العلوم الإنسانية دليلا للفتوى عند محمد البهي
تاريخ النشر: 28th, July 2023 GMT
محمد البهي العالم الأزهري الذي جمع بين تخصص الفكر الإسلامي، وتدريس علم النفس والفلسفة في جامعة الأزهر، وقد أصدر فتاوى تقع في 4 أجزاء، تحدثنا في مقالنا السابق عن نظرة عامة عليها، وعن مميزاتها، وهو نموذج لأصحاب الفتاوى الذين اشتغلوا بالعلوم الإنسانية، ولم تقف علاقة البهي عند دراسة العلوم الإنسانية والاشتغال بها فقط.
بل رأيناه يوظف هذا الكم المعرفي للعلوم الإنسانية في الفتوى، فأحيانا يرتكز في التحريم أو الإباحة أو الكراهة الفقهية، بناء على ما لاح له من جوانب علم النفس أو الاجتماع من خلال السؤال الموجه له، بل وأحيانا يلتفت للنص التشريعي من القرآن أو السنة النبوية، فيخرج بمعان مهمة فتح عليه فيها هذا الباب للفهم: اطلاعه على العلوم الإنسانية.
وهناك نماذج كثيرة جدا في فتاواه ذات الأجزاء الأربعة، والتي بلغت: (469) فتوى، قامت هذه الفتاوى من حيث الأسئلة والأجوبة، بتشريح المجتمع المصري، وببيان جوانب مهمة من الفكر الإسلامي حين يستفيد من العلوم الإنسانية، وسوف نتحدث في هذا المقال عن هذا الجانب تحديدا، ذاكرين نماذج لهذه الفتاوى، التي ارتكز فيها البهي على علم النفس والاجتماع، سواء في تحليل السؤال الموجه له، أو من خلال إجابته عنه، أو من خلال اختياره النصوص التي يستدل بها للفتوى، أو فهمه لخفايا النص الشرعي.
إذا آمن الإنسان بهداية الله وفي مقدمتها عدم الإيمان بمؤثر خارجي وبفاعل سوى الله وحده استنارت نفسه، واندفع إلى العمل والحركة الإيجابية بالحياة ونحى عنه الوساوس والأوهام والخرافات
العلاج النفسي بالزارمما كان منتشرا في بلادنا العربية، وبخاصة مصر منذ فترة، ما يسمى بـ(الزار)، وهو حفل يقوم به مدعي العلاج الروحي من الجن والشياطين، لإخراج ما بالإنسان من هموم وأحزان، وقد سألت فتاة محمد البهي سؤالا: "أنا فتاة عمري 28 عاما، مصابة بعقدة نفسية: خوف ووهم ووسوسة ووجع في الرأس وعدم زواج. وقيل لي: إن علاج هذه الأحوال هو: الزار، وقد جربت العلاج الروحي وهو يطول، وأنا أريد علاجا سريعا".
أجاب البهي، بذكر النصوص التي تنهى عن ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى، ولا غول، ولا صفر"، لكنه وضع النصوص في إطار التحليل النفسي والاجتماعي لما تمر به السائلة، وما يقوم به من يعملون (الزار) للمرضى، فقال: "والزار كوسيلة من وسائل العلاج النفسي -كما يدعى- يقوم على الاعتقاد في الغيلان (أي العفاريت) وعلى اتصالها ببدن الإنسان وتقييد حركته، ودفعه إلى خير الأوهام والوساوس. وهو اعتقاد باطل يحرمه الإسلام تماما، وما يأتي به من يعمل له الزار: من الحركات العصبية والهستيرية: يأتي بها وهو تحت تخدير الوهم وحده. وكذلك الراحة النفسية التي يتصور أنه يحس بها بعد التعب من هذه الحركات: هي راحة يلعب فيها الاعتقاد الباطل دورا رئيسيا".
ثم بيّن البهي أن الأساس للعلاج ينبع من داخل الإنسان، وعلاقته بربه، فقال: (والحديث بنهيه عن (الغول) والاعتقاد فيه: ينفي حقيقته، ويؤكد: أن لا شيء من ذلك في حياة الإنسان.
ومعنى هذا: أن طريق الحياة مفتوح للناس.. وأن لا عقبة فيه سوى ارتكاب الخطيئة.. وأنه لا شيء يقيد حركة الإنسان في طريق الحياة، غير نفس الإنسان ذاته.
