3 مجالات رئيسية.. ماذا ينتظر الأفارقة من روسيا في قمة سانت بطرسبرغ؟
تاريخ النشر: 28th, July 2023 GMT
القاهرة- في حين تعوّل موسكو على نجاح النسخة الثانية من القمة الروسية الأفريقية في ضوء إستراتيجية توسيع نفوذها بالقارة السمراء، تُثار بالمقابل تساؤلات بشأن ما ينتظره الأفارقة من الشريك الروسي، وهل يستفيدون من التنافس الدولي الراهن؟
وبينما صرّحت الخارجية الروسية أن محاولات الدول الغربية إفشال القمة "باءت بالإخفاق"، بدا لافتا تراجع التمثيل الرسمي الأفريقي في النسخة الثانية للقمة؛ حيث يشارك 27 زعيما أفريقيا فقط من الدول الـ49 المشاركة؛ بينما البقية يمثلها وزراء وسفراء، وذلك بالمقارنة مع النسخة الأولى التي احتضنتها مدينة سوتشي الروسية في 2019، وحضرها 43 من رؤساء الدول والحكومات.
وتأتي القمة بعد أسابيع قليلة من محاولة القادة الأفارقة التأثير في البحث عن السلام بين أوكرانيا وروسيا، حيث سافر وفد منهم إلى موسكو وكييف في منتصف يونيو/حزيران لإسماع صوت القارة في الصراع الذي ألقى بظلاله السلبية على الجميع.
وبعد يومين من الانعقاد في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، تختتم القمة أعمالها اليوم الجمعة، وسط وعود روسية للقادة الأفارقة وأحاديث عن مساعٍ لتشكيل عالم متعدد الأقطاب وسط تعقيدات دولية وأزمات تعاني منها أفريقيا خاصة على مستوى الغذاء والأمن والطاقة.
الغذاء والحبوبتسعى موسكو خلال القمة إلى طمأنة الدول الأفريقية فيما يخص مسألة الحبوب، حيث يُعد اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية على رأس الملفات المطروحة.
وتكمن أهمية الاتفاق الذي انسحبت منه موسكو قبل أيام في كون أوكرانيا وروسيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم، وتعتمد دول القارة بشكل كبير على إمدادات البلدين.
ويترقب القادة الأفارقة مكاسب في قطاع الغذاء خلال القمة، بالنظر إلى ما تظهره مؤشرات وإحصاءات التجارة والأعمال الدولية التالية:
اعتماد غالبية الدول الأفريقية على واردات القمح الروسي والأوكراني؛ فعلى سبيل المثال يعتمد الصومال وبنين اعتمادا كاملا على البلدين، في حين تستورد مصر ما يزيد على 80% من احتياجاتها منهما، تليها السودان بـ75% ثم الكونغو 69% والسنغال 66%، وفق تقارير. بلغت قيمة واردات أفريقيا من القمح الروسي في 2020 حوالي 3 ملايين و500 ألف دولار، وانخفضت في 2021 إلى 3 ملايين و247 ألف دولار، قبل أن تصل في 2022 إلى مليونين و540 ألف دولار. مثّلت واردات القمح الأفريقي عالميا في 2020 حوالي 13 مليونا و166 ألف دولار، وفي 2021 حوالي 16 مليونا و178 ألف دولار، وفي 2022 حوالي 18 مليونا و723 ألف دولار. أما الذرة، فتشير البيانات إلى أن الصادرات الروسية للعام المنقضي بلغت حوالي 33 ألف دولار، وسط تباين في أسعار بقية الحبوب مقارنة في الأعوام الثلاثة.وخلال كلمته أمام القادة الأفارقة، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن روسيا قادرة على تعويض صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أفريقيا، مبديا استعداده لتوريد الحبوب مجانا إلى 6 دول بالقارة في غضون 3 أو 4 أشهر.
