في منصات الجمال بيننا خائن للسودان يارفيق
تاريخ النشر: 3rd, April 2024 GMT
لا حرج ، أن يستأنس المرء ، بتعبير من تعبيرات أصحاب السبق والريادة الحاذقين في الإبداع الكتابي ، والإستقاء من نصوصهم الطامحة بالمعاني المشرقة .
الإقتداء بالأكابر ، أوالإغتذاء من أوردة منجزاتهم في سبيل الإستدلال ، هو في ظني ، أنفع وأمتع لحواري من أمثالي ، سالك للطريق أوسادن في محراب جمالياتهم .
عليه أفيد قارئي ، أن في الشارة العليا لمقالي هذا ، يلتمع ” تناص ” من ” نص ” شعري لأديبنا الكبير ” محمد مفتاح الفيتوري ” واقفا بمتعة عند قوله :
” بيننا خائن يا رفيق ،
ﺃﻧﺎ ﺃﻭ ﺃﻧﺖ ،
ﻓﻠﻨﻘﺘﺮﻉ ﻗﺒﻞ ﺑﺪﺀ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ، ﻣﻠﻚ ﺃﻭ كتابة ”
و” الفيتوري ” فارس من فرسان القصيدة العربية الحديثة ، يمتاز شعره بحالة فكرية ثرية صافية التفلسف والمنطق ، وجمالية بلا فجاجة في الشكل ، تزيد قيمته الفنية سموقا وعلو ، وكذا أيضا نجد ذات الصفاء في مقالته النقدية ، وكتاباته النثرية الأخرى المتنوعة .
” الفيتوري ” شاعر أديب ، علمي ، فلسفي أخلاقي ، ظل وباستمرار ، يؤكد أن المبدع ، ليس فردا ، بل إن فرديته تمثل حياة أمته ، ومسرى حضارتها . يعيش صيرورة القيم في حياتها الإجتماعية ، والجماعية ، فيرى الصحيح منها والمعتل .
فالإبداع الثقافي عند الفيتوري ، أجده ، كما ، وجدته من قبل عند الأديب المصري ” عباس محمود العقاد ” الذي قال :
هي الصناعة التي تعلمنا كيف نزرع حياتنا جميعا ، وكيف نختار لها أحسن ثمارها ، وكيف نستخرج منها أوفى بركاتها ، أو هي الصناعة التي نستحي بها الحياة ، في أوطاننا .
وعليه ، يمكن القول ، أن المبدع الثقافي – في جميع أجناس وأشكال الإبداع – جوهر وظيفته ، هو أن يؤدي دور المحرك والمحفز في شعبه وكتلته الإجتماعية .
أولا ، يساعدنا لكي نفهم كيف أستطعنا الوصول إلى هذا الدرك الأسفل من الإرتباك والضياع – حسب الشاعر الفرنسي إيف بونفوا – لا بل إلى هذا الدرك من البؤس السائد اليوم على جميع أنحاء كوكبنا ، بغية أيجاد دواء ناجع لوضعنا المؤسف .
ذلك من خلال إشتغالاته ، على رسم المعادل الموضوعي للواقع ، ومشهدياته وظروفه . وإنتاج المعنى العميق للوطن بعثا للإيمان به ، والإنتماء إليه . ومكامن حضور المعنى نفسه في حيوات الناس بتوتراتهم وتناقضاتهم وتقاطعاتهم في المنجز الإبداعي بوصفه البديل المقترح .
على ذلك الأساس يثبت أن ثمة معنى للوطن ، ويذكرنا بأن لنا ” ذات ” ، أو ، في حال نقص شعورنا بهذا ” الذات ” .. وذهبنا في إتجاهات مناقضة لها ، تماهيا مع متطلبات ومصالح ” ذوات ” أخرى .
فالفنان ، أو المبدع الفكري هو من يقرر بمقترحه الإبداعي كيف نستعيد ذاتنا المستلبة التائهة ، هو الأنصع رؤيوية والأمضى في فتح سؤال الإنتماء ، لا في محتوى منجزه الإبداعي فحسب ، بل حتى من خلال مواقفه تجاه كل ما يجري إزاء بلده ، أينما كان موقع وجوده تلك اللحظة من إنعطافة التاريخ في البلد .
