تأتي كلمة الحرية والحريات من الأشياء المسلّم بها للمخلوقات فما بالك بأهميتها للإنسان. لقد فطر الله الإنسان بسعيه الدؤوب من خلال البحث عن الاستقلال والحرية المطلقة التي لا ينازعه فيها كائن من كان، إلا أن هذا السعي اصطدم في مراحله الأولى من التكوين الإداري أو السلطوي إن صحّ التعبير في البدايات الأولى للتحضُّر البشري فقد نصّت قوانين الحيثيين، الذين عاشوا في تركيا بين عامي 1650 و1500 قبل الميلاد تقريبًا، على أنه «إذا رفض أي شخص حكم الملك، سيصبح منزله كومة من الخراب» وفي الكتاب المقدس «يرجم من يلعن الله والملك» كما جاءت تعليمات بـ «تاح حتب»، وهي مجموعة مصرية من المبادئ التي تعود إلى عام 2350 قبل الميلاد تقريبًا، تنص على «عدم التحدث إلى رجل أعظم منك، تحدث حين يطلب منك فقط وستكون قيمتك مرضية»، كذلك شدد الفيلسوف الصيني كونفوشيوس على أهمية طاعة الرؤساء، إلا أن الأباطرة الذين جاؤوا بعده حظروا الأدب والسجلات الكونفوشيوسية، وفي عام 213 قبل الميلاد تم دفن 460 باحثًا بسبب انتهاكهم للحظر وحرق المؤلفات ليسجل التاريخ أول حرق جماعي منظم للكتب في التاريخ المسجل وبدايات تغول السلطة ضد الحريات وظهور الطغاة الذين يقدسون الدم.

ولم يكن قانون حمورابي بعيدا عن تكريس السلطة والنفوذ سواء للملك أو للسادة «فقد سمح قانون حمورابي البابلي بين عامي 1792 و1750 قبل الميلاد لأصحاب العبيد بقطع آذان عبيدهم إذا نطقوا بعبارة «أنت لست سيدي» وفي المقابل أصدر كورش العظيم، بعد تأسيسه الإمبراطورية الأخمينية الفارسية في القرن السادس قبل الميلاد، أسطوانة طينية يعلن فيها حرية العبادة لمختلف رعايا الإمبراطورية الشاسعة، والذي يعتبر إعلان قديم لحقوق الإنسان».

ثم تطل علينا «أثينا» كعروس البحر التي تمشّط شعرها بالفلسفة وتخضب أياديها الحكمة والديمقراطية، والتي يصفها بريكليس قائلا: «نحن الأثينيين نأخذ قراراتنا السياسية أو نخضعها للمناقشات المناسبة؛ لأن ما من شيء أسوأ من التسرع في العمل قبل مناقشة العواقب بشكل مناسب» على الرغم من ذلك كانت لحرية التعبير حدود لا يسمح بتخطيها، فمن يقترح قانونا أو تشريعا ينتقد القوانين المعمول بها يعاقب، ولعل أبرز مثال على ذلك تخلي أثينا عن النقاش والتسامح في قضية سقراط فقد صوت الأغلبية على إعدام سقراط بتهمة إفساد أخلاق الشباب، وقد دافع أفلاطون عن معلمة ونقل محاوراته وبالتالي حافظ على إرث حضاري مشفوعا بعبارته الشهيرة «تكلم حتى أراك»، ورغم ذلك لم تكن أثينا بعيدة عن تغول السلطة، فقد كانت مشاعر أرسطو حول الديمقراطية مختلطة إلا أن السماح لهما بالتدريس وإنشاء الأكاديميات يعتبر من صنوف الحريات التي ناضلوا من أجلها في ظل نظام رقابة سياسية ودينية صارمة.

أما في روما فقد اتسمت المناقشات السياسية في مجلس الشيوخ بالحرية، وهاجم أعضاء المجلس بعضهم البعض بشراسة أحيانا، وكان من أهم المدافعين عن هذه المجالس التي تضم النخبة، الفيلسوف «شيشرون» الذي طالب بمنح حرية التعبير أولا لأفضل الرجال وليس للعوام «الجاهزين لإفلاس الدولة أو الحرفيين أو أصحاب المتاجر وهؤلاء الحثالة» رغم النموذج النخبوي الذي ساد روما إلا أن المواطن الروماني عاش تحت سقف من الحريات التي منحتها القوانين لكافة المواطنين سواء الحقوق المدنية والحريات السياسية والدينية.