وذكر أن هذه الدول هي، بوركينا فاسو، وزيمبابوي، ومالي، والصومال، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وإريتريا، مضيفا أنها ستحصل على ما يتراوح بين 25 و50 ألف طن لكل منها.
وكان بوتين قد تعهّد في مارس/آذار الماضي، بتزويد الدول الأفريقية بالحبوب مجانا في حالة عدم تمديد اتفاق نقل الحبوب عبر موانئ البحر الأسود، وأعلن أن بلاده ستلغي ديونا مستحقة على الدول الأفريقية بقيمة 20 مليار دولار.
الطاقة والأسواق البديلةتمثّل الطاقة مجالا خصبا للتعاون بين الجانبين، فمن جهة تُعد روسيا منتجا رئيسيا للنفط والغاز، ومن جهة أخرى هناك تباين أفريقي بين دول تعاني بشدة في هذا القطاع ودول تزاحم روسيا في سوق الطاقة الدولي خاصة بعد اعتماد الاتحاد الأوروبي على مصادر بديلة للنفط والغاز الروسي.
ومع ذلك، لا يزال الأفارقة يراهنون على الاستفادة من المشاريع النفطية الروسية، وتزويدهم بالخبرات التقنية في إنتاج طاقة نووية للأغراض السلمية كما هو الحال مع مصر.
وعلى الجانب الروسي، ثمة مساع لإعادة توجيه صادرات النفط والغاز بعد إغلاق السوق الأوروبي، وتعزيز التعاون مع دول بينها الجزائر التي تعد من أبرز مصدري الغاز الطبيعي.
ويبدو أن دول أفريقية استفادت من الضغوط الغربية على روسيا في مجال النفط؛ حيث تُبين أرقام وكالة "ستاندرد آند بورز غلوبال" الاقتصادية الأميركية، أن الصادرات النفطية الروسية لأفريقيا، خاصة المشتقات البترولية المكررة، تضاعفت 14 مرة منذ بداية الحرب الأوكرانية أوائل 2022 وحتى نهاية الربع الأول من هذا العام.
وقبل الحرب، تذكر الوكالة أن روسيا كانت تصدر 33 ألف برميل يوميا من المنتجات المكررة إلى أفريقيا ومعظمها بنزين. وبحلول مارس/آذار الماضي وصلت إلى 420 ألف برميل يوميا.
وقفزت الشحنات الروسية بشكل حاد لدى دول نيجيريا وتونس وليبيا، وذلك في فبراير/شباط الماضي، حين فرض الاتحاد الأوروبي حظرا على المنتجات الروسية، وبعد قرارات مستقلة من العديد من الدول الغربية بوقف استيراد النفط الروسي.
وأجبرت هذه العقوبات روسيا على إعادة توجيه كميات كبيرة من صادرات النفط إلى أسواق بديلة، بما في ذلك أفريقيا، إلى جانب الهند والصين وتركيا.
وأمس الخميس، نقلت وكالة تاس الروسية عن وزير الطاقة الروسي نيكولاي شولجينوف قوله إن بلاده بدأت بشحن نفط خام إلى أفريقيا للمرة الأولى هذا العام، وإنها عززت مبيعات المنتجات النفطية إلى القارة بأكثر من 3 أمثالها في الفترة من مطلع العام الجاري إلى مايو/أيار.
روسيا من أكبر موردي السلاح في المنطقة، وخلال عقد وقعت اتفاقيات تعاون عسكري مع حوالي 19 دولة أفريقية، منها مصر والسودان ومالي ونيجيريا، وشملت مقاتلات وصواريخ مضادة للدبابات، وفق تقارير.
وتفوّقت روسيا على الصين كأكبر مورّد للأسلحة لأفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2018 و2022، مع بقاء الولايات المتحدة وفرنسا في صدارة الموردين الرئيسيين عالميا وفي عموم أفريقيا، وفق تقرير صدر في أبريل/نيسان الماضي عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري" (SIPRI).
