لينينغراد.. حصار دام عامين وجوع قتل 1.5 مليون إنسان
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
حوصرت مدينة لينينغراد من سبتمبر/أيلول 1941 حتى يناير/كانون الثاني 1944، بعد أن اجتاحت القوات الألمانية الأراضي السوفياتية، ضمن عملية سُميت "بربروسا". ودخل الحصار التاريخ لكونه أحد أكثر الأحداث مأساوية في الحرب العالمية الثانية، لما خلفه من خسائر بشرية قدرت بنحو مليون شخص، بينهم 140 ألف طفل، قتلوا خلال 842 يوما من الحصار، بسبب القصف والجوع والمرض وانخفاض درجة حرارة الجسم.
أسس بطرس الأكبر قيصر روسيا الخامس مدينة لينينغراد باسم سانت بطرسبورغ عام 1703، (تم إرجاع الاسم الأصلي للمدينة عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، وكانت تعدّ موقعا إستراتيجيا ومركزا مرغوبا للقوات الألمانية "نافذة على الغرب"، حيث تلتقي ضفة نهر نيفا المستنقعية بخليج فنلندا، ولم تكن ميناء مهما وقاعدة لأسطول البلطيق السوفياتي فحسب، بل كانت أيضا رمزا للثورة السوفياتية.
كانت لينينغراد عاصمة روسيا القيصرية، وموقع الثورة البلشفية عام 1917، ولكونها أيضا تجسيدا للأمة الرّوسية في نظر كثيرين، حظيت المدينة بأهمية واسعة لدى الزعيم الألماني أدولف هتلر في أثناء محاولته تدمير الاتحاد السوفياتي.
غزت ألمانيا منتصف الحرب العالمية الثانية، وتحديدا يوم 22 يونيو/حزيران 1941، الاتحاد السوفياتي، حين أطلق هتلر عملية "بربروسا" لمهاجمة الاتحاد، فضيّق الخناق على لينينغراد، وحوصرت المدينة بالكامل منذ الثامن من سبتمبر/أيلول 1941 وعُزلت عن بقية البلاد.
اندفعت القوات المسلحة الموحدة لألمانيا (الفيرماخت) عبر الأراضي السوفياتية بعد بدء عملية "بربروسا"، واستغرق الوصول إلى أبواب لينينغراد شهرين ونصف شهر، إذ قطع الحلفاء الفنلنديون المدينة عن الشمال بهدف عزل الاتحاد السوفياتي عن بحر البلطيق، الذي يعدّه المؤرخون موقعا إستراتيجيا مهما للغاية بالنسبة لهتلر في أثناء محاولته غزو الاتحاد السوفياتي، من أجل إنشاء مساحة للألمان هناك.
مع سقوط قلعة شليسلبورغ على نهر نيفا، لم تعد لينينغراد متصلة ببقية الاتحاد السوفياتي، إذ انقطعت جميع خطوط الاتصال البرية وكذلك أغلقت خطوط السكك الحديدية التي تربط المدينة بالعالم الخارجي، ومن هنا بدأ "الحصار الطويل" على عكس توقعات النازيين الذين اعتقدوه حصارا سيؤدي بسرعة إلى إسقاط المدينة.
بين سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني 1941، كثفت ألمانيا غاراتها الجوية على لينينغراد، وكان الهدف من القصف إبادة المدينة وإجبار المقاومة على الاستسلام، وهكذا بحلول 31 ديسمبر/كانون الأول 1941 تم إسقاط 3295 قنبلة متفجرة و99 ألفا و717 قنبلة حارقة، إضافة إلى 30 ألفا و154 قذيفة مدفعية على المدينة.
ظلت لينينغراد محاطة بالألمان من الجنوب والفنلنديين من الشمال، وتعرضت عدد من الأماكن الرئيسية بالمدينة إلى الدمار، مثل مستودعات التخزين، وسقائف الإمدادات، ومحطة توليد الكهرباء جنوب المدينة واحتياطي البنزين ومعمل الألبان ومصنع الزبدة وغيرها.
