خطورة جريمة القتل عدواناً وظلماً باعتبارها من أفظع الجرائم واعتداءً على الحياة وهناك وعيدٌ شديدٌ عليها في القرآن الكريم

الثورة /

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.


اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في القرآن الكريم قدَّم الله لنا قصةً لحادثةٍ مؤسفة، وقعت في الجيل الأول من المجتمع البشري، من أولاد آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، في مرحلةٍ مبكرةٍ من الوجود الإنساني، ووقعت فيها حادثة سفك الدماء، والقتل بغياً، وعدواناً، وظلماً، وتضمنت القصة كما قدَّمها الله لنا في القرآن الكريم الكثير من الدروس والعبر المهمة، التي نستفيد منها.
وما قبل الدخول في تفاصيل القصة، نتذكر أن آدم وحواء «عَلَيهمَا السَّلَامُ» بعد أن أُخرجا من تلك الجنة التي كانا فيها، نتيجةً للمخالفة في الأكل من الشجرة، بدأا مشوار حياتهما على الأرض، وتحملا أعباء هذه الحياة، وهما يكدان ويتعبان ويعملان؛ لتوفير كل متطلبات حياتهما الضرورية، التي يحتاجان إليها من مأكلٍ، ومن غير ذلك: غذاء، ودواء، وكساء، والمتطلبات الأساسية، والسكن… وغير ذلك، ولنا أن نتخيل كم ستكون فرحتهما وقد بدأا يكونان أسرةً، هي الأسرة البشرية الأولى من بني آدم، الفرحة عندما تحمل حواء في حملها الأول، وهي- كما في الروايات- كانت تحمل توأماً (ذكراً وأنثى)، والفرحة بعد أن تضع حملها الأول، وكذلك بعد المزيد والمزيد من الحمل، ومجيء الأولاد، وأن تكبر الأسرة، ويكثر العدد فيها من الأولاد، وهم ينشأون ويكبرون في ظل رعاية أبويهما آدم وحواء «عَلَيْهِمَا السَّلَامُ».
آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» كان يرعى أولاده من موقع الأبوَّة، ومن موقع النبوَّة، وقد أخذ الدرس الكبير والعظة والعبرة مما حصل له في تلك الجنة، نتيجةً للمخالفة للنهي من الأكل من الشجرة، فبالتأكيد كان يسعى لتربية أولاده تربيةً صالحة، ويخاف على أولاده من مكائد الشيطان، ووساوسه، ونزغاته، ولاسيما والحرب معلنة بينه وبين الشيطان، الشيطان أعلن الحرب والعداء على ذرية آدم، وليس على آدم وحواء فحسب، فهو يهتم بتنشئة وتربية أولاده التربية الصالحة، التربية على الإيمان، على التقوى، وفق التعليمات الإلهية التي يتلقاها من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
عندما كانوا يكبرون، كانوا يبدأون بانتشارهم، هم لا يزالون عدداً محدوداً، وأسرةً واحدة هي الأسرة الأولى من المجتمع البشري، على هذه الأرض الواسعة، الفسيحة جداً؛ ولذلك عندما كانوا يكبرون- كما في الآثار والروايات- كانوا يبدأون بالانتشار في مناطق أخرى، وينتشر البعض منهم في جهة، والبعض منهم في جهةٍ أخرى، وأرض الله واسعةً جداً.
ظروف حياتهم في تلك المرحلة الأولى، وهم لا يزالون عدداً قليلاً، وأسرةً واحدة على كل هذه الأرض، يتاح لهم فيها أن ينتشروا، وأن يتحركوا في شؤون حياتهم، وتكون مسألة الاحتكاكات فيما بينهم مستبعدة، ليس هناك تزاحم على هذه الأرض، على مصالحها، على خيراتها، على متطلبات حياتهم فيها، هم لا يزالون عدداً قليلاً، والأرض فسيحة وواسعة جداً، يستطيع أيٌّ منهم أن ينتشر في أي مساحةٍ يريد، وأن يبدأ مشوار حياته في تكوين أسرته فيها، أو في ترتيب وضعه وأمور حياته فيها؛ ولذلك لم تكن ظروف هذه الحياة ومواردها وإمكاناتها هي التي ستفتح النزاع فيما بينهم؛ ليختلفوا على أراضٍ، أو مزارع، أو مصالح مادية، أو شيءٍ من هذا القبيل.
الإنسان هو في واقعه كائنٌ اجتماعي، هناك اهتمامات ومجالات وأمور تبقى في إطار شخصية الإنسان، وواقعه الشخصي، لكنها محدودةٌ جداً، فكثيرٌ من أمور حياته تكون في إطار علاقاته ومعاملاته مع الآخرين، ويتكون في إطار هذه العلاقات إمَّا مودة، وصحبة، وتفاهم، وتعاون، وجو إيجابي، أو على العكس من ذلك، تتكون في العلاقات ظروف معقدة، مشاكل، في الواقع البشري تنشأ أيضاً وتظهر عداوات، ونزاعات، وخصومات… وغير ذلك.
ولذلك جانبٌ مهمٌ من تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ومن هديه المبارك، يأتي إلى الإنسان في تزكية نفسه أولاً، بما يفيد ويساعد لأن يكون إيجابياً في علاقاته مع الآخرين، ثم يُقدِّم الله لنا أسساً عادلةً، وأسساً مباركةً، صالحةً، تصلح بها حياتنا، وعلاقاتنا، ومعاملاتنا، فهناك جانب يأتي إلى النفس البشرية من هدى الله وتعليماته، لتزكيتها، وتنمية إرادة الخير فيها، وتزكيتها من عناصر الشر، التي تؤثِّر على الإنسان في علاقاته بالآخرين، في تعاملاته معهم أيضاً.
ثم ضبطٌ للمعاملات والعلاقات بتعليمات من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فيها حلال، وفيها حرام، وفيها ضوابط تُحَرِّم على الإنسان أشياء معينة في تعاملاته، في علاقاته، بما يُهذِّب وَيُنَظِّم العلاقات والمعاملات بين البشر؛ لتكون على أساسٍ صحيح، بدءاً من الوضع الأسري الذي ينشأ فيه الإنسان، تعليمات يتلقاها الإنسان في التعامل مع أسرته، مع والديه، مع إخوته، وأخواته، مع محيطه القريب من أرحامه، وهكذا في علاقته مع الناس من جيرانه إلى مجتمعه، إلى أمته التي هو جزءٌ منها، توجهه في إطار توجهها وهكذا.
والتربية كذلك: يأتي البرنامج التربوي لتزكية النفس، وتهذيبها، وإصلاحها، وتخليصها من نزغات الشر، والعوامل السيئة التي تؤثِّر عليها؛ من أجل أن تكون نفس الإنسان زاكية، فيتجه في هذه الحياة وهو عنصر خيرٍ، يحمل إرادة الخير تجاه الآخرين.
ثم تأتي الالتزامات والمسؤوليات، والاختبار أيضاً يأتي إلى هذا الجانب: إلى جانب علاقة الإنسان، مع أنه في ظروف حياته- وليس فقط على مستوى التعليمات- في ظروف الحياة ما يشد الإنسان لأن يكون إيجابياً في تعامله مع محيطه الأسري، ثم على مستوى ما هو أوسع من ذلك؛ لأن مصالح الإنسان أيضاً، وما يتحقق له من الخير الواسع، وطبيعة ظروف هذه الحياة، بما فيها من تحديات، بما فيها من صعوبات، بما فيها من المخاطر، وما وزَّعه الله من المواهب، والطاقات، والقدرات بين البشر، كل هذا يساعد على تكاملهم، وعلى شعورهم بالحاجة لبعضهم البعض، وعلى ترابطهم في ظروف حياتهم؛ فواقع الحياة، وظروفها، وتحدياتها، ومتطلباتها، ومصالح الإنسان فيها، مع التعليمات الإلهية، مع التربية الإيمانية، مما يساعد الإنسان على أن يكون في واقعه الاجتماعي (في علاقاته، في معاملاته) بدءاً من أسرته، ثم محيطه المجتمعي وأمته، أن يكون إيجابياً وصالحاً، ويتعامل وفق تعليمات الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولديه ما يشده إلى ذلك من كل الجوانب: الاعتبار النفسي، الاعتبار الإيماني، الاعتبار الاجتماعي، الاعتبار المتعلق بمصالحه وظروف هذه الحياة وتحدياتها وأخطارها.
نأتي إلى القصة كما ذكرها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم، قال «جَلَّ شَأنُهُ»: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: الآية27]، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}؛ لأن في تلاوتك عليهم لهذه القصة دروس مهمة جداً، وشواهد على نبوَّة رسول الله «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه»، حتى أمام أهل الكتاب، الذين يعرفون عن هذه القصة في كتبهم، وفيها دروس مهمة تتعلق بواقع الناس بشكلٍ عام، بدءاً من واقعهم الأسري والاجتماعي، ثم الدروس تجاه أيضاً النزعة العدوانية لبني إسرائيل، والتي سيأتي التعقيب بشأنها في آخر القصة.
{نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}، فالقصة تعود إلى ذلك الجيل الأول من بني آدم، في أول جيلٍ منهم، أبناء آدم بشكلٍ مباشر، قبل بقية ذريته، فالحادثة بين اثنين منهما، من أولاد آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» من الجيل الأول، {بِالْحَقِّ}؛ لأن القرآن الكريم يُقدِّم القصة الحقيقية الواقعية، يقدِّمها من دون شوائب وإضافات ليست صحيحةً، ويُقدِّم- كما أشرنا في بداية الحديث عن القصص القرآني ومميزاته- خلفية ما يحصل من أحداث على المستوى النفسي، والحالة النفسية، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا}، وأيضاً هناك حاجة لمعرفة مثل هذه القصة، هي قُدِّمت بالحق في مضمونها، بسلامتها من كل الشوائب التي ليست صحيحة، وهذه مسألة مهمة، في القصص، في الأخبار، في الروايات، أن يكون هناك حرص على أن يقصَّ الإنسان القصة الحقيقية الواقعية، وألَّا يضيف أشياء غير صحيحة.
{بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ }، يبدأ مشهد القصة وهما يقربان القرابين إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا}، وكان ذلك جزءٌ من عبادتهما، ومما شرعه الله لبني آدم في المراحل والأجيال الأولى، والتقرُّب إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو يشمل التقرُّب إلى الله «جَلَّ شَأنُهُ» بالذبائح، والأعمال، وسائر القُرَب التي شرع الله لنا أن نتقرَّب بها إليه «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، كجزءٍ من أعمالنا، ومناسكنا، وما شرعه الله لنا، فهما قربا، كلٌّ منهما قرب قربانه إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، تَقَرَّب إلى الله بشيءٍ معين.
في بعض الروايات تذكر أنَّ أحدهما تَقَرَّب إلى الله بذبيحة، من خير الغنم الذي كان يتوفر له، القرآن لم يركز على التفاصيل فيما يتعلق بماهية ما تقربا إلى الله به، لكن الخلاصة: أنَّ كلاً منهما تقرَّب إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بقربان.
{فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ }، في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ البشرية، في الجيل الأول، وربما لأجيال فيما بعد ذلك، كانت مسألة القبول لما يتقرَّب به الإنسان من قربان تظهر بشكلٍ محسوس ومشاهد، فيظهر في الآية القرآنية (في سورة آل عمران): {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}[آل عمران: الآية183]، أن هذه كانت تحصل في الأجيال القديمة آنذاك، إذا كان قربان الإنسان مقبولاً، تَقَبَّله الله منه، فمعنى ذلك: أن أعماله الصالحة مقبولة، وهذا يدل على ما هو عليه من التقوى والإيمان، فتأتي نارٌ: إمَّا بشكل نار تنزل، أو صاعقة محرقة تحرق، تختلف الروايات والأخبار في ذلك، لكنها في المحصلة كما في الآية نار- {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}- تأكل ذلك القربان الذي هو مقبولٌ، فيكون ذلك علامةً لقبوله، فقد ظهر لهما أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» تَقَبَّل قربان أحدهما، ولكنه لم يقبل قربان الآخر، وهناك سبب يعود إليه هو.
فجأةً، في ذلك الجو العبادي، وهما في حالة عبادة، وتقديم القرابين إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» والتَّقرُّب إلى الله، يتغير الحال، وتنقلب الحالة من حالة عبادة وتقرُّب، إلى حالة مختلفة تماماً عند ذلك الذي لم يقبل الله قربانه منهما؛ فكانت ردة فعله العجيبة والغريبة والمفاجئة تجاه أخيه الذي تقبل الله قربانه: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}، ذلك الذي لم يتقبل الله قربانه تحرَّك الحسد في نفسه، وهاج الحسد في نفسه إلى أسوأ مستوى يمكن أن نتخيله، واتجه بردة فعله إلى أسوأ مستوى أيضاً؛ ليوجه إلى أخيه الذي تقبَّل الله قربانه التهديد بالقتل، هكذا دفعةً واحدة، لم يكن قد سبق ذلك أي حادثة قتل، أو نزاعات متأججة فيما بين بني آدم في جيلهم الأول؛ ولذلك كانت حادثة غريبة جداً، {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}، هكذا قفزة واحدة إلى أسوأ إجرام، إلى أسوأ مستوى من الحقد والعُقَد.
فماذا كانت ردة أخيه المؤمن المتقي، الذي تَقَبَّل الله قربانه؟ مع أنه من المزعج للإنسان والمستفز له أن يوجَّه إليه تهديدٌ بالقتل، {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، كان جواباً هادئاً، يُعَبِّر عمَّا هو عليه من حالة التقوى، وزكاء النفس، وطهارة القلب، وهو يرشد أخاه إلى ما به قبول العمل؛ لأنه ليس له مشكلة ولا ذنب فيما حصل لأخيه، أن الله لم يقبل قربان أخيه، ليست المشكلة عنده أصلاً، فهو يُنَبِّه أخاه على السبب في أن الله لم يقبل قربانه، وأيضاً يرشده إلى كيف يتقبل الله قربانه، فيقول له: [أنت مشكلتك في نقص التقوى، لست متقياً لله؛ ولذلك لم يقبل الله منك عملك، لم يقبل منك قربانك؛ فاتق الله، والله سيتقبل منك قربانك]، فالتقوى أساسٌ لقبول الأعمال الصالحة.