ومع ذلك، يبدو أن استمرار الحرب الأوكرانية ستدفع إلى الحد من صادرات الأسلحة الروسية، ويرجع ذلك إلى أن روسيا ستعطي الأولوية لتزويد قواتها المسلحة، وسيظل الطلب من الدول الأخرى منخفضا بسبب العقوبات، وزيادة ضغوط واشنطن وحلفائها على من يشتري الأسلحة الروسية.
ولا يقتصر الوجود الروسي في أفريقيا على صفقات التسليح فحسب، إذ إن لديها مجموعة "فاغنر" التي تقول إنها تعمل على نشر الأمن ومحاربة الإرهاب، وإن وجودها بالقارة مرتبط برغبة الحكومات هناك.
وفي المقابل، ينظر مراقبون إلى "فاغنر" باعتبارها تشكيلا من المرتزقة يوفر الأمن لحكام أفارقة مقابل عقود التعدين المربحة، أو مزاحمة النفوذ الأميركي والفرنسي خاصة في دول مثل ليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى.
ترقّب أفريقي
وتعقيبا على سؤال حول آفاق التعاون الأفريقي الروسي، وهل يشهد معوقات في ضوء المشهد الدولي المتشابك والتكالب بين القوى الكبرى على القارة، يشير الأكاديمي المصري والخبير في الشأن الأفريقي بدر شافعي، إلى العديد من فرص التعاون بين الطرفين:
أهم هذه الفرص، وفق حديث شافعي للجزيرة نت، الأمن الغذائي، باعتبار روسيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم. بيد أنّه يشير إلى ترقّب ما إذا كان بوتين سيصدق في عرضه بتقديم هذه الحبوب لأفريقيا بالمجان أو بأسعار تفضيلية. كما يمثل مجالا الطاقة والتسليح فرصا يمكن أن يبني عليها الأفارقة علاقات مع روسيا، وفق شافعي؛ موضحا أن هناك أنظمة أفريقية ليست على وفاق مع الغرب ربما تلجأ إلى موسكو.ومع ذلك، يشير الخبير إلى وجود معوقات أمام هذه التعاون:
أهمها العقوبات الغربية المفروضة على المتعاونين مع موسكو، وقد تخشاها العديد من الدول الأفريقية. وهناك اعتبارات ترتبط بروسيا نفسها، بالنظر إلى كونها دولة غير ديمقراطية، ربما تفرض وصايتها على النظام الذي تسانده كما حدث في الأزمة السورية، فتجعله تابعا لها، مما قد يخلق مخاوف أفريقية من هيمنة روسية محتملة. ويحذّر من كون "فاغنر" من الشركات الأمنية سيئة السمعة التي تتدخل لدعم شرعية نظم مستبدة في حالة عداء مع شعوبها، وقد يؤدي الاعتماد عليها إلى بقاء هذه النظم، لكن مع المس بشرعيتها الشعبية.روسيا تسقط ديونها عن الصومال بقيمة 684 مليون دولار بعد إجتماع بين وزير المالية الصومالي ونائب وزير المالية الروسي بسانت بطرسبغ.
السؤال ماذا تقدم الصومال من تنازلات لروسيا مقابل العفو عم الديون؟#الصومال #روسيا pic.twitter.com/M48Db0QD2D
— SomaliAalp|صومالي آلب (@Somali_Aalp) July 27, 2023
فرص وخلل هيكليومتفقا مع الطرح السابق، يقول المحلل والباحث السوداني في الشؤون الأفريقية عباس محمد صالح، إن الموجة الحالية من التنافس الدولي حول القارة تمثّل فرصة بالنسبة لأفريقيا لتعزيز حضورها الدولي.
بيد أن أفريقيا كقارة، وفق تصريحات صالح للجزيرة نت، تعاني من أوجه خلل هيكلية تمنعها من الاستفادة من التنافس الدولي عليها، وهي عدم القدرة على التحدث بصوت واحد في المحافل الدولية سواء كانت دول أم منظمات إقليمية.