كيف يمكن للمبدع الفنان أداء هذا الدور ، وإجابة لهذا السؤال ، نستحضر ، نموذجا من النماذج العليا لأحد المبدعين المصريين . وهو الممثل الفنان الكبير المتعدد الموهبة ” محمود مرسي ” ، إذ ، يذكر له التاريخ – حسب أكثر من راوى – أنه ذهب إلى ” لندن ” عاصمة بلاد الإنجليز ، بحثا عن الرزق وتحسين وضعه المعيشي ، فعمل في هيئة الإذاعة البريطانية BBC ، وبعد سبعة شهور من تعيينه فقط ، حدث العدوان الثلاثي عام 1956م ، على مصر ، وتعد بريطانيا أحد أقوى أضلاع ثلاثي العدوان على مصر .
في تلك الأثناء ، والحرب تدور رحاحها في مصر ، إنتهز الفنان ” محمود مرسي ” لحظة تقديمه لإحدى البرامج على الهواء مباشرة ، ونهض خرجا عن النص المفترض تقديمه للملايين من المستمعين في ذلك الأوان فقال :
” إن هذه هي أخر حلقة اقدمها في هذه الإذاعة ، حيث أنه لا يمكنني أن أعمل أو أقيم في دولة تشن حالياً عدواناً على بلادي – مصر – وتلقي قنابلها على أهلي .
ولتلك الأسباب أقدم استقالتي على الهواء ، وسوف أعود إلى بلادي أقاتل بجانب أهلي ، أعيش معهم ، أو أموت معهم ” .
من الذي أجبر الفنان المبدع ” محمود مرسي ” أن يقف ذلك الموقف ويقول تلك الكلمات ، أثناء أداء واجبه الوظيفي في الإذاعة البريطانية ، قطعا لم يجبره أحد – على قطع رزقه ومعاش أبناءه –
سوى ضميره الحي ، وشخصيته الصاعقة الإنتماء لمصر ” الذات ” أرضا وشعبا وهوية ثقافية .
بذلك الموقف أثبت ” محمود مرسي ” مسؤوليته تجاه بلده وأهله ، بوصفه إنسان ، تملي عليه إنسانيته أولا ، أن ينحاز إلى حق وطنه في العيش الكريم ، وكفنان مبدع له مسؤلية تجاه ذاته .
ذلك هو الفنان الإنسان ” محمود مرسي ” الذي قال عنه الناقد ” كامل الشناوي ” :
” كان فنان مطابق للمواصفات ، حر ، جريء ، شجاع صاحب رأى وموهوب ”
هكذا حفظ النقاد في مصر ” الذات ” لإبنهم الفنان المبدع ” محمود مرسي ” موقفه تجاه الوطن والإنتماء إليه ، لا في منجزه الإبداعي فحسب ، بل في مواقفه الحياتية الخاصة ، التي لم يفصلها عن متطلبات الإنتماء الوطني وضرورات واحب الوقت في التضحية والتسامي فوق خصوصياته الفردية، لصالح الجماعة والكتلة الإجتماعية التي شكلت شخصيته .
فمصانعة الإجنبي على أي مستوى من المستويات هي جريمة نكراء ، وخطيئة لا تغتفر .
هي خيانة للوطن ، والكيان ، تاريخا وثقافة وتضاريس جغرافيته .
نقرأ ذلك ، ونماذج أخرى لفنانيين مصريين وعرب آخرين ، يحملون بلدانهم ، في وجدانهم أينما ذهبوا ، وفي أقوالهم وأفعالهم ، خاصة عندما يدلهم ليل ليظلم الشعب بظلامه . لن تجد فيهم من يتنكر لشعوره الإنساني في سبيل الدرهم والدلار ، ولا من يخون ” الذات ” لصالح ” ذوات ” أخرى .
