الجزيرة:
2024-07-04@11:04:23 GMT

بيادق في رقعة شطرنج

تاريخ النشر: 5th, April 2024 GMT

بيادق في رقعة شطرنج

تعدَّدت التعبيرات التي تجسّد واقع الاحتقان الذي يطبع العالم العربي، الداء العربي كما وصفه "منصف المرزوقي"، والمأساة العربية بتعبير "سمير قصير"، والوعكة العربية "برهان غليون"، والمعضلة العربية "فؤاد عجمي" و الاحتباس "هاشم صالح"….إلخ.

يضيف الصحفي البريطاني جريمي بوين Jeremy Bowen مصطلح "التعفّن" في كتاب له يتضمن تجربته الطويلة في الشرق الأوسط، منذ عاصفة الصحراء حتى الحرب الروسية الأوكرانية، والتداعيات السلبية لهذه الحقبة على العالم العربي، من خلال تجربة شخصية.

يحمل الكتاب عنوان: "صنع الشرق الأوسط الحديث"، صدر سنة 2022، ولم يكن ليعرض بطبيعة الحال لما تحبل به فلسطين.

بيدَ أنه لم يُزح القضية الفلسطينية من اهتماماته، ليس لأن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي لم يكن يتصدر واجهة الإعلام، حينها، بل إنه طُمر نهائيًا، كما قال الكاتب في ثنايا الكتاب. لم يكذب تطورُ الأحداثَ نبوءة بوين، إذ تعود القضية الفلسطينية إلى الواجهة، مُخضّبة بالدماء. أما الاستنتاج الثاني، القوي الدلالة، هو أن لهيب الشارع الذي اشتعل شتاء 2011، وانطفأ عقبها، يمكن أن يلتهب ثانية، إذ الظروف الموضوعية التي دعت الشباب الخروج من أجل أوضاع أفضل، لا تزال قائمة، حسب الصحفي العارف.

العالم العربي، أو الشرق الأوسط، يقف إذن على صفيح ساخن. تسود الشرق الأوسط حالة من اللا استقرار، وهذه الحالة هي بمثابة تعفّن، وكل تعفن فهو مُعدٍ، لأن الأشياء الكبرى في الشرق الأوسط متداخلة، منها التوزُّع ما بين السُّنة والشيعة، والجمود السياسي، والوضع القبلي، والاحتقان الاجتماعي. فهل تَصدُق نبوءة بوين الثانية بعد أن صدقت نبوءته الأولى؟

استعاد العالم العربي بعضًا من عافيته، في شتاء 2011 حين رفعت شريحته من شبيبته تطلعات مشروعة وطرحت أسئلة سديدة في قوالب كونية تروم الحرية والعدالة والكرامة، وتنتفض ضد احتكار السلطة والثروة، مما حمله شعار "لا للاستبداد، لا للفساد

يظل الكتاب في تقييمي المتواضع من أهم الكتب التي أكبّت على جسد العالم العربي، ووقفت على دائه أو أدوائه، بسمّاعة الطبيب لا مزاعم الدجال، أو تخرّصات قارئ الفنجان؛ لأنه خبَرَ شؤون العالم العربي لأكثر من ثلاثين سنة، وغطّى بؤره الكبرى، من حرب عاصفة الصحراء، وأفغانستان، ولبنان صيف 2006، فسوريا منذ انفجار الثورة فيها، إلى "الدولة الإسلامية"، حتى اليمن. وهو إلى ذلك يتحلى بنظرة موضوعية، بل يمكن أن نستشفّ في ثنايا الكتاب تعاطفه المضمر مع هذا العالم الذي خبر شؤونه وعرف قضاياه وتعرف على الحاكمين فيه والمؤثرين منه، ووقف من ثمة على أدوائه.