ويكمن التحدي الذي يواجه القارة، وفق صالح، في التعاطي مع الانخراط الروسي وتحديدا أنشطة "فاغنر"، حيث إن دول القارة هشة وضعيفة وتعاني من مشكلات داخلية متأصلة تجعلها قابلة للانفتاح على التعاون مع أي جهة خارجية تقدم نفسها كمزود للخدمات الأمنية التي تحتاجها هذه الدول، إضافة لقابلية أجهزة الأنظمة في هذه الدول للاختراق من قبل الفاعلين الخارجيين في المجال الأمني، كما حدث في نفوذ "فاغنر" في بعض دول القارة مؤخرا.
ويشدد على أن الأمن الغذائي، خاصة اتفاق الحبوب الأوكرانية، مسألة حساسة بالنسبة لأفريقيا، لا سيما بعد انسحاب روسيا من مبادرة الحبوب، بما يفرض تحديا حقيقيا على القادة الأفارقة في التوصل إلى صيغة مع روسيا تحفظ مصالح شعوبهم ودولهم في خضم الصراع الروسي الغربي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: القادة الأفارقة الدول الأفریقیة ألف دولار روسیا من من الدول
إقرأ أيضاً:
المفكر الكبير نصار عبد الله لـ«البوابة نيوز»: تطور الأمم مرهون بتقدمها في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية وليست التكنولوجية فقط.. والموقف المصري من قضية غزة شجاع وبطولي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
موضوعات عدة، ما بين الظروف السياسية والشئون الخارجية وما يحيط بمنطقة الشرق الأوسط، وشبح الحروب المخيمة على المنطقة، وأثر دخولنا لمرحلة الذكاء الاصطناعي الفائق، والعقبات والمشاكل التى تعرقل تطلعات وطموحات العقل العربى الفعال، تحدث الدكتور نصار عبدالله، أستاذ الفلسفة السياسية إلى جريدة «البوابة نيوز»، محللًا الكثير من القضايا برؤية فلسفية متأنية.. وكان لا بد أن يتناول فى حديثه أبعاد الذكريات الرمضانية التى ترتبط بأيام الشهر الفضيل.
يُعد د. نصار عبدالله، نموذجًا فريدًا للمفكر الذي يجمع بين عمق التحليل الفلسفي وجمالية التعبير الأدبي. وتجلى هذا فى مسيرته الأكاديمية والشعرية، تناول فى مؤلفاته الفلسفية قضايا جوهرية تتقاطع مع الفلسفة السياسية، مثل: مسألة الحرب العادلة، وطبيعة العدل الاجتماعي، والعلاقة الجدلية بين القانون الوضعى والأخلاقي، بالإضافة إلى استكشاف العلاقة المعقدة بين الفلسفة والأدب، من خلال هذه القضايا، كما حاول تفكيك المفاهيم التقليدية وإعادة بنائها فى ضوء رؤية فلسفية متكاملة. وفى الموازاة عبَّر عن رؤاه وتأملاته من خلال دواوين شعرية مثل "قلبى طفل ضال"، و"أحزان الأزمنة الأولى"، و"سألت وجهه الجميل"، و"ما زلت أقول"، وغيرها، ما يعكس قدرته على تجسيد الأفكار الفلسفية فى قالب أدبى مؤثر.