«أنا الذي تربيت على الحرية، ونشأت مع حرية التعبير، لا أستطيع أن أتغير في شيخوختي وأتعلم العبودية بدلا من ذلك» كاتو الأصغر قبل أن يطعن نفسه وينتزع أمعاءه؛ لأنه رفض قبول العفو مقابل ترك معارضته ليوليوس قيصر. ليطوف شبح الموت بعد ذلك على الفيلسوف شيشرون الذي طاردته فرقة الموت التي بعثها أوكتافيوس ومارك أنتوني وشريكهما أميليوس الذين أرادوا تطهير روما من المعارضة ليضع مارك أنتوني رأس ويدين شيشرون أمام الجميع منتشيا بتخليص روما من شخص تحدث وكتب ضده، ثم يأتي أغسطس الذي نصب نفسه رئيس كهنة روما، فقام في عام 12 قبل الميلاد بحرق أكثر من ألفي مخطوطة دينية ومنشور وكتاب، ثم جاء بعده تيبيريوس الذي تجاوزت ضحاياه ما فعله أغسطس حيث جمع المنجمون والعرافون حيث تفنن في وسائل قتلهم.

يشهد عصر الاضطهاد الذي مارسه تيبيريوس حالة نادرة عمليا، فكما لم يترك سقراط أي مخطوط بيده لم يترك المخلص «سيدنا عيسى» كذلك أي عمل بخط يده، ففي هذا العصر حدث صدام ديني نتج عن هذا الصدام صدور حكم على يسوع الناصري من قبل الحاكم الروماني لمقاطعة يهودا «بيلاطس البنطي» بالإعدام بين عامي 30 و33 بعد الميلاد، إلا أن تعاليمه أصبحت فيما بعد الدين الرسمي لروما وغيرها.

جاء الدين الإسلامي مكملا للأديان ومتتما للرسالات السماوية التي ترفع من قدر الإنسان، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يمارس الديمقراطية برغم المجتمع الذي نشأ فيه الدين الإسلامي فقد جاء برسالة عظيمة لا زالت البشرية تنعم بنقاء معينها برغم ما شابها من تشويه نتج عن فكر أحادي رفض المخالف له رغم وضوح المبادئ التي جاءت في الدستور الإلهي كقوله تعالى: «لا إكراه في الدين» وقول رسولنا الكريم لرجل رأى فيه مهابة الملوك، فقال له: «هوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»، وكذلك جاء الخلفاء من بعده، وما يدلل على المساواة والعدل مقولة سيدنا عمر: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».

أما في عصرنا الحديث فلقد حدثت ثورات في وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الثورات قادة النظم في العالم لاستحداث تقنيات رادعة وضبط سيبراني لمحاولة القبض على الحريات التي وجدت لها فضاءات مفتوحة للجميع، كما شددت القوانين العقوبات للذين ينتقدون النظم محاولة في السيطرة على هذا العالم المفتوح.

محمد الصالحي شاعر وكاتب عماني.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قبل المیلاد إلا أن

إقرأ أيضاً:

«تطاولت على الحضارة».. دعوى لحظر صفحات فدوى مواهب ومنعها من التدريس

تقدم الدكتور هاني سامح، المحامي، بدعوى أمام محكمة القضاء الإداري تحمل رقم 45788 لسنة 79 قضائية، يطالب فيها بحظر ومنع صفحات فدوى مواهب على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنعها من التدريس في المدارس، واتخاذ الإجراءات القانونية لمعاقبتها على ممارسة الدعوة الدينية والفتوى دون ترخيص واستغلال الدين لأغراض تجارية، وذلك في إطار مواجهة الفكر الرجعي الذي يسيء للحضارة الفرعونية الخالدة.

في دعواه، أكد الدكتور هاني سامح أن الحضارة الفرعونية تمثل معلمًا إنسانيًا خالدًا تقف أمامه البشرية بإجلال، وتعد من أهم ركائز الاقتصاد المصري ومصدرًا لجذب السياحة الدولية. وأوضح أن الحضارة المصرية كانت ولا تزال رمزًا للحداثة والعلم، وقدمت للبشرية إنجازات لا تزال مبهرة للعلماء والمتخصصين في مختلف المجالات.

وأشار إلى أن فدوى مواهب، بعد اعتزالها العمل الفني، حولت نشاطها إلى ما أسماه "السبوبة الدينية"، حيث اتخذت من صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي منصة لنشر الأفكار الرجعية والمتطرفة المسيئة للفنون المصرية والفكر الحداثي، مع التعدي على الحضارة الفرعونية العظيمة، كما مارست الدعوة الدينية والتدريس في بعض المدارس دون الحصول على ترخيص رسمي من الجهات المختصة، مما يشكل مخالفة صريحة لقانون تنظيم ممارسة الخطابة والدروس الدينية.