فإذا آمن الإنسان بهداية الله -وفي مقدمة هذه الهداية: عدم الإيمان بمؤثر خارجي وبفاعل غير الذات في حياة الإنسان، سوى الله وحده- استنارت نفسه، واندفع بقوة الإيمان إلى العمل الجدي.. والحركة الإيجابية في حياته.. ونحى عنه: الوساوس، والأوهام، والخرافات).
تحريم العادة السرية بالأثر النفسيمن الفتاوى التي يتضح فيها بجلاء ارتكاز البهي في الفتوى على العلوم الإنسانية، أنه في فتوى عن حكم العادة السرية، وقد كان السائل شابا، يقول "أما العادة السرية، فعلى رغم ما يؤكده بعض الأطباء من أنها ليست ضارة بصحة المراهق أو المراهقة، على نحو ما يردده الكثيرون، فإنها لا شك مصدر لتوتر الأعصاب، والاضطراب النفسي، والضعف البدني ولو لفترة ما قد تطول وقد تقصر، وفي ذلك ما يعوق النمو الطبيعي للمراهق أو المراهقة ونمو ملكاته وطاقاته".
ويكمل "والمباشر لهذه العادة يرهق نفسه في استحضار صورة الشخص الآخر في خياله، ويحرص على بقائها فيه إلى أن يفرغ من رغبته، ولديه الحرية في أن يكرر هذه العادة عدة مرات في اليوم طالما يقدر على ممارستها".
وإذا كانت هذه العادة تنطوي على إرهاق نفسي، وتكرارها في حرية يزيد من هذا الإرهاق فإنها على الأقل غير مقبولة عند الله، إذ هي وإن كانت لا تنطوي على اعتداء على حرمة شخص آخر، وعلى حق المجتمع، كالزنا مثلا، فإن فيها مساسا بنفس الإنسان، الذي يباشرها، عن طريق التركيز في التخيل واستحضار صور الآخرين استحضارا ذهنيا، مما قد ينشأ عنه ضعف في طاقات الإنسان العقلية.
فإذا ضُم إلى هذا السبب سبب آخر يتأكد من جانب الإخصائيين بضرر هذه العادة على الأعصاب أو على بعض أجهزة البدن، فإن مباشرة العادة السرية عند من يتعرض لهذا الضرر بأقوال أهل الخبرة من المؤمنين، يكون حراما، لأنه يوصل إلى ضرر، وحل تصرفات الإنسان مرتبط ارتباطا وثيقا بعدم جلب الضرر للذات، أو الإضرار بالغير.
فنحن نلاحظ هنا أن البهي لم يأت بالنصوص التي يسوقها الفقهاء في قضية العادة السرية، وهي نصوص قد يتفق أو يختلف معها من حيث صلاحيتها للتحريم، أو الخلاف بين الفقهاء في المسألة، وحالة الضرورة، وحالة الضرر فيها، ولكنه اتجه اتجاها آخر فذهب للعامل النفسي، وأثره على الإنسان، فاتخذه مدخلا ليس للإجابة عن السؤال فقط، بل للعلاج نفسه.
العامل النفسي في حرمة خِطبة المسلم على المسلمألمحت إلى أن البهي كان يوظّف العلوم الإنسانية في فهم بعض النصوص، عند إجابته عن أسئلة، قد تتجه عقلية المفتي إلى جانب واحد في النص، ومن ذلك: أن سائلا سأل البهي: "خطبتُ لابني إحدى الفتيات، وألبسها الخطيب الشبكة، وقرأنا الفاتحة، واتفقنا مع وليها على المهر، ثم جاء آخر وخطبها لنفسه، مع علمه أنها مخطوبة، ولحالته الاجتماعية والمالية قبلوه، وعقدوا العقد معه، فما حكم هذا؟".
