الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: كيف وصلتنا السُّنة؟
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
رأينا فى إيجاز وتركيز أن حياة العرب قُبيل الإسلام وفى عصره الأول لم تكن حياة بداوة محضة وإنما أدركوا قدراً من العلم والتحضر.
وقد يستشكل البعض الجمع بين هذا وبين وصف الفترة التى سبقت الإسلام بـ«الجاهلية»، ووصف أمة العرب بـ«الأميين»!
والحق أنه لا يوجد أى تعارض، فـ«الجاهلية» مَصدرٌ كالإنسانية، فكما تدلُّ «الإنسانية» على مجمل الحقائق التى الأصل فيها أن تتحقق فى «الإنسان»، كذلك تدل «الجاهلية» على تحقُّقِ مجمل الحقائق التى الأصل فيها أن تتحقق فى الجاهل من المعتقدات الباطلة والأخلاق المذمومة، وليس معنى أن (الأصل فيها أن تتحقق فى الجاهل) أنه يلزم من هذا أن يكون المتصف بها جاهلاً فعلاً، بل قد يوصف بالجهل مَن لديه علمٌ لكنَّه لا يعمل بمقتضاه، ومن هذا قول سيدنا يوسف عليه السلام: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، وقوله تعالى: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، ففى الآيتينِ وُصِفَ الذى يميل مع هواه والذى يستهزئ بالناس بأنه من (الجاهلين) وإن كان من صفوة أهل العلم.
ولو كان معنى «الجاهلية» الجهل الذى هو ضد العلم لكان التعبير بـ«الجهل» أفصح من التعبير بـ«الجاهلية»؛ لكونه أخصرَ فى اللفظ وأدلَّ على المعنى، فليس فى وصف الجاهلية إذاً دلالة على الجهل بالعلم والقراءة والكتابة.
وأما «الأمية» فهى منسوبةٌ إلى «الأُمَّة» بمعنى «عامة الناس»، فالأمِّيون عامة الناس الذين لم ينزل لهم كتاب سماوى، فى مقابل مَن خصَّهم الله تعالى بإنزال الكتاب فيهم وهم بنو إسرائيل، وهذا المعنى يُفهم من المقابلة فى القرآن الكريم بين أهل الكتاب وغيرهم من العرب كما فى قوله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ)، وقد وصفَ القرآنُ الكريمُ بعضَ أهل الكتاب بالأمِّيين (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِىَّ)؛ لجهلِهم بحقائقِ التوراةِ فساوَوْا بذلك مَن لا كتاب لهم.
وفى تاريخ الطبرى ما يُؤيد ما ذهبنا إليه، ففيه: «وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهرَ الأُمِّيون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح الكفار بمكة وشَمِتوا، فلقُوا أصحابَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنكم أهلُ كتابٍ، والنصارى أهلُ كتابٍ، ونحن أُمِّيون، وقد ظهَر إخوانُنا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب»، وهذا الخبر واضح الدلالة فى هذا المعنى. فـ«الأمية» إذاً لا تدل على عدم القراءة والكتابة، وإنما تدل على أنه صلى الله عليه وسلم من بنى إسماعيل الذين لم ينزل عليهم كتاب وليس من بنى يعقوب الذين هم أهل كتاب.
ولا يعارض هذا حديثُ: «إنَّا أمةٌ أميةٌ لا نكتبُ ولا نحسبُ»، فليس المراد به نفى معرفةِ الكتابة والحساب، كيف ومعرفة العرب بالكتابة والحساب أمرٌ لا يُنكَر؟! كما أنه من الثابت أيضاً أنهم كانوا على معرفة غير قليلة بالفلك والنجوم، وكانوا يعتمدون التقويم القمرى، وكانوا يعلمون الأشهر الحُرُم التى يَحرُم فيها القتال، وقد أشار القرآن الكريم إلى أنهم ربما أخَّرُوا حُرمتها ليستحلوا القتال فيها (إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ)، وهذا يدل على معرفتهم توقيتها بدقة!