الحس الوطني الجياش الذي رأيناه في ذلك النموذج الأعلى للفنان محمود مرسي وغيره من المبدعين الآخرين – لا يسعنا ذكرهم – ترى أي مقدار منه بلغه الفنان السوداني في وقتنا هذا ، عصر الخيبات الكبيرة والأوجاع .
هذه اللحظة المربكة من تاريخ السودان ، إذ تتهاوى عليه معاول الأجانب وتعمل هدما وتخريبا وتهشيما لهيكل بناء شخصيته الثقافية ، وطمس ذاته ، من خلال تدمير الأبنية والصروح العلمية والثقافية والمتاحف ، باجتياح عسكري دولي طاغي بأمواج لامتنهية من مليشيات الجنجويد عربان شتات صحراء غرب إفريقيا .
في هذا الوقت ، يا صاح ، كم ترى لدينا من الإعلاميين السودانيين المستنيرين ، الذين يملأون فضائيات تلك الدول الغازية لبلدنا ، عاملين مخلصين لسياسات ، وأهداف تلك الفضائيات والقنوات التلفزيونية التي تعمل بمنهحية في تدمير السودان ؟
كم ترى منهم في اليوم والليلة ، يقف بزهو وافتخار أمام كاميرات تلك الفضائيات ، ويرمى بنبال وسهام الكلام في ظهر القوات المسلحة السودانية ، وطعنه بكل رمح مسموم ؟
كم من أبناءنا الآن ، في قنوات وفضائيات دول عرب الخليج من الذين أظهروا عداءا للسودان ، وبغضا ، يصانعونهم ، ويظاهرونهم ، ويزيفون معهم كل حقيقة ، دون أي عقدة ذنب .
أولئك الاعراب الذين ساءهم أن يعيش السودان وطنا خصبا بالخير والنماء ، شعبا كريما ، وجيشا جسورا .
سودان حر ، كما خلقة الله وأراد له ، أن يكون ، لا يذل نفسه إلا لله الواحد الأحد القهار .
فوق ذلك الفجور كله ، وفحش الخصومة من بعض أولئك الإعلاميين السودانيين الذين إنكسروا أمام انانيتهم الخاصة ، وأنهكوا أذهانهم بالإشتغال على محاربة وطنهم شعبا وجيشا ، بمواقفهم المتآمرة بلا حدود مع الأجنبي الدخيل ، وثمة في وطنهم شعب بأكمله يقتل ، وتنهك حرماته .
ونجد طائفة آخر من المغنيين ، والمغنيات يجوبون طرقات وشوارع عواصم تلك الدول ، يصعدون خشبات مسارحها ، غناءا وتطريبا . في ديار أولئك الذي دفعوا بلادنا لأكبر فتنة ماحقة في تاريخه ، كانوا ولا يزالون هم سبب العذابات التي نعانيها .
إن ما يمارسه بعض المشتغلين بالإنتاج الإبداعي الثقافي من أبناء السودان ، بالخروج عن الإنتماء الوطني – وهم قلة قليلة – إلا أنه أمر مثير للرثاء حقا . لا يمكن القول ، غير أنهم أصحاب ذوات معطوبة ومعوقه ، نفسيا وفكريا ووجدانيا وروحيا .
ذوات هلامية شبحية ، مصيبتها الكبرى أنها لا تعرف معيارا قيميا ، ولا تحترم ثقافتها الوطنية ، ولا تعتز به ، ولا تدافع عنه .
والمبدع بتلك الصفة أصلا ، يعاني من داء فقدان الثقة في الذات ، سواء في بعده الفردي أو الجماعي ، أو في مستواه الواقعي أو التاريخي .
فهو لا يتحرك إلا في إتجاه نسيان ذاته الثقافية ، وأن يقفز عليها ، وأن يكون دائما مع الآخر .
وأن يتخلى عن مركزه الحقيقي ، مشيا باتجاه المراكز الوهمية .
ما هي قيمة ، الإبداع ، إن لم يناضل مدافعا عن القيم ، إذ ليس أضر على الأمة شيء أقبح ، من أختلال سلم القيم ، أو فقدانها له بالكلية – كما قال ذلك محمد الفيتوري – لأن الحضارة تنشأ من مراعاة المحرمات التي تضر بالجماعة .
