الأيديولوجيا بين التـضلـيل والمصلـحـة
تاريخ النشر: 3rd, April 2024 GMT
للأيديولوجيا، في مـفـهـومها، السـياسي معـنى يطابـق نمط اشتـغالـيـتها في الحقـل السـياسي ويختـلف، بالتالي، عن معـناها من حـيث هي مـفهـوم معـرفي، مثـلا، أو من حـيث النـظـر إليها من زاوية نظريـة المعرفة. هـنا لا يـنـظر إلى الأيديولوجيا انطـلاقا من ثـنائـيات: الخطأ/ الصواب، الحـقيقة/ الزيـف، المطابـقة/ التـضليل.
واضـح، هـنا، مقـدار ما يقـوم من صلـة بين الأيديولوجيا ومبـدأ المصلـحة؛ إذ الأخيـرة هـي ما يحمـل على اللـجوء إلى الأولى وتوسـلها واستـدخالها في عـدة الاشتـغـال. لذلك لا يكـون المعيـار الذي تـقاس بـه الأيديولوجيا، في هـذه الحال، معـيارا معـرفـيـا: أي من حيث مـقـدار مطابـقـتها أو عـدم مطابـقـتها للواقـع وللحـقيـقـة، بـل مـقـدار ما تسمح بـه من إمكـان لتحقـيـق تلك المصلحة. إذا كان كارل ماركـس هـو، حـقـا، مـن مـنـح مـفهـوم الأيديولوجيا كـل تلك الأهميـة البالغـة التي صارت لـه في الفـكـر الحديـث، فلأنـه ربطـها - ابتـداء - بالمصلحة فأدخـلها، بالتالي، في نسيـج السياسة وظـل يشـدد على أن كـل أيديولوجيا تـضمـر مصلـحة طبـقـيـة. ولكنـه تحاشـى، في الوقـت عـيـنـه، أن يحـصـرها في النـطاق السياسـي وأن يتجـاهـل استعـمالات أخـرى لها - بـدأت قـبلـه (مع فـلسفة الأنـوار) واستـمـرت بعـده حتـى اليـوم - من قبـيـل استـعـمالها المـعـرفـي بوصفـها تـفـكـيـرا لا عـقـلانـيـا ولا نـقـديـا؛ مـن دون أن يسـتـغـرق في هـذا الاستعـمال الأخيـر طـويلا على حساب الأول. والحـق أن الربـط بين الأيديولوجيا والمصلـحـة تـأسـس معه وتـوطـد، فكـان صناعـة ماركسيـة بامتـيـاز؛ بل لعلـه ما يفـسـر شيوع استـخـدام مفـهـوم الإيـديـولـوجـيـا، بعـده، في المجال التـداولـي.
هـذا في استـعمـال المفـهـوم في الحـقـل السياسـي، أمـا في الحـقـل المـعـرفـي فـتـعـني الإيـديـولـوجـيـا الوعـي الـزائـف، غير المـطابـق للواقـع. هـذا المفـهـوم مـوروث عـن فـلسفـة الأنـوار، في القـرن الثـامـن عشـر، وبصـماتـه الفرنسيـة واضحة في حـدة خطـاب الفلاسفـة عن الكنيسـة وما يـرد في نـقـدهـم لها مـن اتـهامهـم إيـاهـا بـمحاربـة العقـل ونـشـر أفكـار أقـرب ما تكـون إلى الأوهـام. ولقـد أخـذه ماركس عـن هـؤلاء الفلاسفـة - على نحـو ما يـضـح أمـره فـي كتـابـه «الإيـديـولـوجـيـا الألمانـيـة» - لكـنـه لم يـتـوقـف عـنـده، كمـا أشـرنا، مثـلما اتـسع نطـاق المفـهـوم هـذا - في معنـاه المـعـرفـي - فشـمـل دوائـر لاحقـة من الفـكـر الفـلسـفي والعـلوم الإنسانـيـة، بل وكـان في بعض نصوص ذلك الفـكـر مـفـتاحيـا حتـى وإن لم يـقـع اسـتخـدام المفـهـوم بلـفـظـه وإنـما بمضمونـه ومـدلـولـه.
