د. أحمد وسام يكتب: تحقيق مصالح العباد
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
لما كان المقصدُ من الشريعة هو تحقيق مصالح العباد وسعادتهم فى الدارَين، اتسَمَت أحكامُها بالسعة والمرونة والشمول، ولم تكن الغايةُ من النصوص الشرعية هى التعبد بها فحسب، بل إعمالُها بما يحقق النفع ومصالح العباد، حتى سخَّر اللهُ للإنسان ما فى السماوات وما فى الأرض ليتمكن من إقامة مصالحه، وساق ذلك فى معرِض الامتنان عليه والإنعام، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20].
والناظر بعين التدبُّر فى العقود المسمَّاة فى الفقه الموروث (مِن المعاوضات كالبيوع بشتى صورها، والتبرعات كالهبة ونحوها، والشركات كالمضاربة وغيرها، والتوثيقات كالرهن وما يحفظ للناس حقوقها)، وما حدَّده الفقهاءُ لها من ضوابطَ وشروطٍ - يجد أن أحكامها غير مشروعة لذاتها، بل باعتبارها وسائل لتحقيق مصالح الخلق ودرء المفاسد عنهم، مع مراعاة المقاصد الشرعية الخمسة فى الأموال، وهى: تداولها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها.
فأما تداولها فإنه ضد الكنز والاحتكار، وأما وضوحها فقد شرعت له وسائل التوثيق من إشهاد وكتابة ورهن وبُعدٍ عن الغرر وأسباب الخصومة، وأما حِفظها، فهو من جهة الوجود: صيانتها وتنميتها، ومن جهة العدم: المنع من الاعتداء عليها، وأما ثباتها فهو إقرارها لأصحابها، وأما العدل فيها فاستبعاد الظلم فى كسبها وإنفاقها.
وهذه الشروط والضوابط ينبغى أن تُراعَى فى ضوء الغاية المرجوة منها، دون الوقوف على حرفية نصوصها أو إجراءاتها، إذ العبرة فى الغالب مِن العقود بالمعانى والقصود، لا بظاهر الألفاظ وصياغة البنود، كما ينبغى التفريق فى ذلك بين المقاصد والوسائل، إذ قد ثبت فى قواعد الشرع الشريف أنه «يغتفر فى الوسائل ما لا يغتفر فى المقاصد».
فإذا تبين أن تحقيق المصلحة ودرء المفسدة يقتضى مخالفة ظاهرها إلى غيرها، فإن الحكمة تقتضى العدول عنها إلى ما يحقق المصلحة الراجحة ويدرأ المفسدة، «فكل ما شُرع لجلب مصلحةٍ، أو دفع مفسدة، فغيرُ مقصودٍ فيه ما يناقِض ذلك».
وتطبيقاً لذلك: أباح الشرع الشريف جملةً مِن العقود على خلاف الأصل كالشفعة، فإنها وإن كانت تُقيِّد إرادة المالك فى تصرفه فى مِلكه، إلا أنها شُرعت لدفع الضرر المتوقَّع عن الجار أو الشريك، إذ الأصل فى البيع: أن يبيع الإنسانُ لمن يشاء، وأنه لا يُسأل فى ذلك.
وكذا لَم يَقف الشرعُ فى العقود عند صُوَرها، فحَرَّم جملةً مِنها؛ لما تؤول إليه مِن مفاسد، وما تفضى إليه مِن النزاع وأكل أموال الناس بالباطل وإن كانت صورةُ العقد مكتملةَ الأركان والشروط، وأَحَلَّ بعضَها وإن كانت مشابهةً فى الصورة لما حُرِّمت؛ لأنها تؤول إلى تحقيق مصالح العباد وتدفع الحرج والمشقة عنهم، ومِن هذا المبدأ حَرُمَ بيعُ الغرر كبيع السمك فى الماء، والطير فى الهواء، لما فيه من جهالة العين المبيعة وعدم وجودها عند العقد أو عدم القدرة على التسليم فى الغالب، مما قد يؤول إلى النزاع وأكل أموال الناس بالباطل، وفى ذات السياق أُبيح بيعُ السَّلَم على خلاف الأصل، لما فيه من تحقيق مصالح العباد وإن كانت العينُ المُسْلَمُ فيها غيرَ موجودةٍ عند العقد، ولا يُتيقن وجودُها عند أجَله!