ولد "عبدالله" فى البداري بأسيوط، وشهدت مسيرته الأكاديمية مزيجًا فريدًا بين العلوم السياسية والفلسفية والقانونية. تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام ١٩٦٦، فى فترة تاريخية اتسمت بتحولات سياسية وفكرية عميقة، وصراعات تحيط بمصر من دول استعمارية كبرى، فى هذا السياق التاريخي، اتخذ "عبدالله" قرارًا جوهريًا بالتوجه نحو دراسة الفلسفة فى كلية الآداب، حيث تخرج فيها عام ١٩٧١. ومن ثمَّ وسع آفاقه المعرفية بدراسة الحقوق، قبل أن يعود إلى رحاب الفلسفة ليكمل دراسته العليا ويحصل على درجتى الماجستير والدكتوراه، ويستقر أستاذًا للفلسفة السياسية فى كلية الآداب جامعة سوهاج، تعكس هذه المسيرة الأكاديمية المتميزة رؤية فلسفية متكاملة، خاصة وأنه سعى إلى فهم العلاقة الجدلية بين التاريخ والفكر، وبين النظرية والتطبيق. فهو لم يكتفِ بدراسة العلوم السياسية فى سياقها التاريخي، كما حاول تعميق فهمه للواقع السياسى من خلال العدسات الفلسفية والقانونية.
نصار عبدالله: للصيام حكمة تتمثل فى تحمل الإنسان الشدة والضيق بإرادته قبل أن تُفرض عليهالذكريات الرمضانيةحدثنا د. نصار حول بعض الذكريات الرمضانية، وخاصة بعض سلوكيات الأهالي قديمًا فى رمضان، أو سلوكيات الأطفال فى الشهر الكريم.. قائلًا: فى طفولتي كان الإفطار والسحور جماعيًا، العائلة الكبيرة تجتمع فى المندرة، وتخرج صوانى للمندرة من البيت وتحتشد حولها الجموع والمفطرين، وليس أصحاب الصينية فقط، وإنما دعوة عامة لكل عابر سبيل يتصادف وجوده، وهو منظر بهيج افتقدناه، منظر الصوانى وهى تخرج من البيت فى المغربية منظر بهيج وجميل.
ومن ذكريات الطفولة أيضًا: لحظة انتظار آذان المغرب ونحن أطفال، لم يكن هناك صوت مدفع، وننتظر صوت المؤذن، وساعتها تنطلق الأغانى الطفولية "افطر يا صايم على الكشك العايم".
وأضاف أن للصوم حكمة يجب أن يشعر بها الإنسان، وهى فى رأيه "أن الحياة لا تقدم لك ما تريده وعليك أن تمتنع عما هو متاح لك حتى تتعرض لظرف به من الضيق والشدة رغمًا عنك، وعليك أن تعيش الضيق والشدة بقرار منك قبل أن تأتى لحظة ويُفرض عليك هذا الضيق وهذه الشدة".
نصار عبدالله: الحروب تقدم عقلى وتكنولوجى أكثر منه حروب عتاد وأفرادحروب عصر الذكاء الاصطناعى الفائقتناول الحديث مع الدكتور نصار عبدالله التحديات الجديدة التى فرضها عصر التقنية وعصر الذكاء الاصطناعى الفائق، وبدوره رأى أنه "من الممكن أن نطلق عليها حروب من الجيل الخامس أو السادس، بمعنى أنها حروب جيل ما بعد الأجيال التقليدية للحروب، فهى تعتمد بشكل أساسى ورئيسى على التكنولوجيا المتقدمة جدا".
وبحسب "عبدالله" فإن النظرة للجيوش والأسلحة التقليدية سوف تتغير بالضرورة، و"لن يكون للأفراد نفس الدور الذى كان لهم فيما مضى، لأن دور الأعداد يتقلص لحساب مستوى التقدم العقلي، فالحروب تقدم عقلى وتكنولوجى أكثر منه حروب عتاد وأفراد، فأى كان عدد الأفراد من الممكن أن يطيح بهم سلاح يحركه فرد واحد، بدون مجهود".
