مفتي الجمهورية: زيارة الأضرحة وأولياء الله الصالحين مشروعة ومحببة
تاريخ النشر: 3rd, April 2024 GMT
قال الدكتور شوقي علَّام -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن بعض الناس يزعمون أن قضية الأضرحة قائمة على الشرك بالله، ولكن المسلمين براء من هذا الأمر، والأضرحة هي أقبية على أولياء الله الصالحين تتنزل عليه الرحمات من الله سبحانه وتعالى، وقد حكمنا بمسيرة هذا الشخص من خلال تاريخه المعروف، مؤكدًا أن زيارة الأضرحة وأولياء الله الصالحين مشروعة ومحببة، ورسول الله قال: "قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها"، فما بالك عندما يكون من في القبر وليٌّ، في هذه الحالة يصبح الاستحباب أكثر من زيارة القبور على وجه العموم.
جاء ذلك خلال لقائه الرمضاني اليومي في برنامج "اسأل المفتي" مع الإعلامي حمدي رزق، الذي عُرض على فضائية صدى البلد، مضيفًا فضيلته أن صيام التطوع وغيره من النوافل تقرِّب العبد من ربه حتى يصبح وليًّا من أولياء الله أو يكون عبدًا ربانيًّا، كما يشير الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث القدسي عن رب العزة: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ».
حكم زيارة الأضرحةوردًّا على سؤال عن حكم زيارة الأضرحة أوضح مفتي الجمهورية أن زيارة مقامات آل بيت النبوة والصالحين من أقرب القربات وأرجى الطاعات قبولًا عند رب البريات؛ وهي بمنزلة مجالسة الصالحين، وإن زيارة القبور على جهة العموم مندوب إليها شرعًا؛ حيث حثَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على زيارة القبور كما أن أَوْلى القبور بالزيارة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبور آل البيت النبوي الكريم، وقبورهم روضات من رياض الجنة، وفـي زيـارتهم ومودتهم برٌّ وصلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23].
الدكتور شوقي علام مفتي الجمهوريةوأكد على أن محبة آل البيت ثابتة بالقرآن والسنة بل إن حب آل البيت والتقوى مرتبطان ومتكاملان، وهذه الحقيقة فهمها المصريون جيدًا؛ ولذا نراهم يحبون آل البيت حبًّا جمًّا، بل نحن نحبُّ مَن يحبُّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا فنحن أمَّة المودَّة والرحمة.
وأشار فضيلة المفتي إلى أنَّ المتشددين أخطأوا في تناول مفهوم التوسل بالأنبياء وآل البيت والصالحين واعتبروه شركًا بالله، وفضلًا عن غُلُوِّهِم في سوء الظن بالمسلمين فإنهم لم يدركوا أنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين "الوسيلة" وبين "الشرك"؛ فالوسيلة نُعَظِّم فيها ما عظَّمه الله، أي أنها تعظيمٌ بالله، والتعظيم بالله تعظيم لله تعالى بل من تمام تقوى لله، أمَّـا "الشرك" فهو تعظيمٌ مع الله أو تعظيمٌ من دون الله.
حكم التوسُّل بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وآل بيتهوعن حكم التوسُّل بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وآل بيته قال فضيلة مفتي الجمهورية إنَّ علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها قد أجمعوا على جواز واستحباب التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى، واتفقوا على أن ذلك مشروعٌ قطعًا ولا حرمة فيه، وما ندين الله به أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستحبٌّ، وأحد صيغ الدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ المندوب إليها، ولا عبرة بمن شذَّ عن إجماع العلماء. وكذلك القول في التوسُّل بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأولياء الله الصالحين؛ فإن جمهور العلماء على أنه مشروعٌ ولا حرمة فيه، فإنهم نور من أنواره وليسوا أجانب عنه، كما أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلًا إلا بأعماله؛ فالمتوسِّل بالعالِم مثلًا لم يعبده، بل عَلِم أنه له مزيةً عند الله بحمله العلم، فتوسل به لذلك.
وأكد المفتي أنه لا يخفى علينا مدى أهمية الحفاظ على الآثار؛ إذ يعكس ذلك المستوى الحضاري للشعوب، وهي تعتبر من القيم والأشياء التاريخية التي لها أثر في حياة المجتمع؛ لأنها تعبر عن تراثها وتاريخها وماضيها وقيمها، كما أن فيها عبرة بالأقوام السابقة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هدم آطام المدينة؛ أي حصونها، كما أن الصحابة عندما دخلوا مصر لم يهدموا الآثار.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مفتي الجمهورية هيئات الإفتاء زيارة الأضرحة زيارة القبور رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ى الله علیه وسلم مفتی الجمهوریة الله الصالحین زیارة الأضرحة زیارة القبور ل بالنبی آل البیت کما أن
إقرأ أيضاً:
في محاضرته الرمضانية السادسة والعشرين قائد الثورة: طموح الإنسان المؤمن يجب أن يكون في مرتبة الصالحين
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
استكمالاً للآيات المباركة من (سورة الشعراء)، في قصة نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، كُنَّا قد وصلنا إلى قوله:
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82].
تحدثنا عن أهمية يوم الدين، يوم الجزاء على الأعمال، الذي هو بداية الحياة الأخرى، فيما فيها من مصيرٍ محتومٍ:
• إمَّا إلى الجنة، في خيرها العظيم، ونعيمها الخالص والراقي والأبدي.
• وإمَّا إلى النار، في عذابها الشديد، والعذاب المخزي المهين للإنسان، والذي هو عذابٌ وشقاءٌ للأبد والعياذ بالله.
في اهتمامات الإنسان المؤمن، يحسب حساب هذا المستقبل، لا يتَّجه اهتمامه في هذه الحياة نحو متطلباتها العاجلة، بل يجعل سعيه في هذه الدنيا مرتبطاً أيضاً باهتمامه بمستقبله في الآخرة؛ ولـذلك هناك مساحة واسعة- كما شرحنا في المحاضرة الماضية- في رسالة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، من خلال رسله، وأنبيائه، وكتبه، مساحة واسعة تُذكِّرنا بمستقبلنا في الآخرة، وأهمية هذا المستقبل:
• أهميته في أن تستقيم لنا حياتنا هنا.
• وأهميته كذلك حينما تستقيم حياتنا هنا؛ ليستقيم لنا هناك.
فهناك ارتباط ما بين الأولى والأخرى (الحياة الأولى، والحياة في الآخرة)؛ فاهتمام الإنسان المؤمن هو اهتمامٌ يجمع بين اهتماماته في هذه الدنيا، شؤونه في هذه الدنيا، مع ربطٍ لها بمستقبله في الآخرة.
يوم الجزاء على الأعمال يومٌ عظيم، يومٌ مهم، يوم الحساب، يوم القيامة، لا يمكن للإنسان أن يغيب عن ذلك المشهد، أو أن يتهرَّب عن الحضور، أو أن يمتنع عن أن يبعث في يوم القيامة ويحاسب ويجازى، لا يمكنه ذلك، والله لا ينسى أحداً، ولا يغفل عن أحد «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والإنسان المؤمن هو يحمل تجاه يوم القيامة ويوم الجزاء حالة الخوف، وحالة الرجاء، وهما متلازمان في الجانب الإيماني:
• الخوف من التفريط، من التقصير، من المعصية، من التهاون بالذنوب، الخوف من تبعات الأعمال وآثارها، حينما تكون أعمالاً سيئة.
• وفي نفس الوقت الرجاء لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في مغفرته، في عفوه، في فضله، في رحمته.