{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة: الآية28]، نجد في منطق هذا المؤمن المتقي من أبناء آدم مشاعر الإيمان، والأخوّة، والتقوى، وزكاء النفس، والسلامة من العقد والأحقاد، فهو يخاطب أخاه بهذه اللغة التي كان يفترض لو بقي في أخيه شيءٌ من التقوى، أو زكاء النفس، أو أن يحمل الخير، أن يتأثر بذلك؛ لأن هذا كلام مؤثِّر جداً، فهو يقول له: [بالرغم من أنك هددتني بالقتل، ويظهر منك هذا الحقد تجاهي، إلَّا أني لا أحمل تجاهك هذا الحقد أبداً، ولا أحمل نيَّةً لقتلك، ولن يدفعني تهديدك لي بالقتل، وحتى لو حاولت قتلي فأنا لا نيَّة لي بأن أقتلك]، وذلك لا يعني أنه لن يدافع عن نفسه، أو لن يحاول أن يمنع أخاه من قتله، ولكنه لا يتجه إلى مستوى الفعل نفسه.
مثلاً: في واقع الناس، البعض من الناس لو هدده شخصٌ بأنه سيقتله، وفيما لو أضيف إلى ذلك أن يلحظ منه أن لديه توجه جاد بذلك، البعض من الناس قد يبادر ويقابل التهديد بالتهديد والوعيد، والبعض حتى يدخل في اشتباك وقتل.
أمَّا هو فقد سعى بكل جهد لإقناع أخيه، ونصحه، والتأثير عليه، ومحاولة ثنيه عن الإقدام على تلك الجريمة، ولم يكن من جانبه حتى عندما تقبل الله قربانه، لم يكن من جانبه أي شيءٍ يستفز أخاه، لا استعراض، ولا تباهٍ على أخيه، ولا استفزاز لأخيه بأي طريقة نهائياً، فلم يحصل من جانبه أسلوب استعراضي، يتباهى فيه على أخيه ويستفزه، أو يوبخه، أو يحتقره، أو يسيء إليه، ولا أي شيء؛ بينما كانت عقدة الحسد هي المؤثرة على أخيه: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}، وكأنه شعر بغيرة الحسد، ودافع الحسد، أن أخاه أصبح له منزلة عند الله أكبر منه وأهم منه، وشعر بالإهانة تجاه ذلك؛ فتحركت فيه عقدة الحسد.
والحسد حالة خطيرة جداً على الإنسان، عندما تحقد على إنسان لأن الله أنعم عليه نعمةً معينة: (معنوية، أو مادية)، وتتمنى زوالها، وتحرص لو استطعت أن تعمل على أن تفقده تلك النعمة، أو تنقِّص منها، فعندك إرادة الشر تجاهه، تحمل تجاهه إرادة الشر، نتيجة لحقدك عليه، مع حسدك له؛ لأن الله وهبه تلك النعمة، أو حظي بشيءٍ معين، أو نال شيئاً معيناً من الأمور المعنوية أو المادية، فأنت تحسده لذلك، حالة الحسد حالة خطيرة جداً، {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: الآية5].
{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي}: حتى لو حاولت وبدأت بالاعتداء عليَّ، في محاولةٍ لقتلي، حتى مع ذلك لا أحمل إرادة أن أقتلك، لا أحمل أي نيَّة تجاهك لأقتلك؛ فهو منزَّه عن هذا الحقد، وهذا- كما قلنا- لا يعني أنه سيتجمَّد ويستسلم، ويُمَكِّن أخاه ليقتله هكذا من دون أي محاولةٍ لمنعه، لكنه سيسعى لمنعه من دون توجهٍ لقتله.
{مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، نجد هنا جذور التقوى وأساسها: الخوف من المعصية وعواقبها، الخوف من المخالفة لتوجيهات الله، وما يترتب على ذلك من العقاب الإلهي، والعواقب الوخيمة على الإنسان، {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، فنجد أهمية التربية الإيمانية على الخوف من عذاب الله، الخوف من العواقب الوخيمة لمخالفة توجيهات الله، كيف يضبط الإنسان.
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}[المائدة: الآية29]، إذا كنت مُصِرّاً على الاعتداء عَلَيَّ وعلى قتلي، فأنت ستتحمل إثم قتلي فيما لو قتلتني، مع آثامك الأخرى، مع ذنوبك الأخرى، التي جعلتك بعيداً عن التقوى، وكانت السبب في أن الله لم يقبل منك قربانك، ولا يتقبل منك أعمالك، فتضيف إثماً على إثم، وجرماً على جرم، وذنباً على ذنب؛ فتكون العاقبة هي جهنم. هو بهذا ينصحه، يحذِّره، يذكِّره بالعواقب الخطيرة التي منها جهنم على مثل ذلك الجرم الفظيع، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}؛ لأنك تتحول إلى ظالم باعتدائك وقتلك لي ظلماً وعدواناً.
مع كل هذا المنطق المؤثِّر، الذي فيه العِظة، وفيه التذكير بالعواقب السيئة، بجهنم، فيه أيضاً الكلام الأخوي الناصح، المذكِّر، لم يرد فيه ولا عبارة واحدة مستفزة، تزيد من تأجيج مشاعر أخيه بالحقد، أو الانفعال والغضب، ولا أي شيء، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ}[المائدة: من الآية30].
ما بعد ذلك، أكيد أنهما لم يكونا قد بقيا في ذلك المكان، كانا قد انتقلا من ذلك المكان الذي قدَّما فيه القرابين، فبقي يفكر مع نفسه، ذلك الذي لم يتقبل الله قربانه، وهو يهيج ويغلي بمشاعر الحسد والحقد من جهة، وبالتأكيد تتحرك الجوانب الأخرى: مشاعر الأخوَّة، الضمير الذي يؤنب الإنسان تجاه الإقدام على معصية، على جريمة، ولكنه وهو يفكر أخذت نفسه تُزَيِّن له الإقدام على تلك الجريمة حتى أصبح مهيأً لها، ومات ضميره، وسكتت عنه تلك المشاعر، التي تبقى فيها حالة الأخوّة مؤثِّرة على الإنسان، أو الاعتبارات الإيمانية وغيرها، فحالة التطويع التي حصلت له من جهة نفسه، هو: أنَّها زيَّنت له ارتكاب المعصية في وساوسه وتفكيره الخاطئ والسلبي؛ حتى أصبح جريئاً ومهيأً على الإقدام على تلك الجريمة.
فالإنسان أحياناً ما قبل الإقدام على جرم أو ذنب، يبدأ ضميره يؤنِّبه، يوبِّخه، ولكنه قد يتغلَّب على تأنيب الضمير، ويُسكِت ضميره عن تأنيبه، بما يستحضره، مما يتوافق في تفكيره السلبي مع نزغات نفسه، مع أهواء نفسه، مع الحالة النفسية لديه، إذا كانت حالة حسد؛ يتذكر ما ينسجم مع تلك الحالة السلبية، إذا كانت حالة غضب كذلك، إذا كانت حالة طمع كذلك… وهكذا بقية الأحوال، فتبدأ الحالة النفسية، هي حالة خطيرة جداً، هي الحالة التي تبدأ لدى الإنسان قبل الإقدام على الجرم والذنب، يبدأ يتَّخذ قراره في نفسه، وتبدأ تلك الحالة النفسية، إذا تغلَّب فيها على تأنيب ضميره؛ فهو بالتالي يتوجه إلى الفعل، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ}[المائدة: من الآية30]؛ ولذلك هي مرحلة خطيرة على الإنسان، ومن المهم للإنسان أن يتدارك نفسه أثناءها، قبل الإقدام على الجرم، وقبل الإقدام على الذنب؛ لأن الإنسان يفكر في المسألة، يتحرك ضميره من جهة، تتحرك أهواؤه، وما تتأجج به مشاعره مما يتطابق مع هوى نفسه من جهة، هي مرحلة يمكن للإنسان إذا تذكَّر فيها، أن يضبط نفسه وأن يمنع نفسه، قبل التورط والانزلاقة إلى الجرم أو الذنب.
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}[المائدة: من الآية30]، أقدم على تلك الجريمة الشنيعة، الفظيعة، وتختلف الأخبار والروايات عن كيفية قتله له، في بعضها: أنه اغتاله أثناء نومه، وألقى على رأسه صخرةً كبيرةً فقتله بها غيلةً، أقدم على تلك الجريمة الشنيعة عدواناً، وبغياً، وظلماً، ومن دون أن يكون قد سبق من أخيه أي شيءٍ إليه يبرر له فعل ذلك، لم يظلمه، ولم يسئ إليه، ولم يعتدِ عليه، ولم يأخذ عليه حقاً، والسبب الذي دفعه لتلك الجريمة، كان هو الحسد؛ لأن الله لم يتقبَّل قربانه، مثلما تقبَّل قربان أخيه، وكانت أول جريمة في واقع بني آدم، ومبكرة للأسف الشديد، الذي ضجَّ منه ملائكة الله بشأن الإنسان: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، {أَتَجْعَلُ فِيهَا}: في الأرض يعني، {مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[البقرة: من الآية30]، أتى مبكراً من الجيل الأول، ولنا أن نستشعر مدى حزن آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وحواء «عَلَيْهَا السَّلَامُ»، وبقية إخوتهم، بقية إخوة ابني آدم، أولاد آدم، كان له أيضاً المزيد من الأولاد، والكثير من الأولاد، كيف يكون حزنهم على هذه الحادثة المؤسفة، والجريمة الشنيعة الفظيعة، التي أدخلت الحزن والأسى والمحنة إلى تلك الأسرة في بداية الوجود البشري.
{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة: من الآية30]، بعد قتله أصبح من الخاسرين، لم يفيده شيئاً، ما الذي سيفيده ما أقدم عليه من قتل أخيه في مشكلته، وهو: أنَّ الله لم يقبل منه قربانه، ولا يتقبل منه أعماله؛ لأنه ليس متقياً لله، لديه معاصٍ، لديه ذنوب تبطل أعماله، وتحول دون قبول أعماله، فما الذي سيفيده قتله لأخيه تجاه ذلك؟! هل سيحل له المشكلة، أم أنه أضاف وزراً على وزر، وذنباً كبيراً وفظيعاً على ذنوبه الأخرى، وأصبح بعيداً أكثر عن رحمة الله، وعن التوفيق للتقوى، أبعد نفسه أكثر. فخسارته حين ذاك خسارة كبيرة:
خسر مستقبله مع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأصبح مصيره خطيراً عليه، إلى جهنم والعياذ بالله.
خسر علاقته بأسرته، وبالتأكيد يعني موقف آدم، وموقف حواء، وموقف بقية إخوته منه، سيتغير تماماً، لا تبقى له تلك الروابط الأسرية مع والديه وإخوته، خسر أخاه، وكان كأخ هو رصيدٌ مهمٌ بالنسبة له، سندٌ وعونٌ كما هو حال الأخ مع أخيه، سند وعون له، فخسر قيمته الإنسانية، وكرامته الإنسانية، خسارته كبيرة، {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
ولذلك في الأخبار والروايات، أنه بقي هارباً لزمن طويل من والده آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، حتى توفي آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وفي الأخبار والروايات أيضاً التي نستفيد منها فيما كان منها في إطار النص القرآني، وفيما كان شيئاً واضحاً، يعني: مما هو معروف في واقع البشر، في واقع الناس، أنَّ آدم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» حزن حزناً شديداً جداً، يحزن حزناً مضاعفاً، حزناً لحصول تلك الجريمة في ذريته، في أولاده، في الجيل الأول من أولاده، وهي جريمة شنيعة، يفرح بها الشيطان، يفرح بها إبليس، يحزن لحصول محظور كهذا، جرم كهذا، معصية كهذه، معصية كبيرة جداً في الجيل الأول من أولاده، ويحزن لما حصل من اعتداء على ابنه من ابنه أيضاً، اعتداء بتلك الصورة، بتلك الحالة، التي ليس فيها ما يبرر ذلك الاعتداء أصلاً، فكان أمراً محزناً. أمَّا ذلك القاتل: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
بعد مشهد الجريمة، وقد أصبح أخوه شهيداً، مظلوماً، باقياً في جثمانه في تلك الحالة، قد قتله، لم يكن قد سبق تلك الحالة وفاة عنده، أو حادثة قتل فيما سبق، ويحصل معها تعامل مع الجثمان، في كيف يكون التعامل مع جثمان الإنسان بعد وفاته أو قتله؛ ولذلك هناك مشكلة التعفن للجسد في بقائه بعد وفاته أو قتله، وهناك مشكلة المخاطر عليه من الهوام، والسباع، والحيوانات، والطيور، التي تأتي لتركز على أكل الجثامين، فهو في تلك الحالة لم يعرف كيف يتعامل مع جثمان أخيه، لم يكن قد حصل حالة سابقة عنده من وفاة أو قتل، وتأتي فيها كيفية التعامل، فبقي محتاراً، لا يعرف كيف يتصرَّف.
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}[المائدة: من الآية31]، في الحالة التي هو فيها متحير، جاهل، ولا يعرف كيف يتصرف مع ذلك، والحالة التي يتعرض لها جثمان أخيه من مخاطر التعفن، والتحلل، ومن مخاطر افتراس الحيوانات، يعني: مهاجمتها له، وسعيها لأكله، في تلك الحالة بعث الله غراباً، اختار الله له من بين الطيور الغراب، هو الأنسب معه يعني، لم يختر له حتى من أحسن الطيور وأجملها؛ ليعلِّمه.
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}، في الأخبار والروايات التي في إطار هذا النص القرآني: أنَّ الغراب أتى ومعه غرابٌ ميت، يحمل غراباً ميتاً، وقام ليحفر له في الأرض حفرةً، ثم دفنه فيها، كان ذلك القاتل يشاهد المنظر بكله، والله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو الذي بعث ذلك الغراب؛ {لِيُرِيَهُ}: ليعرف كيف يتصرف مع الموقف، وكيف يدفن جثمان أخيه.
{لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}؛ لأن جثمان الإنسان ما بعد الوفاة والقتل يتعفن، يتحلل، يتضرر، ولذلك يعتبر من التكريم: التكريم لأخيه، والتكريم لبني آدم بشكلٍ عام، أن هداهم الله إلى هذه الطريقة في ستر الجثامين بعد الوفاة، وبعد القتل، فالقبر هو من نعم الله التي أنعم بها على الإنسان في إطار التكريم للإنسان، أن يُوارى جثمانه في التراب بتلك الطريقة التي شرعها الله لعباده؛ ليكون ذلك ستراً للجثمان، لجثمان الإنسان، فهذا من التكريم للإنسان.