ووجد سكان المدينة أنفسهم معزولين عن جميع مصادر الإمداد، باستثناء ممر صغير لا يعمل بشكل دائم، ويطلق عليه "طريق الحياة" يوجد على بحيرة لادوغا، في وقت كانت فيه احتياطات الأمن الغذائي تكفي لمدة شهر واحد فقط.
موت من الجوع والبردوجدت السلطات السوفياتية في المدينة نفسها عاجزة عن توفير احتياطيات غذاء كافية لأكثر من شهر، فشرعت في تغيير قواعد نظام الإمداد، عن طريق تقديم بطاقات خاصة بالطعام، تضم كل بطاقة حصة من الغذاء اليومي، وكان يتم بموجبها توزيع الكمية اليومية من الخبز حسب حالة حاملها.
عانى سكان لينينغراد أمام هذا الوضع الصعب شدة الجوع والمرض، بسبب تخفيض معدل صرف الخبز اليومي إلى 250 غراما للعمال و125 غراما لغير العمال والأطفال، ويحتوي الخبز على أقل من 40% من الدقيق فقط، في حين أن الباقي عبارة عن خليط من الشعير ونشارة الخشب، الأمر الذي عانى على إثره السكان بشكل كبير من الجوع خاصة في شتاء 1941-1942، إلى أن توفي معظمهم بسبب نقص الغذاء.
لم يكن الجوع وحده سببا في حصد مزيد من الأرواح في لينينغراد، لقد كان للبرد أيضا نصيب من ذلك، إذ كان شتاء عام 1941 متجمدا، وانخفضت فيه درجات الحرارة إلى 38- درجة مئوية في المدينة، فواجه من خلاله السكان صعوبة في تدفئة أنفسهم، مما دفع بهم في بعض الأحيان إلى إشعال الحرائق من أجل التدفئة.
خلف الحصار على لينينغراد أوضاعا كارثية، اختفت فيها أبسط معالم الإنسانية من الوجود، إذ أشارت التقارير إلى تسجيل السلطات السوفياتية لـ2015 حالة اعتقال بتهمة أكل لحوم البشر بسبب المجاعة التي ضربت المدينة، بعد تعرض الجثث للسرقة، وتناول السكان للكلاب والقطط.
ممر الموتحاول الجيش الأحمر السوفياتي في أكثر من مرة خلق ثغرة نحو لينينغراد المعزولة، أملا في نقل بعض المواد الغذائية إليها، وبذلت الحكومة جهودا كبيرة لإنقاذ المدينة، وتم تدريجيا إنشاء طرق الإخلاء والإمداد باتجاه الشرق عبر بحيرة لادوغا.
"ممر الحياة" المتجمد، كما يطلق عليه، أصبح الطريق الوحيد الذي يعتمده المسؤولون السوفيات لنقل الإمدادات نحو لينينغراد المحاصرة، فعندما تتجمد البحيرة يصبح الجليد سميكا بدرجة كافية تسمح بتلبية بعض حاجيات الإمداد، وتساعد على إجلاء الآلاف من المدنيين، معظمهم من الأطفال والأيتام، لكنه سرعان ما تحول إلى "ممر موت"، إذ تبلغ مسافة السير عليه 160 كيلومترا، مما قد يعرضه للانهيار في أي لحظة بسبب ثقل الشاحنات وقصف طائرات القوات الجوية النازية، التي كانت تسيطر على سماء الممر، مما كان يعرض غالبية مستعملي هذا الطريق إلى الموت.
فك الحصاركان لهجوم "لينينغراد-نوفغورود" الذي أطلقه قوات الجيش الأحمر يوم 14 يناير/كانون الثاني 1944، وانضمام قوات جنرالات الجيش الأحمر ليونيد غوفوروف وكيريل ميريتسكوف يوم 25 يناير/كانون الثاني، دور كبير في كسر الحصار ودحر القوات النازية.
وما إن تمكن السوفيات من فتح معبر بري إلى المدينة، حتى أجبرت الفيرماخت على التراجع، وفُك الحصار كليا عن المدينة يوم 27 يناير/كانون الثاني 1944، ليتم الإعلان عن تحرير لينينغراد رسميا بعد 842 يوما من الحصار.