ولـذلك فالإنسان مع خوفه لا يصل به خوفه إلى اليأس، أو إلى أن يتصور حينما بدرت منه، أو حصلت منه زلَّات في هذه الدنيا، أو تقصير في مسؤوليات، أو أعمال، أنه مهما رجع إلى الله، مهما تاب وأناب، مهما عمل لتلافي تقصيره؛ فهو لن يحظى بمغفرة الله، ولا بعفو الله، هي حالةٌ خطيرة؛ لأن الشيطان هو يشتغل في الاتِّجاهين:
• يشتغل في اتِّجاه: أن يؤمِّنك من عذاب الله، ويصل بك إلى درجة الاستهتار؛ حتى لا تبالي فيما تعمل، تُمَنِّي نفسك، تُمَنِّي نفسك بالمغفرة، تُمَنِّي نفسك بأنك ستتوب في يومٍ من الأيام، أو حتى لو لم تتب، فسيغفر لك، وهذه حالة خطيرة جداً حالة الأماني، حذَّر الله منها في القرآن الكريم، وحالة التسويف، حالة الاستهتار بالأعمال، والجرأة على المعاصي، والشيطان يشتغل عليها.
• وقد يشتغل في اتِّجاه آخر: إذا كان لديه احتراز من هذا الجانب، وانتباه، وتذكُّر بآيات الله، وإدراك لمخاطر المعاصي، ومساوي التفريط في طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وما يترتب على ذلك، قد يأتيك من جهة أخرى؛ في محاولةٍ لأن يزرع اليأس في قلبك، بأنك لن تحظى بمغفرة الله، أنت مُقَصِّر، أنت مذنب، أنت مخطئ؛ وبالتالي مهما توبت، مهما رجعت إلى الله، مهما عملت؛ فأنت لن تصل إلى أن تحظى بمغفرة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وعفوه، وهذه الحالة من التيئيس حالة خطيرة جداً، {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87].
فلـذلك الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» يُعَلِّمنا أن نجمع بين الأمرين: بين حالة الخوف، والرجاء، ويبيِّن لنا ما عليه أولياؤه من أنبيائه والهداة من عباده، وحتى ملائكته، أنهم يجمعون بين الخوف والرجاء: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء:57]، فهم يخافون العذاب، وفي نفس الوقت يرجون رحمة الله، ويرجون المغفرة.
والرجاء هو حافزٌ على العمل، ليس دافعاً إلى الاستهتار، الرجاء الصادق هو يدفع الإنسان إلى العمل؛ ولهـذا يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، فالرجاء الصادق هو حافزٌ على العمل؛ لأنك تعمل ولديك أملٌ بالله: أنه سيقبل عملك، سيضاعف لك الأجر، سَيَمُنُّ عليك بالرعاية، والرحمة، والمغفرة، فيما شاب عملك من تقصير، أو نقص، أو قصور؛ فهو حافز على العمل، ومشجعٌ على العمل.
ومعه حسن الظن بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، برحمته الواسعة، بغفرانه العظيم، وفي نفس الوقت تشجيعٌ كبيرٌ على العمل؛ لأن الإنسان يحمل، إذا كان مؤمناً واعياً، هو دائماً يحمل روحية الشعور بالتقصير، وهو بعيدٌ عن مشاعر الغرور، والعجب بالنفس، مثلما عليه أنبياء الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يتَّجهون الاتِّجاه الإيماني في أرقى مستويات الإيمان، وأرقى درجات الإيمان، يتَّجهون لأداء مهامهم المُقدَّسة العظيمة، في التبليغ لرسالة الله، والسعي لإقامة دين الله، ولهداية عباد الله، وفي نفس الوقت يعتبرون أنفسهم مُقَصِّرِين، يطلبون من الله المغفرة، بالرغم مما هم عليه، لكنهم يدركون عظيم حق الله، عظيم حق الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» عليهم، عظيم حق الله على الإنسان، مهما عمل الإنسان، فلا يساوي عمله شيئاً في مقابل عظمة الله، وعِظَم حق الله عليه، ولكن الله يقبل مِنَّا القليل، ويجازي عليه الكثير، ولـذلك يبقى الإنسان بعيداً عن مشاعر الغرور، مشاعر العُجْب، ومشاعر الاستهتار، وجامعاً بين الخوف والرجاء مع بعض، كُلٌّ منهما يدفع الإنسان، ويُمَثِّل له دفعةً عمليةً في طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
مخاطر الذنوب على الإنسان هي مخاطر كبيرة جداً، على علاقته بالله، وعلى رعاية الله له، تأثيرها على:
• علاقتك بالله من جهة، ومنزلتك عند الله، وواقعك الإيماني، وحالتك الإيمانية.
• تأثير حتى على المستوى النفسي.
• وتأثير في مدى رعاية الله.
لـذلك فالإنسان يبقى دائماُ يسعى إلى طلب المغفرة، والخلاص من الذنوب وتأثيراتها على نفسه، واتِّجاهه العملي يبقى اتِّجاهاً إيمانياً بأقصى ما يتمكن، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» يصف عباده المؤمنين بمواصفاتهم الراقية العظيمة (المتقين)، فيقول عنهم: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران:17]، فهم يطلبون من الله المغفرة، وهم يحاولون أن يغتنموا حتى وقتاً من أهم الأوقات للدعاء، واستجابة الدعاء: وقت الأسحار، ما قبل الفجر، في آخر الليل، في الثلث الأخير من الليل؛ بينما هم يتَّصفون بتلك المواصفات الراقية العظيمة، فهم:
• أهل صبر، والتزام عملي نتيجةً لهذا الصبر: الصبر في إطار العمل بطاعة الله، في القيام بما أمر الله، في الانتهاء عن مناهي الله، النهوض بالمسؤوليات الإيمانية المهمة، التي تتطلب الصبر، كـ: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة القسط.
• أهل صدق: في أقوالهم، في أفعالهم، في انتمائهم، في معتقداتهم، في تَوَجُّهاتهم… كلها قائمة على الصدق: الصدق مع الله، الصدق مع أنفسهم، الصدق مع الناس، الصدق في الانتماء، الصدق في الموقف.
• وهم أهل قنوت: خضوع لله، والتزام بطاعة الله، وانقياد لأمر الله، ليسوا متعنتين، ولا منحرفين.
• وهم مع ذلك أهل إنفاق وعطاء: ليسوا بخلاء، ينفقون في سبيل الله، ينفقون في سُبل الخير والبر، يحملون روحية الإحسان، وروحية العطاء.
• ومع ذلك هم مستغفرون بالأسحار: فلديهم اهتمام بطلب المغفرة، يستشعرون التقصير، بالرغم مما هم عليه من التزام وطاعة، لكنهم يستشعرون حالة التقصير؛ فلم يصبهم الغرور، ولا العجب بالنفس، ولم يتَّجهوا إلى حالة التكبر، أو يتأثروا بحالة التكبر والعياذ بالله.
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82]، فأنا أحمل الرجاء في أن يغفر لي، وغيره لن يغفر لأحد، غير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» لا يتمكن من أن يُخَلِّصك من ذنوبك، {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران:135]، لابدَّ من التَّوَجُّه إلى الله، والطاعة لله، والإنابة إلى الله؛ حتى لا تأتي يوم القيامة مُحَمَّلاً بأوزارك وذنوبك؛ لأنه لا خلاص هناك، إذا قدمت على الله يوم القيامة، وأنت محملٌ بالذنوب والأوزار، لم تتخلص منها في الدنيا؛ فحينها لا يمكن لأحد أن ينقذك، ولا أن يُخَلِّصك مما أنت مُحَمَّلٌ به من الذنوب والأوزار، ولا توبةٌ تُقبل، ليس هناك مجال للتوبة والاعتذار والخلاص من ذلك، {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:23-24]، ليس هناك قبول لِلعُتْبَة، والرجوع، والتوبة، والإنابة، وتقول: [أنا الآن تائبٌ من هذا الذنب]، بل في حالة الموت نفسها، في الدنيا نفسها حينما تأتيك حالة الموت وأنت مسوِّفٌ للتوبة، لم تتب إلى الله، ثم تتوب عندما يأتي الموت؛ حينها لا تُقْبَل منك توبتك في تلك اللحظة، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}[النساء:18]، (تُبْتُ الْآنَ) عندما شاهد الموت، أيقن برحيله من هذه الدنيا، ليس هناك مجال لذلك؛ فلـذلك يحمل الإنسان الرجاء في الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأنه وحده هو من يغفر الذنوب، ويتَّجه إليه.
