مع كل كتاب جديد له، أقول لنفسي: يكفي ما قرأته لباتريك موديانو إلى الآن. فالكاتب الفرنسي يرافقني منذ عام 1984 حين اكتشفته للمرة الأولى، عبر عمله «دفتر العائلة». وفي كلّ مرة، «أخون» وعدي، وأعود إلى أدبه ثانية (وربما عاشرة)؛ كأنني لم أكتف بعد. كأن ثمة شيئا يجرني دوما، لأعود وأقرأ... وأكتب عنه. لا يمثل الأمر اكتشافا جديدا بالطبع، بل هي الرحلة التي تأبى أن تتوقف وترغب في أن تستمر مع كل كتاب له.
ما يأخذني إليه هذه المرة، الترجمة العربية الصادرة حديثا عن «دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات في القاهرة» لروايته «ذكريات نائمة» (نقلها إلى العربية لطفي السيد منصور) وفيها نقع مجددا على كلّ «التوابل» التي شكلت عوالم أدب حائز نوبل للآداب عام 2014، وأقصد تلك المناخات التي لا يتوقف عن الرجوع إليها: شوارع باريس ومقاهيها وبعض تفاصيل حياتها الصغيرة، المستلّة من ذاكرة الكاتب، لحظتي الطفولة والشباب. وعبر هذه اللحظات، يعيد ترميم صور أشخاص وذكراهم وربما ذاكرتهم أيضا.
بهذا المعنى، يمكن لنا أن نقول: إن ليس مارسيل بروست فقط، من حاول البحث عن الزمن الضائع. موديانو أيضا، ينتمي إلى هذه الفئة من الكتّاب الذين يرفضون موت الماضي، فيما لو جاز القول؛ إذ إن رواياته بأسرها ليست سوى هذا البحث عن ذاك الزمن الذي مضى، ذاك الزمن الضائع في ثنايا الذاكرة؛ من هنا تأتي الكتابة، وكأنها تحاول انتشالها من الموت، أي من النسيان، وكأن النسيان هو صنو للموت، إن فقدنا الذاكرة. كل كتب باتريك موديانو مليئة بهذه الذاكرة التي تهمس له، وبالتالي لنا، لا لكي يلاحقها وحده، بل لكي نلاحقها معه أيضا. فالذكريات ليست استثناءً. الذكريات التي تهرب، تعود إلى الظهور، وتترك عند الكائن أمرا مزعجًا بسبب عدم اكتمالها؛ هل لذلك يعود الكاتب إليها، وكتابتها، كي يحاول أن يجد لها اكتمالا ما؟
من دون شك، يثير عنوان «ذكريات نائمة»، الكثير من... الذكريات! غالبا ما تنام الذكريات بخفة؛ يتمّ إيقاظها، إحياؤها من دون أي شيء تقريبًا: لقاء قصير عابر، رائحة ما، محطة مترو تعيدنا إلى الماضي الذي يندمج في سديم الزمن.
في تجواله في شوارع باريس، يجد الكاتب الفرصة مع «ذكرياته النائمة» ليحاول أن يتذكر تلك اللقاءات الحقيقية -كما تلك التي فاتته- مع بعض النساء اللاتي سبق وأن التقى بهن في حياته؛ نساء لا يستطيع نسيانهن، وهذا خطأ الذاكرة التي لا تحتفظ إلا ببعض الشظايا الصغيرة، والتي تأخذه، بشكل خاص، إلى أيام طفولته الماضية، إلى حياته كشاب بالغ في فترة العقدين اللذين تليا الحرب العالمية الثانية، إلى الزمن الذي لم يكشف فيه والداه -الحاضران/ الغائبان في الوقت عينه في جميع كتبه لابنهما، عن أي سرّ من أسرارهما، ما ولّد عنده، وإلى الأبد، ومن دون أي لحظة شكوكية، بحثا لا نهاية له، عن هوية ضائعة.
«كان والداي غائبين، فوالدي كان مشغولا بأعماله، بينما كانت والدتي تؤدي مسرحية في مسرح بيجال»... وبعد أسطر قليلة يضيف: (كنت أنتظر ابنة ستيوبا على الرصيف، أمام البناية التي تقيم بها، دون معرفتها.... كنت أتمنى أن تعطيني توضيحات ربما تساعدني على فهم والدي بشكل أفضل، وهو شخص مجهول يسير بجانبي في صمت، على طول ممرات متنزه «غابة بولونيا»... وكنت على يقين من أنها تعرف أكثر قليلا مما أعرفه)...