ولهذا تمنن الله في آياتٍ أخرى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس: الآية21]، وهو يعد نعم الله على هذا الإنسان، في سياق تعداد النعم على الإنسان، يقول الله أيضاً: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[المرسلات: 25-26]، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كرَّم البشر، وأنعم عليهم بهذه الطريقة، التي هي: القبور لموتاهم، وأن توارى جثامين موتاهم في التراب؛ ليكون ستراً لها، وأصبحت هذه المسألة أيضاً مسألة لها اعتبارها، وحتى في شريعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» للمقابر حرمتها، حرمتها الكبيرة، وهناك تشريعات إلهية، وتعليمات تتعلق بهذه الحرمة، وكيفية التعامل معها… وما إلى ذلك.
{قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}[المائدة: من الآية31]، شعر وهو في تلك الحالة التي هو فيها خائبٌ وخاسر، شعر بجهله، بعجزه، بأنه فَقَد قيمته الإنسانية، فهو لا يرقى حتى إلى مستوى معرفة الغراب؛ ولذلك هو يوبخ نفسه بهذا التوبيخ: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}، أصبحت مشاعره تجاه أخيه بعد الجريمة، يستشعر أنه أذنب، أنه ارتكب جرماً، وإساءةً، وظلماً بحق أخيه، ولكن ليس إلى درجة التوبة إلى الله، والإنابة إلى الله، {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}[المائدة: من الآية31]، أصبح يحمل الندم بقية عمره، يشعر بأنه ارتكب جرماً وإساءةً، يوبِّخه ضميره، لا يهنأ بحياته بقية عمره.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة: الآية32]، هذا الدرس في مقدِّمة من يذكَّر به: بنو إسرائيل، الأكثر جرأةً على سفك الدماء، والذين يحملون نفسية ذلك القاتل من أبناء آدم: النفسية الحقودة، المستهترة بحياة الناس، الجريئة على ارتكاب مثل ذلك الجرم الشنيع بدون أي مبرر.
نتحدث عن بعضٍ من الدروس والعبر بشكلٍ سريعٍ ومختصرٍ:
يتضح لنا من القصة الأهمية الكبرى للتقوى في قبول العمل الصالح:
في قبول صلاتك، وصيامك، وبقية أعمالك، لابدَّ لك من التقوى، أن تحذر من الذنوب والمعاصي؛ لأن الإنسان إذا كان مُقدِماً على المعاصي، والذنوب، والجرائم، والكبائر، وهو مع ذلك يعمل بعض الأعمال الصالحة، تلك الأعمال لا تُقبل منه، وهو يستمر على ارتكاب كبائر الذنوب والمعاصي؛ ولهذا يقول الله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، فلا الأعمال الصالحة تُقبل، ولا هي تترك أثرها في تزكية النفس، في المشاعر الإيمانية.
يتضح لنا خطورة الحسد:
الحسد من أسوأ الآفات، وكم يتفرَّع عنه من الجرائم، والمعاصي، والذنوب، وآثاره في حياة الناس فيما يحصل من جرائم، من مظالم، من توتر في علاقاتهم، من إساءات فيما بينهم، آثار خطيرة جداً؛ ولهذا يقول الله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق: الآية5].
يتضح لنا خطورة الحقد، والانسياق وراء عقد النفس وأهوائها:
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ}، إذا اتَّجه الإنسان للإصغاء لأحقاد نفسه؛ فقد تزيِّن له الإقدام على فظائع الأمور، وعلى الجرائم الكبيرة، وعلى الأمور الرهيبة، التي هي خطيرةٌ جداً على إيمانه، وعلى دينه، وعلى مستقبله عند الله، وخطورة النزعة العدوانية، ليسعَ الإنسان أن يتخلَّص من الأحقاد، إذا تراكمت الأحقاد في نفس الإنسان؛ فهي ستصل به إلى ما لم يكن حتى هو يتوقع أن يصل إليه.
الإنسان في واقعه النفسي:
في واقعه النفسي ليحرص على أن يكون سليماً من النزعة العدوانية تجاه الآخرين، لا تكن عدوانياً، تحمل في نفسك الشر، وأبسط سبب تريد أن تدخل في أي مشكلة مع أي إنسان، فأنت قريبٌ من فعل الشر، ومن الحالة العدوانية تجاه الآخرين لأتفه الأسباب، وأبسط الأسباب.
الواقع الأسري:
واقع الأسرة، الإنسان مع أسرته، مع أولاده، الأخ مع إخوته، الأقارب فيما بينهم، لابدَّ من التربية الصالحة، التي يُأخذ فيها بعين الاعتبار: تعزيز الأواصر والروابط الأسرية، والرحامة، والقرابة، وما في شرع الله ودينه من تعليمات تتعلق بترسيخ هذه الأواصر والعلاقات، مع السعي لتزكية النفوس، والحذر من تراكم هذه السلبيات، من مثل: الحسد، الطمع، العقد، وإلَّا فكم حصل، وكم يحصل في واقع البشر من مظالم ومآسٍ في داخل الأسر نفسها، عدوانٌ من أخٍ على أخيه، عدوانٌ من أخٍ على أخته، انتهابٌ لحقوقها وإرثها، اعتداءٌ على يتيمٍ في حقه، كم يحصل من المظالم، من الحالات السيئة على مستوى الأسرة، مع أنَّ الإسلام، وشرع الله ودينه، قدَّم ما يزكي الإنسان، وما يخلِّصه من الأنانية، الأنانية هي من أخطر الأشياء، إذا تربى الإنسان على الأنانية، لا يريد إلَّا نفسه، إلَّا مصلحته، ولو على حساب التضحية بمصالح الآخرين، بحقوقهم، ولو بأسلوب الاعتداء عليهم، أو الظلم لهم، الأنانية خطيرة جداً، خطيرة جداً، الحسد، ثم ما يترتب على ذلك من الظلم.
فقدان حالة التقوى تساعد على تنامي حالة الشر والآفات في الإنسان:
إذا لم يلتزم الإنسان بالتقوى، فتلقائياً تنمو فيه عناصر الشر في نفسه، الحالات السلبية في نفسه، كل الحالات السلبية: الطمع، الحسد… بقية الحالات السلبية، ويكون عدوانياً، قاسي القلب، مسيئاً، جريئاً على الإساءة إلى الآخرين، ومتسرِّعاً في الإساءة إلى الناس، يعني: تظهر عليه الحالة السيئة، أنَّه إنسانٌ سيءٌ، قاسي القلب، متسرِّع في الإساءة إلى الآخرين، جريئاً على الإساءة إلى الآخرين، هو على الإساءة أقدر منه على الإحسان، الإحسان صعب عليه، ومتعبٌ له، لكنه نشيط، وراغب، وسريع، ومبادر للإساءة، وهي حالة خطيرة جداً.
الحالة النفسية المستهترة، والجريئة، والمنفلتة، التي تتهور بفعل أي شيء، هي كذلك حالة خطيرة جداً.
أيضاً خطورة جريمة القتل عدواناً وظلماً:
باعتبارها من أفظع الجرائم، واعتداءً على الحياة، وهناك وعيدٌ شديدٌ عليها في القرآن الكريم، يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: الآية93]، هل نريد أكثر من هذا الوعيد؟
البعض من الناس لأتفه الأسباب، لأتفه المشاكل، وأحياناً بدون سبب حقيقي، يقتل، أو يهدد بالقتل. التهديد بالقتل جريمة، التسرُّع أحياناً بما يوصل إلى القتل. البعض يدخل على الفور لأتفه الأسباب في مضاربة، في اشتباك، يريد أن يضرب شخصاً آخر، يتطوَّر الموقف فيصل إلى حالة القتل. البعض يدخل أيضاً في ملاسنة، وكلام مسيء… وهكذا من كلمة إلى ما هي أسوأ وأكثر استفزازاً، وصولاً إلى القتل. البعض لأي خلاف أو نزاع يبادر بالتهديد بالقتل، أو الوقوع في القتل بشكلٍ مباشر. القتل جريمة خطيرة جداً، يرسِّخ الإنسان في نفسه أنها جريمة رهيبة جداً، ووزرٌ كبير، وذنبٌ عظيم، عليه ذلك الوعيد الشديد.
الآثار والنتائج مرتبطة بالجريمة، ومنها: الفتن، والتداعيات السيئة، الإنسان عندما يقتل ظلماً وعدواناً، هو يترك جروحاً غائرة وعميقة في محيط ذلك الشخص الذي اعتدى عليه، وظلمه، وقتله: أسرته، ذريته، إذا كان له أولاد، أيتامه، أرملته، محيطه من أقاربه ومجتمعه، ثم أحياناً قد يحصل مع ذلك تداعيات، البعض يعتدي، ويقتل ظلماً وعدواناً شخصاً من قبيلة أخرى، أو منطقة أخرى، أو من قومٍ هناك، ثم يكون لذلك تداعيات، فيفتح باباً من أبواب الفتن، وكم حصلت من فتن بدايتها جريمة القتل ظلماً وعدواناً، وبدون مبرر، ليس كل شيء يبرر القتل، لا خلافات، ولا مشاكل… وأبسط الأشياء البعض من الناس يقابلها بالتهديد بالقتل، أو بالقتل، الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس: الآية12]، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أحصى كل شيءٍ في إمامٍ مبين، وكتابٍ مبين، وهو يحصي على الإنسان ما يعمله، والآثار أحياناً أكبر من العمل، أكبر من العمل نفسه، وفي الحديث النبوي: ((لَا تُقتَلُ نَفسٌ ظُلماً، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّل كِفلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّل مَن سَنَّ القَتل))، هذا من الخسارة الكبيرة لابن آدم الذي قَتَل أخاه، كان من خسارته الكبيرة جداً: أنَّه سنَّ القتل، سُنةً سيئة، القتل ظلماً وبغياً وعدواناً، وأصبح شريكاً في كل جريمة قتلٍ تحصل إلى آخر أيام الدنيا، إلى آخر الوجود البشري، وزر رهيب جداً.
مصدر المشاكل والبغي والعدوان هم الأشرار، الذين تلوَّثت أنفسهم بالحسد، والحقد، والطمع، والشوائب الخطيرة السيئة، وهم من يصنعون المأساة، ولا تفيد معهم المواعظ، ولا يفيد معهم التذكير والنصح الأخوي؛ لتفادي شرهم، كما رأينا في قصة ابن آدم مع أخيه، ذكَّره، تخاطب معه بكلامٍ أخوي، نصحه، حذَّره من جهنم، تعامل معه بطريقة أخوية؛ لم ينفع معه كل ذلك {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}.
هذا النوع من الناس: العدوانيين، الذين يحملون إرادة الشر، ولا تنفع معهم لا مواعظ، ولا تذكير… ولا أي شيء، شرع الله لردعهم، ومنعهم؛ لأنهم إذا تُرِكوا، فهم جريؤون، لا يبالون، وأصبحت حالة متَّسعة في واقع البشر، أصبح هناك فئات كثيرة من الناس تشبه ابن آدم الأول، ذاك الذي قتل أخاه بدون سبب، تحمل حالة الشر، العدوان، النزعة العدوانية، الاستهتار بحياة الناس، فشرع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» ما يحمي مجتمع البشر من أولئك:
شرع الله القصاص؛ ليكون ردعاً، من قَتَلَ إنساناً عدواناً وبغياً وظلماً، شرع الله القصاص، وقال «جَلَّ شَأنُهُ»: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: من الآية179]؛ لأن البعض من الناس سيرتدع إذا عرف أنه سَيُقتَل إن قَتَلَ بغيًا وعدوانًا وظلماً، سيردعه ذلك، ويرى الآخرين الذين تورَّطوا في ذلك الجرم، كيف تمَّ الاقتصاص منهم، وتنفيذ حكم الله فيهم.
شرع الله الجهاد أيضاً، الجهاد في سبيل الله؛ لدفع شر الأشرار، لمنعهم؛ لأنهم إن تُرِكوا، استباحوا حياة الناس، استباحوها بشكلٍ كامل، بحاجة إلى ردع.
شرع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» الكثير من التعليمات، التي فيها حمايةٌ لحقِّ الحياة للإنسان، والتي أيضاً تساعد على تزكية النفوس، وإبعادها عن ذلك الجرم.
وغلَّظ الله تلك الجريمة، ونجد في التعقيب لتلك القصة بقول الله «جَلَّ شَأنُهُ»: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}، إلى هذه الدرجة.
غلَّظ الله على بني إسرائيل هذا الجرم: جرم القتل بغياً وعدواناً وظلماً، وجعل المسألة تساوي كما لو قتل الإنسان كل البشر، إذا قَتَلَ إنساناً واحداً ظلماً وبغياً وعدواناً، فكما لو قتل كل البشر، وزر كبير جداً، وزر فظيع، كل البشر بما فيهم من أنبياء، وصالحين، وأطفال، ونساء، وكبار، وصغار؛ ليبين أنَّ ذلك اعتداء على حق الحياة، على الحياة بنفسها.
مع ذلك لم ينفع مع بني إسرائيل، قال عنهم: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة: من الآية32]، ونرى إسرافهم في غزة، استباحتهم للحياة البشرية، قتلهم للناس بكل بساطة، بجرأة ووقاحة عجيبة جداً، يتباهون بقتل الأطفال والنساء، والكبار والصغار، يقتلون الناس بكل أشكال القتل، بشكلٍ جماعي، مجازر إبادة جماعية، في الطرقات، في الشوارع، هناك مشاهد مأساوية لمظلومية الشعب الفلسطيني في غزة؛ ولذلك شرع الله الجهاد لمنعهم، منع الأشرار من ارتكاب تلك الجرائم، والجهاد يختلف، الجهاد حالة ردع، حالة منع، حالة تقي بقية المجتمع من أولئك الأشرار، المستهترين بحياة الناس.
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: فی القرآن الکریم على تلک الجریمة الحالة النفسیة الجیل الأول من فی تلک الحالة ب ا ق ر ب ان ا على الإنسان الحالة التی الإساءة إلى فی الأخبار هذه الحیاة الإنسان فی ف ی ال أ ر ض فی علاقاته فیما بینهم أن الله لم ب إلى الله یقول الله س ب ح ان ه ت ع ال ى ع ل ى آل الله لنا على أخیه من أولاد الخوف من فیما بین شرع الله إلى أسوأ فی واقع ل قربان فی إطار فی نفسه علیه من أن یکون ب ال ح ق فیها من إلى ذلک بنی آدم إذا کان ی أ خ اف یحصل من فی ذلک حصل من من دون أی شیء مع ذلک ات الل التی ی ل ظلما لم یکن م الله ات الس على أن من جهة ما فیه