غالبا معظم الفتاوى تتجه للحديث عن الذي خطب على خطبة أخيه، والذي ورد فيه الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنهي، "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه"، فإذا بمحمد البهي يتناول الحديث تناولا لا يبدو من ظاهر الحديث، بل يبدو من طرف خفي، استلهمه البهي من دراسته النفسية والإنسانية، فقال البهي:
"وإذا كان ظاهر الحديث: أن الحرمة واقعة على الخاطب الجديد وحده، لكن فيما أرى هي واقعة كذلك على أهل المخطوبة معه. لأن الإيذاء المعنوي على الأقل -وهو متوفر هنا بسبب الفرق بين الخاطب القديم والخاطب الجديد في المركز الاجتماعي والمالي- هذا الإيذاء الذي من شأنه أن يلحق الخاطب السابق: لا يتم إلا بموافقة ولي أمر المخطوبة على التنازل عنه، وعلى قبوله الجديد بدلا منه، وهذا العمل يشبه عملية: (الخطف)، فأهل المخطوبة يغريهم الوضع الاجتماعي والمالي للرجل الثاني فيحرصون على خطفه وتسريح الأول. ولو بدا لهم أثناء الخطبة: من هو أحسن في الوضع من الثاني، لآثروه بالخطبة وسرحوا الثاني كذلك.. وهكذا).
المهر تعبير عن رغبة نفسية في المرأةوصل سؤال لمحمد البهي في فتاواه، من فتاة تسأله: خطيبي شاب أحبه، ووافق أهلي ودفع المهر، ولكن أمي أنكرت المهر، لأنها تريد زواجي من ابن عمي الذي لا أريده، فما حكم الإسلام؟
وقد كان يمكن البهي أن يجيب هنا بحكم جحد الأم للمهر الذي دفعه الخاطب، ومدى حرمة ذلك، من عدة جهات، ولكنه ذهب في الإجابة للتمهيد أولا عن فلسفة الإسلام في المهر، وختم فتواه في فقرة قصيرة عن حكم ما فعلته الأم، لكنه أطال في بيان نظرة الإسلام للمهر، ومصوّبا نظرة بعض من يتحدثون عن الزواج في الإسلام، معتمدين على كتب الفقه التي هي أشبه بكتب القانون، إذ تتحدث عن الجانب المادي في عقد الزواج.
فبدأ البهي بنفي الجانب المادي عن الزواج فقال: "الزواج في الإسلام ليس تجارة، وعقده ليس عقد صفقة من الصفقات تخضع للمزايدة، والمهر فيه ليس إلا عنوانا ظاهرا على الرغبة النفسية من جانب الرجل. ولم يكن ثمنا كما يحاول بعض المشتغلين بالفقه أو بعض الغرباء عن الإسلام أن يصوروه".
قاعدة مهمة للدكتور البهي وهي أن سبيل الخير إذا صار سبيلا لهدم الأسرة أو لإضعافها، يصبح مصدر شر يجب تجنبه
وعندما يذكر القرآن الكريم في قوله تعالى: "وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا" (سورة النساء/ 20-21).
ثم خرج البهي من النص القرآني بمعنى مهم يخالف ما يستدل به الكثيرون على جعل الزواج والاستمتاع بها مقابل المهر، فيقول: (ثم تشير الآية الثانية منهما وهي: (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) إلى ما قد يفهم منه أن القرآن ينكر على الأزواج استرداد المهر من زوجاتهم عند مفارقتهن بسبب حصولهم بالفعل على المقابل بعد الدخول بهن… فإن هذه الآية لم تقصد إطلاقا إلى أن عدم المطالبة برد المهر هو سبب الدخول بالزوجة. وإنما تقصد فقط إلى توبيخ من تسول له نفسه المطالبة برد المهر في هذه الحالة، وإلى أن ذلك لا يليق بما يجب أن يكون عليه الزوج من المستوى الإنساني الفاضل المطلوب من الزوج وهو ما ورد في آية أخرى في قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (سورة البقرة/ 229).
إذ الإحسان هو حسن المعاملة والتهذيب في السلوك، وليس في المعاملة الحسنة والسلوك الإنساني الكريم أن تشح نفس الزوج فيطالب زوجته بالمهر، وقد أفضى كل منهما إلى الآخر ووقف على سره وسر نفسه يوما ما.
التوقف عن عمل خير يهدم أسرةوفي سؤال وجّه للبهي، عن رجل يساعد أسرة فقيرة، لظروف مالية ألمت بعائلها، ولكن مساعدته لهم، جعلت الزوج يغار وسوف تؤدي هذه الغيرة إلى مشكلات عائلية قد تنتهي بالطلاق، فإذا بالبهي يختم فتواه، بهذه القاعدة المهمة في هذا الباب: (إن سبيل الخير إذا صار سبيلا لهدم الأسرة، أو لإضعافها، يصبح مصدر شر يجب تجنبه)، لينصحه بالتوقف عن المساعدة التي ستدخل الشيطان لهذا البيت، وإن كانت النية خيرا، لكن الآثار المترتبة على ذلك ليست من الخير.