بعد هذا العرض، الذي يُبَيِّن أن الذي يستحق العبادة وحده هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ لأن بيده حياتنا، ورزقنا، وموتنا، ومستقبلنا إليه، ومصيرنا في الآخرة إليه، ولا يتمكن من أن ينقذنا من ذنوبنا إلا هو، وهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» الذي يطعمنا، ويسقينا، وإذا مرضنا فهو الذي يَمُنُّ علينا بالشفاء… وغير ذلك من نعمه، نعمة الهداية في مُقَدِّمة النعم، ومفتاح لكل النعم، بعد هذا العرض، الذي هو كله يدل على أن الجدير بالعبادة هو الله وحده، اتَّجه بشكل دعاء:
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83].
وهذا العرض فيما يتعلق بالدعاء، أولاً: هو يبيِّن أن الذي هو جديرٌ بالعبادة، ومن أهم ما في العبادة هو الدعاء، ويملك لنا حينما ندعوه النفع، ودفع الضر، والخير المعنوي والمادي، والخير في الدنيا والآخرة، الذي يملك لنا كل ذلك هو الله، وهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» من يسمعنا حينما ندعوه، ويعلم بنا، ويعلم بأحوالنا، وهو الذي يستجيب الدعاء، إذا كان الإنسان مستجيباً لله، وسائراً في طريق هديه، هو الذي يستجيب الدعاء «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ فهو إذاً وحده من هو جديرٌ بالعبادة، يستحق العبادة؛ لأن من أهم ما في العبادة هو: الالتجاء بالرجاء، والرغبة، والآمال، فيما يملكه الله ولا يملكه غيره، وما لا يقدر عليه غيره، هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» على كل شيءٍ قدير، بيده الخير كله، فهو اتَّجه بالدعاء؛ ليبين لهم ذلك، فنفس الاتِّجاه بالدعاء هو أيضاً في هذا السياق: في سياق عرض أن المستحِق للعبادة وحده هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ومن أهم ما في العبادة: الدعاء.
في مُقَدِّمة دعائه هذا: اتَّجه إلى الله يطلب منه ومن فضله هذا الطلب: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83].
فيما نطلبه من الله، وفيما ندعوه، عادةً ما تغلب على ذلك- على مضمون الدعاء نفسه- اهتماماتنا، ما الذي هو مهمٌ بالنسبة لدينا نحن، في تقديراتنا، في تصوراتنا، في التفاعل النفسي مع الأمور؛ ولـذلك في العادة في واقع الناس، قد تكون أكثر أدعيتهم مُتَّجهةً إلى الله في أمورهم المعيشية والحياتية؛ لأنها ضاغطةٌ عليهم، قد يكون من أكثر ما يدعو الناس، يدعون الله به، ويرجونه من الله، ويكثرون من الدعاء فيه، هو:
• مطالبهم في هذه الحياة المطالب المادية: الرزق، أمور المعيشة… وغير ذلك من المتطلبات هذه الحياة.
• أو ما هم يعيشون حالة الضغط منه في واقعهم النفسي: هموم مُعَيَّنة، مشاكل مُعَيَّنة.
هذا للإنسان الذي يُقبل عادةً على الدعاء.
ولكن نتعلم من الأنبياء «عَلَيْهِمُ السَّلَامُ»، نتعلم من الأدعية القرآنية: كيف نعيد ترتيب أولوياتنا واهتماماتنا، بحيث تشمل ما قد نغفل عنه من الأمور ذات الأهمية الكبيرة لنا في حياتنا؛ لأن اهتمامنا وتفاعلنا قد يكون- وفق قصور رؤيتنا ونظرتنا- منحصراً في هموم مُعَيَّنة، مطالب مادية، أمور معيشية ضغطة، ولا نقصد أن الإنسان يترك الدعاء بشأنها، الإنسان يتَّجه إلى الله لخير الدنيا والآخرة، يتَّجه إلى الله تجاه همومه، ومشاكله، والأمور الضغطة عليه؛ لكن لا يغفل عن الأمور المهمة، التي ينبغي أن تكون ضمن اهتماماته؛ وإنما مع قصور نظره، وقلة معرفته ووعيه، لا يدرك أهميتها له، في كل شؤون حياته، وفي مسار حياته بكلها.
ولـذلك نجد هنا في مُقَدِّمة أدعيته (أدعية نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ») هذا الدعاء: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83]، ما هو الحكم؟ الحكم له تعريفات واسعة، وعادةً ما يُرَكِّز المفسرون على جوانب منها، ويربطون بينه وبين الحكمة، ويتَّضح أنه يجمع عِدَّة أمور، يعني: يجمع بين أن يهبك الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: هدايةً، وملكةً، وزكاء نفس؛ بحيث:
• تتعامل مع مختلف الأمور بمقتضى الحكمة؛ فتكون صائب الفكر، راشداً في فكرك، مهتدياً للخير.
• وتكون- في نفس الوقت- زاكي نفس.
• وتملك أيضاً التوازن النفسي، الذي يساعدك على أن تتصرف مع الأمور بحكمة.
وبمجموع هذه الأمور، حينما يَمُنُّ الله عليك بالهداية، والرشد، والإصابة في الفكر، في النظرة إلى الأمور، في الحكم عليها، في التقييم لها، والتوازن النفسي، وفي نفس الوقت زكاء النفس، في الخلاص من المؤثرات السلبية على نفسيتك؛ فأنت ستتصرف مع الأمور بشكل صحيح؛ لأنك تملك الرؤية الصحيحة تجاه الأمور، ولديك أيضاً الملكة النفسية في التعامل الصحيح، والتصرف الصحيح مع الأمور.
لأنه في موضوع الحكمة لا تكفي المعرفة، الإنسان أحياناً يعرف تجاه موضوع مُعَيَّن، أو قضية مُعَيَّنة، قد يعرف ما هو التصرف الحكيم، أو الموقف الحكيم، ولكنه قد لا يعمل بمقتضى ذلك، ولا يتصرف على أساس ذلك، بل قد يتعامل بطريقة أخرى ليست حكيمةٍ، أو يتبنى موقفاً ليس حكيما، لماذا؟
• بسبب العامل النفسي: حالة الانفعال، أو الغضب، أو الخوف، أو المؤثرات النفسية الأخرى.
• أو جانب- مثلاً- متعلق بالجانب الأخلاقي: لم يمتلك على مستوى زكاء النفس والأخلاق ما يُمَثِّل حافزاً نفسياً، ودافعاً نفسياً له، ليعمل ذلك العمل الحكيم، أو يتصرف ذلك التصرف الحكيم، أو يقف ذلك الموقف الحكيم.
ولـذلك فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» حينما يهبك: هدايةً، وزكاء نفس، وملكةً نفسيةً، وتوازناً نفسياً؛ فأنت تتعامل مع الأمور برؤية صحيحة، وتتصرف على أساسها، وبمقتضى الحكمة، وبرشدٍ وصواب؛ فتجمع بين الفكرة الصحيحة، الرؤية الصحيحة، والالتزام بها في مقام العمل.
وهذا ما يحتاجه الإنسان جداً:
• في مسيرة حياته بشكلٍ عام، كإنسانٍ مؤمن في هذه الحياة.