رأى أستاذ الفلسفة السياسية أن تطور أدوات الحروب يصب فى دمار البشرية، قائلًا: "لو ألقينا نظرة على وسائل الحرب من بداية ظاهرة الحرب، سنلاحظ استخدام الحجارة والعصي، وقدرتها على الفتك محدودة جدًا، فمهما تكاثرت الأعداد كم من القتلى سوف يسقط؟ فالأسلحة تتمثل فى الحجارة المدببة وقدرتها على الفتك محدودة، لكن اختراع البارود والأعيرة النارية يُعد ثورة، لأن أعداد القتلى تزيد، وقدرتها على الفتك كبيرة جدًا. ومع ظهور القنبلة النووية، لم يكن أحد يتصور أن قنبلة واحدة تستطيع أن تقضى على ١٠٠ ألف إنسان، ومبانٍ ومنشآت مدينة بالكامل، وتعتبر قنبلة هيروشيما قزمة بالنسبة للأجيال المتطورة من الأسلحة النووية، وعند مقارنة الأسلحة النووية نجد الفارق يشبه الفارق بين السهم والمدفع، والنتيجة إن أسلحة التدمير أصبحت مروعة وباتت تهدد بفناء الإنسانية فناءً حقيقيًا.
أسلحة التدمير مروعة وتهدد بفناء الإنسانية.. وقوة الردع تعطل نشاط أسلحة الدمار نتيجة الخوف المتبادل بين الدولخطر فناء البشريةوفى تنبيه عام، حذَّر المفكر الكبير من اتجاه البشرية للفناء الحقيقى نتيجة تطور أسلحة الدمار، وتوسع الدول فى امتلاكها دون تعقل أو مسئولية أخلاقية، وبسؤاله: هل هذا يؤكد وجهة نظر الفريق القائل بأن تطور وتقدم البشرية يؤكد أننا نتجه ناحية دمار وهلاك البشرية؟.
أجاب "عبدالله" بأن التطور يُلقى مسئولية أكثر على الدول التى تمتلك هذه الأسلحة، وتتوسع فى تطويرها، ويجعلها أكثر حذرًا من استخدامها للأسلحة التقليدية، هناك خوف متبادل من الردع المتبادل بين الدول.
وشرح المسألة بقوله: إن هذا الردع المتبادل لم يكن موجودًا زمن الأسلحة التقليدية.. الآن باتت الدول تمتلك أسلحة مخيفة ورادعة، ويجب أن تكون مسئولة وحذرة قبل استخدامها، لأن مفهوم الحرب تغير، ولن تكون النتيجة إيذاء فى مقابل إيذاء، بل ستكون هلاك وإزالة فى مقابل هلاك وإزالة، حاليًا فإن الغواصات النووية قادرة على إبادة دول العالم، عندما تتعرض دولها لضربة معينة ستقوم هى بضربة مضادة، وهذا يجعلها قوة رادعة، ويجعلها أسلحة موقوفة الاستخدام، نتيجة للخوف المتبادل.
أكد "عبدالله" فى حديثه أن دولة الاحتلال الإسرائيلى تحتاج لأن تبنى الدول العربية قوة ردع، لأن الردع هو الذى يحفظ السلام ويفرض الشروط، مشيدًا بالموقف المصرى الشجاع فى عرقلتها لخطط دولة الاحتلال الرامية لتهجير الفلسطينيين بمساعدة دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
وقال: يؤسفني أن أقول إن الفارق التكنولوجي بين الدول العربية وبين إسرائيل اتسع جدًا لدرجة أنه لا يوجد رادع حقيقى لأى طرف من الدول التى يعنيها الحق والعدل، ولو وجدت دولة تملك رادع حقيقي ضد إسرائيل لتغيرت المعادلة مع إسرائيل تمامًا.
وتساءل بدوره: ماذا لو كانت إيران مثلًا تمتلك سلاحًا نوويًا مثلما فعلتها باكستان فى غفلة من الزمن، حين باغتت العالم ذات يوم بتفجير نووي، ولم يكن العالم يتوقع أنها ستنجح فى ذلك، فماذا لو نجحت إيران فى ذلك؟ ربما تغيرت نقاط عدة فى المعادلة مع إسرائيل.
