الوطن:
2024-07-03@19:51:39 GMT

د. عاصم عبدالقادر يكتب.. التصوف في مواجهة التشدد

تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT

د. عاصم عبدالقادر يكتب.. التصوف في مواجهة التشدد

يجد البعض حساسية فى الحديث عن التصوف الإسلامى، وإذا ما وجد فى نفسه داعية الحديث أو ألجأته الحاجة إلى الكلام عنه حام حوله دون أن يذكره باسمه المصطلح عليه فيقول مقام الإحسان أو علم السلوك أو التزكية أو غير ذلك، من الأسماء فى محاولة منه أن يكون بمأمن من النقد أو التصنيف أو غير ذلك.

ولعل السبب فى ذلك هو الخلط والاضطراب فى فهم المصطلح أو عدم تحرير معناه على الوجه الأمثل، أو الصورة الذهنية السلبية التى صُنعت بليل وتم الترويج لها بفعل فاعل أو بسبب تراكم بعض الأخطاء التى تقع من بعض منتسبيه.

والتصوف، بعيداً عن المصطلحات التى جاءت فى بطون الكتب المعنية بهذا الأمر، يدور حول معنى هو الأسمى وهو المراد، وهو تهذيب النفس الإنسانية وتزكيتها والعكوف على إصلاح خللها وضبطها على منهج الوحى الصادر عن الله ورسوله.

وإن أكثر ما يؤرق الخطاب المتطرف هو خطاب الرحمة الذى يفيض من جنبات الشرع الشريف فى أوامره ونواهيه الصادر عن النفوس الزكية المتجردة لله ورسوله والتى أبانت عن أن خطاب التشدد والكراهية لم يكن يوماً ما خطاباً إلهياً أو نبوياً معصوماً، بل خطاب عقول متحجرة ونتاج أفئدة مظلمة لم تتلمس مكامن الرحمة والنور فى نصوص الشرع الشريف، ففهمت الشىء على هواها، وبلَّغت عن الله ورسوله غير مراده، وتسلَّطت بفهم سقيم خارج عن قواعد العلم والأدب وحسن الظن، وغالت فى الأمر، فمنحت بعض خلق الله صك الإيمان، بينما حجبته مُخالفها، ورمته بكل منقصة، واغتالته معنوياً بوصمة الكفر والشرك والابتداع.

وقد لمح النبى ما قد يقع من بعض أفراد هذه الأمة فأخبرهم بأن الدين يسر وأنه لن ينازع الدين أحد إلا صرعه وغلبه، كيف لا وهو الذى قال لأصحابه وللأمة من بعده (بعثت بالحنيفية السمحاء)؟! ولم يقف الأمر عند هذا الإخبار، بل تعداه إلى الأمر الصريح الواجب النفاذ حين خاطبهم وخاطبنا معهم (بَشِّروا ولا تُنفِّروا ويَسِّروا ولا تُعسِّروا) و(إن خير دينكم أيسره) و(إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة).

وقد حسم النبى أمر الإيمان والكفر، وأخبر -وهو المعصوم- أنه ما خاف على أمته الشرك بقدر ما خاف عليهم من أمر الدنيا، لكن قُطاع الطريق على السالكين عقدوا الأيمان على تعكير صفو حياة الناس، فما من مناسبة إلا تركوا ما فيها بمن فيها وتفرغوا للقدح، فلهم فى كل حدث وقفات، وبات عندنا قضايا موسمية تتجدد بتحدد المناسبات الدينية والاجتماعية والوطنية، وأصبحت فى مواجهة عقول لم تعرف من الدين إلا رسمه، ولم تفقه عن الله مراده، وإذا ما حاججتَهم بمعاييرهم زاغوا وراغوا منك كما يروغ الثعلب.

إننا ننشد التصوف الراشد القائم على العلم والعمل، المتسق مع الفهم الصحيح لخطاب الشرع الشريف الذى لم يحرّف ولم يبدّل، وإنما يحقق مقاصد الشرع ويراعى مصالح العباد ويستخرج من النصوص ما يرفع الحرج عن الأمة التى بات واقعها متغيراً نظراً للتحولات الاجتماعية والمتغيرات الإقليمية والدولية، حيث يجب على الإنسان أن يتفاعل مع أحداث الحياة السريعة فى أخذ ورد وفى تناغم من غير تصادم.

لم يبق أمامنا إلا التصوف الراشد بأدبياته وما يرسخه فى الإنسان من سلام مع الإنسان وسائر الأكوان بعدما فشلت حركات الاستبداد والاستعلاء بالإيمان فى طرح خطاب راشد يعمل على المشترك وينحِّى المختلف فيه.