• وتجاه المواقف، ولاسيَّما فيما يتعلق أيضاً بالمسؤوليات، حينما يكون الإنسان في مقام مسؤولية، وقد يتعامل مع ظروف مُعَقَّدة، وأوضاع صعبة، ويواجه تحديات كبيرة، ومشاكل متنوعة؛ يحتاج إلى أن يتعامل معها برشد، وحكمة، وهداية، وأن يتصرف بتصرفٍ صحيح، هذا ممن نحصل عليه؟ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
هذا العطاء المهم، في زكاء نفوسنا، واستقامة نفوسنا؛ وفي ما يهبنا الله من هداية، ورشد، ومعرفة صحيحة، وفهم صحيح، ونظرة صحيحة إلى الأمور، ونظرة صائبة إلى الأمور، نحتاج فيه إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
والإنسان بحاجة إلى ذلك كشخص، والمجتمع كمجتمع، لربما من أكبر ما تعاني منه أمتنا الإسلامية، التي تؤمن بالله، وكتابه (القرآن الكريم) كتاب الهداية، وبكتب الله ورسله، أنها تفقد هذا الحكم، وتتصرف في معظم الأمور، وتقف في معظم المواقف، بغير رشد، بغير هداية، بغير إصابة، بغير رؤيةٍ صحيحة، بغير تصرفٍ صحيح؛ فصلتنا الإيمانية بالله، وصلتنا بهداية الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، هي تبنينا في رشدنا، في فكرنا، في فهمنا، في وعينا، في زكاء أنفسنا، في صلاح أنفسنا والاتِّزان النفسي، بما يؤهلنا لأن ننطلق في مسيرة هذه الحياة هكذا: برؤية صحيحة، بتصرفٍ صحيح، بعملٍ صحيح، بمواقف صحيحة.
{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83]، لأكون صالحاً في نفسي، ومع الصالحين في زمرتهم، وهذا أيضاً من أهم الأمور.
بل الشيء العجيب عندما نتأمل في دعاء الأنبياء، حتى في قصة نبي الله سليمان، وفي قصة نبي الله يوسف «عَلَيْهِمَا السَّلَامُ»، ونجد أيضاً فيما يتعلق بالمواصفات الراقية للمؤمنين، نجد أنهم بالرغم من كل ما قد وهبهم الله، على المستوى المعنوي، والمستوى المادي: ما وهبهم من هداية، من توفيق، من رشد، من معرفة، من نور، من بصيرة، وارتقاء إيماني، وزكاء نفوس… وغير ذلك، وما وهبهم من تمكين، وما وهبهم أيضاً في هذه الحياة من نعمٍ متنوعة؛ تبقى آمالهم، واهتمامهم، ويبقى تطلُّعهم فيما يتعلق بالمقام الذي يطمحون للوصول إليه، هو هذا العنوان: الصلاح، وأن يكونوا من الصالحين:
• {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل:19]، هكذا دعا نبي الله سليمان «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، بالرغم مما قد منحه الله من نبوَّة، وملك، وإمكانات، وهداية… [أريد أن أكون من الصالحين].
• في دعاء نبي الله يوسف «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، بعدما وهبه الله به من النعم، والتمكين، والمقام العظيم، يدعو أيضاً بأن يدخله الله في عباده الصالحين، ويلحقه بعباده الصالحين.
• وهذا نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، في مقامه العظيم، يطلب هذا الطلب.
الإنسان المؤمن، آماله، وتطلعاته، وتَوَجُّهاته، إلى المرتبة التي هي مرضيةٌ لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يعني: عندما نتأمل في واقع الناس، ونلحظ ماهي اهتماماتهم على مستوى المقامات: البعض يريد وظيفة، منصباً مُعَيَّناً، لقباً مُعَيَّناً في إطار منصب مُعَيَّن، مثلاً: رتبة عسكرية مُعَيَّنة، طموحه في هذه الحياة أن يصل إلى رتبة مشير، أو رتبة عقيد، أو رتبة لواء، طموحه في مستوى مُعَيَّن، مثلاً: في المستوى الأكاديمي، أن يصل إلى عنوان بروفيسور مثلاً… وهكذا في اتِّجاهات مختلفة من شؤون الحياة.
الطموح الذي يطمح فيه الإنسان المؤمن مهما بلغ إيمانه: أن يكون في مرتبة الصالحين، هو يدرك أهمية هذا في المنزلة عند الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويدرك أهمية ذلك في القيمة الإنسانية والأخلاقية. قيمة لك كإنسان، المكانة العالية لك كإنسان، التسامي لك كإنسان، أن تكون من الصالحين.
يكون الإنسان صالحاً بخلوصه من الفساد، ومن كل آفات الفساد، وأن يستمر له ذلك الحال، وهذا مما يحرص عليه أنبياء الله حينما يدعون بهذا الدعاء (مِنَ الصَّالِحِينَ)؛ ليبقى صالحاً، ليستمر في طريق الصلاح، وليرتقي في مراتب الصلاح؛ لأن مراتب الصلاح- أيضاً- مراتب متفاوتة، متفاوتة.
فالإنسان في اتِّجاهه ليكون إنساناً صالحاً، بالعمل على أن يَخْلُص من كل آفات الفساد، يكون خالصاً من حالة الفساد: في نفسه، في أعماله، في تصرفاته، وهذا ما يتَحَقَّق للإنسان باستقامته على منهج الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، حيث تزكو النفس، ويَصْلُح العمل؛ فيتخلص الإنسان من شوائب الفساد:
• على المستوى النفسي، وعلى مستوى تَوَجُّهاته، وقلبه، ومشاعره.
• وعلى مستوى العمل، على مستوى الموقف، على مستوى التصرف.
وهذا يسمو بالإنسان، يسمو به كإنسان في درجات الكمال، وفي المنزلة عند الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83].
ثم أيضاً في هذا الجانب، الإنسان مرتبطٌ بالصالحين من أنبياء الله، والهداة من عباد الله، وأولياء الله، له بهم هذه الصلة والعلاقة الإيمانية: يُحِبُّهم، يتولاهم، يقتدي بهم، يتأسى بهم؛ لأن هذا أيضاً مما يحقِّق له الصلاح، وفي نفس الوقت هو مرتبطٌ بهم، هو في زمرتهم، في اتِّجاههم؛ لأنه اتِّجاه ممتد، مسيرةٌ عملية فيها الهداة من أولياء الله، من أنبياءه، والصالحين من عباده من ورثة كتابه.
الإنسان لا يتَّجه الاتِّجاه الإيماني ويحمل الشعور الانفرادي: أنه لوحده، صالحٌ لوحده، اتِّجاهه لوحده؛ هناك الأسوة في طريق الصلاح، هناك القدوة، لا يمكنك أن يتَحَقَّق لك الصلاح وتنفصل عن مسارهم، عن الاقتداء بهم، حتى عن المحبة لهم والتولِّي لهم؛ لأن هذا مما يساعدك على أن يتَحَقَّق لك الصلاح، وهو جزءٌ من الصلاح بنفسه. الكلام عن هذا الموضوع يطول، ونحن نسعى على الاختصار.
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}[الشعراء:84].
وذلك ليمتد تأثيري في الهداية للناس إلى طريق الحق، وإلى طريق الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وفي العمل لإصلاحهم وإنقاذهم، ليمتد ويتجاوز زماني ومكاني، وهذا شيء عجيب في طموح نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وفي تَعَلُّقِه بالحق والهدى.
تَعَلُّق الإنسان بالحق والهدى، وانتماؤه الأصيل له، يجعله حريصاً على نصرة هذا الحق، وهذا الهدى، وأن يَعُمَّ في أرجاء الناس، في أرجاء المعمورة، في أوساط المجتمع، وفي نفس الوقت حرصه على هداية الآخرين، يجعله حريصاً على أن يهدي أكبر قدرٍ ممكنٍ من الناس؛ فلـذلك هو يرغب في أن يكون في طريقته، ونهجه، وما هو عليه، مذكوراً بالخير وبالصدق، وأن يمتد هذا الذكر في الآخِرِين، بما يتجاوز زمانه ومكانه، ليمتد مع ذلك هذا التأثير في هداية الناس، حينما ينظرون إلى تلك الطريقة أنها طريقة عظيمة، مُقَدَّسة، ناجحة، صالحة؛ فيها الفوز، فيها الفلاح، فيها الخير؛ فينجذبون إلى ذلك؛ فيمتد هذا التأثير في هدايتهم، وفي خدمة طريق الحق والهدى، متجاوزاً لزمانه ومكانه.