اتهم الدكتور هاني سامح فدوى مواهب بنشر التطرف الفكري عبر وسائل التواصل الاجتماعي واستغلال المدارس المتعاقدة معها كمنصات لترويج أفكارها الهدامة، مما يهدد مدنية الدولة المصرية ويخالف القوانين المنظمة للإعلام والدعوة الدينية.

وأشار إلى أن تلك التصرفات تتنافى مع مبادئ الجمهورية الجديدة، التي تسعى إلى إرساء قيم التنوير والحداثة على غرار رواد النهضة المصرية من قاسم أمين إلى نجيب محفوظ.

استندت الدعوى إلى عدة مواد قانونية من بينها قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، الذي يحظر نشر أو بث أي مواد إعلامية تدعو إلى الكراهية أو العنف أو التمييز الديني. كما استند إلى قانون 51 لسنة 2014 الذي ينظم ممارسة الخطابة والدروس الدينية، ويشترط حصول الدعاة على ترخيص رسمي من وزارة الأوقاف أو الأزهر الشريف.

وأكد الدكتور هاني سامح في دعواه أن نشاط فدوى مواهب يخالف الدستور والقوانين التي تمنع تأسيس مواقع إلكترونية أو وسائل إعلامية ذات طابع ديني متطرف أو محرض على الكراهية. وطالب بحظر صفحاتها على منصات التواصل الاجتماعي مثل "إنستاجرام" وغيرها، ومنعها من التدريس في المدارس لتورطها في استغلال الدين لأغراض تجارية وترويجها لأفكار رجعية تتنافى مع الهوية الحضارية المصرية.

جاءت الدعوى بطلبين رئيسيين اولهما حظر صفحات فدوى مواهب على وسائل التواصل الاجتماعي وذلك بسبب نشرها لمحتوى ديني متطرف يستغل الدين لأغراض تجارية ويخالف قيم الدولة المدنية، والثاني منعها من التدريس في المدارس وحظر ممارستها الدعوة الدينية دون ترخيص لما يشكله ذلك من انتهاك للقوانين المنظمة لممارسة الخطابة والدعوة الدينية.

وجه الدكتور هاني سامح الدعوى ضد كل من رئيس المجلس الأعلى للإعلا ووزيري التعليم و الأوقاف ورئيس الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات والمستشار النائب العام، وأكد في دعواه أن الدولة المصرية تلتزم بضمان مدنيتها وحماية هويتها الحضارية من محاولات تشويه التاريخ والترويج لأفكار ظلامية. وأضاف أن الدعوى تأتي في إطار الحفاظ على التراث المصري وصون السياحة الثقافية من حملات التشويه المتعمدة.

من المقرر أن تنظر محكمة القضاء الإداري الدعوى في جلساتها المقبلة، حيث يأمل مقدم الدعوى في أن تصدر المحكمة حكمًا يرسخ مبادئ الدولة المدنية ويحمي الحضارة الفرعونية من محاولات التشويه واستغلال الدين لتحقيق مكاسب تجارية.

اقرأ أيضاًمقتل طالب في شبين القناطر بعد الاعتداء عليه من 3 أشخاص

«قتيل و4 مصابين».. تفاصيل ليلة الرعب في مشاجرة البساتين

كواليس مصرع سائق تحت عجلات سيارة في المرج

مقالات مشابهة

  • انتظرت عودة زوجها 80 عاماً.. صينية تُحيّر التواصل الاجتماعي
  • «وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها على الفرد والمجتمع».. ندوة توعوية بشبراخيت في البحيرة
  • بعد عرض الحلقة 16.. «حكيم باشا» يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي
  • السر وراء التطريز في طرفي المنشفة: نقاش بمنصات التواصل الاجتماعي يكشف الحقيقة
  • تعرف على وسائل التواصل مع منظومة الشكاوى ومكافحة الفساد بالنيابة الإدارية
  • «تطاولت على الحضارة».. دعوى لحظر صفحات فدوى مواهب ومنعها من التدريس
  • المكتب الوطني للإعلام يؤكد ضرورة التزام مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بالقيم والسياسات الوطنية
  • بيان مهم من المكتب الوطني للإعلامي لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي
  • الكشف عن القواعد التي أقلعت منها الطائرات الأمريكية لاستهداف اليمن
  • أبوخشيم: يجب محاسبة وسائل الإعلام التي تروج لخطاب الكراهية