وأكبر تلك المحرمات ، هي مصانعة الأجنبي ، على مصالح الأمة ، لأن هذا يقويه ويضعفها ، ويحدث من أسباب الشقاق ما لا محل معه للمصالحة والمهادنة ..
” إِنَّما يَنهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلوكُم فِي الدّينِ وَأَخرَجوكُم مِن دِيارِكُم وَظاهَروا عَلى إِخراجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ ” ..
بيد أننا ، وفي هذا المنطف التاريخي التاريخي ، نقف بإجلال كبير أمام الجزء الأكبر من المبدعين السودانيين الذين يقفون على قمم مشرفة على سهول الإشتغال الإبداعي الثقافي ، من اللذين لا ينام على ضيم للوطن وأهله وجيشه . ليس من سبيل الآن لذكرهم أسما ، أسما ، ولكن يمكنني أن أضع في صدارة القائمة الكاتب الروائي ذلك الجمالي المبدئي ” عبدالعزيز بركه ساكن ” الذي
وقف منذ اليوم الأول للغزوة ، ون حيث موقعه في ” باريس ” ليقدم درسا في الثبات على الإيمان بالوطن ، وأن مستقبليته هو قدرتنا على الصمود أمام كل ما يهدده ويهددنا من ويلات وبشاعات …
ليقول مبدعا قوله ” ثمرة الجنجويد هي الخراب ” :
” ليس من السهل أن تصدق شخصًا ، بأنه يريد لك الخير وقد :
أخرجك من بيتك وعاث فيه خرابًا .
سرق عربتك ، وارتدى ملابسك ، وعبث بذكرياتك وتبول على مخدعك .
ثم قتل صديقك واغتصب جارتك
ثم ، حرق مؤسساتك المدنية والعسكرية حرق القرى الآمنة .
قتل أعيان بلادك ، وارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وشرع في أبادات جماعية .
سفك دم مواطنيك هجَّر مليونين من السكان المدنيين .
شرَّد ملايين الأسر فرض حصارًا حولك ونصب مدفعًا في كل شارع وزقاق وطريق ، جوعك وأفقرك وأسرك واختطفك وجرحك ، وسرق البنوك وما حوت الأرض من ذهب وخيرات .
ثم رقص على جثث الشهداء وطلب منك أن تغني له طربًا !
أهذا عدو أم صديق ؟
أهذا شيطان أم ملاك ؟
أهذا رسول خير أم ناعق شر وشؤم ؟
أهذا جنجويدٌ أم إنسان سوي ؟ ”
عبدالعزيز بركه ساكن ، كما هو معروف عنه – وكما قلت عنه في مقالي السابق – أن الكتابة عنده ليست بهرجا لفظيا وإنما هي مفتاح لكثير من الحقائق الإنسانية .
فكتابة الرواية عنده دائما هو بحث عن الجواني الغائر ، اللب ، العمق ، الجوهر ، والذي هو نفسه الظاهر البعيد المنال .
القلم عند عبدالعزيزبركه ساكن ، خرق وتمرد وخروج عن المألوف ، مروياته ، هو ذا الحزن على بلد سحائب الدم مازالت تهدر حوله ، وهو ، ذا الاحتراق الذي في الحشا .
و ” مسيح دارفور ” ، ، هي المعاني التي صعد بها فوق الجراح ، وأرادنا بها أن ندرك المعاني وأن نبصر حبات الدموع التي نزرفها على حواف الرواية .
قال عبدالعزيز بركه ساكن في تعريف الجنجويد :
” قوم عليهم ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد ، على أكتافهم بنادق تطلق النار لأتفه الأسباب ، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية ، لا يفرقون مطلقا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى ” الكلاب الضالة ” وتعرفهم أيضا بلغتهم الغريبة ” الضجر ” وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات ، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف ليس من بينهم معلم او متعلم ، مدير أو حرفي .
ليست لديهم قرية أو مدينة أو حتى دولة .
ليس لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم ” ..
