الشيخ أحمد البهي يكتب: وهل الدين إلا الحب؟
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
وهل الدين إلا الحب؟.. قائل هذه العبارة هو إمام عصره وفقيه زمانه الإمام محمد بن على زين العابدين الشهير بـ(محمد الباقر) -رضى الله عنه وعن أهل بيته- فقد رَوى ابن حَیُّون المغربى عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِىٍّ أَنَّ قَوْماً أَتَوْهُ مِنْ خُرَاسَانَ فَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ تَشَقَّقَتَا رِجْلَاهُ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا؟! فَقَالَ: بُعْدُ الْمَسَافَةِ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، وَوَاللَّهِ مَا جَاءَ بِى مِنْ حَيْثُ جِئْتُ إِلَّا مَحَبَّتُكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
قَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: «أَبْشِرْ، فَأَنْتَ وَاللَّهِ مَعَنَا تُحْشَرُ».
قَالَ: مَعَكُمْ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ؟!
قَالَ: «نَعَمْ، مَا أَحَبَّنَا عَبْدٌ إِلَّا حَشَرهُ اللَّهُ مَعَنَا، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ؟».
نعم، وهل الدين إلا الحب؟!
عبارة موجزة تحمل معانى جمة، فالحب هو الذى يحرك الإنسان فى كل أموره، فهو إما محب لنفسه ويسير على هواها بغير هدًى من الله، أو يحب مولاه فيكون فى طريق المفلحين..
والمؤمن الحقيقى هو الذى يحرك نفسه من حب الذات إلى حب الله، وإذا أحب الله أحب كلَّ من يحبه الله عز وجل من أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، بل يحب الخير والهداية للناس أجمعين، فطريقه قد تبدَّل من حب نفسه إلى حب مولاه وصدق فيه قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلهِ}.
ونجد فى صحيح البخارى فى حديث أنس بن مالك -رضى الله عنه- أنَّ رَجُلاً مِن أهْلِ البَادِيَةِ أتَى النَّبىَّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ؟ قالَ: ويْلَكَ! وما أعْدَدْتَ لَهَا؟ قالَ: ما أعْدَدْتُ لَهَا إلَّا أنِّى أُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ، قالَ: إنَّكَ مع مَن أحْبَبْتَ. فَقُلْنَا: ونَحْنُ كَذلكَ؟
قالَ: نَعَمْ. فَفَرِحْنَا يَومَئذٍ فَرَحاً شَدِيداً...
لو تأملنا فى هذا الحديث سنجد أن هذا الرجل كان أعرابياً بسيطاً لم يُذكر اسمه فى الروايات، والرجل يُقِرُّ بلسانه أنه ما أعد للقيامة غير حب الله ورسوله، وفى بعض الروايات: «مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَوْمٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ».
أى أن الرجل بالكاد يصلى الفرض ويصوم الفرض، ولكنه محب لله ولرسوله حباً خالصاً نقيَّاً استشعره منه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك أجابه قائلاً: أنت مع من أحببت!
هذا الحديث لا يدعو لإغفال قدر العمل، ولكنه يدعو لتنمية جانب المحبة فى قلب كل مؤمن.
ونسبوا إلى ابن حجر العسقلانى رحمه الله قوله:
وقائل هل عمل صالح… أعددته يدفع عنك الكُرَب
فقلت حسبى خدمة المصطفى… وحبــــه فالمرء من أحب
وإذا أحب العبد ربه فإن الله عز وجل يبادله حباً بحب، بل يجازيه بأن يجعله محبوباً من جميع خلقه الصالحين فى أرضه وسمائه فقد روى البخارى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِى جِبْرِيلُ فى أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ فى الأرْضِ».
تخيل أن هذه المحبة تكون سبباً فى حفظك من شر كل ذى شر فإن الله -تعالى- لما حكى لنا قصة التقاط آل فرعون لنبيه موسى وهو طفل رضيع فقد ذكر لنا أنه قد حفظه «بالحب» فقال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى}، بل نجد أن الله تعالى قد جعل من أبرز صفات من يختارهم لنصرة دينه «الحب» فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
يحبهم الله وهم يحبون الله، وما داموا يحبون الله فإنهم يحبون خلقه ويشفقون عليهم ولا يريدون لهم إلا الخير والهداية... فلا ينصر دين الله إلا من امتلأ قلبه بالحب والسلام لا بالكراهية والعداء...
فهل بعد ذلك يحق لأحد أن يسأل ويتشكك فى أهمية قضية الحب وتعلقها بدين الله عز وجل؟
ساعتها لن نجد إجابة أفضل من أن نقول له: «وهل الدين إلا الحب؟».
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الدين الحب محمد الباقر
إقرأ أيضاً:
التواضع زينة الأخلاق.. تأملات في قول الله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}
التواضع سمة عظيمة تزين الإنسان وترفع قدره بين الناس، وهو خلق دعا إليه الإسلام وأكد عليه القرآن الكريم في مواضع عديدة، ومن أبلغ هذه الدعوات ما ورد في قوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
التواضع في القرآن الكريمفي هذه الآية الكريمة، يوجه الله تعالى الإنسان إلى التحلي بفضيلة التواضع، محذرًا من مظاهر الكبر والغرور التي تتنافى مع جوهر الإيمان. فقد نهى الله عز وجل عن صعر الوجه، وهو الميل به عن الناس تكبرًا واحتقارًا لهم، كما نهى عن المشي في الأرض بمرح وأشر، لأن ذلك يعكس غطرسة لا تليق بالإنسان المؤمن.
وقد جاء في تفسير الإمام النسفي: أن المقصود بـ {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ} هو الإقبال على الناس بوجه بشوش وعدم إظهار التعالي عليهم. أما {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}، فهو تحذير من المشي بغرور وتفاخر، لأن الله لا يحب المتكبر الذي يعدد مناقبه ويتفاخر على الآخرين.
التواضع في السنة النبويةالتواضع خلق عظيم تجسد في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان خير قدوة في معاملته للناس. فقد كان يجالس الفقراء ويزور المرضى ويجيب دعوة الضعفاء. وقال صلى الله عليه وسلم: "وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ" [رواه مسلم].
أثر التواضع في بناء المجتمعالتواضع لا يقتصر على كونه خلقًا فرديًا، بل هو ركيزة أساسية في بناء مجتمع متحاب ومتسامح. فالإنسان المتواضع يُحبّه الناس ويقتربون منه، بينما ينفرون من المتكبر الذي لا يرى سوى نفسه.
كيف نطبق التواضع في حياتنا اليومية؟استقبال الآخرين بوجه بشوش: كن ودودًا وبشوشًا في تعاملك مع الجميع، بغض النظر عن مكانتهم أو حالتهم الاجتماعية.
الاعتراف بفضل الآخرين: لا تجعل النجاح يدفعك لتقليل قيمة من حولك، بل اشكر من ساعدك وأثنِ على جهودهم.
التواضع في الحديث: تجنب التفاخر بإنجازاتك أمام الآخرين، وشاركهم قصصك بروح متواضعة.
الإنصات للآخرين: اجعل وقتًا للاستماع لآراء من حولك، واحترم أفكارهم دون تقليل من شأنها.
التواضع خلق عظيم يجلب المحبة والقبول، وهو مفتاح السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. فلنجعل من هذه الآية الكريمة نبراسًا نهتدي به في تعاملاتنا اليومية، ولنتذكر أن الكبر لا يزيد الإنسان إلا بعدًا عن الآخرين وعن رحمة الله.