إن العالم اليوم فى حاجةٍ ماسةٍ إلى نظرة إفتائية مقاصدية عميقة فى المعاملات التى تستَجد ويحتاجون إليها فى إقامة شئون معاشهم وارتياشهم، خاصة فى ظل ما يعرف بـ«الذكاء الاصطناعى»، و«العالم الرقمى»، و«الواقع الافتراضى»، يُراعَى فيها تحقيقُ مصالح الخلق ورفعُ الحرج عنهم، وإلا أوقَعَ المتصدرُ للفتوى نفسَه فى الحرج بمخالفة قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ومَا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مِنْهُ مُقْتَبَسٌ ** وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ ** غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوِ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ. صلَّى الله عليك يا سيدى يا رسول الله وعلى آلك وأصحابك وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الاسلام دين الرحمة مصالح العباد التعاون على البر والتقوى وإن کانت
إقرأ أيضاً:
عبد الله بوصوف يكتب..النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام
أصبح النظام العسكري الجزائري يقفز من مصيبة فيسقط في فضيحة…فهو لا يقبل عنه بديلا حضاريا و ديمقراطيا إذ تعود الانقلاب على صناديق الاقتراع كما حدث قبل العشرية السوداء و قتل الالف الأبرياء و مثلهم من مجهولي المصير… وبنفس التغول و نفس الغطرسة و منطق فرض الأمر الواقع سيواجه الحراك الشعبي المبارك الذي قطع الطريق على عبد العزيز بوتفليقة..فقامت الافعى(النظام العسكري ) بتغيير جلدها لا عاداتها و اسلوبها في القتل بالسم…و هكذا تم الزج بآلاف الشباب الغاضب في السجون و دفع اعداد أخرى للهجرة الغير الشرعية..
فمطالب الشارع الجزائري كانت واضحة منذ الانقلاب على الثورة في يوليوز 1962…لكن ذات النظام العسكري تعود الالتفاف على تلك المطالب الاجتماعية والاقتصادية و السياسية و الحقوقية المشروعة..و نسج لنفسه عقيدة جديدة و بروباغاندا للتخدير الجماعي و أن صرف مقدرات الشعب الجزائري على ملفات بعيدة عن معاشه و خبزه و حليبه و لحمه…أنه واجب وطني في سبيل تمويل مجموعات ارهابية في إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية… كما كانت غاية الالة الإعلامية الجزائري هي تدجين المواطن الجزائري الذي يجب أن يرى كل تبذير لثروات الجزائر هو تدبير حكيم من طرف النظام الحاكم…
استمرت آلة النظام العسكري في معركة كسر عظام قادة و منظمات الحراك الشعبي و المعارضين السياسيين والحزبيين و النقابيين و رمت بهم في السجون و الحبس الإحتياطي و إثقالهم بغرامات كبيرة وإغلاق مقرات إعلامية. ..و أصبح المشهد السياسي و العمليات الانتخابية مجرد مسرحية هجرها الناخب الجزائري..
و لعل الإخراج الرديء للرئاسيات الأخيرة هو أكبر إحراج سياسي و إعلامي منذ انقلاب بومدين على الرئيس بنبلا…
عمليات كسر العظام ستتواصل مع رجال الإعلام “المزعجين ” و سيواصل رجال النظام الجزائري بطشهم بصناع الإعلام الغير الرسمي و كل الخارجين عن الخط التحريري للمخابرات الجزائرية كعمر فرحات و سفيان غيروس و إحسان القاضي و غيرهم كثير…صحيح ان ذات النظام كان يظطر لاطلاق سراح المعتقلين خاصة قادة الحراك الشعبي و اعلاميين…. لكنه جاء مرة في إطار ” تكتيك المهادنة ” بعد انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون ( سنتي 2019 و 2024 ) حيث أطلق حوالي 4000 معتقل من بينهم صحافيين…و مرة أخرى تحت ضغط المنظمات الحقوقية الدولية..بعد حملات و تقارير حقوقية و إعلامية فاضحة لعورة نظام ” دموي ” يستشيط غضبا من الرأي الآخر أو الرأي المخالف…بدليل أن لا حديث اليوم إلا عن معركة كسر الأقلام الجريئة التي تصدع بقول الحقيقة التاريخية أمام الجميع و فوق أرض الجزائر ذاتها…فالكاتب الفرنسي ذو الأصل الجزائري ” بوعلام صنصال ” (75 سنة ) تم اعتقاله يوم 16 نوفمبر من مطار الجزائر قادما من فرنسا على خلفية تصريحاته تخص التاريخ الفرنسي في الجزائر و مرحلة الاستعمار و تسليم أراضي مغربية للجزائر / الفرنسية وخاصة الصحراء الشرقية و التأكيد على مغربية الصحراء…