وقدرت خسائر هذا الحصار بنحو مليون قتيل، نتيجة الجوع والبرد والمرض، وبعد انتهاء الحصار لم يتبق من سكان لينينغراد -الذين كان عددهم 2.5 مليون نسمة- سوى 600 ألف شخص.
صيف عام 1942، عانى سكان لينينغراد الجوع والمرض والبرد، وغياب المياه، التي تفرض ضرورة قطع عدد من الكيلومترات إلى جليد نهر نيفا في ظل انعدام وسائل النقل، والقيام بالحفر من أجل استخراجها تحت شدة الحصار والقصف الألماني، وفي ظل السياق الستاليني القمعي.
رغم كل ذلك، فإن الحياة اليومية استمرت في لينينغراد، لا سيما الحياة الثقافية، ففتحت المكتبات والمسارح وقاعات الحفلات الموسيقية على نحو متقطع، وتمكنت الأوركسترا من أداء سيمفونية جديدة للملحن ديمتري شوستاكوفيتش، وبثتها في جميع أنحاء المدينة.
انتهت البروفة الأولى بعد 15 دقيقة فقط، حيث لم يكن لدى المجموعة الصغيرة من الناجين سوى القليل من الطاقة، يقول قائد الأوركسترا السوفياتي المولد سيميون بيتشكوف: "كانت تلك الأوركسترا تتألف من عازفين كانوا ضحايا القصف والجوع والمجاعة، وكانوا بالكاد قادرين على حمل آلاتهم الموسيقية للعزف"، وقدم أحد عازفي البوق إلى إلياسبيرغ اعتذارا عميقا بعد عدم تمكنه من إنتاج نغمة واحدة.
كتب ديمتري شوستاكوفيتش سيمفونيته الشهيرة رقم 7، وعزفها موسيقيون بالمدينة المحاصرة في أغسطس/آب 1942، وقال عنها الملحن "أردت أن أكتب عملا عن رجال بلادنا، الذين سيصبحون أبطالا في المعركة التي يخوضونها ضد العدو باسم النصر".
واعتبر كثيرون هذه السيمفونية عملا من أعمال المقاومة ضد الغزو النازي، وسرعان ما جعلها ستالين والسوفيات أداة للدعاية، وأحد رموز "الحرب الوطنية العظمى".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات الاتحاد السوفیاتی الجوع والمرض
إقرأ أيضاً:
بروكسل تستضيف وزير الخارجية السوري.. وألمانيا تدعم سوريا بـ300 مليون يورو
عقب زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بروكسل لبحث آخر التطورات السياسية والاقتصادية، وقبيل انطلاق مؤتمر المانحين الذي ينظمه الاتحاد الأوروبي، أعلنت ألمانيا عن تقديم مساعدات إضافية بقيمة 300 مليون يورو لدعم السوريين عبر الأمم المتحدة ومنظمات دولية مختارة.
وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، اليوم الإثنين، إن أكثر من نصف هذه المساعدات سيتم تخصيصها للأشخاص داخل سوريا، مؤكدة أن تنفيذ هذا الدعم سيتم دون التنسيق مع الحكومة الانتقالية في دمشق. وأضافت أن المساعدات تشمل توفير الغذاء والخدمات الصحية والمأوى الطارئ، إلى جانب إجراءات حماية للفئات الأكثر ضعفًا. كما ستتلقى مجتمعات اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان والعراق وتركيا جزءًا من هذه المساعدات.
وأكدت بيربوك مجددًا على أهمية التوصل إلى حل سياسي شامل لضمان مستقبل سلمي في سوريا، داعية الحكومة الانتقالية في دمشق إلى فتح تحقيق في عمليات القتل الجماعي التي استهدفت مئات المدنيين في القرى العلوية، ومحاسبة المسؤولين عنها.
