معلّم الصبية والقصص: قابيل وهابيل
تاريخ النشر: 2nd, April 2024 GMT
عندما كُنّا صغارا نرتاد المدارس الابتدائيّة البسيطة، التي بالكاد توجَد فيها مقاعد خشبيّة ثنائيّة، مجموعة، تشبه المكتب، وفيها أرضيّة مكتب خشبيّة خشنة مهترئة دوما، عليها نكتب ونضع كتبنا، ويتوسّط شبه المكتب ذاك، حُفرةٌ يأتي العامل كلّ صباح ليملأ بالحبر محبرة صغيرة في تلك الحفرة، لنا فيها مآرب عدّة غير غمس الدواة فيها وتحبيرها للكتابة.
ولم يكن معلّمونا آنذاك يجنحون إلى القصص لقوّة إيمانٍ فيه، ولا لعقيدة تأمرهم بالقصص، بل كانوا يقومون بذلك انطلاقا من علّم الأطفال وهم يُنصتون إلى القصص، وعلى ذلك، كان معلّمونا الأوائل قصّاصين بامتياز، بعيدا عن ضغوط ضرورة إنهاء البرامج، وكلّ ترسانة المبادئ التنظيريّة التربويّة التي انتهت إلى الفشل الذريع، كان المعلّم هو الذي يختار طرق تحقيق مقاصد الدرس؛ لأنّ المقصد ليس التعليم فحسب، بل إخراج إنسان سويّ، قادر على نفع بلاده وعباده، أن يكون سويّا نفسيّا واجتماعيّا، وأن يتعلّم وهو يُدرك قصّة الكون، ولذلك امتلأنا بقصص الكون منذ كُنّا في مراحل الابتدائيّة الأولى، التاريخ قصّة، الدين قصّة، العلوم قصّة، اللّغات قصّة.
أتذكّر جيّدا دروس اللّغة العربيّة نحوها وصرفها، كانت تُقَدَّم إلينا انطلاقا من نصّ طريف مرغِّب في القراءة محبّب في العودة إلى أصل الكتاب، فكاهةً أو طرافةً أو موقفا إنسانيّا. ومن قصص التعليم الابتدائي الباقية في ذهني قصّة قابيل وهابيل، لم يكن من العسير تمثّل القصّة، ولا تخيّل حوادثها، ولكن كان من العسير علينا إدراك أنّ أخا يُمكن أن يقتل أخاه، وأن يدفنه أيضا، كان سؤالنا المُحيّر الذي لم نقدر على طرحه، ما هو السبب الذي من أجله قتل الأخ أخاه؟ كنّا مبهورين بالقصّة الأولى، وبمعرفتنا كيفيّة نزول الإنسان إلى الأرض، ولكن الأهمّ من كلّ ذلك هو معرفة تآخي الخير والشرّ، ووجود سُلالة تكرّست لكل ما هو شرّ على الأرض، هي سلالة قابيل قاتل أخيه، ورافض أمر ربّه، وسُلالة للخير والتقوى وطاعة الله، هي سُلالة هابيل المقتول، وأنّ الخير والشرّ قد نتجا عن جذر واحد وأصل واحد، هو آدم عليه السلام الأب الأوّل الذي لا يخلو هو نفسه من قصّة تُقرّبه إلينا ونحن صغار، وقصّته هي العصيان والندم، فقد عصى آدم أمر ربّه بعدم الأكل من الشجرة الممنوعة، ولكن بتوفّر عوامل مساعدة على إنجاز العصيان، وعلى رأسها الشيطان، أصل الشرور، ومنبع كلّ فعل دنيء يُمكن أن يأتيه البشر، يتحقّق الطرد من الجنّة، ومعاقبة آدم عليه السلام بإنزاله أرضا ملؤها الشرّ، بإطلاق الشيطان فيها إغواءً وإغراء، وكانت أسئلتنا آنذاك، تدفع معلّمينا إلى توسيع نوى القصّة وتأثيثها بتجهيز إطار الحكاية وتوصيف شخصيّاتها ومسرحة الأقوال، يُصبح المعلّم قاصّا معملا خياله، وممثّلا مؤدّيا لأدوار عدد، كُنّا نسمع القصص فنهنأ، ونسعد، ونتعلّم، ونُدرك أنّ الخير والشرّ في الإنسان، وأنّ العالم فيه من الجمال ما يَجُبّ الشرّ، وأنّا لا نخاف الشيطان لأنّه لا يدخل إلّا النفوس الضعيفة، ولذلك تظاهرنا بأنّا أقوياء، وحفظنا ما تيسّر من القرآن الكريم لفعل ذلك، بعد عقود من الزمن، وقد تطوّر العالم وتعدّدت معارف المعلّمين، وتيسّرت سُبل التدريس والدراسة، ولم يعد لطاولة التلميذ ذات المقعد المتّصل والتي يشترك فيها طالبان الجلوس مع أرضيّة خشبيّة أقرب إلى الحديد، ومحبرة تتوسّطها، وخشب بال منه تتكوّن، وحديد يمكن أن ينتأ من أيّ مكان، وجودٌ وحلّت محلّها مكيّفات ومقاعد وثيرة، وقاعات بهيجة وطريقة في التعليم ضعيفة، لا يعرف اليوم