{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}[الشعراء:85].
الجنــــة، التي هي من وعد الله العظيم، وهي الجزاء العظيم الأوفى، بما فيها من النعيم المادي والمعنوي؛ لأن جزءاً مهماً من نعيم الجنة هو: التكريم المعنوي، ومعه النعيم المادي، الذي هو راقٍ جداً.
الله علَّمنا فيما يتعلق بما وعدنا به، من الجزاء العظيم على الأعمال الصالحة والتقوى، وعدنا بالجنة، قدَّم لنا في كتبه: أوصافها، أنواع النعيم فيها، الأحوال للإنسان فيها، على نحوٍ واسع، في القرآن الكريم بشكلٍ عجيب جداً، يتحدث عن الجنة:
• عن سعتها: عالم عظيم ووسيع، وشاسع جداً، {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران:133]، وفي نفس الوقت مع سعتها الهائلة جداً هي بكلها جنة، ليست صحاري، ليست قِفَاراً خالية غير صالحة للحياة، بل هي بكلها جنة.
• يذكر ما فيها من النعيم بكل أنواعه: ما فيها من المزارع، من البساتين، من الأشجار، من الثمار، من الفواكه، التي هي بأعداد هائلة جداً: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52].
• يذكر ما فيها من الأنهار المتنوعة، بما في ذلك الأنهار من اللبن، والعسل… وغير ذلك، مع أنهار الماء، الذي هو صافٍ ونقي، ولا يشوبه شائبة، ولا يتغير، ولا يَأسَن… ولا أي شيءٍ من ذلك، من العلل والآفات التي تؤثِّر عليه.
• يذكر ما فيها من المساكن الطَّيِّبَة.
• ما فيها أيضاً من الحياة الأبدية، بسلامةٍ من الموت، والهرم، والمرض، والغم، والضَّجَر، والنصب، والتعب.
• الحياة فيها بطريقة محترمة جداً وراقية، ليس هناك ما يجرح مشاعرك حتى بكلمة مسيئة، أو تجرح مشاعرك: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}[الغاشية:11]، تعيش فيها محترماً، في النعيم الواسع العظيم: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[ق:35]، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}[الزخرف:71]، أرقى النعيم فوق حتى تقديرات الإنسان: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة:17]، أرقى النعيم المادي، بأصناف كثيرة وهائلة جداً، وحياة سعيدة.
• يصف ما فيها من: الحور العين، والمساكن، ومجاورة الأنبياء وأولياء الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والرفقة مع الصالحين… أنواع النعيم العظيم جداً.
كل ما يُمَثِّل رغبةً وحاجةً حقيقيةً للإنسان، هو متوفرٌ فيها بأرقى مستوى، وخالصاً من كل شوائب تُنَغِّص على الإنسان حياته ومعيشته؛ فهي بالشكل الذي يرغب فيها الإنسان، يعني: الله لا يعرض لنا نعيماً عادياً نرى في الدنيا أحسن منه، أو يُقَدِّم لنا أحدٌ عروضاً أكبر، بين كل العروض المغرية، التي تؤثِّر على الكثير من الناس، لو يُقَدِّم الإنسان مقارنة، يقارن- هو بنفسه- قبل أن ينجذب إلى طريق الباطل، أو خط الباطل، أو طريق الشهوات العمياء بطريقة منفلتة: بين كل رغباتك، وشهواتك، وآمالك، وطموحاتك المادية والمعنوية، استعرض لنفسك أنت، ما هو الذي قد تتَّجه به فيبعدك عن الجنة، ما هو؟ هل هو مثل ما في الجنة، أو أرقى من ذلك؟ فلا بأس تفضل؛ ستجده ليس شيئاً، لا يساوي شيئاً في مقابل الجنة، فلماذا إذا كان ما يغويك، أو يغريك، أو يُضِلُّك، أو يفسدك، أو يوقعك في العصيان: رغبات، وطموحات، وشهوات، لماذا لا تنظر إلى ما هو أرقى منها، أعظم منها، أفضل منها، وللأبد، في حياة هنيئة، وتنجذب إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؟!
غفلة الإنسان عن مثل هذه المقارنة، وعن التأمُّل فيما عرضه الله من النعيم، هي حالة خطيرة على الإنسان؛ تجعله يُهْلِك نفسه، يوبق نفسه، من أجل شهوةٍ زائلةٍ فانية، يعقبها الندم، ويعقبها العذاب، ومُنَغَّصة؛ ولـذلك هذا مما يَشُدُّنا إلى الله، تتحوَّل نفس شهواتنا، رغباتنا، آمالنا، طموحاتنا المادية، طموحاتنا المعنوية، تتحوَّل بكلها إلى عامل يَشُدُّنا إلى الله؛ لأن لدى الله أعظم ما نرغب به، وأرقى حتى مما نتصوره، في هذا نفسه: في مجال الشهوات، والرغبات، والأطماع المادية، والأطماع المعنوية، ومقام التكريم، والأهمية… وغير ذلك؛ المساكن، الحور العين، أنواع الطعام، أنواع الشراب، أنواع الملابس، أنواع الأثاث، المزارع، البساتين، المُلك العظيم، والتكريم المعنوي، تكريم حتى من جهة ملائكة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
ولهـذا استعراض ذلك يَشُدُّ الإنسان إلى الله، وهذا مما يفيدنا عندما نتلو القرآن الكريم، وفي التذكير أيضاً؛ ليكون ذلك حافزاً لنا على الابتعاد عن المغريات، والأطماع، والأهواء، التي تبعدنا عن طريق الله ونهجه «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:86].
دعاؤه بالمغفرة لأبيه هو: دعاءٌ بأن يوفِّقه الله للتوبة، ولا يعاجله بالعقوبة قبلها، يعني: ليس معناه أنه يطلب من الله أن يسامح أباه، ويبقى أبوه على شركه، يبقى على حالة الشركة، ليس المقصود ذلك، لا، هذا لكان إغراءً على المعصية لكنه يطلب من الله هذه المغفرة، التي فيها الإمهال، وعدم المعاجلة بالعقوبة، والتوفيق للتوبة، من مثل قول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}[النحل:61]، من مثل قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}[الرعد:6]، يعني: يُمْهِل، يُوَفِّق البعض للتوبة، يترك لهم المجال ليتوبوا.
وكان هذا الاستغفار عن موعدةٍ وعدها إياك، كما في الآية المباركة الأخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة:114]، حينما لاحظ إصراره وعناده.
{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87].
يوم البعث: يوم القيامة، يوم القيامة. من أهم ما في يوم القيامة في مقام الحساب والجزاء، هو: انكشاف الناس على حقيقتهم، والتعامل معهم على أساس ذلك.
في الدنيـــا، قد يكون البعض حتى من كبار الطغاة والمجرمين، يُقَدِّم نفسه، ويمتلك من وسائل الإعلام ومن الأعوان من يُمَجِّدُونه، من يُعَظِّمونه، من يُقَدِّمونه رمزاً للناس، من يَشُدُّون الناس إليه، من يحاولون أن يُغَطُّوا على جرائمه وقبائحه وسيء أعماله، ويكون في مقامٍ معنويٍ مُعَيَّن، في نفوذه، في تأثيره، في شعبيته؛ ولـذلك نجد في هذه الدنيا الكثير من الطغاة والمجرمين ولهم شعبية واسعة في المجتمع، البعض حتى من كبار الطغاة، من أسوأ المجرمين في الأرض، وكان له شعبية مُعَيَّنة، ومقام معنوي عند الناس، يعني: عندما تشاهد- مثلاً- في التلفاز مشاهد تشييع جثمان (إستالين)، واحد من أكبر المجرمين في العالم، في (الاتحاد السوفيتي)، وترى كم التف من الجماهير، والبعض من عامة الناس يبكون عليه بكاءً شديداً.