إقرأ أيضاً:

نص كلمة قائد الثورة حول آخر تطورات العدوان على غزة والمستجدات الإقليمية والدولية

الثورة نت/..

نص كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي حول آخر تطورات العدوان على غزة والمستجدات الإقليمية والدولية 26 شوال 1446هـ / 24 أبريل 2025م.

أعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في تطــورات العــدوان الإسرائيلي الهمجـي الغاشـم، على الشعـب الفلسطينـي في قطــاع غــزَّة، في هــذا الأسبــوع:

استشهد وجرح ما يقارب الـ(ألف) من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، أكثرهم من النساء والأطفال، وما يقارب (ألفي شهيد) منذ العدوان المتجدد، الذي تجاوز الشهر، وكذلك أكثر من (خمسة آلاف جريح) في العدوان المتجدد منذ أكثر من شهر.

جرائم وحشية يرتكبها المجرمون اليهود الصهاينة، ويحرقون خيام النازحين عليهم بالقنابل الثقيلة الأمريكية، فيما يسمونه بالمناطق الآمنة، التي يعطون الأمان لمن ينزح إليها من أبناء غزَّة، ومن تلك الجرائم الوحشية والفظيعة: قصف خيام النازحين في (مدرسة يافا) بالقنابل الثقيلة، وحرقهم وهم نيام في خيامهم المتهالكة، وشُوهِدَت مشاهد مؤلمة للغاية للأطفال، وقد تفحَّمت جثامينهم بالقصف الإسرائيلي.

العدو الإسرائيلي، مع الإبادة الجماعية يستمر أيضاً في تدمير المنظومة الصحية، والسعي لإنهاء هذه الخدمة؛ ولـذلك تم الإعلان بالأمس عن وفاة 40% من المرضى الذين يعانون من مرض الكلى، يستهدف أي بقايا من الوحدات والمراكز الصحية، كما استهدف بالأمس (مستشفى الدُّرَّة للأطفال)، واستهدف فيه غرفة العناية المركزة، يستهدف المسعفين، يستهدف كل ما يتعلَّق بالخدمة الصحيَّة، من كوادر صحيَّة، مستشفيات… وغير ذلك.

فيمـا يتعلَّـق بالتجويـع، الذي يعتمد عليه الإسرائيلي، كوسيلةٍ من وسائل الإبادة للشعب الفلسطيني، والضغط لتهجيره القسري من قطاع غزَّة، يستمر العدو الإسرائيلي في الحصار التام، والشامل، والمطبق في قطاع غزَّة، لأكثر من خمسين يوماً، يمنع دخول كل المواد الغذائية، وكل الأدوية، وكل المستلزمات الطِّبيَّة، والوقود، بل ويركِّز على قصف أي شيءٍ موجودٍ منها في داخل قطاع غزَّة، وتدميره وإحراقه.

يستمر العدو الإسرائيلي أيضاً في تدمير كامل القطاعات الخدمية، في هذا الأسبوع قام بقصفٍ طال مُعِدَّات وآليات الإنقاذ في بلدية غزَّة، الآليات التي كانت دخلت في فترة الهدنة، بعد الاتِّفاق؛ لإزالة الأنقاض ورفعها، وانتشال الضحايا من تحتها، قام بقصفها وتدميرها قبل أن يتاح لها أن تعمل، وبالأمس كانت تُسمع نداءات الاستغاثة من تحت الأنقاض، في بعض الأماكن التي قام العدو بقصف المدنيين فيها، ودون أن تتمكن فرق الإنقاذ من إنقاذهم؛ نتيجةً لتدمير تلك المُعِدَّات اللازمة لرفعها.

يستهدف أيضاً فرق الإنقاذ بنفسها، العدو الإسرائيلي يركِّز على الاستهداف لهم.

فيمــا يتعلَّـق بالأســـرى أيضـــاً: العدو الإسرائيلي يستمر في نهجه العدواني تجاههم، وفي هذا الأسبوع استشهد أحد الأسرى، ليرتفع عدد الشهداء من الأسرى إلى (أربعةٍ وستين شهيداً) منذ بداية العدوان على قطاع غزَّة، حسب الإحصائية المعلنة من هيئة شؤون الأسرى، فيما يصل إليها من معلومات، الله أعلم في واقع الحال كم العدد؟!

العدو الإسرائيلي يعامل الأسرى بالتعذيب، والقمع، والاضطهاد، والإهانة، والإذلال، وكل الانتهاكات لحقوق الإنسان، مع الإهمال الطبي أيضاً، كل وسائل التعذيب مع الإهمال الطبي في نفس الوقت.

أمام كل هذا العدوان، والبلطجة، والإجرام، والوحشية الإسرائيلية، لا يزال الإخوة المجاهدون في قطاع غزَّة صامدين، ثابتين، ومن الواضح في التكتيكات التي يعتمد عليها العدو الإسرائيلي، منذ استئنافه للعدوان قبل أكثر من شهر، أنه يتهيَّب كثيراً من المواجهة المباشرة مع الإخوة المجاهدين في قطاع غزَّة؛ ولـذلك يعتمد بشكلٍ أساسي على التدمير الشامل، والإبادة الجماعية للناس، ويحرص على التقدم، ويعتمد أسلوب التقدم في المناطق المكشوفة والمفتوحة، التي ليس فيها سواتر للقتال، ويعتمد أيضاً على التجريف بشكلٍ كامل، فكل هذا مما يدل بشكلٍ واضح على تهيُّبه من المواجهة المباشرة مع الإخوة المجاهدين، وعلى مدى صمود الإخوة المجاهدين، وثباتهم، واستبسالهم، وفاعليتهم، فالعدو يتهيَّب من مواجهتهم المباشرة، بالرغم من كل ما يمتلكه من إمكانات وقدرات عسكرية، وبالرغم من ظروفهم هم الصعبة، ظروف الإخوة المجاهدين، وإمكانياتهم المحدودة جدًّا، فالعدو الإسرائيلي يعتمد الاستهداف والإبادة الجماعية، كأسلوب في تعامله، وسعيه لتحقيق أهدافه هناك.

في هـــذا الأسبـــوع:

نفَّذت (كتائب القسام) عدداً من العمليات وكمائن الموت، ومنها: (كمين كسر السيف)، الذي نفَّذته كتائب القسام ضد قوات العدو الإسرائيلي، ونتج عنه قتلى وجرحى من الجنود الصهاينة، هذا الكمين نُفِّذ بالقرب من السياج الحدودي، شرق (بلدة بيت حانون) في أقصى شمال قطاع غزَّة، ولهذا مدلول مهم، أن يُنَفَّذ هذا الكمين في تلك البقعة.

كذلك نفَّذت (كتائب القسام) عدداً من العمليات في (حي التفاح)، وفي شرق (خان يونس).