وهنا، عند الحديث عن تطور قدرات إيران النووية، كان سؤالنا: أليس امتلاك إيران لسلاح نووى يُعد تهديدًا للعرب ولمنطقة الشرق الأوسط؟. أجاب "عبدالله" بالإيجاب: بالطبع هى تهديد للمنطقة، ولكن أنظر لها بوصفها عدوًا لإسرائيل، والمعنى أنه من المفروض أن يكون هناك طرف يلزم إسرائيل بأن تستجيب للاتفاقيات والمطالب.
شجاعة الموقف المصريوصف المفكر الكبير نصار عبدالله الموقف المصري بالشجاع والحكيم، قائلًا: لا أحد يشك فى الموقف المصري، والمصريون جميعًا من أعلى مستوى لأدنى مستوى يتألمون لما يحدث فى فلسطين، ويدركون عواقب ما يمكن أن يحدث لو أقدموا على المغامرة، لأنها ستكون خسارة كبيرة للفلسطينيين أنفسهم، لذلك أنا أثنى على الموقف المصرى وأراه حكيمًا جدًا، وأكثر البدائل حكمة فى ظل المعادلة الصعبة التى نعيشها الآن. وأكد أن عدم سماح مصر بتهجير الفلسطينيين، هو موقف شجاع امتلكته مصر، وفيه تنتصر مصر، لأنه لا أحد يملك أن يجبرها على غير ذلك.
تطور الأمم مرهون بتقدمها فى مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية وليست التكنولوجية فقطضرورة الفلسفة فى عصر القوةشدد نصار عبدالله على ضرورة الفلسفة فى عصر القوة، وعصر تطور الذكاء الاصطناعي، وأين يكمن دورها، مؤكدًا أنه من الخطأ الكبير تجاهل دور الفلسفة فى النهضة والتقدم.
وبحسب حديثه، فإن الاهتمام العام فى التعليم ينطلق من مفهوم خطأ وهو قلة الاهتمام بالدراسات الإنسانية عمومًا، بما فيها الفلسفة، حتى كانت هناك دعوة لإلغاء أقسام الفلسفة، وترتب عليه انخفاض شديد فى عدد الدارسين لها، ولاحظ عدد الطلبة الذين يدرسون فى قسم الفلسفة ستجدهم قرابة ١٠ طلبة فى الدفعة، وهى ظاهرة على مستوى الجامعات، وهو شكل من أشكال الانبهار الأعمى بالنموذج الغربي، وتجاهل مخيف لإيجابيات النموذج، ومن الكارثة تصور أن العالم الغربى تطور بالتكنولوجيا فقط، وأغفل الدراسات الاجتماعية، هذا تصور خاطئ، فالدراسات الإنسانية لها دور أساسى جدا، والولايات المتحدة من الدول المتطورة تكنولوجيًا وبها العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية، التى تضم عددًا من الأساتذة المتخصصين فى الفلسفة السياسية، يساهمون فى رسم خطوط السياسية الأمريكية، ويضعون بدائل القرار الممكنة أمام رئيس الدولة، أى أن صاحب القرار لا يمكنه أن يستغنى عن مراكز الدراسات الاستراتيجية.
ولفت "عبدالله" إلى أن هناك فرعين من فروع الفلسفة على الأقل، وثيقى الصلة بنبض الحياة، أولهما فلسفة العلم، ومناهج البحث العلمي، لا يمكن الاستغناء عنه لأنه ضرورى لتطور العلم، وثانيهما علم الفلسفة السياسية، الذى يضع القيم والمحددات النهائية لأى دولة تسعى لتحقيقها، ويضعها أساتذة الفلسفة السياسية، وبهذا تظل الفلسفة تمارس دورها، وهذه الحقيقة غائبة عن واضع السياسية التعليمية وصانع القرار التعليمي، ويظن أن العالم يتقدم بالتكنولوجيا وبالتالى نلغى العلوم الإنسانية.