ففي هذه الدنيا، قد يكون الإنسان استند إلى ماله، إلى- أيضاً- التأثير على المجتمع فيما يتعلق باعتبارات مُعَيَّنة، تصبح ذات أهمية لدى الناس، وفي منظورهم، ويكون الإنسان من خلالها مهماً عندهم، وَمُعَظَّماً وَمُرَمَّزاً لديهم بسببها.
لكن في مقام القيامة، يظهر الناس على حقيقتهم، بمعيار الأعمال الصالحة والأخلاق، القيمة الحقيقية للإنسان؛ وبالتـالي يظهر البعض ممن كانوا في الدنيا إِمَّا يُغَطُّون على جرائمهم، ويُرَمِّزُون أنفسهم، ويُرَمِّزوهم أتباعهم والضالُّون معهم، يظهرون على حقيقتهم، وهي حقيقة مخزية، تظهر مساوئ أعمالهم، قبائح أعمالهم، وآثارها في الحياة، كم كانت تأثيراتها سيئة، ويظهرون في حقيقتهم، فيما كانوا عليه من السوء، من القُبْح، من الإجرام، من الدناءة.
ومع ذلك هناك التوبيخ لهم، الإهانة، والفضيحة لهم في مشهد القيامة، على مرأى الخلائق، ومسمع الخلائق، بمحضر ملائكة الله، وأنبياء الله؛ فهو مشهد رهيب جداً لحالة الفضيحة، والإهانة، والإخزاء، وحتى في المعاملة لهم، فيما يتعلق بالحساب، وما بعد الحساب، في تجهيزهم للنقل إلى جهنم، تعاملهم ملائكة الله بالإهانة والإذلال، حالة رهيبة جداً من التبكيت، من الإهانة بكل أشكالها.
فهو من أهم الحالات التي يحذر الإنسان منها، عليه أن يحذر منها، الإنسان في هذه الدنيا إذا افتضح في قضية تُمَثِّل فضيحةً له، وخزياً له، ونقيصةً له، على مستوى قيمته الإنسانية، وكرامته الشخصية، كم يؤثِّر عليه ذلك؟ أحياناً قد يتمنى الإنسان الموت في بعض الأمور، أو يتمنى أنه لا وجود له في هذه الحياة، فما بالك في مشهد القيامة! ولذلك في اهتمامات الإنسان المؤمن، هو أنَّه يرجو الله ألَّا يُخْزِيَّه يوم البعث، ويسعى للخلاص من الأمور المخزية، والحذر من الأمور المخزية، ومن الفضائح، ومن الهوان في الآخرة والعياذ بالله.
{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:87-89].
في يوم القيامة لا ينفع المال، الناس ينظرون إلى المال هنا في الدنيا على أن منافعه كثيرة، وأنَّه يفيدهم حتى في هذه الأمور:
• في الأمور المعنوية: يعني: البعض من الطغاة والمجرمين يستندون في نفوذهم وتأثيرهم في المجتمع، وأن يحظوا بمكانة اجتماعية، على المال، الإغراء بالمال، يصبح لهم أشياع، وأتباع، وأعوان، بماذا؟ بالدافع المادي، الارتباط بهم ارتباط مادي.
• مكاسب وأطماع الحياة: يرون فيها أنها تتَحَقَّق عن طريق الإمكانات المادية، وتتوفر عن طريق الإمكانات المادية.
• التأثير في الموقف: بالإمكانات المادية…
أشياء كثيرة يربطها الناس بالإمكانات المادية، إلى درجة أنَّ البعض من الناس يعبد المال، يعني: يتصوَّر المال كل شيء، وأنَّه بإمكانه أن يحقِّق لنفسه أي شيءٍ يريده عن طريق المال، وأنَّ يقي عن نفسه ما يريد وقايته عن طريق المال؛ فيرى في المال والإمكانات المادية أنَّها الأساس لكل شيء، وهذا تَوَجُّه مادي لدى الكثير من البشر، يعني: أصبحت نظرتهم- فعلاً- هكذا، وعلاقتهم بالإمكانات المادية والمال هي هذه العلاقة: أنه الأساس في كل شيء، والحل لكل شيء؛ ولـذلك يتَّجهون إليه كلياً في حياتهم؛ لأنهم يعتبرونه مصدر النفع، والوقاية من الضر.
بينما يعلِّمنا الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كيف ننظر إلى المال أنه وسيلة وليس غاية، وسيلة وليس غاية، وليس هو كل شيء، حتى على مستوى الوسائل ذات الأهمية للإنسان والتأثير في دنياه وفي آخرته، هناك أمور مهمة جداً؛ ولـذلك لا تكون علاقتنا بالمال بالشكل الذي يؤثِّر على اهتماماتنا الأخرى، على حساب التزامنا الإيماني، القيمة الإنسانية، القيمة الأخلاقية.
الإنسان إذا عبد المال؛ يبيع كل شيءٍ من أجل المال: يبيع الحق، يبيع الدين، يبيع العرض، يبيع الشرف، يبيع كل شيءٍ نفيسٍ غالٍ مما لا يباع بالمال، يبيعه بالمال، يبيع قيمته الإنسانية، يبيع المواقف بالمال، الولاءات تتحول عنده على أساس المال، العداوات تتحول على أساس المال، كل شيء يتحول عنده على أساس المال، يتحول المال إلى معيار له؛ لكن قد تكون النتيجة: أنَّ يتحمَّل الآثام والأوزار، ولو امتلك ما امتلك من المال بهذه الطريقة، فهو سيأتي يوم القيامة وهو محملٌ بالأوزار، وحينها لا يمثل المال أي أهمية، أو قيمة، لإنقاذه مما هو فيه، يأتي يوم القيامة محمَّل بالذنوب، بالمعاصي، بالأوزار، في أعماله السيئة، في مواقفه السيئة، في اتِّجاهاته السيئة، في ظلمه، في سوء تصرفاته، وحينها هل يمكن أن يعمل له المال شيئاً؟ لا، سيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]، لم يعد يُمَثِّل أي أهمية، مع أنَّه لو أمكن للإنسان في تلك اللحظة أن يقتني الأرض بكلها، ويفتدي بها؛ لافتدى بها، {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر:47]، لكن لا مجال أبداً.
القيمة التي ستنفعك، وتوصلك إلى أرقى نعيم مادي، إلى أرقى نعيم مادي، والسلامة من العذاب، وتوصلك إلى أرقى تكريم، هي: الأعمال الصالحة، والإيمان، والتقوى، هي التي كنت ستتحرَّك من خلالها حتى مع المال بطريقة صحيحة، تجعل منه وسيلةً في إطار القربة إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وليس سبباً لتحمُّل الأوزار والذنوب.
كذلك الثروة البشرية: البنون، البنون على مستوى أولادك أنت، أو على مستوى أعوانك، لا يمكن أن ينفعوك بشيءٍ يوم القيامة، إن لم تكون في هذه الدنيا اتَّجهت اتِّجاه الإيمان والتقوى، حتى الأبناء عندما تربيهم على التقوى، تصبح هذه التربية، وهذا الجهد في إصلاحهم، محسوبةً لك، نافعةً لك يوم القيامة؛ أمَّا أن يكونوا هم سنداً لك، ولو كانوا في اتِّجاه الباطل، أو كنت أنت في اتِّجاه الباطل، فذلك يومٌ {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان:33].
بل يخبر الله أنَّ المجرم يود يوم القيامة {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11]، ولكن لا يمكن أن يكونوا فداءً لك، أو وقايةً لك من العذاب، أو سلامةً لك.