والمواجهات المباشرة هي محدودة نوعاً ما، كما قلنا: لتهيُّب العدو الإسرائيلي من المواجهة المباشرة، يعتمد بالدرجة الأولى:

على الإبادة الجماعية للمدنيين.

على التدمير الشامل.

على التجريف.

على الدخول في المناطق المفتوحة.

وذلك يدل- كما ذكرنا بوضوح- على الفاعلية العالية، والجدوى المحقَّقة المؤكَّدة الواضحة للجهاد والمقاومة.

كذلك نفذت (سرايا القدس) عدداً من العمليات ضد قوات العدو الإسرائيلي، منها: ما استهدفت به القوات المتوغِّلة في قطاع غزَّة، عبر القصف بالقذاف في شمال غزَّة (في حي التفاح)، وكذلك في جنوبها (في رفح).

في عجز العدو الإسرائيلي عن تحقيق إنجازات عسكرية ملموسة، انكشف أيضاً تضليله، فيما كان يقدمه كإنجازٍ عسكريٍ في اكتشاف الأنفاق وتدميرها، ما يسمى بوزير الدفاع الصهيوني السابق [غالانت] اعترف: أن ما تم نشره في وقتٍ سابق من صور، على أنها لأنفاق في محور رفح، لم يكن سوى خندقٍ عاديٍ بعمق مترٍ واحد، واعترف أن قوات كيانه هي من قامت بتغطية تلك القناة، التي كانت في الأصل قناةً خاصةً بتصريف المياه، فقاموا بتغطيتها بالتراب؛ من أجل تصويرها كفتحة نفق، والزعم أنها لتهريب السلاح، هذه فضيحة، العدو الإسرائيلي يلجأ إلى الأكاذيب، وإلى المسرحيات التي يصوِّر بها إنجازات عسكرية؛ لأنه عاجز عن تحقيق إنجازات عسكرية فعلية.

الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، للمدنيين، القتل للأطفال والنساء، التدمير للأحياء السكنية، التدمير للمستشفيات والمدارس، الاستهداف للنازحين في خيامهم، لا يعتبر إنجازاً عسكرياً، مهما بلغ، ومهما كان حجم الإجرام فيه؛ إنما هو رصيد إجرامي فظيع ومتزايد، له تبعاته، وله عواقبه السيئة.

كذلك كان من فضائحهم وانكشاف تضليلهم في هذا الأسبوع، فيما يتعلَّق بعنوان مهم يعتمد عليه العدو الإسرائيلي، في عدوانه الهمجي، والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة: (عنوان الأسرى)، الذي يتجلَّى بوضوح أنه لا يمثل أهمية حقيقية لدى [المجرم نتنياهو]، ولدى زمرته المجرمة معه، في هذا الأسبوع كان هناك تصريح لمن يسمونه بوزير المالية، قال فيه: [أن إعادة الأسرى من غزَّة ليست الهدف الأكثر أهمية]، وهذا أثار ضجة لدى الإسرائيليين؛ لأنه يكشف عن استهتاره بحياة الأسرى من الإسرائيليين، وأنه لا يبالي بهم هو ومن معه من تلك الزمرة المتوحشة، المجرمة، اليهودية الصهيونية؛ إنما أهدافهم الحقيقية هي: التهجير للشعب الفلسطيني من قطاع غزَّة؛ وإلا كان مسار التبادل للأسرى كان مساراً ناجحاً في إطار الاتِّفاق الذي تم سابقاً، وكانت الدفع تخرج وفق الاتِّفاق ومساره، ولكنهم هم من انقلبوا على الاتِّفاق، بتشجيعٍ أمريكي، وحمايةٍ أمريكية؛ ليستمروا في عدوانهم، ولاسيَّما بعد أن تبنى [ترامب] بشكلٍ علني مسألة التهجير للشعب الفلسطيني من قطاع غزَّة؛ فزادت أطماعهم وآمالهم بتحقيق هذا الهدف الظالم.

فيمــــا يتعلَّــق بالضِّفَّــــة الغربيــــة:

هناك تصاعد وبشكل كبير داخل كيان العدو الإسرائيلي، في الحديث عن مسألة الضم للضِّفَّة الغربية، ويترافق مع ذلك خطوات عملية للضم التدريجي، وهذه مسألة واضحة، في النشاط الذي يسمونه [النشاط الاستيطاني]: الاغتصاب للأرض في الضِّفَّة الغربية، وإنشاء وحدات سكنية لليهود الصهاينة المغتصبين عليها.

هذه العملية الاستيطانية الاغتصابية هي متصاعدة بشكل كبير على مدى هذه السنوات، ومنها في هذا العام، وتمَّت المصادقة على آلاف الوحدات الاستيطانية، لاغتصاب مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية في الضِّفَّة الغربية، وهذا يكشف بكل وضوح أنه ليس هناك أي أمل في مسار التسوية؛ لأن العدو الإسرائيلي يسعى إلى فرض حقائق على الأرض، تقطع المجال أمام أي شيء يتعلَّق بهذه المسألة تحت عنوان تسوية، ومفاوضات سلام… وغير ذلك.

يستمر العدو الإسرائيلي في الضِّفَّة الغربية في عمليات القتل بشكلٍ يومي، وعمليات الاختطاف بشكلٍ واسع، وهدم المنازل، وتخريب البنية التحتية:

نفَّذ العدو الإسرائيلي في هذا الأسبوع حملات اختطاف واسعة في (جنين)، وفي (الخليل).

نفَّذ عمليات هدم وتفجير للمنازل في (القدس)، وفي (الخليل)، وفي (رام الله).

يواصل المغتصبون الصهاينة أيضاً عمليات البلطجة، وحرق المحاصيل الزراعية في (جنوب الخليل)، وسرقة شبكات ومضخات المياه الخاصة بالفلسطينيين، كما حصل في (الأغوار) في شرقي الضِّفَّة الغربية، والاعتداء على مركبات المواطنين الفلسطينيين، على مركبات الشعب الفلسطيني في مناطق متفرقة من الضِّفَّة، كما حصل في (بيت لحم) بالأمس.

التصرفات الدنيئة والعدوانية لقطعان المستوطنين المغتصبين، دائماً ما تكون بحماية من العصابات الإجرامية الإسرائيلية، التي تسمى بـ[الجيش الإسرائيلي]، وهي سلوك يومي، لاضطهاد الشعب الفلسطيني وتعذيبه.

في (جنين)، وبعد أكثر من ثلاثة أشهر من العدوان، يستمر العدو الإسرائيلي في هدم المنازل، وتخريب وتجريف البنى التحتية، وواضح أن لدى العدو الإسرائيلي برنامجاً عدوانياً تدميرياً لإنهاء المخيمات في الضِّفَّة الغربية.

المخيمات في الضِّفَّة الغربية لها أهمية كبيرة جدًّا، فهي منشآت سكنية لأبناء الشعب الفلسطيني المهجَّرين مما يسمى بـ(أراضي عام ٤٨)، ومن مناطق محتلة في فلسطين في أنحاء متعددة، فالعدو الإسرائيلي يسعى إلى تدميرها، والسيطرة عليها، وفي هذا السياق الذي تحدثنا عنه: أنه يسعى إلى فرض حقائق على الأرض فيما يتعلَّق بالضِّفَّة الغربية، تساعده على السيطرة التامة، والضم الشامل بعد مراحل معينة.

عمليات التدمير، والتجريف، والاعتداءات، والقتل في (مخيم جنين)، تضررت منها قرابة (ثلاثة آلاف وحدة سكنية)، تسببت في نزوح أكثر من (واحد وعشرين ألف فلسطيني)، والوضع مشابه في (طولكرم) ومخيماتها، في (نابلس) شمال الضِّفَّة الغربية، العدو الإسرائيلي يشن عدوانه بشكلٍ مستمرٍ ومتواصل.

فيمــا يتعلَّــق بالاستهـــداف للمسجـــد الأقصـى:

خلال الأيام الماضية، رفع العدو الإسرائيلي من وتيرة الاستهداف للمسجد الأقصى، تعتبر عمليات الاقتحام فيما يسمى بـ[عيد الفصح] هي أكبر عمليات الاقتحام التي قد شهدها المسجد الأقصى، حيث وصل العدد لأكثر من (سبعة آلاف يهودي مغتصب)، ويتصاعد من يومٍ إلى آخر.

كذلك تم نشر فيديو من جانب الإسرائيليين، تحت مسمى [العام القادم في القدس]، يصوِّر عملية نسف المسجد الأقصى، وبناء ما يسمونه بالهيكل المزعوم، هذا الأسلوب الإسرائيلي هو أسلوب معتمد لدى العدو الإسرائيلي تجاه العرب: أسلوب الترويض، والتهيئة الذهنية والنفسية لتقبُّل ما لا ينبغي تقبُّله على الإطلاق، تقبُّل اعتداءات كبيرة، جرائم كبيرة، المهدد هنا هو: المسجد الأقصى، من أعظم مقدَّسات المسلمين وأهمها، وما لا ينبغي السكوت تجاهه أبداً، ولكن العدو الإسرائيلي هو يشتغل في كل المسارات:

الإبادة الجماعية، ويريد أن يحوِّلها إلى حالة معتادة لدى العرب والمسلمين بشكلٍ عام، إلى مشهدٍ روتينيٍ اعتياديٍ يوميٍ، لا يبنى عليه أي ردة فعل، ولا أي موقف مسؤول.

كذلك في مسألة التهجير، ومساعيه للتهجير، نظير ما يفعله في الضِّفَّة الغربية، في مخيماتها ومدنها.

وهكذا مساره فيما يتعلَّق بالمسجد الأقصى.

في مرحلة من المراحل، عندما قام [المجرم شارون] بالاقتحام لباحات المسجد الأقصى، قامت انتفاضة فلسطينية كاملة، وفي نفس الوقت كان مستوى التفاعل في الشعوب العربية والإسلامية بشكلٍ عام في تلك المرحلة بمستوى أفضل، من حيث التضامن، المظاهرات، ظهور حالة الغضب، والتفاعل، والتضامن مع الشعب الفلسطيني.

الحالة الآن مختلفة، يدخل الآلاف من اليهود الصهاينة المجرمين لاقتحام المسجد الأقصى، والرقص في باحاته، يدخل من كبار المجرمين معهم أيضاً، من يطلقون أيضاً تصريحات استفزازية عدوانية، ويدنسون باحات المسجد الأقصى، والحالة العامة في الأوساط العربية (رسمياً، وشعبياً) قد تصل- بالنسبة لبعض الأنظمة- إلى إصدار بيانات، وهي حالة لم يعد لها أي اعتبار ولا قيمة؛ لأنه لا يقترن بها أي خطوات عملية ولو في الحد الأدنى، كما نكرر كثيراً، ولو في مستوى المقاطعة الاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية، ولو في مستوى التَّوجُّه الإيجابي نحو الشعب الفلسطيني، ومساندته بشكلٍ حقيقيٍ وفعلي، بدعمٍ ملموس؛ إنما الحالة حالة راكدة، حالة جامدة بالنسبة للأنظمة العربية؛ إمَّا قِمَّة يصدر عنها بيان، ولا يترافق معه أي موقف عملية؛ وإمَّا كذلك بيانات تعلن في وسائل الإعلام بلهجة باردة، دون أي خطوات عملية.

العدو الإسرائيلي عندما قام بهذه الخطوة، التي هي: تصوير لعملية نسف للمسجد الأقصى، تمثيل، لكنه يحاول من خلال ذلك- كما قلنا- التهيئة الذهنية النفسية؛ لأنه من المعلوم لدى الجميع أن هذا من أهم الأهداف العدوانية للعدو الإسرائيلي: استهداف المسجد الأقصى، قضية أساسية بالنسبة لهم، في مخططهم الصهيوني، العدواني، الإجرامي، ولكنهم وقد عرفوا النفسية العربية، التي ابتعدت عن المسار الصحيح في التعبئة والتربية الإيمانية، وفي مستوى الوعي، واتَّجهت نحو الانحدار والهبوط في كل شيء: على مستوى الوعي، على مستوى الروحية الإيمانية والجهادية، والتربية الإيمانية والأخلاقية والقيمية، وأصبحت المؤثرات الأخرى تؤثِّر على المستوى النفسي، وعلى مستوى التَّوجُّهات والآراء والمواقف، مع الوقت؛ لأن هناك عمل كبير وراءه اليهود، ووراءه أذرعتهم، التي تعمل لصالحهم في مسار الحرب الناعمة، المفسدة، المضلَّة، التي يستهدفون بها الأُمَّة جمعاء في كل شيء: على المستوى الفكري، والثقافي، والنفسي، يستهدفون بها شباب الأُمَّة؛ لتمييعهم وتضييعهم، يستهدفون بها شعوب هذه الأُمَّة؛ لصرف اهتماماتهم عن كل قضاياهم المهمة، ولقتل الضمير الإنساني في هذه الأُمَّة.