جزء ما من حياة الإنسان داخلي يريد أن يشبعه وجدانيًامعضلة الدين والفلسفة.. ما الحل؟لا يرى د. نصار عبدالله أن ما يثار من مشاكل بشأن الفلسفة والدين هى أزمات معقدة، ويعتقد أنها حدثت فى الماضى لأنها أحيطت بملابسات تاريخية وسياسية أسهمت فى خلق المشكلة.
وفى رأيه، أنها معضلة تحل نفسها مع الزمن، وهى مشكلة لها جوانب سياسية، ومع التطور السياسى ومع ظهور قيادات سياسية لها رؤية شاملة تدرك أبعاد كل فروع المعرفة، سوف تستعيد الفلسفة دورها وهى جديرة به فى ضوء وظيفتها المعاصرة، بوصفها خادمًا للعلم والسياسة، فالتقدم السياسى العام يحل المشكلة بشكل تلقائي.
وقال: أعتقد أن مشكل الدين مع الفلسفة أو مع الإلحاد مثلًا كان مرهونًا بشروط وظروف تاريخية معينة، ومنها أن مكونًا ما حاول أن يكون صاحب السلطة السياسية العليا، وأعتقد أنه مع التقدم السياسى لم تعد هذه المناطحة من جانب المشتغلين بالدين واردة، وهل تعلم أن العالم به نحو ٥٠ أو ٦٠ ديانة مختلفة، ومن الممكن أن تسميها ديانات كبرى، وكل دين يؤمن بأنه الدين الصحيح، وتتفاوت الديانات فى أعداد تابعيها، ولا يمكن أن نقول أن ديانة تمتلك نصف مليون مؤمن هى أقل قيمة من ديانة يتبعها نحو أكثر من مليار إنسان مثل الديانة الهندوكية.
وأوضح أنه فى النهاية يظل جزء ما من حياة الإنسان داخلي، يريد أن يشبعه وجدانيًا، أيًا كان شكله أو بصمته فى الحياة، وأيًا كان نفوذه فى مجرى الأحداث اليومية، نسميه بالعقيدة، أيًا كانت هذه العقيدة.
نصار عبدالله: المشاريع الفلسفية غير قابلة للاستنساخ لأن المشاريع الفكرية تتطور وتتخلق تبعًا للمرحلة الزمنيةاستعادة مشاريع قديمة أم انتاج جديدبسؤاله حول أهمية الدعوات الخاصة بشأن استعادة المشاريع الفلسفية القديمة مثل مشروع ابن رشد التنويري، هل مثل هذه الدعوات مفيدة وفاعلة؟، أجاب قائلًا: فى ظنى لا شيء قابل للاستنساخ، المشاريع الفلسفية غير قابلة للاستنساخ لأن المشاريع الفكرية تتطور وتتخلق تبعًا للمرحلة الزمنية، وتنمو كما ينمو الجسد بشكل مرحلي، خلية وراء خلية إلى أن يتكامل، إنما لا يكفى إعادة إنتاج مشروع فكرى ماضوي.
وقال "عبدالله": أظن أن الابتعاد عن الأسلوب العلمى فى التفكير سبب وجيه لتخلف العقل العربي، وإن غياب التفكير العلمى مؤسف حتى أنه وصل لفئة وظيفتها العلم والتعليم، فتجد إنسانًا يمارس العلم فى معمله بينما لا يترجم هذا لسلوك فى أرض الواقع، ومن المفروض أنه لا انفصام بين ما نؤمن به كعلم وبين ما نمارسه فى الواقع، وعلى الجيل المؤمن بالتفكير العلمى أن يغرس ذلك فى الجيل اللاحق.
الصفحة الأولىحوار المفكر الكبير د. نصار عبدالله