د. عاصم عبدالقادر يكتب.. التصوف في مواجهة التشدد
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
يجد البعض حساسية فى الحديث عن التصوف الإسلامى، وإذا ما وجد فى نفسه داعية الحديث أو ألجأته الحاجة إلى الكلام عنه حام حوله دون أن يذكره باسمه المصطلح عليه فيقول مقام الإحسان أو علم السلوك أو التزكية أو غير ذلك، من الأسماء فى محاولة منه أن يكون بمأمن من النقد أو التصنيف أو غير ذلك.
ولعل السبب فى ذلك هو الخلط والاضطراب فى فهم المصطلح أو عدم تحرير معناه على الوجه الأمثل، أو الصورة الذهنية السلبية التى صُنعت بليل وتم الترويج لها بفعل فاعل أو بسبب تراكم بعض الأخطاء التى تقع من بعض منتسبيه.
والتصوف، بعيداً عن المصطلحات التى جاءت فى بطون الكتب المعنية بهذا الأمر، يدور حول معنى هو الأسمى وهو المراد، وهو تهذيب النفس الإنسانية وتزكيتها والعكوف على إصلاح خللها وضبطها على منهج الوحى الصادر عن الله ورسوله.
وإن أكثر ما يؤرق الخطاب المتطرف هو خطاب الرحمة الذى يفيض من جنبات الشرع الشريف فى أوامره ونواهيه الصادر عن النفوس الزكية المتجردة لله ورسوله والتى أبانت عن أن خطاب التشدد والكراهية لم يكن يوماً ما خطاباً إلهياً أو نبوياً معصوماً، بل خطاب عقول متحجرة ونتاج أفئدة مظلمة لم تتلمس مكامن الرحمة والنور فى نصوص الشرع الشريف، ففهمت الشىء على هواها، وبلَّغت عن الله ورسوله غير مراده، وتسلَّطت بفهم سقيم خارج عن قواعد العلم والأدب وحسن الظن، وغالت فى الأمر، فمنحت بعض خلق الله صك الإيمان، بينما حجبته مُخالفها، ورمته بكل منقصة، واغتالته معنوياً بوصمة الكفر والشرك والابتداع.
وقد لمح النبى ما قد يقع من بعض أفراد هذه الأمة فأخبرهم بأن الدين يسر وأنه لن ينازع الدين أحد إلا صرعه وغلبه، كيف لا وهو الذى قال لأصحابه وللأمة من بعده (بعثت بالحنيفية السمحاء)؟! ولم يقف الأمر عند هذا الإخبار، بل تعداه إلى الأمر الصريح الواجب النفاذ حين خاطبهم وخاطبنا معهم (بَشِّروا ولا تُنفِّروا ويَسِّروا ولا تُعسِّروا) و(إن خير دينكم أيسره) و(إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة).
وقد حسم النبى أمر الإيمان والكفر، وأخبر -وهو المعصوم- أنه ما خاف على أمته الشرك بقدر ما خاف عليهم من أمر الدنيا، لكن قُطاع الطريق على السالكين عقدوا الأيمان على تعكير صفو حياة الناس، فما من مناسبة إلا تركوا ما فيها بمن فيها وتفرغوا للقدح، فلهم فى كل حدث وقفات، وبات عندنا قضايا موسمية تتجدد بتحدد المناسبات الدينية والاجتماعية والوطنية، وأصبحت فى مواجهة عقول لم تعرف من الدين إلا رسمه، ولم تفقه عن الله مراده، وإذا ما حاججتَهم بمعاييرهم زاغوا وراغوا منك كما يروغ الثعلب.
إننا ننشد التصوف الراشد القائم على العلم والعمل، المتسق مع الفهم الصحيح لخطاب الشرع الشريف الذى لم يحرّف ولم يبدّل، وإنما يحقق مقاصد الشرع ويراعى مصالح العباد ويستخرج من النصوص ما يرفع الحرج عن الأمة التى بات واقعها متغيراً نظراً للتحولات الاجتماعية والمتغيرات الإقليمية والدولية، حيث يجب على الإنسان أن يتفاعل مع أحداث الحياة السريعة فى أخذ ورد وفى تناغم من غير تصادم.
لم يبق أمامنا إلا التصوف الراشد بأدبياته وما يرسخه فى الإنسان من سلام مع الإنسان وسائر الأكوان بعدما فشلت حركات الاستبداد والاستعلاء بالإيمان فى طرح خطاب راشد يعمل على المشترك وينحِّى المختلف فيه.