من خلال نماذج تلك النساء اللاتي يبحث عنهن، يدخل موديانو أيضا في عملية البحث عن والديه. لذلك يبدو وكأن هوسا ما يرافقه ويدفعه إلى العثور على نفسه -بالدرجة الأولى- من خلال ذكرياته؛ وهذا ما يجعله يبدو وكأنه يعيد كتابة الكتاب نفسه مرارًا وتكرارًا. بيد أن تجواله وسعيه في كلّ مرة يتخذ مسارات مختلفة، كما هو الحال هنا، ذكرى النساء اللاتي التقى بهن، ليقدم وجهات نظر مختلفة، تقع ما بين الحلم والواقع؛ هي أيضا، وجهات نظر عن مدينة باريس ولكنها لا تزال مجهولة، للقارئ وله بطبيعة الحال، وهذا ما يخلق بالتالي مع مرور الوقت، عبر عملية هذه العودة الاستبطانية الأبدية، عملا فريدا وجميلا.
«ذكريات نائمة»، ليست فقط عملية بحث عن أشخاص، بل هناك بحث عن كتاب مفقود، نافد، لم يكن يجد نسخة منه، قبل أن ينجح في مساعيه: «في هذه المكتبة وجدت هذا الكتاب الذي جعلني أفكر كثيرا»: «العود الأبدي لنفس الشيء».... مع كل صفحة كنت أقول لنفسي: لو أمكننا أن نعيش الأوقات نفسها، وفي الأماكن نفسها، وفي الظروف نفسها التي مررنا بها من قبل، ولكن نعيش بشكل أفضل بكثير من المرة الأولى، من دون الأخطاء والعقبات والعوائق... سيكون الأمر أشبه بنسخ مخطوطة مغطاة بالشطب»...
ربما تختصر هذه الجملة مشروع الذاكرة عند موديانو: العودة إلى الماضي من أجل «تنظيفه» من الأخطاء، من أجل «شطب» كل ما أحاله إلى ماض متسخ. (علينا أن لا ننسى طفولته والحرب العالمية الثانية، وباريس تحت الاحتلال النازي وما نتج عن ذلك من أمور عديدة).
أمام ذلك كله لا بدّ أن نسأل: هل ما يكتبه موديانو هو تاريخ عام؟ أم استحضار واستدعاء لتاريخ شخصي؟ أم ثمة شهادة يرغب في تركها لقارئه؟ كلّ الأجوبة محتملة في هذا النص الصغير (60 صفحة) الذي سيترك عندنا متعة الفوز بسعي الراوي ومسعاه لإيجاد ماضيه، لا بالقصة والشخصيات. كذلك من خلال كتابته بأسلوب بسيط، يلعب دوره في خدمة ذاكرة الراوي الفاشلة لدرجة أن القارئ لا يمكنه إلا أن يسمح لنفسه بالانجراف في القراءة مع المتعة.
هذه المتعة التي تشبه الموسيقى، تلك التي أسماها ذات يوم الروائي الإيطالي أليسندرو باريكو «الموسيقى البيضاء» (حين وصف روايته «حرير»). هي فعلا وقبل أي شيء هذه الموسيقى الصغيرة الناعمة المنسابة التي تهدهدنا والتي «تصف» جيدا باريس الستينيات (من القرن الماضي).
في لحظة من الرواية يقول الراوي ما معناه أنه سجل بدقة، في دفتر ملحوظاته الاجتماعات التي لا مستقبل لها، وحدد الموقع الدقيق لهؤلاء الأشخاص المجهولين والمظهر الجسدي لهم. وبالتالي فإن باريس مليئة بالنقاط العصبية والأشكال المتعددة التي يمكن أن تتخذها حياتنا.
فعلًا، فما يفعله الكاتب هنا، هو هذه الدقة، في كتابة كل شيء بحبر أزرق في دفتر ملحوظاته، ليأخذ بحثه عن الوقت مظهر شهادة الحياة.
باختصار، نحن أمام شذرات صغيرة من حياة، مثل أوراق متناثرة على مكتب من دون أن نتمكن حقًا من فهم الراوي والقبض عليه، لأنه يبدو غير مبالٍ بحاضره.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من دون
إقرأ أيضاً:
بين الوهم والحقيقة … نحزن ونفرح لما ليس ملكنا ؟؟
بقلم الخبير المهندس حيدر عبدالجبار البطاط ..