النماذج التي ذكرتها من فتاوى محمد البهي (رأي الدين.. بين السائل والمجيب)، هي للتدليل على استناده في الفتوى على العلوم الإنسانية، وهذا الملمح مبثوث بشكل لا ينقطع عن معظم فتاواه، سواء كانت متعلقة بالجانب الاعتقادي، أو الجانب السلوكي، أو جانب المعاملات، وهو ما نفرده بالحديث في مقالاتنا المقبلة إن شاء الله، ونبدأ فيه بالجانب العقدي، وارتكاز البهي مع الأدلة الشرعية، على العلوم الإنسانية في الإجابة عن الفتاوى المتعلقة بالعقيدة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: على العلوم الإنسانیة إلى أن
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: الإمام أحمد الطيب .. خمس سنوات من ترسيخ الأخوة الإنسانية والتسامح
تحل الذكرى الخامسة لتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، التي شكلت علامة فارقة في مسيرة الحوار بين الأديان، وساهمت في إرساء مبادئ التفاهم والتعاون بين مختلف الشعوب والثقافات.
في هذا السياق، يبرز دور فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، كأحد الشخصيات الدينية العالمية التي كرست جهودها لتعزيز قيم التسامح والسلام، ليس فقط من خلال المبادئ والخطابات، بل عبر مبادرات عملية تعكس التزامًا حقيقيًا بترسيخ هذه القيم على أرض الواقع.
منذ توليه مشيخة الأزهر، أدرك الإمام الطيب أن العالم الإسلامي والعالم أجمع في حاجة ماسة إلى بناء جسور التفاهم بين الأديان والثقافات، وأن الحوار بين الحضارات هو السبيل الأمثل لتعزيز التعايش السلمي.
جاءت وثيقة الأخوة الإنسانية، التي وُقّعت في 4 فبراير 2019 برعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، كتتويج لهذه الجهود، حيث وقعها الإمام الطيب إلى جانب قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، في خطوة أكدت على أن الإنسانية بمختلف أديانها ومذاهبها يمكن أن تتوحد حول قيم السلام والتعاون، بدلًا من الصراع والانقسام.
لم تكن الوثيقة مجرد بيان نظري، بل أصبحت خارطة طريق عالمية تدعو إلى نشر ثقافة الاحترام المتبادل، ونبذ العنف، ومواجهة التعصب والتطرف، والعمل على تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر. ومنذ توقيعها، استمرت جهود الإمام الطيب في دعم هذه المبادئ، من خلال لقاءاته الدولية، وحضوره الفاعل في المؤتمرات العالمية التي تسعى إلى إرساء قيم التفاهم المشترك.
على المستوى الوطني، لم تتوقف جهود شيخ الأزهر عند حدود تعزيز الحوار بين الأديان على الصعيد الدولي، بل تجسدت أيضًا في مبادرات داخل المجتمع المصري لتعزيز روح المواطنة والتسامح. ولعل أبرز هذه المبادرات هو مشروع “بيت العائلة المصرية”، الذي أسسه الإمام الطيب بالتعاون مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بهدف تعزيز الوحدة الوطنية، والتصدي لمحاولات بث الفرقة بين المسلمين والمسيحيين. يعتمد بيت العائلة المصرية على حوار مؤسسي بين ممثلي الديانتين، ويعمل على نشر ثقافة التعايش السلمي، وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي قد تؤدي إلى التوترات المجتمعية.
في السياق ذاته، تبنّى الإمام الطيب عددًا من المبادرات الاجتماعية التي تهدف إلى تحقيق التكافل بين أفراد المجتمع، مثل مبادرة “بداية”، التي تسعى إلى دعم الفئات الأكثر احتياجًا، وتحسين مستوى المعيشة، وإيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على استقرار المجتمعات. هذه الجهود تعكس رؤية الأزهر للتسامح بوصفه مفهومًا عمليًا، يتجاوز الأطر الدينية إلى الممارسات اليومية التي تعزز قيم التعاون والمساواة بين الأفراد.
