديم المعونات الإنسانية، وتعقب ذلك عملية سياسية شاملة للتوصل إلى توافق وطني لإدارة المرحلة الانتقالية ثم الانتخابات، لكن في 20 يناير 2024، وفي يوم توقيع اتفاق المنامة الذي وقّعه عن القوات المسلّحة الفريق أول شمس الدين كباشي نائب القائد العام للجيش، وعن الدعم السريع "الفريق"(!) عبد الرحيم دقلو، شقيق حميدتي، الذي حصل مثله ومثل غيره من قادة المليشيات على رتب عسكرية من الجيش السوداني، في اليوم نفسه، جمّد السودان عضويته في منظمة الإيقاد! وتحوّلت المنظمة التي كانت قبل أيام "صاحبة دور مهم في الوصول إلى السّلام" إلى "منظمة الجراد" في الخطابات الشعبوية التي تطلقها السلطة العسكرية.
مرّ اتفاق المنامة من دون ضجيج. وربما لو لم يتسرّب خبر التفاوض الذي أكده بعد ذلك تصريح أميركي، لظلّ الأمر في دائرة الشائعات. رغم الحضور الدولي والمخابراتي في التفاوض.
اتفق الطرفان، في البند السابع من وثيقة المنامة، على "بناء وتأسيس جيش واحد مهني وقومي، يتكوّن من جميع القوات العسكرية (القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، وحركات الكفاح المسلح)، ولا يكون له انتماء سياسي أو أيديولوجيّ، يراعي التنوع والتعدّد، ويمثل جميع السودانيين في مستوياته كافّة بعدالة، وينأى عن السياسة والنشاط الاقتصادي"، واتفق الطرفان في البند 11 على "تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 في مؤسسات الدولة كافّة"، أما البند 19 فقد نصّ على "حوار وطني شامل للوصول إلى حل سياسي، بمشاركة جميع الفاعلين (مدنيين وعسكريين)، دون إقصاء لأحد، عدا حزب المؤتمر الوطني المحلول والحركة الإسلامية التابعة له وواجهاته، بما يؤدي إلى انتقال سلمي ديمقراطي".
بمقارنة اتفاق المنامة بين الجيش و"الدعم السريع" مع إعلان أديس أبابا الموقّع بين تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية و"الدعم السريع" في 2 يناير 2024 (قبل 18 يوم من توقيع اتفاق المنامة) يصعب فهم إدانة الجيش إعلان أديس أبابا! فالإعلان نصّ على أن التفاهمات الواردة فيه "ستطرح بواسطة تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية لقيادة القوات المسلحة لتكون أساساً للوصول إلى حل سلمي ينهي الحرب"، وهو الحل السلمي نفسه الذي نصّت عليه اتفاقية المنامة قائلة: "نجدّد قناعتنا بأن التفاوض هو السبيل الأفضل والأوحد للتوصل إلى تسوية سياسية، سلمية شاملة للنزاعات والحروب في السودان"، وهو ما أكده قائد الجيش في خطابه إلى قمة "الإيقاد"، قبل أن ينقلب على المنظمة ويجمّد عضوية السودان فيها، مدّة قاربت العام.
... سيبقى ما حدث لغزاً للسودانيين فترة طويلة، ضمن ألغاز أخرى تحيط بهذه الحرب. كيف دار هذا التفاوض؟ لماذا لم يجرِ الإعلان عنه، لماذا وقّع عليه نائبا البرهان وحميدتي ثم تجاهله الجميع؟
نقلا عن العربي الجديد