لقد كشفت الأيام لنا أننا أمام مدرستين، مدرسة تربى أبناءها على الانكسار لله وخفض الجناح لعباده، أحد أدبياتها ما ترجمه ابن عطاء الله السكندرى فى حكمته «ادفن نفسك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه»، وبين مدرسة تُلقن صغارها وهُم فى المهد «أنت أستاذ هذا العالم وسيده»، فينتفخ الصغير كبراً وصلفاً، ويتعالى على عباد الله فيشبّ وقد رأى أنه هو ولا شىء غيره، فإما أن تكون من بنى جلدته وحزبه، وإما أن تكون فى مرمى الإقصاء والسب والاغتيال المعنوى، بله القتل والسفك بلازم فهمه السقيم، وبدعوى إقامة الحق وتمكين الشرع، والحق والشرع من هذا كله براء.

لقد سادت الأمة بفهم علمائها من فقهاء ومُحدثى الصوفية، فدونكم الشاذلى وابن عطاء الله وزكريا الأنصارى والدردير وغيرهم ممن لا يقع ذكرهم تحت حصر، حيث العلم والعمل والمشاركة فى أحداث الحياة وصناعة الإنسان والبنيان فى قناعة بأن المنهج الحق هو التعمير لا التدمير، وهو الإنارة لا الإثارة، وهو الرحمة لا التشدد.

عندما غُيِّبت هذه المعانى وغُيِّب التصوف وغُيِّبت معه مناهج التزكية التى كانت قرينة علوم الشريعة، والتى يمتاح جميعها من معين واحد، أطل التطرف برأسه، وسكن الرؤوس، وعشعش فى القلوب، وغزا كل المستويات والشرائح الاجتماعية المختلفة من دون تفرقة.

نعم، غاب التصوف فظهر التشدد، وظهرت معه أدواته من انغلاق الفهم وضيق الأفق وضبابية الرؤية وعدم النظر فى مآلات الخطاب، وتنحَّى النفَس المحمدى الرحيم الذى يفيض حناناً وشفقة بالخلق، فنتج عن ذلك تعطيل لمقاصد الشرع، وتضييق على مصالح العباد، وفهم الأمور على غير مرادها، وفهم الوحى على غير مقاصده، وانتقلنا من محل النزاع، وتصدَّر للبلاغ عن الله من ليس أهلاً، وفُهمت النصوص من غير تمكُّن من أدواتها -كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح- وانتُزعت بعيداً عن سياقاتها ولم ينظروا فى سباقها ولحاقها ومساقها، وجعلوا الظنى فى مقام القطعى، والقطعى محل الظنى، وسحبوا مسائل الفقه المتفق عليها الدائر الحكم فيها بين الجواز وعدمه والحِلِّ والحُرمة إلى مسائل العقيدة التى تدور حول الإيمان وعدمه، فضاعت مفاتيح النصوص، وأبت النصوص أن تفيض بمكنونها، فصرنا إلى حال بئيس نحتاج إلى فيض مدد إلهى يُخرجنا من هذه الكبوة.

إن الأمة بحاجة إلى إحياء فقه التصوف الراشد وتحويله إلى سلوك يسرى فيها كما يسرى الماء فى الورد فنستعيد الخطاب المحمدى الرحيم بما يحمله من حنان وشفقة تنعقد معه الجمعية بين الحق والخلق فى إقرار وإذعان بأن العبد عبد والرب رب مستوجب للعبادة فتتجلى عطاءاته وفيوضاته على عباده، فاللهم أدركنا واسلك بنا سبيل عبادك الذين منحتهم حُسن الفهم عنا فكانوا لك وكنت لهم ولياً ونصيراً.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: التصوف التسامح اليسر التشدد عن الله

إقرأ أيضاً:

د.حماد عبدالله يكتب: الوطنية المصرية «المنقوصة» !!



