أقوى جيش في المنطقة ينتصر على مستشفى!
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
قبل شهور قليلة كانت المنطقة تُهيَّأ لحفل كبير ينصب فيه أقوى جيش في المنطقة ليتسلم راية حماية المنطقة وإدارتها بالنيابة. الولايات المتحدة كانت تخططّ للانسحاب التدريجي من المنطقة، بشكل جزئي، لتتفرغ للتحديات الإستراتيجية الكبرى هناك في شرق الكرة الأرضية في بحر الصين الجنوبي، لاسيما أن المنطقة هنا تعاني من أزمات مزمنة وغير قابلة للحل، ولكنها تحت السيطرة.
لتحقيق هذا الهدف الكبير اشتغلت الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات على برنامج طويل الأمد؛ لإعادة تصميم المنطقة بما يحقق الهدف والحفاظ على مصالحها الإستراتيجية، فالمنطقة فيها أهم الممرات الإستراتيجية وجزء كبير من مصادر الطاقة العالمية.
انقلاب على التاريخولإنجاز هذه المهمة عملت الولايات المتحدة على أكثر من جبهة، فمن ناحية اشتغلت على خلق وتعزيز البديل "الكيان الصهيوني"، ودعمه بكل الوسائل الممكنة؛ ليتمكن من ملء الفراغ وقيادة المنطقة بالإنابة، ومن ناحية أخرى عملت على خلق أعداء افتراضيين في المنطقة، مما يبقي دولها وشعوبها في حاجة دائمة للحماية.
ومن ناحية ثالثة كان لا بدّ من برنامج عمل يدمج الكيان في المنطقة وتنصيبه المسؤول عن حمايتها بالإنابة؛ باعتباره الجيش الأقوى في المنطقة، وقنواته مفتوحة على القوى العظمى بلا حدود إن لزم الأمر، فأطلقت مشروع "اتفاقيات أبراهام"، وهو مشروع عابر للإدارات الأميركية، ويتجاوز فكرة التطبيع التقليدية، إلى إعادة تعريف المنطقة وبرمجتها على أسس جديدة، فهو انقلاب حقيقي على تاريخ المنطقة، وقيمها الجمعية، لصالح الدولة الوطنية الفردية التي تبحث عن مصالحها الذاتية بعيدًا عن المصالح المشتركة للمنطقة وشعوبها ومستقبلها.
وفي اللحظات التي كادت الولايات المتحدة، تعلن عن موعد الحفل الختامي للمشروع، جاءت معركة 7 أكتوبر/تشرين الأول المجيدة؛ لتقلب الطاولة وتخلط الأوراق في وجه الجميع.
من أهمّ ما أنجزته هذه الجولة مع العدو أنها أثبتت – بما لا يدع مجالًا للشك – هشاشة هذا الجيش الذي يدعي أنه الأقوى في المنطقة، وأنه غير قادر على حماية نفسه، فضلًا عن أن يحمي غيره. قد يكون ما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول عملية استثنائية، وأُخذ جيش الكيان على حين غرة، واستطاعت المقاومة خداعه، ولكن أن يفشل على مدار 6 شهور في إخضاع قوة عسكرية مقاومة محاصرة في قطاع صغير، وتمتلك أسلحة خفيفة، فضلًا عن أن يحطّمها كما أعلن في اليوم الأول للعدوان، فهذا فشل إستراتيجي مركّب، لا سيما أنه تلقى دعمًا – غير محدودٍ – عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا ودبلوماسيًا، وحماية من الملاحقة، من كبرى القوى على المستوى الدولي.
جيش بلا قيم أخلاقيةليس هذا فحسب بل أثبت أنّه لا يمتلك أي قيم كما ادّعى دومًا بأنه الجيش الأكثر أخلاقية، وأنه الجبهة المتقدمة للغرب وقيمه في المنطقة، مما حوله لعبء حتى لأقرب حلفائه، ولا يتمتع بأي قدرات مهنية في إدارة المعارك اليومية، فكل يوم يخرج بفضيحة جديدة، إما أخلاقية أو عسكرية أو أمنية، وكل يوم تلقّنه المقاومة درسًا جديدًا في البطولة والفدائية، وتكبّده الخسائر المؤلمة، تاركة الندب العميقة على وجهه الذي أُسيء له بشكل لم يعهده العدو في أي معاركه السابقة طوال تاريخ الصراع، كل هذا جعل هذا الجيش محل تندّر قادة الجيوش والخبراء العسكريين حول العالم.