البعض من الناس من أجل أسرته قد يتَّجه في طريق الباطل، يريد أن يوفر لهم ظروفاً معيشية كبيرة، راقية… إلى غير ذلك؛ فيسبب لنفسه الهلاك، ولا ينفعونه يوم القيامة بشيء.
{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89]، الذي ينفعك في يوم القيامة: أن تُقْبِل على الله {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، لماذا القلب السليم؟ لأنه مع القلب السليم تكون أعمالك صالحة، ويكون اتِّجاهك في هذه الحياة اتِّجاهاً إيمانياً؛ لأن القلب هو معدن التقوى، هو موطن الإيمان، القلب بنفسه.
وسلامـــة القلـب هـي تعنـي:
• سلامته على المستوى العقائدي: لا تحمل عقائد باطلة، عقائد سيئة، سواءً في دينك؛ فتسيء إلى الله وإلى دينه، أو في مختلف أمورك الفكرية، لا تحمل العقائد الباطلة.
• على مستوى السَّلامة من العلل والآفات في مساوئ الأخلاق، كـ:
• الكبر: الكبر أين يستوطن من الإنسان، قبل أن يتجسَّد بشكل تصرفات، وأعمال، وسلوكيات، ومواقف؟ في الحالة النفسية، في مشاعر الإنسان وقلبه.
• الحسد كذلك: أين يستوطن قبل أن يترجم إلى مواقف، وتصرفات، وسلوكيات، ومعاملات؟ في مشاعر الإنسان وقلبه، في قلبه.
• الشُح: أين موطن الشح؟ في القلب، ثم يتجسَّد في تصرفات الإنسان طمعاً وبخلاً، وتصرفاتٍ ظالمة في هذه الحياة مبنيةً على ذلك… وهكذا بقية العلل.
• الميول الفاسدة: الميول الفاسدة نحو الفساد اللاأخلاقي، أين منبعها، وموقعها؟ في داخل القلب، وهكذا.
فسلامة القلب أيضاً من هذه العلل.
• من الشك أيضاً: الشك تجاه هدى الله، تجاه حقائق الإيمان، حقائق الهدى، أين يعرض هذا الشك؟ موطنه في قلب الإنسان، في داخل قلب الإنسان.
• العداوات والولاءات: البغض لأولياء الله، عندما يكون في قلبك، هذا من العلل الخطير جداً عليك؛ أو الحب والولاء لأعداء الله، كذلك يشكِّل خطورةً عليك.
فسلامة القلب هي سلامة كاملة: على مستوى العقائد، على مستوى العلل، والسلامة من العلل والآفات، في مساوئ الأخلاق؛ لأنها جذور للمعاصي، ينتج عنها في تصرفات الإنسان، الإنسان يتَّجه في الأعمال السيئة بدوافع من قلبه، ويتَّجه في الأعمال الصالحة بدوافع من قلبه؛ فالقلب مؤثِّر، هو مضغة إذا صلحت، صلح الجسد بكله؛ وإذا فسدت، فسدت الجسد بكله؛ فالإنسان يحرص على صلاح سريرته، وصلاح باطنه؛ ليكون مع ذلك صلاح ظاهره، وصلاح علانيته.
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء:90].
يعني: تُقرَّب الجنة في مشهد عجيب جداً، على سعتها، وكبرها، وعظمها، تقرَّب قريباً من ساحة المحشر؛ حتى يكون سفر المؤمنين إليها، وانتقالهم من ساحة المحشر إليها بدون جهد، بدون عناء، لا يحتاجون إلى سفر طويل جداً، وهو مشهد عظيم من مشاهد القيامة، وحتى مشهد انتقال المتقين من ساحة المحشر إلى الجنة، وبقاء غيرهم هناك لينتقلوا إلى النار، هو من أكبر المشاهد يوم القيامة، ومن المشاهد التي فيها حسرة كبيرة جداً على المنافقين، حينما ينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[الحديد:13]،.
كم هي حسرة الإنسان حينما يرى المتقين- وقد يكون البعض منهم من رفاقه، أو أقربائه، أو مجتمعه- يراهم وهم يذهبون إلى الجنة، في موكبٍ نوراني، مكرَّمين معززين، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}[مريم:85]، ويرى نفسه مطروداً، مُنِع من الذهاب معهم، حتى لو طلب منهم أن يأخذوه معهم لا يمكنهم ذلك، وهو يُطرد، وهم لن يتعاطفوا معه، ولن يتفاعلوا معه، هذا أمرٌ لا يعنيهم أصلاً، فهي حالة خطيرة على الإنسان، المشهد مشهد عجيب، من أكبر وأهم مشاهد القيامة، التي فيها حديثٌ واسعٌ عنها، حديثٌ واسعٌ في القرآن الكريم.
وهنا يتبين لنا لمن الجنة؟ الجنة للمتقين، كم تكرر هذا في القرآن الكريم، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، لابدَّ من التقوى.
نحن في شهر رمضان في شهر التزوُّد بالتقوى، نتربى على التقوى، نتزوَّد التقوى، نهتدي بهدى الله بما يدفعنا أيضاً إلى الالتزام بتقوى الله، والتقوى تأتي في الالتزام الإيماني في أعمالنا، في معاملاتنا، في تصرفاتنا، في مسؤولياتنا الكبيرة:
• مسؤوليتنا في إقامة دين الله.
• مسؤوليتنا في إقامة القسط.
• مسؤوليتنا في الجهاد في سبيل الله.
• في الإنفاق في سبيل الله.
• مسؤوليتنا في التصدِّي لأعداء الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}[آل عمران:102]، في مواجهة خطر اليهود والنصارى.
وهكذا، الالتزام بالتقوى هو الأساس، الجنة ثمنها هو التقوى، والطريق إليها عن طريق التقوى.
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء:91].
البديل عن التقوى هو طريق الغواية، طريقٌ مِعْوَجَّة، ليست في إطار الصراط المستقيم، ليست طريق الرشد، طريق غواية، مِعْوَجَّة، ومؤدَّاها إلى نار جهنم، إذا سار الإنسان فيها، لا يمكن أن توصله إلى الجنة، لا يمكن أن يوصلك إلى الجنة إلَّا طريق التقوى، هو طريق الجنة.
• التقوى: هي طريق الجنة.
• الغواية والخروج عن التقوى: هي طريق من ذهب فيها مؤدَّاها إلى نار جهنم.
نلحظ في الدنيا مثلاً، عندما يكون هناك منطقة معينة، في مكان معين، وأنت تذهب باتِّجاه معاكس لها، هل ستصل إليها؟ لا يمكن أن تصل إليها، فمؤدَّى طريق الغواية، التي هي بديلٌ عن طريق التقوى، مؤدَّاها إلى جحيم جهنم، وهي- كذلك- تظهر لأهلها، قبل أن ينقلوا إليها من ساحة المحشر، في مشهدٍ رهيب، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان:12]، مشهد رهيب يمتلئون منه خوفاً ورعباً، وحالة الندم فيهم تصل إلى أعلى مستوى، يتمنون أن لو يموتون على الفور في تلك اللحظة، وأنهم لم يبعثوا.
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}[الشعراء:92-93].
وجهتكم في هذه الدنيا بديلاً عن الله، سواءً كان ما تعبدونه أصناماً، أو شيطاناً، أو مضلين، أو كان مادةً، أو أهواءً، أو رغبات… هل يمكن أن يشكِّل لكم وقاية، أن ينصركم، أن يغيثكم، أن ينقذكم؟
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا}[الشعراء:94].
نُقلوا إلى جهنم، بعد المشهد الرهيب وهم يشاهدونها، يحشرون إليها، دفعاً، رغماً عنهم، {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، وبطريقة مخزية، مُذِلَّة، مهينة، تدفعهم ملائكة العذاب، وتسحبهم إلى نار جهنم.