وفي تطور لافت، يشارك وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في مؤتمر الاتحاد الأوروبي حول سوريا في بروكسل، ليكون بذلك أول ظهور رسمي للحكومة الانتقالية على الساحة الأوروبية منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
ويجمع المؤتمر كبار المسؤولين الأوروبيين، بما في ذلك رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وكايا كالاس الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، ووزراء خارجية الاتحاد الأوروبي. وتركز المناقشات على الانتقال السياسي في سوريا، ودعم التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار بعد أكثر من 14 عامًا من الحرب الأهلية.٦
ووفقًا لمسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي، يسعى التكتل إلى الإعلان عن تمويل إضافي لمساعدة سوريا في "فتح صفحة جديدة من تاريخها"، ويجري النظر في دور محتمل لبنك الاستثمار الأوروبي (EIB) في تمويل جهود إعادة الإعمار، التي قد تصل تكلفتها إلى ما بين 230 و370 مليار يورو.
Relatedفانس: الهجرة غير الشرعية تهدد الغرب.. والسلام في أوكرانيا "على الطاولة""عدّت على خير".. الشرع يطمئن السوريين ويدعوهم للوحدة الوطنيةكاتس يحذر الشرع: "الجيش الإسرائيلي يراقبك من جبل الشيخ كل صباح"مخاوف أوروبية من تفاقم الأزمة الإنسانية وتصاعد العنف الطائفيومع استمرار معاناة السوريين من نقص حاد في الكهرباء والمياه واحتياجات إنسانية ملحّة، عبّر مسؤولون أوروبيون عن قلقهم من تأثير قرار الإدارة الأمريكية بتجميد المساعدات، مما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة.
وفي خطوة لدعم الاستقرار الاقتصادي، قام الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي برفع عقوبات عن قطاعات حيوية تشمل الطاقة والنقل والقطاع المالي، بينما لم تتخذ الولايات المتحدة خطوات مماثلة حتى الآن.
وبرغم الدعم الأوروبي للحكومة الانتقالية، إلا أن تصاعد العنف الطائفي في مناطق الساحل السوري، معقل التأييد السابق للأسد، يثير مخاوف بشأن هشاشة الوضع الأمني.
وأفادت تقارير بأن جماعات مسلحة مرتبطة بالحكومة الجديدة نفذت إعدامات خارج إطار القانون راح ضحيتها أكثر من 800 شخص في ردّ على هجمات شنتها فلول قوات الأسد. وأكدت الأمم المتحدة مقتل 111 شخصًا في ما وصفته بـ"إعدامات طائفية" استهدفت مناطق ذات أغلبية علوية.
وأعلن أحمد الشراع، الرئيس الانتقالي لسوريا، عزمه تشكيل لجنة تحقيق مستقلة لكشف ملابسات هذه الجرائم، في حين دعت بروكسل إلى إجراء تحقيق سريع وشفاف ومحايد.
بارقة أمل لمستقبل جديد للشعب السوري ملؤه السلام والأمنهل يعود السوريون في المهجر إلى بلادهم؟يتناول المؤتمر أيضًا مستقبل الشتات السوري في أوروبا وإمكانية عودتهم إلى وطنهم. ويدرس الاتحاد الأوروبي إطلاق برامج لزيارة استطلاعية تتيح للسوريين تقييم الوضع في بلادهم دون فقدان وضعهم القانوني في دول المهجر.
ووفقًا لمسح أجرته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فإن 27% من اللاجئين السوريين خارج بلادهم أعربوا عن رغبتهم في العودة خلال العام المقبل، مقارنة بـ2% فقط قبل سقوط النظام السابق.
ومع استمرار المفاوضات في بروكسل، يراقب المجتمع الدولي عن كثب مدى قدرة الحكومة الانتقالية السورية على تحقيق الاستقرار ومعالجة التحديات السياسية والاقتصادية، وسط آمال بإعادة بناء البلاد بعد سنوات من الصراع والمعاناة.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية بين إعادة الإعمار وتحقيق العدالة... كيف يمكن للاتحاد الأوروبي دعم مستقبل سوريا؟ مجلس الأمن يدين "عمليات القتل" في سوريا ويطالب بحماية المدنيين التحقيق في مجازر الساحل: خطوة نحو العدالة أم مناورة لتجنب العقوبات؟ سورياألمانياالمفوضية الأوروبيةالاتحاد الأوروبيالمساعدات الإنسانية ـ إغاثةبلجيكا