هذا المسار هو مسار خطير، العدو الإسرائيلي هو يخطط ويعمل وفق مراحل معينة، ويشتغل معه الأمريكي في ذلك، كلاهما لهما نفس الأهداف، التَّوجُّهات، المواقف، هما وجهان لعملةٍ واحدة، المخطط الصهيوني هو مخططٌ مشترك ما بين الأمريكي والإسرائيلي.

الأمريكي في مسار دعمه المستمر للعدو الإسرائيلي، أيضاً هو مسار مكثَّف، وهو في هذا السياق يتحرَّك وفق جسر جوِّي، فيما تباهى الإعلام الإسرائيلي به، أنه قطار جوِّي أمريكي، يحمل شحنات كبيرة من الأسلحة، تصل إلى فلسطين بشكلٍ يومي، عشرات الطائرات، بمعدل (ست طائرات شحن كبيرة) في اليوم الواحد، مع كل ذلك، مع ما يقوم به العدو الإسرائيلي من إبادة جماعية يومية مستمرة، ما يقوم به في الضِّفَّة الغربية، وفيه درس واضح حتى للسلطة الفلسطينية، ترى العدو الإسرائيلي وهو لا يحترم أي شيء مما كان من اتِّفاقات بينها وبينه.

كذلك مساره العدواني والخطير جدًّا تجاه المسجد الأقصى، سعى العدو الإسرائيلي ومعه- وللأسف الشديد- بعض الأبواق العربية، التي تعمل معه إعلامياً، وتسنده إعلامياً، عملوا خلال هذه الفترة الماضية على تأليب الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة ضد الإخوة المجاهدين، حاولوا أن يحرِّضوا، أن يشوِّهوا، أن يدفعوا البعض للتحرُّك، في تأليبٍ لهم ضد الإخوة المجاهدين، وضد مسألة المقاومة والجهاد والسلاح.

شيءٌ غريب جدًّا في داخل هذه الأُمَّة، لدى بعض الأنظمة الرسمية، ولدى بعض القوى والمكونات، التي لا تمتلك رؤيةً صحيحة، لا بالاستناد إلى الوقائع والأحداث، ولا بالاستفادة من مسار هذا الصراع ما بين العدو الإسرائيلي وبين العرب، ما فعله مع الشعب الفلسطيني في كل المراحل الماضية، منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وإلى اليوم، ليس هناك استفادة لا من الوقائع والحقائق والتاريخ، ولا استفادة أيضاً من القرآن الكريم، ومن الحقائق المعروفة لدى البشر: أن ما يفيد كل شعب هو أن يمتلك القوة، قوة الردع في حماية نفسه، وأن يسعى لأن يكون قوياً، وأن يحافظ على أي عناصر قوة يستفيد منها في الدفاع عن نفسه، وعن حقوقه.

والشعب الفلسطيني مستهدفٌ في كل شيء، يباد ويُقتل، وفي نفس الوقت تغتصب الأرض، وتنتهك المقدَّسات، تنتهك الحرمات، هو أحوج ما يكون إلى المزيد من القوة، إلى المزيد من التسليح، إلى المزيد من التحاق قوافل أخرى من أبناء الشعب الفلسطيني بالصف الجهادي، ليكونوا مجاهدين في سبيل الله، إلى التحرك الواسع في إطار التعاون، وتظافر كل الجهود على كل المستويات، كشعبٍ له هذه القضية العادلة بالإجماع العالمي، الواضحة، له المظلومية التي لا مثيل لها، فتظافر الجهود، التعاون على كل المستويات، شد الجميع لأزر المجاهدين، لِعَضُدِ المجاهدين، المناصرة بكل الوسائل هي الاتِّجاه الصحيح، والموقف الصحيح.

ولـذلك عندما اتَّجهت السلطة الفلسطينية، ومعها كذلك بعض وسائل الإعلام العربية، لتتعاون مع الإسرائيلي بنفس منطقه، بنفس كلامه، بنفس أطروحاته، التي تهدف إلى التأليب على الإخوة المجاهدين، وعلى خيار الجهاد والمقاومة، وعلى مسألة امتلاك واقتناء السلاح، والتَّصدِّي للعدو الإسرائيلي به، فهو كان خطأً رهيباً، بل خيانة بكل ما تعنيه الكلمة، وفي نفس الوقت خدمة مجانية للعدو الإسرائيلي؛ لأنه مثل هذا التصرف، ومثل هذا الأسلوب، ليس له أي إيجابية لصالح القضية الفلسطينية إطلاقاً؛ لأنه خدمة بالكامل للعدو الإسرائيلي.

ولكن فشلت كل تلك المحاولات بفضل الله تعالى، ونتيجةً للوعي العالي لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، ونحن نثني على وعيهم، وعلى ثباتهم وصمودهم، واستبسالهم، بالرغم من كل المعاناة الكبيرة جدًّا، التي لا مثيل لها.

الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة ثابتٌ ثباتاً عظيماً، يستند في هذا الثبات العظيم، في مقابل المعاناة الكبيرة، في مقابل الإبادة الجماعية، والتجويع، والتدمير الشامل، وانعدام مقومات الحياة، يعتمد على إيمان، على وعي، على تَمَسُّك بقضيته العادلة.

فيمـا يتعلَّـق بقطــاع غــزَّة، والدعـم الأمـريكي، والشـراكة الأمـريكية:

من المعلوم أن استئناف العدو الإسرائيلي بعدوانه من جديد على قطاع غزَّة كان- حتى بالإعلان الأمريكي، إعلان البيت الأبيض- بإذنٍ أمريكي، وتبنٍ أمريكي، ودعمٍ أمريكيٍ مستمر، والجسر الجوي، والنقل اليومي المستمر للقنابل، والذخائر، والقذائف، التي يقدمها الأمريكي، هو يقدمها لإبادة الشعب الفلسطيني، حينما نشاهد كل المشاهد المأساوية، مشاهد المظلومية الرهيبة للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة، نشاهد الأطفال أشلاءً، ونشاهد جثامين أخرى لهم متفحمةً، هي بفعل القنابل الأمريكية.

الأمريكي شريكٌ في الإجرام، شريكٌ في العدوان، والدور الأساس هو له، في أن يستمر العدوان، وفي أن يكون بذلك المستوى حتى من الوحشية والطغيان، فالدور الأساس هو له.

هذا ينبغي أن يكون له أثر على مستوى النظرة العامة في عالمنا الإسلامي، في الشعوب العربية، وغيرها، وعلى المستوى العالمي، تجاه الأمريكي: أن المسلك الأمريكي هو مسلك إجرامي، وحشي، مسلك طغيان، وعدوان، واستهانة بالحياة البشرية، واستباحة للحياة الإنسانية، لا يعطي حرمةً لحياة الأطفال ولا النساء، هذه النظرة يجب أن تكون نظرةً مترسِّخة، وأن تُبنى على أساسها المواقف، وأن تكون واحدةً من مفردات الوعي، التي تشمل المجتمع البشري بكله؛ لأن التَّوجُّه الصهيوني الأمريكي الإسرائيلي يشكِّل خطراً على المجتمع البشري بكله؛ لأنه يتَّجه هذا الاتِّجاه، الذي لا يعطي أي كرامة ولا اعتبار للحياة الإنسانية، كحياة إنسانية، يستبيح قتل الناس، قتل الأطفال، قتل النساء، الإبادة الجماعية للشعوب، هذا مسلك ومنهج يتَّجهون عليه.

فيمـــا يتعلَّــق بلبنـــــان: خــــلال الأسبـــوع هذا:

استمر العدو الإسرائيلي في القصف الجوي والاغتيالات، وارتقاء الشهداء في لبنان بشكلٍ شبه يومي.

كذلك في جنوب لبنان تستمر الاعتداءات على القرى اللبنانية الحدودية، بالقصف الإسرائيلي، والتمشيط الناري، وجرف الطرق، ومحاولات من قبل العدو الإسرائيلي لمنع أي عودة للحياة في تلك القرى، العدو الإسرائيلي يستهدف البيوت الجاهزة، والغرف الجاهزة، والجوانب الخدمية، يستهدف المدنيين أثناء عملهم في الأراضي الزراعية.

لم يكتفِ بالاعتداءات في القرى الحدودية، بل وسَّع عدوانه باتِّجاه العمق اللبناني.

نفَّذ أيضاً عملية اغتيال غادرة جنوب العاصمة بيروت، لقياديٍ في الجماعة الإسلامية، خرق طيران العدو الإسرائيلي جدار الصوت في الأجواء اللبنانية، وصولاً إلى العاصمة بيروت.

حزب الله كسر العدو الإسرائيلي في كل مراحل الصراع، منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 82، وحتى التحرير في العام 2000، وفي حرب تموز 2006، وحتى في معركة الإسناد الأخيرة، العدو الإسرائيلي وقف عاجزاً على أعتاب القرى الحدودية اللبنانية لما يقارب الشهرين، دون تحقُّق تقدُّم واختراق فعلي ومهم.

حينما أتى الاتِّفاق لوقف إطلاق النار، التزم به حزب الله، ونفَّذ كل ما عليه، لم يبق هناك أي التزامات على أساس ذلك الاتِّفاق لم ينفِّذها حزب الله، نفَّذ كل الذي عليه؛ بينما العدو الإسرائيلي ليس فقط يخرق الاتِّفاق، بل بما هو أكثر من الخرق: عدم التزام، وتجاوز كامل للاتِّفاق، في اعتداءات كبيرة، وانتهاكات جسيمة.

ولـذلك المسؤولية الآن تقع على عاتق الدولة اللبنانية، فيما يتعلَّق بالاتِّفاق، والسعي للضغط على العدو الإسرائيلي، للالتزام بهذا الاتِّفاق وتنفيذ ما عليه؛ لأن هناك أشياء أساسية من الاتِّفاق لم يلتزم بها العدو الإسرائيلي، ولم ينفِّذها:

لم ينفِّذ ما عليه من وقفٍ فعليٍ كاملٍ لإطلاق النار، لا يزال يغتال، يدمِّر، يقصف، ينتهك ذلك بشكلٍ مستمر، وأكثر من انتهاك، اعتداءات مستمرة.

لا يزال يحتل مراكز في الأراضي اللبنانية.

لا يزال يمارس- كما قلنا- عمليات التجريف وغيرها، والتخريب للبنى التحتية.

ينتهك الأجواء اللبنانية بشكلٍ كامل، وكأنه ليس للبنان حقٌّ في أجوائه أن تكون مصانة ومحفوظة، بل كأنها مستباحة ومباحة للعدو الإسرائيلي.

ولذلك ينبغي أن يكون كل الجهد اللبناني، على المستوى الرسمي والشعبي، ومن كل المكونات، بمختلف أشكالها، وأنواعها، وتوجهاتها، ينبغي أن يكون الجهد بكله، الكلام بكله، هو: الضغط على العدو الإسرائيلي لتنفيذ ما عليه في الاتِّفاق، والضغط على الضمناء عليه كذلك، ولا ينبغي إطلاقاً لا على المستوى الرسمي، لا للرئاسة اللبنانية، ولا للحكومة… ولا لأي جهة، ولا لأي مسؤول في لبنان، أن يوجِّه أي كلمة إساءة ضد حزب الله، ليس هناك أي التزامات لم يفِ بها حزب الله فيما يتعلَّق بالاتِّفاق.

حينما يتَّجه البعض وينطقون بنفس المنطق (منطق العدو الإسرائيلي) ضد حزب الله، فهذا خيانة للبنان، خيانة للبنان، وعمل لخدمة العدو الإسرائيلي، كما في الحالة التي تقوم بها السلطة الفلسطينية، خدمة مجانية، ليس لها أي إيجابية لصالح لبنان، والقضية اللبنانية، ولا لمصلحة الشعب اللبناني.

الأولويات التي ينبغي أن يركِّز عليها الجميع، هي:

السعي للضغط على العدو الإسرائيلي بتنفيذ ما عليه في الاتِّفاق.

والتَّوجُّه الجاد لإعادة الإعمار في جنوب لبنان، وفي الضاحية… وفي سائر المناطق التي فيها دمار وخراب.

أمَّا ما يقوم به البعض من تبنٍ للمنطق الإسرائيلي، فهو خطأ فادح، وخيانة للبنان.