لقد أحسن عبد اللـه العـروي حيـن عـثـر - وهـو يتـعـقـب استعمالات هـذا المفـهـوم في الـفـكـر الحديـث - على مـشـتـرك بين مـاركـس ونـيـتـشـه وفـرويـد في النـظـر إلى الإيـديـولـوجـيـا بهـذا المعـنى؛ أي بـما هـي وعـي زائـف. كـل واحـد مـن هـؤلاء الثـلاثـة يـردد الـفـكـرة عينـها بمفـردات ومـفاهيـم خاصـة بحـقـل اشـتـغالـه. يقـول ماركـس إن الإيـديـولـوجـيـا تخـفي مصلـحة طـبـقـيـة وتـغـلـط الوعـي؛ ويـذهـب نـيـتـشـه إلى القـول إن القـيـم أوهـام يـنـتـحـلـها المستـضـعـفـون لإخـفـاء حـنـقهـم على الأسـيـاد؛ ويـقـول فـرويـد إن العـقـلي محـض تـبريـر لإخـفـاء آليـة الرغـبـة الجارفـة التي تـؤسـس الحياة الـنـفسيـة اللاشعـوريـة. المـشتـرك في المسألة عنـد هـؤلاء المـفـكرين الثـلاثـة هـو أن الأقـوال والخـطابات لا تـنطـق بحـقيـقـتهـا، بـل تـضـمـرها وتسـتـرها. غير أنـها تـومـئ إليها في عـملـيـة التـستـر تلك، فـيـصبـح التـأويـل كـافـيـا - حيـنـها - لـرفـع غطـاء الحـجاب عـن حـقيـقـتـها المـخـفـيـة. وهكـذا فالأيديولوجيا، عـند هـؤلاء الـثلاثـة، هي تلك العـمليـة من طمـس الحـقيـقـة وحـجـبها من طـريق التـصريـح بغيـرها. ولكـنـها لا ترادف الكـذب في معـناها هـذا؛ لأن الكـذب - في جـوهـره - فـعـل واع (أو مـوعـى به)، أمـا الإيـديـولـوجـيـا فـقـد تكـون غير مـوعـى بـها.
قـلـنا: إن المعنـى الأكثـر شيـوعـا للأيديولوجيا في الـفـكـر الماركـسي هـو ذاك الذي يـقـرنـها بالمصلحـة؛ وهـو الذي استـمـر في ذلك الـفـكـر مقارنـة مع معـناهـا الإيـپـيستيـمي بوصـفها وعـيـا زائـفـا. وتـكـمـن المفارقـة، هـنا، في أن الماركسيـة - التي ظلـت تـرى في كـل أيديولوجيا طبـقـيـة - وجـدت مـن يـطـبـق عليها، هـي نفـسها، القاعـدة تلك؛ إذ مقابـل اعـتـقاد تلامـذة ماركـس أن نظـريـتهـم عبارة عـن عـلـم جديـد، انـتـقـدها علـم الاجتماع السـياسـي الألمانـي، فنظـر إليها بمـا هـي، أيـضا، أيديولوجيا معـبـرة عـن مصلحـة طـبـقـة أو طبـقات بـعـينـها لا بمـا هـي علـم كمـا يـدعـي كـثيـر ممن ينـتـمون إليها. مـن الواضـح أن المنـطـق الحاكـم للاجتـماعيـات الألمانيـة في هـذا الشـأن - خصوصا مع ماكـس ڤـيـبـر وتلامـذتـه - هو أن حـقـل التـعبير عن المصالح هو الحقـل السياسي، لا ميـدان المعرفـة والحقـيقـة، وهـو يعـني، بالتـبعـة، أن كلام الماركسيـة على الصلـة بين الإيـديـولـوجـيـا والمصلحة كـلام يشـمـلها هـي نفسـها ويـبـطـل أي حـديث عن صلـتـها بالعـلم. وهـذا يـعني، في الوقـت نفـسـه، أن الاجـتماعيـات السياسيـة الألمانيـة لا تـقـيـم كبيـر تمييـز بين الإيـديـولـوجـيـات؛ فهـذه في مرآتـها - وعلى اخـتـلافـها - سـواء: أي لا يتـمـتـع أي منها بأي اعـتـبـار معـرفـي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
"الاقتصاد المزدهر" التحدي الذي ينتظر هاريس أو ترامب
في خضم معركة الانتخابات الأمريكية بين كامالا هاريس، والرئيس السابق دونالد ترامب، يعيش الاقتصاد الأمريكي انتعاشة قوية، تحتم على الفائز ضرورة الالتزام بالمحافظة على وتيرته المتنامية.