وقال مصدرا روايته ” مسيح دارفور ” :
” أهونُ لجملٍ أن يلِج من ثُقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله ”
صور ” بركه ساكن ” صورة الجنجويد ومعناه في روايته التي صدرت قبل سنوات عديدة ووقتها إشتد الجنجويد على أهالي أقليم دارفور ، إبان نسختهم الأولى المعروفة في أوراق الحكومة رسميا باسم ” حرس الحدود ” ..
وهي ملشيات قوامها القبائل العربية من إقليم دارفور ثم تحول الاسم الرسمي الأول ” من حرس الحدود ” إلى نسخته الثانية والجديدة في العام 2013 رسميا إلى قوات الدعم السريع .
ذلك هو معنى أن تكون مبدعا جماليا ثقافيا ، تهتز الأرض ، تتساقط الأبنية والأشياء ، غير أن المبدع ، ثابت في المكان ، فهو روحه الأوحد ، وذاته .
كما ذهب بذلك المعنى الكاتب المسرحي المغربي عبدالكريم برشيد قائلا :
” روح المكان يبقى وفيا لذاته ، ولتاريخه ولثقافته ولأخلاقه ولطبيعة مساره الوجودي ، ويمكن ان نجدد أفكارنا ، وأن نجدد علاقتنا بذاتنا وبالعالم ، ولكنه أبدا لا يمكن أن نكون نحن غير نحن ، أو أن نخون الجغرافيا ، ونخون التاريخ ، ونخون الزمن الآتي ، والذي ينبغي أن يكون أجمل وأكمل ، وأن يكون أكثر صدقا ومصداقية ، وأن يكون أكثر اقناعا وامتاعا ” .
لأمر مؤلم أن لا يملك المرء شعورا وطنيا إزاء بلاده ،
ويمشي مواليا الغزاة الأجانب ، إنه الألم في حد ذاته .
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: محمود مرسی أن یکون لیس من
إقرأ أيضاً:
هل تكون البروتوكولات المفتوحة نهاية احتكار فيسبوك وتويتر؟
في عالم يتسم بالاعتماد المتزايد على منصات التواصل الاجتماعي، بدأت البروتوكولات المفتوحة تظهر بصفتها تقنية قادرة على إعادة تشكيل كيفية تفاعل المستخدمين وتبادل البيانات عبر هذه المنصات.
وبدلا من الاعتماد على البروتوكولات المغلقة والمركزية، توفر هذه البروتوكولات بديلا غير مركزي وشفاف، وهذا يسمح بإيجاد بيئات تواصل تتمتع بالحرية والأمان للمستخدمين.
وصممت هذه البروتوكولات بهدف أن تكون متاحة للجمهور، وأصبحت أساسية في عالم التكنولوجيا، واكتسبت شعبية بسبب مزاياها العديدة مقارنة بالبدائل التقليدية.
ما البروتوكولات المفتوحة؟البروتوكولات المفتوحة هي تقنية تسمح لمختلف المنصات والخدمات بالتفاعل فيما بينها من دون الحاجة إلى سلطة مركزية، وتتيح هذه البروتوكولات للمستخدمين إنشاء الحسابات والتفاعل عبر المنصات المختلفة من دون الحاجة إلى الالتزام بمزود خدمة واحد.
وتوفر هذه البروتوكولات معايير تقنية مشتركة تسمح للأنظمة المختلفة بالتواصل فيما بينها بسلاسة.
ومن أبرز هذه البروتوكولات بروتوكول إنشاء الشبكات الاجتماعية غير المركزية "أكتيفيتي بوب" (ActivityPub) و بروتوكول مشاركة المحتوى عبر الإنترنت "ماتريكس" (Matrix)،
وعلى سبيل المثال، عند نشر منشور عبر منصة تدعم بروتوكول "أكتيفيتي بوب"، تستطيع مشاركته تلقائيا مع مستخدمين عبر منصات أخرى متوافقة.
إعلانويقلل هذا النوع من النشر المتبادل من الحاجة إلى وجود احتكار تقني ويفتح المجال أمام تطوير منصات جديدة أكثر تنوعا.