إن حياتنا على هذا الكوكب ليست سوى ومضة عابرة في الزمن الكوني الممتد عبر مليارات السنين.
ورغم هذه الحقيقة نجد أنفسنا غارقين في أحزان وأفراح تجاه أمور لا نملكها حقاً
وكأننا نعيش تحت وطأة وهم السيطرة على العالم من حولنا.
الحياة التي نحياها على قصر مدتها تختزلها عقولنا في مشاعر لحظية ترتبط بأشياء زائلة.
نتألم لفقد ممتلكات أو علاقات أو فرص ونبتهج بامتلاك ما قد نفقده غداً.
في النهاية ندرك أننا لم نكن نملك شيئاً منذ البداية وأن كل ما مررنا به كان مجرد ظلال لأفكار ومشاعر
وليست الحقيقة ذاتها.
رحلة قصيرة في عمر الكون
عمر الإنسان بالنسبة للكون لا يتعدى لحظة واحدة أقل حتى من أجزاء من الثانية إذا ما قسناها بمقياس الزمن الكوني.
لكننا مع ذلك نعيش وكأن هذه اللحظة هي كل شيء ونستنزف طاقة أرواحنا الكبيرة في ملاحقة أهداف لا تدوم.
هذا التعقيد المذهل في تصميم أجسادنا وعقولنا
والطاقة الهائلة التي تحملها أرواحنا
لا يمكن أن تكون قد وُجدت لتُستهلك في حياة عابرة مليئة بالانشغال بأوهام الملكية والسيطرة !!؟؟
قصة النار والعبرة الكبرى
تصور هذه القصة مشهداً مألوفاً
اندلع حريق في منزل، ووقف صاحبه يشاهد النيران تلتهمه وهو يذرف الدموع بحرقة.
فجأة اقترب منه أحد المارة ليخبره أن المنزل لم يعد ملكه، فقد باعه بالأمس.
عند سماع ذلك تبدل حزن الرجل إلى حالة من اللامبالاة وكأنه تحرر من الألم !!
لكن عندما جاء آخر وأخبره أن الصفقة لم تكتمل عاد الرجل إلى البكاء وكأن العالم انتهى بالنسبة له.
وفي النهاية حين طمأنه ابنه بأن الصفقة قد تمت بالفعل تحولت مشاعر الأب من الحزن العميق إلى السعادة ؟؟
هذه القصة تفتح الباب للتأمل في طبيعتنا البشرية.
كيف يمكن أن تتبدل مشاعرنا بشكل جذري بناءً على ما نؤمن أنه حقيقة في اللحظة.
العبثية في الحزن والفرح
عندما نحزن أو نفرح لأمر ما فإننا غالباً لا ننظر إلى الصورة الكاملة.
نحن نتعلق بأشياء نعتقد أنها لنا
بينما الحقيقة أنها عابرة مثلنا تماماً.
المنزل الذي نبكي عليه الثروة التي نخسرها أو حتى العلاقات التي نتمسك بها
كلها ليست أكثر من محطات مؤقتة في مسارنا.
هل من المنطقي أن ننفق طاقة أرواحنا على أشياء
ليست خالدة مثلنا ؟؟
هل يعقل أن نحمل هذا الكم من التعقيد في عقولنا لنستهلكه في معارك على ما ليس لنا حقاً ؟؟
دعوة لإعادة برمجة التفكير
الوعي بحقيقة أن حياتنا قصيرة جداً مقارنة بعمر الكون يدعونا إلى إعادة النظر في طريقة تفكيرنا.
علينا أن ندرك أن وجودنا هنا ليس مجرد صدفة عابرة
وأن طاقة الروح التي نحملها أكبر من أن تُهدر في الغرق في عواطف تتعلق بأشياء زائلة ؟
الروح خالدة هذا موكد !
نحن أكثر من لحظة عابرة
إن أعظم التناقضات التي نعيشها هي أننا نملك أرواحاً قادرة على إدراك الأبدية ومع ذلك نحصر أنفسنا في لحظات قصيرة من الزمن.
هذه الحياة بكل قصرها ليست عبثية لكنها أيضاً ليست مبرراً لأن نستهلكها في وهم الملكية والسيطرة.
نحن هنا لنتجاوز الزمن لنعبر عن الروح التي تسكننا ولنعيش بوعي يجعلنا ندرك أن الحقيقة ليست فيما نملك بل في ما نكون.
فلماذا نحزن ونفرح … على تخيلات لحظية
حيدر عبد الجبار البطاط