وتقول شبكة "سي إن بي سي" الأمريكية في تقرير، إن موجة الأخبار الاقتصادية الجيدة بشكل ملحوظ على مدار الأسبوع الماضي قد تفرض التزاماً شاقاً على الذي سينتخب رئيساً للولايات المتحدة في 5 نوفمبر (تشرين الثاني)، بتجنب إفساد الأمر، ومواصلة الانتعاشة.وقبل يومين من 5 نوفمبر (تشرين الثاني)، تراجع التضخم، وتفوق خلق الوظائف على التقديرات، وازدهرت بيانات مبيعات العقارات، وارتفعت معنويات المستهلكين نحو التفاؤل، ونما الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة سريعة، وإن كان أقل قليلاً من بعض التوقعات.
The next U.S. president could inherit a booming economy. That's a daunting challenge. https://t.co/SNXD2Mi8KS
— CNBC (@CNBC) November 2, 2024وارتفع مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بأكثر من 50% منذ تولى الرئيس جو بايدن منصبه في يناير (كانون الثاني) 2021، و24٪%حتى الآن هذا العام، وفق شركة "مورنينغ كونسلت".
ومنذ بداية السابق بين نائب الرئيس كامالا هاريس والرئيس السابق دونالد ترامب، يقدم المرشحان نفسيهما باعتبارهما أفضل من يتولى رعاية الاقتصاد الأمريكي في المستقبل.
وفي الوقت نفسه، يعمل المرشحان على تأطير نفسيهما باعتبارهما انحرافاً عن الوضع الراهن، والاعتراف بغضب الناخبين على الاقتصاد، رغم البيانات القوية للاقتصاد الكلي.
انهيار محتملووفق استطلاع رأي لمؤسسة "يوغوف" في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قال 44% من المشاركين البالغين في الولايات المتحدة، إنهم يعتقدون أن "الانهيار الاقتصادي الكامل" محتمل إلى حد ما، إن لم يكن إلى حد كبير. وشمل الاستطلاع 1113 مو أمريكياً بالغاً من 17 إلى 19 في الشهر الماضي.
ودفع التشاؤم الاقتصادي للناخبين، ترامب وهاريس إلى طرح مقترحات سياسية تعد بمستقبل اقتصادي جديد للأمريكيين.
وتعهد ترامب بفرض تعريفات جمركية شاملة على كل الواردات من الخارج، وبرنامج شامل لترحيل المهاجرين، وتعميق تخفيضات الضرائب على الشركات.
ويلاحظ خبراء الاقتصاد وبعض حلفاء ترامب، أن التعريفات الجمركية الشاملة التي اقترحها، والترحيل الجماعي، وتخفيضات الضرائب قد ترسل، على الأقل مؤقتاً، موجة صدمة كبرى للاقتصاد، ما قد يؤدي إلى انهيارات محتملة في السوق.
وفي الوقت نفسه، تريد هاريس رفع معدلات الضريبة على الشركات، وحظر فيدرالي "للتلاعب بالأسعار"، وتقديم إعانات وائتمانات ضريبية لتطوير الإسكان، ورعاية الأطفال.
ووضعت هاريس نفسها في مواجهة موجة كبيرة من الانتقادات أطلقها خبراء الاقتصاد وقادة شركات أمريكية كبرى بسبب مقترحها حظر التلاعب بالأسعار، وخططها لزيادة الضرائب على الشركات.
وقال جاستن وولفيرز، أستاذ السياسة العامة والاقتصاد في جامعة ميشيغان، إن الاقتصاد المستقر سيكون فرصة للرئيس المقبل للتركيز فعلياً على السياسات التي خاض حملته الانتخابية على أساسها.
وعلى نقيض ذلك، تولى الرئيس السابق باراك أوباما، وبايدن منصبيهما في وقت "كان استقرار الاقتصاد يأتي قبل أي من أولويات الحكم الطبيعية"، كما قال وولفرز. وأضاف "ما كان عليهما فعله هو إخماد حريق الركود بدل متابعة برامجهما".
وأضاف وولفرز، أن الواقع الحالي يجعل الانتخابات الرئاسية أكثر أهمية. وتابع "إذا كنت في خضم الركود، سواء كنت ديمقراطياً أو جمهورياً، فلك مهمة واحدة، الخروج من الركود". وأكد "إذا كان ما يريده ترامب، على سبيل المثال، تخفيضات ضريبية للأثرياء وما تريده هاريس فرض ضرائب على الأثرياء لمنح تخفيضات للطبقة المتوسطة والطبقة العاملة، فقد يكون لدى كل منهما المجال لعمل ذلك".
وفي الحالتين، سيتعين على الرئيس المقبل أن يحفظ توازناً دقيقاً بتنفيذ تعهداته لإصلاح الاقتصاد دون إخلال بالمسار الحالي للنمو الاقتصادي الحقيقي.