لا يمكن التستر عن حالة الاعتلال التي يعانيها العالم العربي، أو للدقة الشرق الأوسط. من أعراض الداء أن كثيرًا من الأشياء التي يمكنها أن تجري بطريقة سوية تجري بطريقة معطوبة، والعَرَض الثاني، وهو الأمر الذي ينبغي أن يدفع إلى تفكيرٍ، هو أن الشرق الأوسط لم يجد بعدُ مكانًا مريحًا في العالم الحديث، حسب تعبيره، أو بتعبير آخر، هو ضيف ثقيل على العالم العصري… يتوفر على كل شيء كي يكون فاعلًا ومؤثّرًا، من موقع جغرافي، ورصيد تاريخي، وغنى، وتعدد موارده، لكنه غير مؤثِّر؛ لأنه يشكو وضع التبعية، أو ما نقله بوين عن الصحفي سمير قصير، عناصره هي بمثابة بيادق في رقعة شطرنج.

تُلازم العالمَ العربي إذ يصحو بعد فترة سُبات عميق، لعنةُ كابوس مُروّع. بدا العالم العربي واعدًا في نهاية تسعينيات القرن الماضي، مع أمل خلافة أوتوقراطيين كانوا يستندون إلى شرعية تاريخية، ويوظفون عقدًا اجتماعيًا ضمنيًا، قوامه الدعم الاجتماعي والإمساك عن الخوض في الشؤون العامة من خلال الاستئثار بالفعل السياسي، لكن هذا المد الذي بدا قويًا في الجزائر والأردن واليمن والمغرب، انتفش بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول. تغيّر العالم، وتغيّرت أولويات الغرب، وانعكس ذلك سلبًا على العالم العربي.

استعاد العالم العربي بعضًا من عافيته، في شتاء 2011 حين رفعت شريحته من شبيبته تطلعات مشروعة وطرحت أسئلة سديدة في قوالب كونية تروم الحرية والعدالة والكرامة، وتنتفض ضد احتكار السلطة والثروة، مما حمله شعار "لا للاستبداد، لا للفساد"، لكن قيام "الدولة الإسلامية" أوقف المد، ووقعت المنطقة من جديد في أَسْر سلطوية أشد وطأة من السلطوية التي انتفض شباب 2011 ضدها.

لا يمكن أن نقف عند مجرد رصد هذا التلازم بين بسط وقبض، أو صحو يعقبه كابوس. ينبغي أن نذهب إلى العِلّة، أو الفرملة التي تُحوِّل النهوض إلى كابوس.

لماذا تنتفض الراديكالية لتوقف الحفلة بعد كل فترة صحو، وتبدد حبات العقد بعد كل سعي لنظمه؟ هل الراديكالية سبب أم نتيجة؟ وفق نظرة بوين، الراديكالية هي نتيجة وليست سببًا، إذ هي رد فعل أرعن، على واقع موبوء، والمطلوب هو رد فعل ذكي، على وضع معتل، إذ كما يقول بوين: "الأجانب، أو تدخل الغرب، يَحمل مسؤولية ثقيلة في كل ما جرى في الشرق الأوسط لسنين عديدة، من خلال تدخلات غير مرغوبة، من تسلط، وبيع الأسلحة، وتشجيع ديكتاتوريين يجارونهم.

كان يتم التغاضي عن كل الخطايا بالنظر إلى وضع العالم العربي كدرع حامية ضد السوفيات. نفس الشيء بالنسبة للعلاقة المتميزة ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل. بناء علاقات وطيدة (مع الغرب) من دون طرح أي سؤال، سمح لأنظمة سلطوية أن تزدهر وتَحُول دون قيام معارضة حقيقية. ".. لئن قمع حكام فاسدون شعوبهم، ونهبوا ثرواتهم، وسرقوا حريتهم، فيمكن للمتشددين أن يستقطبوا (دومًا) أتباعًا لهم". وبتعبير آخر، انتفاء الحرية، والاستئثار بالثورات، هو التربة الخصبة للراديكالية. لا ينبغي الوقوف عند العَرَض وهو الراديكالية، ويلزم الذهاب إلى السبب أو العِلّة، وهو مصادرة حرية الشعوب ونهب خيراتها وسرق أحلامها. ولا أظن أن قارئًا حصيفًا، ومهتمًا وموضوعيًا، لا يشاطر ما انتهى إليه بوين.