لقد كشفت الأيام لنا أننا أمام مدرستين، مدرسة تربى أبناءها على الانكسار لله وخفض الجناح لعباده، أحد أدبياتها ما ترجمه ابن عطاء الله السكندرى فى حكمته «ادفن نفسك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه»، وبين مدرسة تُلقن صغارها وهُم فى المهد «أنت أستاذ هذا العالم وسيده»، فينتفخ الصغير كبراً وصلفاً، ويتعالى على عباد الله فيشبّ وقد رأى أنه هو ولا شىء غيره، فإما أن تكون من بنى جلدته وحزبه، وإما أن تكون فى مرمى الإقصاء والسب والاغتيال المعنوى، بله القتل والسفك بلازم فهمه السقيم، وبدعوى إقامة الحق وتمكين الشرع، والحق والشرع من هذا كله براء.
لقد سادت الأمة بفهم علمائها من فقهاء ومُحدثى الصوفية، فدونكم الشاذلى وابن عطاء الله وزكريا الأنصارى والدردير وغيرهم ممن لا يقع ذكرهم تحت حصر، حيث العلم والعمل والمشاركة فى أحداث الحياة وصناعة الإنسان والبنيان فى قناعة بأن المنهج الحق هو التعمير لا التدمير، وهو الإنارة لا الإثارة، وهو الرحمة لا التشدد.
عندما غُيِّبت هذه المعانى وغُيِّب التصوف وغُيِّبت معه مناهج التزكية التى كانت قرينة علوم الشريعة، والتى يمتاح جميعها من معين واحد، أطل التطرف برأسه، وسكن الرؤوس، وعشعش فى القلوب، وغزا كل المستويات والشرائح الاجتماعية المختلفة من دون تفرقة.
نعم، غاب التصوف فظهر التشدد، وظهرت معه أدواته من انغلاق الفهم وضيق الأفق وضبابية الرؤية وعدم النظر فى مآلات الخطاب، وتنحَّى النفَس المحمدى الرحيم الذى يفيض حناناً وشفقة بالخلق، فنتج عن ذلك تعطيل لمقاصد الشرع، وتضييق على مصالح العباد، وفهم الأمور على غير مرادها، وفهم الوحى على غير مقاصده، وانتقلنا من محل النزاع، وتصدَّر للبلاغ عن الله من ليس أهلاً، وفُهمت النصوص من غير تمكُّن من أدواتها -كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح- وانتُزعت بعيداً عن سياقاتها ولم ينظروا فى سباقها ولحاقها ومساقها، وجعلوا الظنى فى مقام القطعى، والقطعى محل الظنى، وسحبوا مسائل الفقه المتفق عليها الدائر الحكم فيها بين الجواز وعدمه والحِلِّ والحُرمة إلى مسائل العقيدة التى تدور حول الإيمان وعدمه، فضاعت مفاتيح النصوص، وأبت النصوص أن تفيض بمكنونها، فصرنا إلى حال بئيس نحتاج إلى فيض مدد إلهى يُخرجنا من هذه الكبوة.
إن الأمة بحاجة إلى إحياء فقه التصوف الراشد وتحويله إلى سلوك يسرى فيها كما يسرى الماء فى الورد فنستعيد الخطاب المحمدى الرحيم بما يحمله من حنان وشفقة تنعقد معه الجمعية بين الحق والخلق فى إقرار وإذعان بأن العبد عبد والرب رب مستوجب للعبادة فتتجلى عطاءاته وفيوضاته على عباده، فاللهم أدركنا واسلك بنا سبيل عبادك الذين منحتهم حُسن الفهم عنا فكانوا لك وكنت لهم ولياً ونصيراً.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: التصوف التسامح اليسر التشدد عن الله
إقرأ أيضاً:
الشيخ ياسر مدين يكتب: في الصوم
قال سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدِنا جبريلَ عليه السلام حين سأله عن الإسلام: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيمَ الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا». سبقت الإشارة إلى أن قَصْر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فى هذه الخمس ليس معناه أنّ الإسلام عبادات فقط، فقد سبق أن أشرنا إلى أثر الشهادة والصلاة والزكاة في حياة المسلم، وما تستلزمه منه.