لا يمكن أن نطلق على الانفعال الوطنى «بالغناء» لمصر أو «الرقص» على دقات إيقاع موسيقى «سيد درويش» إلى «عمر خيرت»، أو الشدو بالأغانى الوطنية «لعبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، وعبد الوهاب»، والتى تهز وجدان شعب «مصر» فى المناسبات الوطنية، لا يمكن أن نصف ذلك بأنها منتهى الوطنية، ومنتهى الحماسة للبلاد وللأمة!
فكل ذلك تعبير منقوص «للوطنية المصرية» التى يجب إعادة بث روح الانتماء لدى غالبية من قطاعات شعب مصر الفاعلين فى الحياة الاقتصادية.
إن الوطنية المصرية تتبلور بجانب تلك الانفعالات، بل قبل ذلك، بالعمل وأداء الواجب والروح القتالية فى أداء المهام، مثلما حدث فى معركة عبورنا للكرامة وإعادة الأرض والعِرضْ يوم 6 أكتوبر 1973!
مثلما انتفضنا يوم «30 يونيو» لإعادة «مصر» بعد اختطافها من جماعات لا تتقى الله فى أمتها وشعبها!.
هذه الروح التى يجب أن تعود، هناك عدة طرق ومحاور كثيرة يمكن لشعب «مصر» وخاصة القادرين منهم على اجتيازها، ومن أهم هذه المحاور أن نعمل على ضبط الأسواق، وعلى أن نُرِشَّدْ الاستهلاك، وأن نلتزم بأداء حقوق الدولة لدينا كالضرائب، والمحافظة على الأموال والممتلكات العامة من «طرق، وكبارى، ووسائل نقل عامة، وحدائق، وشوارع، وأرصفة وغيرها من ممتلكات الأمة!
وكذلك المجلس النيابى المصرى الذى يجب أن يهتم بمشاكل المصريين الحياتية وأن يوجهوا الحكومة بأدواتهم التشريعية نحو تصحيح المسار، وإستجواب الوزراء فيما يتقاعسون فى تنفيذه من مهام موكولة لهم طبقًا للدستور والقانون.
 


هذه السلطة التشريعية والحكومة والرئيس من واجبهم القيام بتكليف الحكومة بإصدار تشريع ضريبى «يعدل» من القانون القائم بحيث يتسع «الوعاء الضريبى» للمواطن بما يقدمه من فواتير تثبت حصول الغير منه على مستحقاتهم مثل «الأطباء والمهنيين، الحرفيين وغيرهم» وهم يمثلون حوالى 48٪ من الاقتصاد غير الرسمى فى السوق المصرية.
وبالتالى يمكن ملاحقتهم بهذه الفواتير لتسجيلهم وإدخالهم «الاقتصاد الرسمى للبلاد»، وهذا يحقق فوق «المائتى مليار جنيه» تقديرًا مناسبًا لهذا القطاع الهارب من المسئولية!
كما أن هناك «تعديلا تشريعيا» واجبا باستخدام الضرائب التصاعدية على الدخول، وبالتالى يمكننا من الحصول على ضعف الدخل القومى من حصيلة الضرائب العامة!
كما أن إعادة تقسيم مصر إداريًا إلى «أقاليم اقتصادية» هى الأمل فى أن تصبح «مصر كوربريشن» عكس ما أعلن عنه بإعادة تقسيم مصر جغرافيًا إلى محافظات تزيد من الأعباء على الموازنة العامة للدولة!
المقصود بالأقاليم الاقتصادية كما كتبت عشرات المرات أن يعتمد كل إقليم على نفسه اعتمادًا ذاتيًا وتضخ من موارده فى الناتج الإجمالي القومى «لمصر»، وليس العكس!
كل تلك المحاور هى «روح الوطنية المصرية» والمطلوب أن تعود لتعم أرجاء الوطن شعبًا وأرضًا، وهذا ما تسعى إليه القيادة السياسية، لبث تلك الروح فى مجتمع الأعمال المصرى، والحث على اندماجهم فى «الوطنية المصرية»، وخروجهم من قوقعة المصالح الذاتية المغلقة!
مهمة صعبة للغاية، أتمنى من الله أن تستطيع «مصر» أن تعبر تلك المرحلة، وسوف نعبرها بمشيئة الله !!.
Hammad_acdc@yahoo

مقالات مشابهة

  • القاهرة الكبرى: مواجهة العشوائيات وإنهاء المشروعات القومية على رأس الأولويات
  • عادل حمودة يكتب: في صحة أحمد زكي
  • رضا فرحات يكتب: الحكومة الجديدة.. رؤية واضحة وتحديات ملحة
  • إسلام الكتاتني يكتب: ثلاث ضربات في الرأس توجع
  • هشام عبدالعزيز يكتب: تغيير نحو مستقبل مستدام
  • د.حماد عبدالله يكتب: الوطنية المصرية «المنقوصة» !!
  • كيف نظر العالم لثورة 30 يونيو فى مصر؟.. الدول العربية أيدت الأمر لمعرفتها بخطر الجماعات الظلامية
  • التنازلات الكبرى لأجل المصالحة والحقيقة (٣)
  • سنجة .. إنهاء أسطورة الجنجويد!
  • «الإفتاء» تكشف فضل سورة يس وحُكم السحر في الشرع (فيديو)