ينصح بوين في خاتمة كتابه القوى الكبرى أن تكُفَّ عن الإيذاء أول الأمر، وثانيًا، أن تعمل في جعل الأشياء أفضل. الزعم بالقيام بأشياء أفضل قبل التوقف عن إتيان أشياء مُضرّة، غير مُجدٍ. وقياسًا على معادلة بوين، ليس من المجدي أن "تُقدم" الولايات المتحدة "مساعداتها الإنسانية" في غزة، قبل أن تكفّ عن تسليح إسرائيل.

هل يستطيع مفكرو العالم العربي وقادته، أن يكتبوا الفصل الأخير من الكتاب لا تكون فيه عناصر العالم العربي مجرد بيادق في رقعة شطرنج؟ هذا هو الرّهان في هذا الفصل الجديد الذي بدأ مع "طوفان الأقصى". الأبواب مشرعة لاستمرارية التبعية، ووضع البيادق على رقعة الشطرنج، لكن إمكانية التحرر قائمة كذلك، إذا أُخِذ بعين الاعتبار أن الراديكالية هي نتيجة وليست سببًا، وأن على القوى الكبرى أن تتوقف عن الإتيان بأشياء سلبية، وهي في حلٍّ من السعي (أو الزعم) في أن تجعل الأشياء أفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات العالم العربی الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

صمت الضمير العربي.. فلسطين جُرح لا يندمل

 

 

يزيد السلطان

 

في ذلك الركن الجريح من العالم، حيث تختلط رائحة الزهور برائحة الدم، ويختفي ضجيج الحياة تحت صوت الانفجارات، تروي أرض فلسطين قصة مأساة لا تنتهي. أطفال أبرياء، ونساء تحملن أعباء الحياة بصمت، وشيوخ أرهقهم الزمن بصبرهم، يُقتلون بدم بارد على يد محتَل لا يعرف الرحمة. هذه الوجوه التي تغمض عيونها للأبد ليست سوى شهادات حية على قسوة الاحتلال وظلمه. تلك الجثث الهامدة هي أحلام مقتولة وآمال نُسفت في مهدها.

أجيال تُمحى قبل أن ترى النور، وأمّهات يُخطف منهن فلذات أكبادهن، وشيوخ يُزهق ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. في فلسطين، الألم ينبض في كل قلب، والوجع يكتب في كل عين، ومع ذلك، لازال العالم يتجاهل صرخاتهم والمتخلفون عن نجدتهم يغطون في سبات عميق، وكأن الإنسانية قد ماتت.

لكن المأساة الأكبر تكمن في الصمت العربي، الذي يرى ولا يسمع، يشاهد ولا يتحرك. الإنسانية تغمض عينيها على أشلاء الأبرياء، وتغض الطرف عن حق يُنتهك كل يوم. الدول التي تدّعي العدل والحرية تتعرض شهادات الأطفال، النساء، والشيوخ للاختبار الحقيقي ومع ذلك تسقط في وحل المصالح السياسية والاقتصادية. صرخات فلسطين تدوي في الفضاء، لكنها ترتطم بجدران الصمت والهروب، وكأنّ العدل قد غادر هذا العالم منذُ زمن، ليبقى الشعب الفلسطيني وحيدًا في وجه الظلم والقهر.

فلسطين، تلك الأرض التي تسكن في قلوب الملايين على مدار العقود، لا تزال ملتقى الصراع والألم، وندوب الجراح المفتوحة. إنها الأرض المحتلة، وصرخة المظلومين، وصدى أحزانهم يتردد عبر التاريخ والجغرافيا. مرّ زمن طويل منذ بداية الاحتلال، ومع ذلك، نجد أنفسنا نتساءل: هل نحن لا نسمع ولا نرى فعلًا؟ هل مات الضمير العربي؟ ما الذي يجعلنا نسكت عن جرائم المُحتل؟ لماذا بات العرب نياماً؟

فلسطين: رحلة طويلة من الألم بدأت مأساة الشعب الفلسطيني بفعل الاحتلال والاستيطان منذ أكثر من سبعين عامًا. تعرّض الفلسطينيون للتهجير القسري، والمجازر، والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان. قرى تمّ محوها من الوجود، منازل تمّت مصادرتها، وأطفال أبرياء دفعوا الثمن ببراءتهم وأحلامهم. كل هذا يحدث أمام أعين العالم أجمع، ومع ذلك يبدو الصمت سيد الموقف.