الأمريكي هو يسعى إلى إثارة البلبلة عبر بعض المكونات، يسعى لحرف مسار الأولويات لدى الجانب الحكومي، والهدف الأمريكي: أن يتبنَّى الجميع الموقف الإسرائيلي، وتتحول كل اهتماماتهم لخدمة العدو الإسرائيلي، مع التفريط في شعوبهم، وسيادة بلدانهم، ومصالحهم، مصالح شعوبهم الحقيقية.

والعدو الإسرائيلي هو يسعى لتجريد لبنان من أهم عناصر القوة، هو يسعى لذلك، وأطماعه مستمرةٌ في لبنان، عامل الردع الحقيقي في لبنان هو: المقاومة، التاريخ يشهد بذلك، الواقع يشهد بذلك؛ ولـذلك ينبغي أن تحظى دائماً شعبياً بالاحتضان والمساندة، وألَّا يصغي الشعب اللبناني إلى من يجعلون من أنفسهم أبواقاً للعدو الإسرائيلي، يرددون كلامه ومطالبه العدوانية.

فيمـــا يتعلَّــق بسوريــــا:

واصل العدو الإسرائيلي في هذا الأسبوع الاقتحامات، وحملات المداهمة للقرى في الجنوب السوري، في (القنيطرة)، نفَّذت قوات العدو الإسرائيلي حملات مداهمة وتفتيش للمنازل في: (قرية القحطانية، وبلدة العشة، وبلدة الأصبح)، وشملت اعتداءات على المواطنين، ومصادرة بعض إمكاناتهم وممتلكاتهم، وتفتيش المنازل، وترويع الأطفال… هكذا استباحة، استباحة وعدوان بكل ما تعنيه الكلمة! إضافةً إلى اعتقال بعض الأشخاص.

تقوم قوات العدو الإسرائيلي أيضاً هناك بتنفيذ دوريات بشكلٍ شبه يومي في (ريف القنيطرة)، تُقيِّد حركة المواطنين السوريين في تلك المناطق، وضعية سيئة، يسعى العدو الإسرائيلي أن يكون متحكماً بك حتى في حركتك في منزلك (متى تدخل، ومتى تخرج)، في قريتك، في ذهابك في أنحاء وطنك، من هذه المنطقة إلى تلك.

في ما يقوم به العدو الإسرائيلي بشراكة أمريكية، وفي ما يسعى له مما هو أكبر من ذلك؛ لأن كل هذا يتم- كما قلنا مراراً وتكراراً- في إطار المخطط الصهيوني، الذي يهدف لما هو أبعد من هذا بكثير، يجب أن نستذكر ونذكِّر بالمسؤولية الكبيرة على المسلمين جميعاً في كل العالم الإسلامي، هذه أُمَّة كبيرة (أُمَّة الملياري مسلم)، عليها مسؤولية أمام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مسؤولية دينية، وأخلاقية، وإنسانية، وباعتبار مصالحها القومية، وأمنها القومي، هذه الأُمَّة التي أسهمت فعلياً بجمودها، وتخاذلها، وسكوتها، وتفرُّجها على تشجيع العدو الإسرائيلي، أسهمت- فعلاً- بأن يفعل ما يفعل وهو مطمئن البال، مطمئن تماماً، بل يلقى تشجيعاً- في الوقت نفسه- من بعض الأنظمة العربية.

العرب في المقدِّمة عليهم مسؤولية، مسؤولية كبيرة، الخنوع ليس من مصلحة أحد أبداً، حالة الخنوع تجاه العدو الإسرائيلي، بكل ما هو عليه من حقد وأطماع، وبكل ما هو عليه أيضاً من استخفاف، استخفاف بالعرب والمسلمين، لا يعترف لهم أساساً بأنهم من البشر، يعني: الخنوع له ليس له قيمةٌ عنده، هو لا يقدِّر لمن يخنعون له، ولا لمن يوالونه، ولا لمن يتَّجهون إلى تبني أطروحاته، وما يقدِّمه هو من عناوين في إطار مخططه، لا يقدِّر لأحدٍ مهما فعل معه أبداً، مهما قدَّم له من خدمات، ومهما سكت، ومهما خنع، ومهما خضع، لا يعتبر هذه إيجابية يقابلها بتوجُّه إيجابي، كما قلنا: لو كان هذا الخيار مجدياً؛ لكان مجدياً في سوريا، لكانت التوجهات الإسرائيلية هي: الانسحاب التام من الجولان، والإشادة بالموقف السوري، والثناء عليه، والتعامل بإيجابية عالية جدًّا؛ ولكن هو لا يقدِّر لأحد أي شيء.

فهناك مسؤولية، ومع أنها مسؤولية إيمانية، دينية، إنسانية، أخلاقية، هي: ضرورة حتمية، ليس هناك من خيار آخر، إلَّا خيار يخدم العدو، ويدمِّر الأُمَّة، كما قلنا:

خيار الموالين، الذين يقدِّمون خدمات للأعداء، هم يسهمون في تمكين الأعداء أكثر فأكثر.

وخيار الاستسلام، كذلك هو خيار انتحاري، مدمِّر، كارثي، يجعل الأُمَّة تخسر كل شيء، قضية خطيرة جدًّا على الأُمَّة، وفي نفس الوقت يكون هناك عليها عقوبة كبيرة من الله؛ لأنها أُمَّة لديها كل المقومات.

الوضع الراهن، وتجاه أي إنسان يتأمل الوقائع والحقائق، والوضع على المستوى الدولي والإقليمي؛ يجد أنَّ هناك أيضاً عوامل مساعدة كثيرة، تشجِّع هذه الأُمَّة لو بقيت لديها أي نظرة صحيحة، لكن هناك حالة عمى بشكل رهيب ومخيف في واقع الأُمَّة.

هنـــاك عوامـــل مساعـــدة مشجِّعـــة، تشجِّـــع هـــذه الأُمَّـــة للنهــوض بمسؤوليتهــــا:

أول هذه العوامل المساعدة المشجِّعة، والتي هي حُجَّة- في نفس الوقت- على الأُمَّة، هو: مدى وحجم الصمود الفلسطيني في قطاع غزَّة:

الصمود الفلسطيني في قطاع غزَّة لأكثر من عام ونصف، بهذا المستوى من: الاستبسال، والثبات، والفاعلية، والتضحية، هو حُجَّةٌ على هذه الأُمَّة؛ لأنه غير مسبوق أصلاً، غير مسبوق في الصراع مع العدو الإسرائيلي، لا في فلسطين نفسها، منذ بداية الصراع مع العدو الإسرائيلي، ولا على المستوى العربي، لم يسبق أن كان هناك صمودٌ بهذا المستوى، في مقابل: إبادة جماعية، تدمير شامل، هجمة عدوانية إجرامية وحشية إسرائيلية أمريكية، مدعومة غربياً بهذا المستوى، مع إطلاق يد العدو الإسرائيلي لارتكاب أبشع الجرائم، مع فعل كل الجرائم، من تجويع من إبادة جماعية، من انتهاك لكل الحرمات، ومع ذلك عجز العدو الإسرائيلي لأكثر من عام ونصف من حسم ما يريد حسمه في قطاع غزَّة، ومن تحقيق أهدافه في السيطرة الكاملة عليها، هذا الصمود العظيم للإخوة المجاهدين هناك، بإمكانات محدودة للغاية، محدودة جدًّا، وصمود كذلك الحاضنة الشعبية، صمود الشعب الفلسطيني في أقسى ظروف، وأصعب وضع، هو حُجَّة على هذه الأُمَّة.

وكان من المفترض أن يقابل هذا الصمود بالاحتضان، بالدعم، بالمساندة، وأن يكون هناك- كما قلنا- تغيُّر في طبيعة التعامل، ومستوى التعامل تجاه الشعب الفلسطيني نفسه بالدعم الكبير، والمساندة الحقيقية، وتجاه المجاهدين، أن يكون هناك ما يعتبر فارقاً ملحوظاً عن الماضي؛ لأنه ليس هناك مساندة بالشكل المطلوب، دعم بالشكل المطلوب، الحالة إمَّا حالة تخاذل بالكامل، أو حالة تواطؤ من البعض، وهناك قوى محدودة تدعم الشعب الفلسطيني، وتساند مجاهديه، وتقدِّم الدعم لمجاهديه.

بل أصبحت هذه القضية تمثِّل عند الكثير من الأنظمة إشكاليةً بينهم وبين الجمهورية الإسلامية في إيران، يعني: بدلاً من أن يشكروا الجمهورية الإسلامية في إيران، أنها تقدِّم الدعم للإخوة المجاهدين في فلسطين، هي مما ينتقدونه على إيران، وينتقدونه- في نفس الوقت- على الشعب الفلسطيني، وعلى مجاهديه، هم يريدون من الشعب الفلسطيني ومن مجاهديه ألَّا يقبل بأي مساندة، وألَّا يقبل بأي دعم، فمن يساند الشعب الفلسطيني؛ يتعرض لهجمة إعلامية من بعض الأنظمة العربية، وفي نفس الوقت هجمة على الشعب الفلسطيني كيف يتعامل حتى إيجابياً مع هذه الوقفة والمساندة، وهذا واضح، حتى فيما يتعلَّق بإسناد اليمن، ترى بعض الأصوات التي تنتقد الشعب الفلسطيني، تنتقد مجاهديه: [لماذا يرحِّب بهذه الخطوة الإيجابية الفريدة في الساحة العربية؟! لماذا يشيد بها؟! لماذا يرتاح لها؟!]، لا يريدون من الشعب الفلسطيني أن يرتاح حتى لمن يقف معه، أو يعبِّر عن ارتياحه لأي وقفة صادقة معه من أي عربيٍ أو مسلم، حالة غريبة جدًّا!

فعلى كُلٍّ، هذا الصمود العظيم هو من العوامل المساعدة، التي تؤكِّد قطعاً على الجدوائية الواضحة للصمود، وهناك من إن قدَّمت له الأُمَّة الدعم الكامل، من هو واقف بثبات في مواجهة العدو الإسرائيلي، فبدلاً من التأليب ضد المجاهدين في فلسطين، ضد حركة حماس، ضد كتائب القسَّام، ضد حركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس… وغيرها، من المفترض أن يكون هناك تعاون، ودعم بكل الأشكال للشعب الفلسطيني، واعتبار هذا عنصراً مهماً جدًّا.

لو نأتي إلى من لهم تقديرات أخرى، وحسابات أخرى، من هم من ذوي اليأس والإحباط تجاه إمكانية الصمود في مواجهة العدو الإسرائيلي، كيف كانت تقديراتهم في بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزَّة؟ البعض منهم مع تلك الهجمة لم يكن يتوقَّع للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة أن يصمد ولو لأسبوعٍ واحد، أو لشهر، أو لشهرين، في كل أسبوع يكونون منتظرين أن يكون في آخره رفعٌ للرايات البيضاء والاستسلام في قطاع غزَّة… وهكذا، يستمرون في حالة التربص شهراً بعد شهر إلى الآن، يكفي، يكفي، المفترض أن تفهموا أنَّ الثبات العظيم للشعب الفلسطيني ومجاهديه عامل قوَّة مهم، ينبغي أن يُبنى عليه: دعم، ومساندة، واحتضان، وتأييد، وتحرُّك جاد لدعم الموقف.

ثانياً: الاستفادة من المتغيرات العالمية في صحوة الضمير، وتصحيح النظرة تجاه القضية الفلسطينية:

هناك صحوة ووعي منتشر في الساحة العالمية، أصبحت النظرة العالمية في أوساط الشعوب، في مختلف البلدان، إلى العدو الإسرائيلي أنَّه: مجرم، ظالم، محتل، غاصب، يرتكب الإبادة الجماعية، والتغيرات في النظرة وصلت إلى الساحة الأمريكية نفسها، يعني: حسب استطلاعات للرأي في أمريكا نفسها، أنَّ أكثر من نصف المواطنين الأمريكيين لم يعودوا متضامنين مع إسرائيل، وهذا من المتغيِّرات المهمة جدًّا، المتغيرات أيضاً في الشعوب الأوروبية، في النظرة إلى القضية الفلسطينية، إلى المظلومية الفلسطينية، النظرة إلى العدو الإسرائيلي كمجرم، غاصب، ظالم، يرتكب الإبادة الجماعية، يرتكب أبشع الجرائم، وأفظع الجرائم، هذا متغير مهم في الساحة العالمية.

بل ليس فقط على مستوى الشعوب، هناك على مستوى الأنظمة، أنظمة كثيرة، بعض الأنظمة الأوروبية أعلنت عن مواقف متقدِّمة نسبياً في التضامن مع الفلسطينيين، حكومات وجهات رسمية في بلدان أخرى في غير أوروبا، مواقف متقدّمة جدًّا أيضاً في أمريكا اللاتينية.

