«التعصب» مفهوم واسع يشمل السلوك الشخصي للفرد ومواقفه ومعتقداته الشخصية، ويشمل أيضًا سلوك ومعتقدات الشعوب والأمم، وبالتالي تصوراتها عن غيرها من الشعوب. وما يهمنا في هذا المقال هو ذلك الجانب العام الذي يتبدى في الواقع السياسي والاجتماعي ويشكل سلوك التعصب لدى الجماعات والشعوب. هذا التعصب يكون وليد صور ذهنية لدى شعب إزاء شعوب وأعراق أخرى، وهذه الصور الذهنية المتوارثة قد لا يكون لها أساس من الصحة في كثير من الأحيان؛ لأنها لم تخضع للاختبار والتحقق أو حتى التساؤل.
هشاشة التصورات التي تدعم التعصب، يرجع إلى كونها غير مدعومة بالوقائع أو الحقائق التاريخية. وهذا ما لاحظه المفكر والسياسي الياباني دايساكو إكيدا في كتابه أو مذكراته التي تحمل عنوان «في يديك تغيير العالم»، وهو يبين ذلك من خلال روايته لحواره الممتد مع المفكر الكبير والمؤرخ الشهير أرنولد توينبي: يروي توينبي أنه ذهب إلى بلدة تركية عانى أهلها من العدوان الوحشي في حرب اليونان على الأتراك، ولكن الغرب لم يذكر شيئًا عن فظاعة المآسي التي سببها هذا العدوان؛ فنشر توينبي مقالًا عن ذلك مدعومًا بالوقائع التي شهدها وجمعها. ولكن لأن الصورة الذهنية السائدة عن الأتراك هي أنهم شعب همجي غير متحضر، وهي صورة قد ترسخت بعد المذابح التي ارتكبها الأتراك في محاولتهم إبادة الأرمن سنة 1915؛ فقد قوبلت الجريدة وصاحب المقال بعاصفة من النقد والتجريح، بل إن توينبي نفسه قد أُقيل من جامعة لندن باعتباره داعمًا للأتراك سيئي السمعة، ما اضطره إلى أن يتكسب قوته من كتابة المقالات في الصحف كمراسل بلا عمل رسمي. ولهذا يرى إكيدا أننا لا ينبغي أن نعتمد على المعلومات التي تأتينا من الغرب؛ لأن رؤية الأشياء من منظور غربي لا يعطينا صورة حقيقية عن العالم، فنحن ينبغي أن نرى العالم أيضًا من وجهة نظر الشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، ومن خلال عيون الأقليات العرقية المختلفة. (ص. 51)
والواقع أن هذه التصورات الخاطئة تؤسس للتعصب في كل مكان، وهو ما وجدناه بوجه خاص في مواقف الغرب الداعمة لإسرائيل في حربها الوحشية الحالية على غزة. ولهذا فإن هذه المواقف يمكن أن تتبدل حينما تحدث زعزعة لهذه التصورات. وهذا هو بالضبط ما حدث خلال نصف عام فقط، فقد ساهم الإعلام غير الرسمي (من خلال منصات التواصل الاجتماعي) في تغيير الصورة الذهنية الشائعة عن الحرب التي تُظهِر المقاومة الفلسطينية باعتبارها المعتدي الهمجي الوحشي على الإسرائيليين المسالمين، ولا تبين أن هذه المقاومة هي دفاع عن أرض مسلوبة وشعب مستضعف يُباد الآن بالسلاح والتجويع! كشف الإعلام غير الرسمي عن هذه الحقائق، فبدأت الصورة الذهنية عن الأحداث تتغير، ومن ثم بدأت المواقف في التغير، وبدأت جموع حاشدة من الجماهير في شتى بقاع العالم تخرج في مظاهرات منددة بالعدوان الإسرائيلي، ما شكل ضغطًا على سياسات الدول المؤيدة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
ينبغي إذن على كل من يتوخى الحقيقة الواقعية أن يلجأ إلى الواقع نفسه، وأن يسائل نفسه: هل يمكن أن أتقبَّل التقارير غير المؤكدة وأن أنشرها كمعلومات؟ وهل أسمح لنفسي بذلك أن أكون منحازًا؟ هل يمكن أن أقبل تقارير- من غيري أو قدمتها بنفسي- لا تستند إلى مشاهدات من وقائع الأحداث، ولقاءات مباشرة مع البشر الذين يعايشون هذه الأحداث ويعانون منها؟ ولكن هذه المساءلة هي مساءلة أخلاقية تطالبنا بالموضوعية والنزاهة، كما أنها تطالبنا بتغيير رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، بحيث نتعلم أن ننصت لوجهة نظر الآخر، وأن نفترض دائمًا بأن هناك وجهة نظر أخرى، والأهم من ذلك أن نؤمن بأن «الآخر» يشترك معي دائمًا في الإنسانية: فقد أكون أمريكيًّا أو إنجليزيًّا أو ألمانيًّا أو تركيًّا أو يابانيًّا أو فلسطينيًّا؛ ولكني لو استبعدت الجنس والعرق والدين، فسوف أجد أن كل هؤلاء وغيرهم هم البشر أنفسهم الذين يشتركون في الإنسانية. وهذا أشبه ما يكون بالدعوة إلى توخي الحكمة الهندية القديمة التي طالما رددها شوبنهاور في فلسفته، والتي تقول: «ذاك هو أنت».