فصاحب Le Serment des barbares سنة 1999 و الحاصل على جوائز أدبية مميزة لم يغير رأيه من طبيعة وتاريخ النظام الجزائري و لم يغادر الى فرنسا بل فضل البقاء في مدينة بومرداس…رغم المضايقات و الرقابة و العيون اللصيقة للأجهزة الجزائرية التي ستواصل معركة كسر قلم صنصال بمنع كتابه Poste restante, Alger من المشاركة في المعرض الدولي للكتاب بالجزائر لسنة 2006..وهو الكتاب الذي تضمن قراءة نقدية للحالة السياسية للنظام العسكري…
ليس هذا فحسب فالنظام العسكري يحاول استفزاز فرنسا بعد موقفها الصريح والتاريخ بمغربية الصحراء و بعد زيارة الدولة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون و التوقيع على جيل جديد من الاتفاقيات الاستراتيجية المهمة…من خلال التحرش و اعتقال كل المفكرين و الكتاب الجزائريين المستقرين بفرنسا او يكتبون يالفرنسية…
فالكاتب و القاص ” بوعلام صنصال” يحمل الجنسية الفرنسية و كتاباته بالفرنسية..و اعتراف ذات الكاتب بمغربية الصحراء من داخل الجزائر هو فقط الشرارة الأولى التي بإمكانها تشجيع كل الأقلام الجريئة من داخل الجزائر لقول الحقيقة التاريخية حول الصحراء المغربية…لذالك سارعت أجهزة مطار الجزائر الى اعتقاله في مكان مجهول لحد الآن…
تحرش النظام الجزائري بالاقلام سيطال أيضا الكاتب و اللاجئ الجزائري بفرنسا “كمال داود ” 54 سنة..والفائز بجائزة ” الغونكور ” الفرنسية الشهيرة لسنة 2024 عن قصته Houris..فهرع النظام باسم مواطنة تدعى ” سعدة عربان ” 31 سنة لرفع دعوى قضائية ضد “كمال داود” بتهمة السرقة الأدبية..بتوظفه لقصتها الشخصية في زمن الحرب الاهلية وأنها فقدت النطق بعد قيام الاسلاميين بقطع أحبالها الصوتية بعد محاولة ذبحها…و نجاتها من الموت بأعجوبة…
هنا أيضا النظام الجزائري يحاول كسر قلم ” كمال داود” من جهة ، و التلويح بالذكريات الأليمة للحرب الأهلية و أن ذات النظام انقد الجزائريين من الإسلاميين بعد فوزهم في الانتخابات ( سياسة الخوف )…و كأنهم يعيدون التأكيد على خطوطهم الحمراء أي قضية الصحراء المغربية و الديمقراطية وتداول السلط…
فالهزائم المتتالية للنظام العسكري سواء على المستوى السياسي او الديبلوماسي رفع من درجة حساسيته وجعل من بث الارقام الهزلية لنتائج الرئاسيات أولا، و بث مباشر لصور الرئيس تبون و أحد موظفيه ثانيا أسباب عجلت بإقالة المدير العام للتلفزيون العمومي الجزائري..” محمد النذير بوقابس” في شهر غشت الماضي و الذي عُين بدوره بعد إقالة مماثلة للمدير العام للتلفزيون “شعبان لونكال ” بعد بثه خبر فوز المغرب على البرتغال وتاهله الى دور الربع لمونديال قطر 2022..
لقد أعتقد النظام العسكري أنه بهذه الاعتقالات و التهم المفبركة و أعمال الرقابة على كل الفاعلين السياسيين و الإعلاميين و الحقوقيين… أنه سيحد من تأثيرهم داخل الجزائر أو خارجها…في حين يكون قد وضع نفسه أمام كشافات المنظمات الحقوقية و تقارير المؤسسات الاعلامية و أمام ضمير المجتمع الدولي…و أقل وصف ينطبق على النظام العسكري في الجزائر هذه الاثناء هو أنه تحت سيف ديموقليس….
عبد الله بوصوف…