هل فعلًا مات الضمير العربي؟ الأمر لا يتعلق بغياب الشعور، وإنما بقلة الفعل. إن الشعوب العربية لم تفقد محبتها ودعمها لفلسطين، لكن النظم السياسية والحكومات هي التي تنتهي قوتها في الدفاع عن الحق الفلسطيني. تفضيلات سياسية، وتوازنات دولية، وأجندات مخفية تجبر الدول غالبًا على موقف الصمت أو حتى تجاهل القضية.

كما أن هناك عامل الإلهاء بمشاكل داخلية في العديد من الدول العربية. من أزمات اقتصادية واجتماعية إلى حروب أهلية وتهديدات إرهابية. هذه المشكلات تستنزف طاقات الشعوب وتجعلها غير قادرة على تحمل المزيد من الأعباء، حتى لو كانت تلك الأعباء تخص تضامنًا مع قضية عادلة كهذه.

دور الإعلام في إبقاء الأذهان موجهة نحو قضية فلسطين لا يقل أهمية. ومع ذلك، نجد أن العديد من وسائل الإعلام قد تخلت عن مهامها في تسليط الضوء على الانتهاكات المستمرة في الأرض المحتلة، مفضلة التركيز على قضايا أقل أهمية أو ملائمة للأجندات السياسية الموجهة.

الصمت قد يكون تواطؤًا بحد ذاته. السكوت عن الظلم هو دعم ضمني له، والمجتمعات العربية لا تزال قادرة على أداء دورها من خلال المشاركة في النشاطات الداعمة لفلسطين سواء كان ذلك بالتبرعات أو التظاهر، أو حتى تحويل هذا التضامن إلى ثقافة مجتمعية عبر القصائد والأغاني والمسرحيات والكتابات.

الاستفاقة تبدأ من الإصلاح الذاتي لكل فرد، ومن ثم الانتقال للمجتمع ككل. يجب أن نعرف قضيتنا، أن نفهم تاريخها وجغرافيتها، وأن نعلّم الأجيال القادمة بأن الحق لا يُترك ولا ينسى. كما يجب أن ندعم وسائل الإعلام التي تسلط الضوء على المعاناة الفلسطينية، ونتبنى مقاطعة المنتجات والأنظمة الداعمة للاحتلال.

الضمير العربي  ميت،  خافت. وبدلا من السكوت، يجب أن يصبح صوت فلسطين هو صوتنا جميعًا، نحن كأمة عربية.

إنَّ فلسطين ليست مجرد قضية سياسية؛ بل هي جرح في وجدان كل عربي، صرخة لا يجب أن تنطفئ، وأمل يجب أن يبقى حيًا. إذا أردنا تغيير الواقع، علينا أن نستيقظ من سباتنا، ونرفع أصواتنا، ونجعل من هذه القضية محور اهتمامنا دومًا.

مقالات مشابهة

  • الولايات المتحدة تجري مباحثات مع فرنسا لاستعادة الهدوء في الشرق الأوسط
  • عطاف يستقبل مبعوث الحكومة الصينية الخاص بشؤون الشرق الأوسط
  • صمت الضمير العربي.. فلسطين جُرح لا يندمل
  • عبد الله التقى الحوت مطلعا على اوضاع شركة طيران الشرق الأوسط
  • الخارجية التركية ترد على اتهام الحكومة بالفشل في الشرق الأوسط
  • السليمانية تحتضن أعمال القمة الأولى للغدة الدرقية في الشرق الأوسط (صور)
  • تركيا: اتخذنا موقفا مبدئيا منذ البداية ضد المأساة الإنسانية بسوريا
  • من هو المرشح الجديد لمنصب وزير الخارجية في مصر؟
  • QNB تنال أربع جوائز للتميز المصرفي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام 2024
  • حرب ضروس قد تلتهم الشرق الأوسط