فلنأخذ مثلًا "غزوتَي الشفاء": الأولى والثانية للجيش الذي لا يقهر، ففي المرة الأولى ضخّوا مواد دعائية كبيرة حول العالم باعتبار أن مستشفى الشفاء هو مركز قيادة العمليات العسكرية للمقاومة وأن العديد من الأنفاق يؤدي الى مستشفى الشفاء، وأن عددًا من الأسرى الصهاينة قد يكون تم إخفاؤهم في المستشفى. واستمروا في ذلك أسابيع، حتى إن الجميع بدأ يصدق الأسطورة التي اخترعوها.
بتاريخ 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 اقتحم الجيش المستشفى بقوات عسكرية كبيرة مدعومة بالدبابات والقصف من الطائرات، وبقي المستشفى 45 يومًا تحت سيطرتهم الكاملة، عاثوا فيه فسادًا وتدميرًا، قتلوا المرضى والطواقم الطبية والصحفيين، حاصروا الجميع وحرموهم الغذاء والماء والدواء، نبشوا القبور، أحرقوا ودهسوا الجثامين، اعتقلوا المئات من النازحين والطواقم العاملة في المستشفى، وحاولوا أثناء وجودهم داخل المستشفى فبركة بعض الروايات السخيفة التي لم تنطلِ على أحد، مثل وجود أسلحة أو أنفاق في المستشفى.
ففي إحدى المرات قاموا بتصوير كلاشنكوف في غرفة الرنين المغناطيسي، وأي مبتدئ في عالم الطب يعرف أن هذا المكان لا تستطيع الدخول فيه بخاتم معدني في إصبعك، لأنه سيجذبه المغناطيس الضخم في الجهاز، وقد يتسبب في بتر الإصبع. بعد 45 يومًا من الحصار والتدمير والقتل والتعذيب والاعتقال خرج العدو يجرّ أذيال الخزي والعار، ولم ينجز إلا مزيدًا من الجرائم والانتهاكات للقانون الدولي الذي يحرم ويجرّم الاعتداء على المنشآت الصحية حتى أثناء الحرب.
قتل وتدميرمرة أخرى قبل أسبوعين عاود الجيش مهاجمة المستشفى بشكل مفاجئ وحاصره، وبدأ في مسلسل التدمير والحرق والقتل والتعذيب والاعتقال لنفس الادعاءات السابقة، ولكن في هذه المرة كان الدمار أكبر والقتل أفظع والحرق أوسع، وشمل كل المناطق المحيطة بالمستشفى إلى مسافة مئات الأمتار بعيدًا عنه. غادر المستشفى بالأمس وتركه مدمرًا تمامًا وغير قابل للإصلاح، مئات الجثامين في الطرقات، بعضها تم إعدامه مكبل اليدين معصوب العينين، اعتقل المئات من داخل المستشفى ومحيطها، وأعلن مدير المستشفى د. مروان أبو سعدة، وهو يبكي في مؤتمر صحفي، أن مستشفى الشفاء خرج تمامًا عن الخدمة، وأنه غير قابل للإصلاح.
السؤال هنا: ماذا يفعل جيش بهذه القوة في مستشفى؟ ما هو الإنجاز الإستراتيجي الذي يمكن أن يحققه بما يغير مسار المعركة؟ ما الذي يدفع رئيس هيئة الأركان وقادة الجيش ليزوروا المستشفى بأنفسهم رغم الخطر الكبير؟ ما الذي يدفع جيشًا يعتمد في استمرار قدراته على الدعم الدولي إلى ارتكاب كل هذه الفظائع التي ستشوّه صورته حتى أمام حلفائه؟
دون الدخول في كثير من التفاصيل لا يوجد أي إنجاز إستراتيجي يمكن أن يحققه الجيش في مستشفى الشفاء أو غيره، كما فعل في مستشفى النصر والرنتيسي وناصر والإندونيسي وغيرها، حتى لو بقي شهورًا يتحدث عن إنجازاته في "غزوة الشفاء"، حيث يدعي أنه اعتقل وقتل المئات من المقاومين وأنه اكتشف الآلاف من الوثائق الخطيرة، ونحن نعلم يقينًا أن من قتلوا كلهم من المدنيين الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ومن قتل من المقاومين هم من الذين هبّوا لنجدة أهلهم وذويهم المحاصرين داخل المستشفى وخارجه، واستشهد معظمهم في محيط المستشفى.
