د. سيد عبدالباري يكتب.. تزكية الأنفس وتقويم الأخلاق
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
إن عناية الإسلام موجّهة بالدرجة الأولى لتزكية النفس وتهذيبها، والمراد من تزكية النفس تطهيرها من نزغات الشر والإثم، وإزالة حظ الشيطان منها، وتنمية فِطْرة الخير فيها، ومتى حَصَلت فى النفس هذه التزكية غَدَت صالحة لغرس فضائل الأخلاق فيها، وتهذيب طباعها تهذيباً مُصلِحاً وكابِحاً ومُقوِّماً ومُوجِّهاً، وطبيعى أنه متى تزكت النفس وتهذبت طباعها استقام السلوك الداخلى والخارجى لا محالة، بخلاف توجيه العناية إلى تقويم السلوك الظاهر فقط، فإنه بناء على غير أساس.
وكل بناء على غير أساس عُرضة للانهيار، ولذلك كان نظر الله تبارك وتعالى فى مراقبته لأعمال عباده موجَّهاً لما فى قلوبهم ونفوسهم، ففى الحديث الشريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»، ولذلك كانت قيمة الأعمال فى تقرير الجزاء عند الله تعالى على قدر قيمة نِيَّات العاملين لها، ففى الحديث المشهور: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
وأبان القرآن أن من زكَّى نفسه فقد أفلح، وأن من دسَّى نفسه، أى: غمسها فى أدناس الكفر والمعصية، فقد خاب، فربط الفلاح بتزكية النفس بالإيمان والتقوى، وربط الخيبة بِتَدْنِيس النفس بالكفر، وإذ أبان الله تعالى أنه قد ألهم كل نفس معرفة طريق فجورها وطريق تقواها، علمنا أن تزكية النفس إنما تكون بتقوى الله.
وللتربية أثر عظيم فى تزكية النفس، ولذلك كانت من مُهِمَّات رسول الله صلى الله عليه وسلم التربوية تزكية نفوس أصحابه، ولهذا كانت ثمرات الخُلق القويم للسلوك الدينى وللسلوك الشخصى عظيمة جداً، وعند المقارنة نجدها أجلَّ من الثمرات التى تُحقِّقها المبالغة فى أداء كثير من العبادات المحضة، ولما كان ذلك كذلك، وجدنا النصوص الدينية المُتكاثِرة توجه الاهتمام العظيم والعناية الكبرى لقيمة حسن الخُلق فى الإسلام، وتذكر الخلق الحسن بتمجيد كبير، فمنها على سبيل المثال قول النبى صلى الله عليه وسلم: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِمْ».
فربط الرسول الارتقاء فى مراتب الكمال الإيمانى بالارتقاء فى درجات حسن الخلق، فصدق العبادة لله تعالى عمل أخلاقى كريم، لأنه وفاء بحقّ الله على عبيده، وحُسن المعاملة مع الناس وفاء بحقوق الناس المادية والأدبية، فهى بهذا الاعتبار من الأعمال الأخلاقية الكريمة.
فإذا تَعمَّقنا أكثر من ذلك، فكشفنا أن الإيمان إذعانٌ للحق واعتراف به، رأينا أن الإيمان أيضاً عمل أخلاقى كريم، فإذا ضَمَمْنا هذه المفاهيم إلى المفهوم الإسلامى العام أن كل أنواع السلوك الإنسانى الفاضل فروع من فروع الإسلام وجدنا أن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأحسن الناس خُلقاً لا بد أن يكون أصدقَهم إيماناً، وأخلصَهم نية، وأكثرَهم التزاماً بحقوق الناس المادية والأدبية، فليس من المعقول أن يكون الإنسان ذا خُلق كريم مع الناس وهو يأكل حقوقهم ويتجاوز حدود الواجب الأدبى الذى تُوصِى به الآداب الاجتماعية الإسلامية، فالأسس الأخلاقية والأسس الإيمانية ذات أصول نفسية واحدة.
ولقد أودع الخالق العظيم فى مدارك الأفكار وفى مشاعر الوُجْدان الفِطْرية ما تُدْرَك به فضائل الأخلاق ورذائلها، وهذا ما يجعل الناس يشعرون بحُسن العمل الحسن، ويرتاحون إليه ويمدحون فاعله، ويشعرون بقُبح العمل القبيح وينفرون منه، ويذُمُّون فاعله، وقد أرشدت النصوص إلى وجود هذا الحسِّ الأخلاقى فى الضمائر الإنسانية، وأحالت المسلم المؤمن إلى استِفتاء قلبه فى حكم السلوك الذى قد تميل نفسه إلى ممارسته، فالإنسان لديه بصيرة يستطيع أن يحاسب بها نفسه محاسبة أخلاقية على أعماله ومقاصده منها.
هذا وللأخلاق الإسلامية مُمَيّزات امتازت بها، كالشمول فهى تشمل علاقة الإنسان بخالقه عز وجل، فالإخلاص سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه إلا الله، وتشمل علاقة الإنسان بنفسه وبنى جنسه، بل وتمتدُّ لتشمل علاقة الإنسان بكل عناصر الكون.
ففى السنَّة النبوية أن امرأة دخلت النار فى هِرَّة حبستها فلا هى أطعمتها ولا تركتها تأكل من خَشَاش الأرض، وأن بَغِياً رأت كلباً كاد يموت عطشاً فسقته فغفر الله لها، كما لا يجوز لمسلم أن يُتْلِف نباتاً أو أن يُخْرِب جماداً؛ لأن هذا إفساد، والله لا يحب الفساد.