ويبدو أن إكيدا يتبنى موقفًا مشابهًا يقوم على أساس فلسفي أخلاقي، أي على تغيير يحدث في باطننا وفي رؤيتنا للعالم وللآخرين. ولهذا نجد أن إكيدا يؤكد هذا الموقف، وهو ما يتبدى بوضوح في قوله التالي (ص54-55) الذي يمكن أن نختتم به مقالنا:
«عندما نتوقف عن أن ننظر لأنفسنا، عندما لا نسائل أنفسنا، نصبح شديدي الثقة بأنفسنا، ودوجماتيين، متعصبين. معالجتنا للموضوع تصبح أحادية الاتجاه لا تستطيع سماع الآخرين، ويصبح الحوار الحقيقي مستحيلًا.
الحوار الذي يمكن أن يخلق سلامًا مع الآخرين، يجب أن يبدأ «بحوار داخلي» منفتح وجدي.
كلنا مواطنون على هذه الأرض: فإذا فكرنا في الموضوع، نجد أن الناس لم يُولدوا أتراكًا أو أمريكيين، ولم يُولدوا فلسطينيين أو يهود. هذه مجرد أدوات للتعريف».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: یمکن أن
إقرأ أيضاً:
خالد عبدالعزيز يضع حدًّا لفوضى الإعلام الرياضى
حسنا ما فع له المهندس خالد عبدالعزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام بوضع حد لفوضى الإعلام الرياضى التى سادت منذ عدة سنوات على الفضائيات المختلفة ومن حسن الطالع أن ما اقترحته صحيفتنا الغراء ومطالبتنا بضبط الإعلام الرياضى أن يصدر المهندس خالد عبدالعزيز قراراته فى يوم النشر نفسه، وكانت قراراته موفقة للغاية والتى سيتم تنفيذها اعتبارا من أول يناير فى إلغاء فقرة التحليل التحكيمى فى استديوهات التحليل ومنع اذاعة البرامج الرياضية بعد منتصف الليل، وكان عرض البرامج الرياضية الذي يستمر حتى مطلع الفجر ساهم كثيرا فى زيادة التعصب الرياضى بشكل كبير وأثرت بشكل سلبى للغاية على الكرة المصرية وزيادة حدة التعصب والصراع بين قطبى الكرة المصرية والتحفيل على الشاشة أعتقد أن هذه القرارات الموفقة للغاية ستسهم بشكل كبير فى تخفيف حدة التعصب الرياضى ولكن أرجو من المهندس خالد عبدالعزيز ألا يتوقف أبدًا عن مزيد من الضبط فى مجال الإعلام الرياضى يجب وفورا استبعاد غير المؤهلين من الظهور على الشاشة دون أن نسمى أحدا لأنهم معروفون وهم لا يستحقون أصلا ذكر أسمائهم والذين خصصوا برامجهم لحسابات شخصية بل وتجريح اللاعبين بصورة تدعو للاستياء ونفس الوضع بالنسبة للضيوف يجب اعادة غربلة لهؤلاء بالتنسيق مع رؤساء أو ملاك القنوات كفانا هرتلة وفوضى كفى ما يحدث على السوشيال ميديا، تسببت فوضى الإعلام الرياضى فى ظهور جيل جديد من المتعصبين وغابت الروح الرياضية بسبب حالة الانفلات الإعلامى ندعو المحترم المهندس خالد عبدالعزيز أن يستمر فى قراراته الإصلاحية وهو فى الأصل رجل رياضى وصاحب خبرات هائلة والى المزيد من ضبط الإعلام المصرى بشكل عام رحمة بشبابنا واعادة الضبط أيضا لجمهور الملاعب الذى تأثر كثيرا بفوضى الاعلان الرياضى منذ سنوات.