وسوف نشير -إن شاء الله تعالى- إلى أثر الصيام والحج، فالحديث إذن لا يدل على انحصار الإسلام في العبادات فقط، وإنما هو ذِكرٌ للأركان الكبرى التي تُؤصّل لحياة مستقيمة في العبادات والمعاملات. وبدَيهيٌّ أن يبدأ الحديث بشهادة «أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم» لأنها إعلان الإسلام والالتزام به عقيدة وسلوكا.
وقد سبقت الإشارة إلى أنّ الواو العاطفة بين الصلاة والزكاة والصيام والحج تقتضي الجمع بدون ترتيب؛ أي: صار المرء بمجرد إسلامه مطالبا بهذه العبادات كلها، إلا إذا سقطت عنه لعدم القدرة. فالواو إذن لا تقتضي ترتيبا، لكن هذا لا ينفي أن يكون لترتيب هذه الأركان حِكمةٌ، وذلك ليس من حيثُ اقتضاء الواو ترتيبا معينا، ولكن من حيث إن المتكلم بها قدَّم بعضها على بعض وأخّر بعضها عن بعض.
وإذا نظرنا سنجد أنّ الزكاة والصيام لا يفرضان كل عام، بخلاف الصلاة التي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة، فتقديم الصلاة تقديم لما يكثر تكراره، والزكاة والصيام يسقطان عن غير القادر، فالذي لا يملك النِصاب يسقط عنه أداء الزكاة، وغير القادر على الصيام لا يصوم، هذا بخلاف الصلاة التي يؤديها المسلم ولو بالإشارة إن لم يقدر على الركوع والسجود، وهذا داعٍ ثانٍ لتقديمها عليهما.
ثم تأتي الزكاة بعد الصلاة، وهي كذلك في كتاب الله جاءت تالية للصلاة في ستة وعشرين موضعا، ومن الجهة الاجتماعية نجد أن الصلاة شأنها أن تجمع المسلمين خمس مرات فى اليوم والليلة فيقترب بعضُهم من بعض، ويعرف بعضهم بعضا، وهذا يُوقفهم على أصناف مستحقي الزكاة بينَهم، وهنا يأتي دور الزكاة لمساعدة أولئك المحتاجين، وهذا يقتضي أن تأتي الزكاة بعد الصلاة.
ثم إن الزكاة رِفْدٌ بالمال [أي عطاء وصِلة]، وهذا العطاء هو الذي يعين المحتاج على ضروريات حياته، فيقدرُ على شراء الطعام الذي يتسحر به ويُفطر عليه إذا صام، وبعض مصارفه قد يُجعل لحج بعض المحتاجين، فسبق الزكاة للصيام والحج أمر منطقى.
وإذا كانت الزكاة قد عوّدت المسلم الواجد أن يُخرج قدرا من ماله للمحتاجين، فإنّ ما يذوقه في الصيام من سَغَبٍ [أي: جوعٍ] يحمله على مزيد من الجود والإطعام، وكما طهّرته الزكاة من البخل وحب المال والاستئثار به، يأتي الصيام ليرقى به مرتبة أعلى فيجعله يستغني في يومه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن الطعام والشراب والشهوة، وهذه الأمور هي أسباب استمرار الحياة، وطغيان شهوتي البطن والفرج سبب لارتكاب الموبقات والاعتداء على الحرمات، فالصيام يجعل الإنسان يستعلى عن أن تسوقه الشهوات، فهو قادر على قمعها وتوجيهها وفق ما أمر الله تعالى به، وباستقامة هذا الشأن يستقيم أمر الإنسان في سائر حياته في العبادات والتعاملات.
والصيام إذن عبادة تؤصّل لاستقامة شأن الحياة في جميع مناحيها، حيثه إنه يرجى من وراءه تحقيق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى هى أن يقي الإنسان نفسه من الوقوع فيما حظره الشرع الشريف، فبها يستقيم شأن الحياة وفق مراد الله تعالى.
ثم بعد ذلك يأتي الحج، فهو عبادة مالية بدنية، يحتاج فيها المرءُ إلى مالٍ كافٍ للذهاب والعودة وترك ما يكفي لأهله حتى عودته، كما يحتاج إلى قوة بدنية يستطيع بها أداء مناسك الحج المختلفة، وهو بهذا لا يتهيأ لكل مسلم، ولذا قيده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستطاعة فقال: «وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا»، وهذا يقتضي تأخره عما قبله.
ثم إنه عبادة تجب مرةً في العمر، وهذا الوجه أيضا يقتضي تأخره عما قبله.