كيان يلاحقه العارما سيبقى من هذه "الغزوة"، أن أقوى جيش في المنطقة استطاع أن يعوض هزيمته وفشله في 7 أكتوبر/تشرين الأول وفي كل يوم بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، حتى تاريخه، بالانتصار على أكبر مستشفى مدني في فلسطين، ما سيبقى هو العار الذي سيلاحق جيشًا وقادته عندما يتجرؤون على الأبرياء أحياءً يعدمونهم مكبلين معصوبي الأعين، وعلى الأموات ينبشون قبورهم.
ما سيبقى أن الجيش الذي يدّعي أنه صاحب اليد الطولى والاستخبارات الأقوى لا يعرف شيئًا عن ميدان معركة بين قدميه، إلا ما ينتزعه من صدور الأبرياء بعد تعذيبهم ثم إعدامهم، ما سيبقى ويخلد أن مستشفى وطواقمه الطبية والنازحين إليه من المدنيين صمدوا في وجه أقوى جيش في المنطقة، وأجبروه على الاندحار يجرّ أذيال الخيبة والعار.
أهم ما سيبقى هو أن الجيش الذي لا يقهر غير قادر على حماية كيانه، فضلًا عن أن يحمي الآخرين، وأن أقصى ما يستطيع إنجازه هو تدمير المستشفيات والمساجد والمدارس والجامعات وقتل الأطفال والنساء والشيوخ.. وقتل الحياة في كل صورها، انسجامًا مع عقيدته السياسية والعسكرية التي تبنّاها منذ أيامه الأولى، ولكن فضحها هذه المرة صمودٌ أسطوريٌّ – لشعب آمن بأن "الكف يمكن أن يهزم المخرز" – ونشطاء إعلاميون وضعوا أرواحهم على أكفّهم ليوثقوا الجريمة بكل تفاصيلها.
ختامًا؛ هذا الجيش الجبان لم يرتّب صفوفه أو يدرّب جيشه، منذ نشأته، على معارك يخوضها شعب منغرس عميقًا في الأرض، ورأسه يطاول عنان السماء، ولا يضيره أذى الأقزام مهما كان مؤلمًا.. سيهزم الجمع ويولّون الدبر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات أکتوبر تشرین الأول الولایات المتحدة مستشفى الشفاء ما سیبقى
إقرأ أيضاً:
جيش الاحتلال الإسرائيلي يواصل قصف مستشفى كمال عدوان ويطالب بإخلائه
واصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه بالغارات الجوية على مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، المستشفى الوحيد الذي يعمل بشكل جزئي في القطاع، مطالبًا الطواقم الطبية والنازحين داخل المستشفى بإغلاق وإخلاء المشفى، وهو ما يصعب تنفيذه، حيث توجد صعوبة في إجلاء عشرات المرضى، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا».
قصف مستشفى كمال عدوانقال حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان، إن تنفيذ مطالب جيش الاحتلال بإغلاق المشفى «شبه مستحيل» بسبب نقص سيارات الإسعاف والمعدات اللازمة لنقل المرضى بأمان.
وأشار إلى وجود نحو 400 شخص مدني داخل المستشفى، بينهم أطفال حديثو الولادة يعتمدون على الأكسجين والحضانات.
وأوضح أن القصف المكثف واستهداف خزانات الوقود يزيدان من خطورة الوضع، مشددًا على أن أي انفجار قد يؤدي إلى إصابات جماعية.
الاحتلال يحاصر شمال غزةيحاصر جيش الاحتلال شمال قطاع غزة منذ نحو ثلاثة أشهر، موضحًا أن الحصار يستهدف «الفصائل الفلسطينية»، بينما يتهم الفلسطينيون الاحتلال بمحاولة إخلاء المنطقة بشكل دائم لإقامة منطقة عازلة.
وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، أسفرت غارات الاحتلال خلال الـ24 ساعة الماضية عن ارتقاء 24 شهيدا على الأقل، بينهم 8 أشخاص قضوا في قصف مدرسة تؤوي عائلات نازحة في مدينة غزة.