وهذا الحديث ورد فى معرض بيان مدة الشهر، وتمام نصه: «إنَّا أمةٌ أميةٌ لا نكتبُ ولا نحسبُ، الشهرُ هكذَا وهكذَا» يعنى مرَّةً تسعة وعشرون، ومرةً ثلاثون. وأصل لفظ (الشهر) يطلق على (الهلال) لشهرته وظهوره، ثم صار يطلق على العدد المعروف من الأيام، وقد بيََّن صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أن الشهر ليس له عندنا عدد خاص من الأيام نضبطه بكتابة أو حساب، وإنما يختلف عدد أيامه بحسب رؤية الهلال، وأننا فى هذا مع عموم أمة العرب، ولسنا كأهل الكتاب الذين لهم حساب خاص فى التقويم.
وقد ذكرت السيدة عائشة رضى الله عنها أن سبب هذا الحديث أن سيدَنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حلف أَلَّا يدخلَ على نسائه شهراً، فلما مضى تسعة وعشرون يوماً دخل عليهن، فقيل له: إنك آليتَ شهراً! فأَخبر صلى الله عليه وسلم أنه ليس المراد بالشهر تمام الثلاثين يوماً؛ لأن عدد أيام الشهر تابع لرؤية الهلال، كما هو الشأن عند عموم العرب، وليس لنا فى هذا تقدير خاص نكتبه أو نحسبه، فالحديث لا يدل على الجهل بالقراءة والكتابة.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: السنة النبوية المطهرة أمة العرب صلى الله علیه وسلم أهل الکتاب فى هذا
إقرأ أيضاً:
د. نصار عبد الله: للصيام حكمة تتمثل في تحمل الإنسان الشدة والضيق بإرادته قبل أن تُفرض عليه
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال المفكر الكبير د. نصار عبدالله، أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة سوهاج، إن للصوم حكمة يجب أن يشعر بها الإنسان، وتتمثل في أن الحياة لا تقدم لك ما تريده وعليك أن تمتنع عما هو متاح لك حتى تتعرض لظرف به من الضيق والشدة رغمًا عنك، وعليك أن تعيش الضيق والشدة بقرار منك قبل أن تأتى لحظة ويُفرض عليك هذا الضيق وهذه الشدة.
وأضاف "عبدالله" في حديث خاص لـ"البوابة نيوز"، أنه يفتقد الكثير من السلوكيات الرمضانية التي عاشها مع أسرته الكبيرة، وخاصة بعض سلوكيات الأهالي قديمًا فى رمضان، أو سلوكيات الأطفال فى الشهر الكريم.. قائلًا: فى طفولتي كان الإفطار والسحور جماعيًا، العائلة الكبيرة تجتمع فى المندرة، وتخرج صوانى للمندرة من البيت وتحتشد حولها الجموع والمفطرون، وليس أصحاب الصينية فقط، وإنما دعوة عامة لكل عابر سبيل يتصادف وجوده، وهو منظر بهيج افتقدناه، منظر الصوانى وهى تخرج من البيت فى المغربية منظر بهيج وجميل.
ومن ذكريات الطفولة أيضا، قال "عبدالله": ولحظة انتظار آذان المغرب ونحن أطفال لحظة مؤثرة، لم يكن هناك صوت مدفع، وننتظر صوت المؤذن، وساعتها تنطلق الأغانى الطفولية "افطر يا صايم على الكشك العايم".
وعن قضايا الدين والفلسفة، استكمل "عبدالله" قائلا: أعتقد أن مشكل الدين مع الفلسفة أو مع الإلحاد مثلًا كان مرهونًا بشروط وظروف تاريخية معينة، ومنها أن مكونًا ما حاول أن يكون صاحب السلطة السياسية العليا، وأعتقد أنه مع التقدم السياسى لم تعد هذه المناطحة من جانب المشتغلين بالدين واردة، وهل تعلم أن العالم به نحو ٥٠ أو ٦٠ ديانة مختلفة، ومن الممكن أن تسميها ديانات كبرى، وكل دين يؤمن بأنه الدين الصحيح، وتتفاوت الديانات فى أعداد تابعيها، ولا يمكن أن نقول أن ديانة تمتلك نصف مليون مؤمن هى أقل قيمة من ديانة يتبعها نحو أكثر من مليار إنسان مثل الديانة الهندوكية.
وأوضح أنه فى النهاية يظل جزء ما من حياة الإنسان داخليا، يريد أن يشبعه وجدانيًا، أيًا كان شكله أو بصمته فى الحياة، وأيًا كان نفوذه فى مجرى الأحداث اليومية، نسميه بالعقيدة، أيًا كانت هذه العقيدة.