الأطفال قصّة قابيل وهابيل شغفا وحبّا وإن قيلت لهم في المدارس؛ فالطالب لم تهفُ نفسه إليها ولم يعلق لا بالقصّة ولا بالقاصّ، وأذكر جيّدا أنّ ابنتي وهي في الابتدائية الأولى كانت تقوم مفزوعة ليلا وتُصاب بكوابيس مرعبة، فلمّا سألتها عمّا تراه، أخبرتني أنّها تحلم بيأجوج ومأجوج يأكلونها، فقلت لها من أين تعرفين يأجوج ومأجوج، فأخبرتني أنّ معلّمها وهو من إحدى الدول العربيّة، وكُنّا آنذاك في عُمان، أخبرهم بأشراط الساعة، وبخروج فئة من الأقوام، ليسوا بالبشر، وهم أقزام في حجم إبهام اليد، وينتشرون في الأرض يلتهمون النّاس، فِلْم الرعب هذا لا وجه له من الحقّ، ولا تسويغ له لقصّه على أطفال في أعمار الزهور يُقبلون على الدنيا، ويرون في الخير انتصارا وفي الشرّ اندحارا، الإسلام ترغيب ونورٌ وضياءٌ وأملٌ وليس ترهيبا وظلاما وعَتمة، فعلّموا الأطفال بالقصص، علّموا الأطفال وهم مبتهجون، راغبون، لاعبون، ضاحكون، مقبلون، مُحبّون.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخیر والشر
إقرأ أيضاً:
“بيت الخير” تنفق 66 مليون التزاماً بالمسؤولية المجتمعية
أعلنت “بيت الخير” أنها أنفقت في 2024 مبلغ 66,067,093 درهم على المشاريع ذات الطابع الاجتماعي، من أصل 133,618,328 درهم أنفقتها الجمعية حتى نهاية نوفمبر، وذلك انطلاقاً من التزامها بمسؤوليتها المجتمعية تجاه أكثر الناس حاجة واستحقاقاً في الإمارات، وتجسيداً لاستراتيجيتها 2022 – 2026 التي تنفذها من خلال حزمة من مشاريع التكافل والتلاحم المجتمعي، بما يواكب الأجندة الوطنية ومسيرة التنمية الاجتماعية، وقد تعزز هذا التوجه بتجديد حصول الجمعية على شهادة الآيزو للمسؤولية المجتمعية طبقاً لمتطلبات المواصفة 26000 للمرة الرابعة على التوالي.
ويقع تحسين المستوى المعيشي للأسر المواطنة الأقل دخلاً في مقدمة أولويات “بيت الخير” حيث أنفقت مبلغ 11,510,500 درهم كدعم نقدي قدم بشكل شهري لما يقرب من ألف أسرة، شملت أسر الأيتام المواطنين الذين قدمت لها الجمعية 6,515,876 درهم، كما دعمت الأسر المتعففة بمبلغ 8,304,709 درهم كمواد غذائية، فضلاً عن إنفاق 9,024,700 درهم كدعم غذائي إضافي من خلال المشاريع الرمضانية، وقدمت دعماً لإسكان 705 أسرة بلغ 19,133,286 درهم، ساهم في استكمال بناء سكنهم أو تسديد قروضهم السكنية أو ما تراكم عليهم من إيجار، بالإضافة إلى تأثيث بيوتهم وتزويدها بالأجهزة المنزلية والإلكترونية الأساسية.
وساهمت الجمعية في دعم مسيرة الرعاية الصحية من خلال مشروع “علاج” الذي أنفق 6,840,849 درهم، درهم لعلاج 539 مريضاً محتاجاً، اضطروا لإجراء عمليات جراحية أو شراء أجهزة طبية ضرورية أو الحصول على أطراف صناعية أو أدوية باهظة الثمن، كما ساهمت “بيت الخير” في دعم تعليم الطلبة المحتاجين بمبلغ 4,737,173 درهم، لنجدة 123 طالباً أغلبهم من الجامعيين، كادوا يفقدون فرصتهم، ويحرموا من مواصلة تحصيلهم المدرسي والأكاديمي، فسددت عنهم الرسوم المتأخرة وزودتهم بأجهزة اللابتوب والآيفون الضرورية لمتابعة مساقاتهم التعليمية.
ختاماً تابعت “بيت الخير” مساعيها لرفع المديونيات عن مواطنين حبسوا بسببها، وإطلاق سراحهم من خلال مشروع “الغارمين” بتسديد 4,009,479 درهماً عن 93 غارماً، ليعودوا إلى أٍسرهم وأبنائهم، ويبدأوا حياة جديدة، كما ننوه لمشروع “ملابس” الذي كانت الجمعية سباقة لإطلاقه منذ 2011، وساهم في تنظيف البيئة من أطنان الملابس المستعملة والمقتنيات الشخصية والجلدية، التي يتم بيعها لشركات التدوير، وينفق ريعها على التعليم والأغراض الخيرية الأخرى.