التأثير في منصات التواصل الاجتماعيتعاني المنصات التقليدية الحالية من عدد من المشكلات، مثل التحكم المركزي، وانعدام الشفافية، والرقابة والتحيز، وضعف الأمان.
وتتحكم المنصات الكبرى في البيانات والخوارزميات، وهذا يحد من حرية المستخدمين. كما لا يعرف المستخدمون كيف تُستخدم بياناتهم أو كيف تعمل الخوارزميات.
وقد تفرض المنصات المركزية رقابة أو تفضل محتوى معينا لأسباب تجارية أو سياسية. كما أن البيانات المركزية تكون أكثر عرضة للاختراقات والاستغلال.
وتعيد البروتوكولات المفتوحة تشكيل منصات التواصل الاجتماعي عبر تقديم نماذج شفافة وغير مركزية، وهذا يتيح للمستخدمين حرية كبيرة في إدارة الحسابات من دون التقيد بمنصة واحدة.
وتسمح البروتوكولات المفتوحة للمستخدمين بإنشاء الحسابات من دون الاعتماد على الشركات الكبرى، كما تحد من الرقابة المركزية، وتسمح للمجتمعات بوضع سياساتها لإدارة المحتوى.
وتمنح هذه البروتوكولات الأفراد القدرة على التفاعل مع الجمهور من دون الحاجة إلى الالتزام بسياسات المنصات الكبرى، مثل "فيسبوك" أو "إكس".
ومن خلال تعزيز النشر المتبادل، يستطيع المستخدمون التفاعل عبر منصات متعددة من دون الحاجة إلى إعادة بناء الشبكات الاجتماعية من الصفر.
وتتيح البروتوكولات المفتوحة للمستخدمين التفاعل بين منصات مختلفة بسلاسة، وهذا يقلل من الاحتكار ويمنح المستخدمين حرية أكبر.
وعلى سبيل المثال، يستطيع مستخدم عبر منصة "ماستادون" (Mastodon) التفاعل مع مستخدمين عبر منصات أخرى تدعم بروتوكول "أكتيفيتي بوب".
وتقلل هذه الميزة من الحاجة إلى إنشاء حسابات متعددة عبر منصات مختلفة، وهذا يجعل تجربة المستخدم أكثر تكاملا، كما توفر هذه البروتوكولات مستوى مرتفع من الخصوصية والأمان، حيث لا تتحكم شركة واحدة في جميع بيانات المستخدمين.
إعلانوتوفر البروتوكولات المفتوحة خيارات تخزين بيانات غير مركزية، وهذا يقلل من مخاطر اختراق البيانات. كما تمنح هذه البروتوكولات المستخدمين تحكما كبيرا في البيانات، حيث لا توجد سلطة مركزية تجمع المعلومات لأغراض إعلانية أو تجارية.
وبدلا من تخزين البيانات في خوادم شركات ضخمة، يستطيع المستخدمون اختيار خوادمهم أو الاعتماد على أنظمة تخزين مشفرة، وعلاوة على ذلك، تسهم في ظهور نماذج اقتصادية جديدة تبتعد عن الإعلانات التقليدية، مثل نماذج الاشتراكات أو التمويل الجماعي.
كما يمكن للمنصات غير المركزية تقديم نماذج اشتراك أو مكافآت مباشرة للمحتوى بدلا من الاعتماد على الإعلانات،
وعلى سبيل المثال، يستطيع المبدعون تلقي الدعم بطريقة مباشرة من الجمهور باستخدام العملات الرقمية أو أنظمة الدفع المباشر.
ويساعد هذا النموذج في تقليل هيمنة الإعلانات التجارية ويوفر بيئة مستدامة لصناع المحتوى.
في حين أن البروتوكولات المفتوحة قادرة على إعادة صياغة مستقبل منصات التواصل الاجتماعي، إلا أنها تواجه العديد من التحديات التي تعيق تطورها وانتشارها على نطاق واسع.
وتعد ضعف تجربة المستخدم واحدة من أبرز هذه التحديات، حيث غالبا ما تكون المنصات غير المركزية صعبة الاستخدام مقارنة بالمنصات المركزية، وهذا يتطلب تحسينات كبيرة في واجهات الاستخدام لجذب المستخدمين العاديين.