كما تمتاز أخلاقنا بإقناع العقل، وإشباع العاطفة، وإرضاء القلب والوُجدان، فما من خُلُق حثَّ عليه الإسلام أو حذَّر منه يتعارض مع العقل المستنير، أو يُجافِى القلب السليم، كما تمتاز أخلاقنا بالصلاحية العامة لما فيها من اليسر والسهولة ورفع الحرج والمشقة.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: سماحة الإسلام صلى الله علیه وسلم
إقرأ أيضاً:
بدأت منذ مهد الإسلام وابن رباح أول من مارسها.. كيف تطورت مهنة المسحراتي حتى وصلت إلى الراديو والتليفزيون؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
"اصحى يا نايم أصحى وحد الدايم.. وقول نويت بكره ان حييت.. الشهر صايم والفجر قايم.. اصحى يا نايم وحد الرزاق.. رمضان كريم"، بتلك الكلمات كان المسحراتي يقوم بعمله ليلًا يوميًا لإيقاظ المسلمين لتناول السحور قبل الفجر خلال شهر رمضان الكريم.
أصبحت شخصية المسحراتي، جزءًا لا يتجزأ من التراث الإسلامي والثقافة الشعبية المصرية، ومن أشهر العادات والتقاليد التي تظهر خلال شهر رمضان الكريم، فلم يقتصر دوره على إيقاظ الصائمين، بل تحول إلى رمز رمضاني، وما زال مستمرًا في الصعيد وبعض الحواري الشعبية.
تعد كلمة المسحراتي، مشتقة من كلمة سحور، والمسحر هي وظيفة أو مهمة يقوم بها شخص لتنبيه المسلمين ببدء موعد السحور، وبدء الإستعداد للصيام، تبدأ تلك المهمة بإنطلاق المسحر قبل صلاة الفجر بوقت كافي، يحمل في يده طبلة وعصا، ينقر عليها صائحًا بصوت مرتفع "اصحى يا نايم اصحى وحد الدايم".
بداية المسحراتي
بدأت وظيفة المسحراتي، مع بدء التاريخ الإسلامي، وكان بلال بن رباح، أول مؤذن في الإسلام، اعتاد أن يخرج قبل صلاة الفجر بصحبة ابن أم كلثوم، ويقومان بمهمة إيقاظ الناس، فكان الأول يطوف بالشوارع والطرقات مؤذنا طوال شهر رمضان، فيتناول الناس السحور، في حين ينادي الثاني، فيمتنع الناس عن تناول الطعام.
بدأت قصة المسحراتي في مصر منذ ما يقرب من 12 قرن مضي، وتحديدًا عام 853 ميلادية، انتقلت مهمة المسحر إلى مصر، وكان والي مصر العباسي، إسحاق بن عقبة، أول من طاف شوارع القاهرة، ليلًا في رمضان لإيقاظ أهلها لتناول طعام السحور، فقد كان يذهب سائرًا على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط، إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور.
المسحراتي في الدولة الفاطمية
في عصر الدولة الفاطمية منذ ما يقرب من ألف عام، أمر الحاكم بأمر الله، الناس أن يناموا مبكرا بعد صلاة التراويح، وكان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا المسلمين للسحور، حتي تم تعيين رجلا للقيام بتلك المهة، أطلفوا عليم اسم "المسحراتى"، كان يدق الأبواب بعصًا يحملها قائلاً: "يا أهل الله قوموا تسحروا".
المسحراتي في العصر المملوكي
كادت مهنة المسحراتي أن تندثر في بلاد المحروسة، إلي أن جاء العصر المملوكي، وتحديدًا في عهد السلطان المملوكي، الظاهر بيبرس، والذي عمل على إحيائها كتراث اسلامي، ولتحقيق ذلك قام بتعيين صغار علماء الدين بالدق على أبواب البيوت، لإيقاظ أهلها للسحور.
نقابة المسحراتية
ظهرت طائفة أو نقابة المسحراتية، بعد أكثر من نصف قرن، وتحديدًا في عهد الناصر محمد بن قلاوون، والتي أسسها أبو بكر محمد بن عبد الغني، الشهير بـ"ابن نقطة"، وهو مخترع فن "القوما"، وهي شكل من أشكال التسابيح، ولها علاقة كبيرو بالتسحير في شهر رمضان، ظهرت في بغداد في بادئ الأمر، قبل أن تنتقل إلي القاهرة.
كان "ابن نقطة"، المسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وعلى يديه تطورت مهنة المسحراتي، فتم استخدام الطبلة، والتي كان يُدق عليها دقات منتظمة، وذلك بدلا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى "بازة"، صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتى دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة، فأصبح المسحراتي يشدو بأشعار شعبية، وقصص من الملاحم، وزجل خاص بهذه المناسبة.
المسحراتي والتطور التكنولوجي
ومع التطور التكنولوجي، وظهور التليفزيون والراديو، بدأت مهنة المسحراتي تطرق أبواب الفنانين والشعراء، أمثال بيرم التونسى وفؤاد حداد والفنان الراحل سيد مكاوى، والذين تولوا مهمة نقل تلك الوظيفة إلي شاشة التليفزيون وميكروفون الإذاعة، ليستخدموا أحدث التقنيات لإيقاظ الناس للسحور، وأصبح المسحراتي يجوب الشوارع ويقوم بتدوين أسماء كل من يرغب في النداء عليه لإيقاظه.