على الصعيد الإسلامي، كان الإمام الطيب من أبرز الداعمين لفكرة تجديد الخطاب الديني، من خلال دعوته إلى قراءة النصوص الدينية برؤية معاصرة منفتحة، تحافظ على ثوابت الدين، لكنها تواكب التحولات التي يشهدها العالم. من خلال رئاسته لمجلس حكماء المسلمين، الذي تأسس عام 2014، قاد العديد من المبادرات التي تهدف إلى تعزيز السلم في العالم الإسلامي، ومعالجة التحديات الفكرية التي تواجه المجتمعات الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالتطرف والعنف باسم الدين. في هذا الإطار، قاد الإمام الطيب عدة جولات حوارية بين الشرق والغرب، التقى خلالها بزعماء دينيين ومفكرين عالميين، بهدف مد جسور التفاهم، والتأكيد على أن الإسلام دين سلام وتسامح، لا صراع وعداء.
رؤية الإمام الطيب للأخوة الإنسانية تتجاوز كونها مفهومًا نظريًا أو خطابًا دينيًا، بل هي مشروع مجتمعي يهدف إلى بناء مستقبل يقوم على الشراكة بين الأديان والثقافات، ويُكرس قيم العدالة والاحترام، ويُحقق التوازن بين الانتماء الديني والوطني. وهو يؤكد دائمًا أن التنوع الديني والثقافي ليس تهديدًا، بل هو عنصر إثراء يجب استثماره في بناء مجتمعات أكثر استقرارًا وانفتاحًا.
هذه الرؤية تجسدت عمليًا في الدور الذي لعبه الأزهر في مواجهة خطاب الكراهية والتطرف، من خلال منصاته الإعلامية والتعليمية، وبرامج التدريب الديني التي تهدف إلى نشر الفكر الوسطي، وتعزيز الفهم الصحيح لقيم الإسلام.
مع مرور خمس سنوات على توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، يتضح أن هذا المشروع لم يكن مجرد مبادرة رمزية، بل أصبح إطارًا مرجعيًا عالميًا لتعزيز الحوار والتسامح. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر لا يزال يتمثل في كيفية ترجمة هذه المبادئ إلى واقع عملي، ينعكس في سياسات الدول، وأنظمة التعليم، ومناهج التفكير الديني والثقافي. هنا، تتجلى أهمية مواصلة الجهود التي يقودها الإمام الطيب، لضمان استدامة هذا النهج، ونقله إلى الأجيال القادمة باعتباره ضرورة مجتمعية، وليس مجرد خيار فكري.
إن العالم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج إلى شخصيات دينية وفكرية تمتلك الشجاعة الأخلاقية والإرادة الحقيقية لتعزيز قيم التعايش والاحترام المتبادل.
الإمام الطيب قدم نموذجًا رائدًا في هذا السياق، ليس فقط من خلال مواقفه وكلماته، بل من خلال المبادرات التي تركت أثرًا حقيقيًا في المجتمعات.
إن استمرار هذه الجهود يتطلب دعمًا مشتركًا من الحكومات، والمؤسسات الدينية، والمجتمع المدني، لضمان أن تبقى الأخوة الإنسانية نهجًا مستدامًا، وليس مجرد لحظة تاريخية عابرة.
إذا كان الماضي قد شهد صراعات دينية وثقافية تسببت في أزمات متتالية، فإن المستقبل يمكن أن يكون مختلفًا إذا ما التزم الجميع بمبادئ الحوار والتفاهم، وهي المبادئ التي دافع عنها الإمام الطيب، وجعلها جزءًا أساسيًا من مشروعه الفكري والديني. إننا أمام مسؤولية تاريخية لترسيخ هذه القيم ونقلها إلى الأجيال القادمة، لضمان أن يكون التسامح والتعايش ثقافة سائدة، لا مجرد شعارات تُطرح عند الأزمات.
المضي قدمًا في تعزيز الأخوة الإنسانية لم يعد خيارًا، بل هو ضرورة تفرضها متغيرات العصر، وحتمية لبناء عالم أكثر استقرارًا وعدلًا. إن خمس سنوات من الجهود التي بذلها الإمام الطيب في هذا المجال تؤكد أن التسامح ليس مجرد قيمة دينية، بل هو أساس لمجتمع عالمي أكثر تكاملًا، حيث يجد كل إنسان مكانه، ويحظى بفرصة العيش بكرامة وسلام.