وبالإضافة إلى ذلك، لا تزال بعض هذه البروتوكولات تعاني من مشكلات تقنية تؤثر في القدرة على التوسع.
وتعاني هذه البروتوكولات من التبني البطيء، حيث تواجه صعوبة في جذب الجماهير الكبيرة مقارنةً بالمنصات المركزية، مثل "فيسبوك" و"إنستغرام"، وهذا يتطلب حملات توعية إعلامية لزيادة استخدامها، بالإضافة إلى ضرورة دعمها من قبل المطورين والمستثمرين لضمان استمراريتها.
إعلانوفي ما يخص إدارة المحتوى والإشراف، فإن عدم وجود سلطة مركزية يعقد عملية إدارة المحتوى غير المرغوب فيه أو الضار، وهذا يسبب مشكلات في مكافحة المعلومات المضللة وخطاب الكراهية.
وبينما تعتمد بعض الأنظمة على حلول جماعية أو خوارزميات مفتوحة المصدر لتقديم آليات رقابة من دون المساس بحرية المستخدمين، فإن ذلك لا يزال يشكل تحديا كبيرا في هذا السياق.
أمثلة على نجاح البروتوكولات المفتوحةتعد تجربة "ماستادون" مثالا بارزا على نجاح البروتوكولات المفتوحة في تقديم بديل عملي لمنصات التواصل الاجتماعي التقليدية.
وتعتمد "ماستادون" على بروتوكول "أكتيفيتي بوب"، الذي يتيح التفاعل مع المنصات الأخرى الداعمة لنفس البروتوكول، وهذا يعزز من إمكانيات التواصل بين المستخدمين عبر منصات متعددة.
وشهدت المنصة ارتفاعا كبيرا في عدد المستخدمين بعد استحواذ إيلون ماسك على "تويتر" عام 2022، حيث بدأ العديد من المستخدمين بالبحث عن بدائل توفر الخصوصية والحرية.
وتقدم "ماستادون" تجربة غير مركزية بالكامل، حيث يمكن لأي شخص تشغيل خادمه وإدارة مجتمعه وفقا لسياساته، وهذا يعزز من حرية الاختيار والتحكم.
وقد أبرز نجاح "ماستادون" الحاجة الملحة إلى زيادة التوعية حول البروتوكولات المفتوحة وإمكاناتها، إذ بدأ المستخدمون باستكشاف بدائل جديدة بعيدا عن احتكار الشركات الكبرى.
مستقبل البروتوكولات المفتوحةمع تطور هذه البروتوكولات وزيادة وعي المستخدمين بأهميتها، قد نشهد تحولا تدريجيا نحو منظومة تواصل اجتماعي منفتحة.
وقد تصبح المنصات غير المركزية بديلا رئيسا للخدمات التقليدية، وخاصة مع تزايد الاهتمام بالخصوصية وحرية التعبير. كما أن البروتوكولات المفتوحة قد تؤدي إلى زيادة التكامل بين الخدمات المختلفة.
ومع ازدياد دعم المؤسسات التقنية لهذه الأنظمة، فإننا قد نشهد حقبة جديدة من منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتحكم المستخدمون في البيانات بدلا من أن تتحكم بها الشركات الكبرى.
إعلانفي الختام، تمثل البروتوكولات المفتوحة تغييرا جذريا في عالم التواصل الاجتماعي، لأنها تقدم بديلا يركز على المستخدم، ورغم التحديات، فإنها قادرة على إعادة تشكيل كيفية تفاعلنا عبر الإنترنت، وهذا يعيد التحكم إلى أيدي المستخدمين ويعزز الابتكار.
كما أنها تمثل خطوة واعدة نحو فضاء رقمي يمنح المستخدمين الحرية والتحكم في البيانات والتجارب، وفي ظل زيادة وعي المستخدمين، قد تصبح هذه البروتوكولات حجر الأساس للجيل القادم من منصات التواصل الاجتماعي.