وحينما تصل بهم إلى عالم النار، عالم: مكان كبير جداً وشاسع، تلقي بهم ملائكة العذاب إلى نار جهنم إلقاءً؛ لأنهم لا يدخلون رغبةً، وطواعيةً؛ فَيُدْخَلُون إجبارياً، وقسراً، بالإلقاء لهم مُنَكَّسِين على رؤوسهم، يلقى إلى نار جهنم وهو منتكسٌ على رأسه، فيصل على رأسه وجهه إلى نار جهنم والعياذ بالله، مشهد رهيب جداً! وهذه حالة الدخول إلى نار جهنم.
• حالة الذهاب إلى الجنة بتكريم، واستقبال من الملائكة على أبوابها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر:73]، ودخول بفرحٍ عظيمٍ وسرورٍ لا يوصف، وفي نفس الوقت شعورٌ بالفوز والسعادة، وإلى عالم الجنة العظيم الهنيء.
• أمَّا إلى نار جهنم، فالدخول بطريقة مهينة، مُذِلَّة، وبذلك الإلقاء إليها، مُنَكَّسين على رؤوسهم، يصلون على وجوههم، ويسحبون في النار على وجوههم، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}[القمر:48]، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}[النمل:90]، نعوذ بالله، أمر رهيب جداً!
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94].
كل الغاوين، كل الذين خرجوا عن طريق التقوى، وساروا في طريق الغواية، هي طريق أوصلتهم إلى نار جهنم.
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95].
جنود إبليس، من هم جنود إبليس؟ كل الذين تجنَّدوا في هذه الدنيا لخدمة الباطل، ونصرة الباطل:
• سواءً التجنُّد عسكرياً. وما أكثرهم، جيوش كثيرة!
• أو التجنُّد إعلامياً.
• أو التجنُّد في ميدان الثقافة والفكر…
أو التجنُّد في أي مجال من المجالات، حينما تكون المهمة الرئيسية للإنسان في هذه الحياة نصرة الباطل، ودعم الباطل، والصدّ عن الحق، والمحاربة للحق والهدى؛ يصبح متجنِّداً مع إبليس؛ لأن أولياء الشيطان بكل فئاتهم، هم تشكيلات تعمل في نفس الاتِّجاه الشيطاني:
• في الإضلال.
• في الإفساد.
• في الصدّ عن طريق الله، عن الحق، عن نهج الله.
• في صرف الناس عن الالتزام بدين الله.
• في إغوائهم.
• في إفسادهم.
وبالتالي يكون مجنَّداً مع الشيطان.
فجنود إبليس هم من مختلف البلدان، ومن مختلف الأوطان، ومن مختلف الأديان، ومن مختلف الأزمان، بكلهم يحشرون إلى جهنم، ويكبُّون في نار جهنم على وجوههم، ويلقون إليها بتلك الطريقة المخزية.
حينما يصلون إلى ذلك العذاب، والخزي، والخسران الأبدي، تغيَّرت أحوالهم، كانوا في الدنيا تتظافر جهودهم، يتعصَّبون، يتعاونون معاً في نصرة الباطل، وخدمة الباطل، الذي هو خدمة للشيطان، وصدّ عن سبيل الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويقاتلون مع بعضهم جنباً إلى جنب، ويقفون مع بعضهم صفاً واحداً، وهذا كان من أكبر العوامل لتخليد الباطل، ونشره في الأرض: أن له أنصار، يقاتلون في سبيله، يعملون من أجله على كل المستويات، وكان من أهمِّ ما يؤثِّر على الكثير من الناس في صرفهم عن طريق الحق: أنهم يرون ما عليه أهل الباطل من قوة عسكرية، من تجنُّد، من تظافر جهود، من تحرك لخدمة الباطل بكل الوسائل؛ الكثير من الناس يتهيَّب، ويتَّجه في صف الباطل.
ففي نار جهنم، بعدما كانوا في الدنيا كتلة، تتعاون، تتَّجه في المواقف بشكلٍ واحد، تغيَّرت الأحوال، وتقطَّعت الأسباب، ما بين القادة والمتبوعين، وما بينهم هم ككتلة واحدة في الدنيا، كانوا يتَّجهون، يقاتلون، يتعاونون، تتظافر جهودهم؛ تحوَّلت حالتهم في النار إلى حالة خصام:
{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:97-98].
يحلفون (تَاللَّهِ)، ومتعجِّبين من أنفسهم، كيف تاهوا إلى هذا الحد، أن يسووهم في الطاعة لهم بربِّ العالمين؛ فجعلوا طاعتهم فوق طاعة الله، وأطاعوهم بدلاً عن طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، واتَّبعوهم بدلاً من اتِّباع نهج الله الحق؛ فهم يأسفون، ويتحسرون، يدركون أنَّ تلك كانت ورطة رهيبة، وحمق كبير، وضلال مبين، وغباء بكل ما تعنيه الكلمة.
{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}[الشعراء:99].
المجرمون هم مصدر ضلال، المجرمون يعملون على إضلال الناس كوسيلة للتحكم بهم، والتأثير عليهم، والتأقلم معهم، كيف يتأقلم الناس معهم؟ كيف يتقبلهم الناس؟ كيف يطيعهم الناس؟ ترى مجرماً بكل ما تعنيه الكلمة، مصدر للجرائم، يرتكب أنواع الجرائم، والناس يطيعونه، وهو بصفة رئيس، أو ملك، أو قائد، أو شخصية اجتماعية لها طاعة في المجتمع، ونفوذ وتأثير، والناس يعرفونه أنه مجرم، كيف تحولوا إلى متقبِّلين له، مطيعين له؟ وجزءٌ من إجرامه يعتمد على نفوذه، يعني: نسبة كبيرة من الجرائم تحتاج إلى نفوذ، إلى سلطة، إلى تأثير، إلى قابلية في المجتمع، إلى أعوان، بعض الجرائم ترتكب بأعوان.
نلاحظ مثلاً مجرمي العصر: أمريكا وإسرائيل، جرائمهم الكبرى هي جرائم قائمة على أساس أعوان، جرائم جماعية، جرائم: عدوان، احتلال شعوب، إبادة مجتمعات، نهب ثروات، سيطرة، وكذلك نشر واسع للباطل والضلال؛ فهم يعتمدون على الإضلال، بل الإضلال واحدٌ من جرائمهم، يضلُّون الناس، عملية الإضلال خطيرة؛ لأنها تجعل الناس يتقبَّلونهم، يتقبَّلونهم، ينخدعون لعناوينهم، لتبريراتهم، لفلسفتهم؛ فيتَّجهون معهم، ولديهم فلسفة وتبريرات لذلك، ولديهم ما يقدِّمونه كمفاهيم خاطئة، دعايات باطلة، زُخرُف القول، شُبَه تصرف الناس عن الحق، وتصدهم عنه؛ حتى يؤثِّروا على الكثير من الناس، فيترك طريق الحق، ويتَّجه معهم.
{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}[الشعراء:100-101].
لم يبقَ هناك أي شيءٍ ينقذهم، لا شفاعة، ولا وساطات، ولا تدخلات، ولا صداقة تنفعهم، صديق حميم، [الصديق عند الضيق]؛ من أجل أن يخفف عنهم، ويواسيهم، ويعمل لهم شيئاً، ليس هناك مجال لذلك.
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:102].
لأنها كانت في الدنيا وساطات تعتمد كوسيلة، صديق حميم يكون له دورٌ في مساندة الإنسان وقت الشدائد، والمضائق، والمعاناة؛ هناك لا مجال، {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:102]: رجعه إلى الدنيا؛ فنتَّجه الاتِّجاه الوحيد الذي فيه النجاة: اتِّجاه الإيمان، والإيمان ثمرته التقوى.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:121-122].
استكملناها مع استكمال شهر رمضان المبارك، هناك أيضاً قصص لنبي الله إبراهيم في سور أخرى، قد نكمل البعض منها- إن شاء الله- في شهر ذي الحجة، إذا أمد الله في العمر.
نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