هذا الموقف العالمي، الأكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني، والأقرب إلى الإنصاف للقضية الفلسطينية أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، ينبغي أن يحسب من عوامل القوة، التي كان ينبغي أن تستفيد منها هذه الأُمَّة، وأن تتَّجه بموقف موحَّد، بمختلف حكوماتها، وأنظمتها، وشعوبها، للضغط لإنهاء العدوان على الشعب الفلسطيني، ولدعم القضية الفلسطينية.

هناك أيضاً مظاهرات تخرج في بلدان كثيرة، الرأي العام العالمي مهيأ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، ومتعاطف أكثر من أيِّ وقتٍ مضى مع الشعب الفلسطيني، كيف لا يستثمر هذا العامل المهم؟!

كذلك من العوامل المساعدة هي: الخلافات الإسرائيلية ما بين الإسرائيليين:

هناك خلافات كبيرة، وخلافات تتعمَّق وتزداد وتيرتها، والمسألة واضحة في المظاهرات، في التصريحات، في طبيعة تلك التصريحات للإسرائيليين فيما بينهم، تكشف عن حجم الفجوة التي تزداد اتِّساعاً فيما بينهم، تصريحات أيضاً بشكل حاد، المحاكمات، الإقالات، الاتِّهامات، المظاهرات… وغير ذلك.

في الجانب الأمريكي حتى رسمياً، هناك أيضاً إشكالات داخلية، وتباينات، والوضع الأمريكي مأزوم، والمشاكل التي يعاني منها الأمريكي هي مشاكل كبيرة؛ ولـذلك على المستوى الاقتصادي، اتَّجه إلى الحرب التجارية بممارسة الابتزاز المالي في إطار التلفيق لوضعه، الأمريكي في هذه المرحلة لديه مشاكل كبيرة، مشاكل كبيرة بكل ما تعنيه الكلمة.

مثلاً: على المستوى الاقتصادي، عندما لجأ إلى الابتزاز المالي، هو يحاول أن يعالج مشاكل في واقعه، لم تكن هكذا مجرد قرارات اتَّجه فيها، لديه مشاكل وتحدثنا عن هذا في الأسبوع الماضي، لكن عندما يتأمل الإنسان- مثلاً- عن بعض القرارات الأمريكية، منها:

أنه خفَّض ميزانية وزارة الخارجية الأمريكية إلى النصف.

أغلق عدداً مهماً من السفارات في عدة بلدان، وكذلك عدداً كبيراً من البعثات الدبلوماسية.

إجراءات كثيرة تكشف عن حجم الأزمة الأمريكية، والمشكلة الأمريكية، هذا مما كان ينبغي الاستفادة منه.

الاستفادة أيضاً من الموقف اليمني كنموذج:

اليمن اتَّجه بموقفه (رسمياً، وشعبياً) بسقف عالٍ، هو كل المستطاع والممكن في إطار المشروع، اتَّجه على هذا الأساس، وأن يكون السقف هو: الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والانطلاق في المسؤولية.

هذا نموذج مهم، نموذج مهم، هل قامت القيامة؟! هل شُطب اليمن من الخارطة؛ لأنه اتَّخذ هذا الموقف القوي، الجريء، الصامد، الثابت، المستند على أساس التوكل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والاعتماد على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؟! هذا الموقف كان من المفترض الاستفادة منه أيضاً كعاملٍ من العوامل المساعدة؛ لأنه موقف فعَّال، وقوي، وفي نفس الوقت بسقفٍ عالٍ، ومتكامل.

فيمــــا يتعلَّـــق بجبهـــة الإسنـــاد اليمنيــــة:

تستمر العمليات من يمن الإيمان والحكمة والجهاد، في (معركة الفتح الموعود والجهاد المقدَّس)، لإسناد الشعب الفلسطيني، حيث نفَّذت قواتنا خلال هذا الأسبوع (سبع عمليات)، بالقصف الصاروخي، وبالمسيَّرات، إلى عمق فلسطين المحتلة، منها:

باتَّجاه (حيفا)، وكانت عملية مفاجئة للأعداء.

وباتِّجاه (يافا).

باتِّجاه (عسقلان، والنقب، وأم الرشراش).

ونفِّذت بـ(سبعة صواريخ بالِسْتِيَّة وطائرات مسيَّرة).

العملية إلى (يافا، وحيفا) كان لها صدى وأثر:

توقفت الرحلات الجوية في مطار اللُّد، الذي يعرف بمطار [بن غوريون].

كذلك هرب الملايين إلى الملاجئ.

هذه العمليات هي دليلٌ واضح على فشل العدوان الأمريكي، فشله في إيقاف العمليات، في الحد من القدرات، في فاعلية الموقف وحجمه.

على مستوى العمليات البحرية أيضاً، هناك عمليات مستمرة في التَّصدِّي للعدو الأمريكي، في الاستهداف والاشتباك مع حاملتي الطائرات الأمريكية.

الأمريكي، بعد أن عزّز بحاملة طائرات أخرى، وأتت بعيداً هناك في أقصى البحر العربي، لم يستفد شيئاً، لم يُعزِّز موقفه بشكلٍ فعَّال، لم يتمكن من إحراز مزيد من التقدّم في تحقيق أهدافه العدوانية على بلدنا، التي هي كلها في إطار إسناده للعدو الإسرائيلي، وحمايته للعدو الإسرائيلي؛ ليستمر في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

عمليات هذا الأسبوع فيما يتعلَّق بالاشتباك مع القوات البحرية الأمريكية، حاملات الطائرات، والقطع البحرية العسكرية المرافقة لها، كانت العمليات بـ (سبعة وعشرين) صاروخ مجنَّح، وطائرة مسيَّرة، في (تسع عمليات اشتباك)، خلال هذا الأسبوع كان هناك (تسع عمليات اشتباك)، مع حاملتي الطائرات، والقطع العسكرية البحرية التي معها، كانت تستمر عمليات الاشتباك لمدة ساعات طويلة، وفي إحداها كما ذكر موقع صيني، موقع إعلامي صيني: [هروب حاملة الطائرات في أقصى البحر العربي مئات الأميال، أثناء الاشتباك معها، والاستهداف لها]، هذه حاملة الطائرات التي أتت مؤخراً، باتت أيضاً تتدرَّب على عمليات الهروب أثناء المناورة والاشتباك.

كما تستمر قواتنا في منع الملاحة البحرية للعدو الإسرائيلي، وكذلك للأمريكي؛ لأنه ورَّط نفسه مع الإسرائيلي، في (البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، والبحر العربي)، حيث أصبحت سفن العدو الإسرائيلي، ومعه الأمريكي، منعدمة تماماً في هذا المسرح، يعني: ليس هناك أي نشاط ملاحي لهم إطلاقاً، بل هناك توقُّف تام.

فيمــا يتعلَّــق بقـــوات الدفـــاع الجــوِّي: والحمد لله رب العالمين، هناك نتائج ملموسة في إمكانات الدفاع الجوي، وفي فاعلية العمليات في قوات الدفاع الجوي، تستمر قوات الدفاع الجوي في الاصطياد لطائرات الاستطلاع المسلح الأمريكي (إم كيو 9)، حيث تمكَّنت- بفضل الله- خلال هذا الأسبوع من إسقاط ثلاث طائرات استطلاع مسلَّح نوع: (إم كيو 9)، في أجواء محافظتي صنعاء والحديدة، وتعتبر الطائرة السابعة التي يتم إسقاطها خلال هذا الشهر، كذلك في أجواء حجة، وتعتبر الطائرة الثانية والعشرين التي تمَّ إسقاطها من بداية عمليات الإسناد، هذا إنجاز كبير بحمد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونعمة كبيرة.

الإحصائيات من شهر رمضان وإلى الآن كبيرة، ولكن لاختصار الوقت لن أقوم بالحديث عنها، نتركها- إن شاء الله- لكلمة أخرى.

على كُلٍّ، كان من الملفت فيما يتعلَّق بهذه العمليات هو: انزعاج [المجرم نتنياهو] من (مسيَّرة يافا)، ومن العنوان الذي يتكرر في البيانات (بياناتنا اليمنية) عن (يافا) المحتلة، العدو الإسرائيلي ينزعج حتى على مستوى التركيز في الأداء الإعلامي على الأسماء الحقيقية لفلسطين، والمدن والبلدات الفلسطينية، وهذه مسألة مهمة، وهذا درس مهم، انزعاجه هو درس مهم؛ لأنه يذكِّره دائماً بأنه كيانٌ غاصبٌ، محتلٌ، مجرم، وكيانٌ مؤقت، حتمي الزوال، كما وعد الله بذلك في التوراة والإنجيل والقرآن، لابدَّ من زواله، فعندما تذكر أسماء المدن والبلدات الفلسطينية، أسماءها الحقيقية، لهذا أهمية كبيرة جدًّا، فهو انزعج من تسمية الطائرة المسيَّرة (يافا) بالاسم الحقيقي، وكذلك عبارة (المحتلة) انزعج منها كثيراً، هذا درس مهم للجانب الإعلامي على المستوى العربي والإسلامي، أهمية المصطلحات والأسماء وما يتعلَّق بها كبيرة جدًّا في الأداء الإعلامي.

الإسناد مستمر بفاعلية تامة، بتأثير، الأمريكي فاشل في إسناده للعدو الإسرائيلي ضد اليمن، بالرغم من تصعيده، هو يسعى إلى التصعيد، في هذا الأسبوع أكثر من (مائتين وستين غارة) بقاذفات القنابل وبغيرها، ومع ذلك حاول أن يستهدف الأعيان المدنية، كما فعل في جريمته في الاعتداء على (سوق فروة)، وكذلك في اعتدائه على أماكن أخرى، وصل به الحال أن أصبح يستهدف المقابر، كما استهدف (مقبرة ماجل الدِّمَّة) في صنعاء، يستهدف العابرين في الطرقات، يستهدف الشارع العام، يستهدف الأحواش، كما فعل في فجر اليوم، هذه الجرائم كلها تشهد على فشله، على تخبطه، هل هذا يحدُّ من القدرات العسكرية: الاعتداء على سوق شعبي، هل هذا يحد من القدرات العسكرية؟ أو هو يعبِّر عن فشل وحقد- في نفس الوقت- على الشعب اليمني؟

الأمريكي، بالرغم من بلوغ عدد غاراته وقصفه البحري، منذ استئناف عدوانه المساند للإسرائيلي ضد اليمن- يعني: في هذه الآونة الأخيرة، خلال هذا الشهر، شهر وقليل- بلغت أكثر من (ألف ومائتين غارة وقصف بحري)، إلَّا أنَّ فشله واضحٌ تماماً، وهو يعترف أيضاً بالفشل، الواقع يثبت فشله، باب المندب والبحر مغلق على السفن الإسرائيلية، والملاحة الإسرائيلية، الأمريكي حتى بقدراته العسكرية البحرية، هو يبتعد بها هناك، على مسافة بعيدة، مئات الأميال، أكثر من (ألف كيلو) تبتعد في كثير من الأحيان، تبقى بعيداً على الدوام، مع ذلك هناك تصريحات أيضاً، تصريحات لخبراء أمريكيين وإسرائيليين، ونذكر بالاختصار البعض منها، قنواتنا هي تقوم بالبث لكثيرٍ من هذه التصريحات، والاعترافات، وإظهارها، وهي اعترافات مهمة:

هناك اعترافات لعقيد أمريكي متقاعد، يقول فيها: [سيبقون هناك]، يعني: لن تتمكنوا أنتم أيها الأمريكيون والإسرائيليون من القضاء على اليمنيين، وعلى المجاهدين في اليمن، [سيبقون هناك ما دامت الأرض والسماء قائمتين، وسيظلون صامدين، وأعتقد أنهم لن يختفوا أبداً من هناك بالقصف، لا يمكنكم إعادة الحوثيين إلى العصر الحجري، في الحقيقة هم يقفون بقوَّة أمامكم، فلا تتعبوا أنفسكم]، هذه العبارات التي تؤكِّد أنَّه لا جدوى من العدوان الأمريكي على اليمن (لا في الحد من القدرات، ولا في الضغط على الإرادة في الموقف، ولا في منع العمليات) هي كثيرة جدًّا، كثيرة جدًّا لدى الأمريكيين، لدى خبراء، لدى معلِّقين، لدى مسؤولين، لدى وسائل إعلامية.

منها كذلك لمسؤول سابق في وزارة الخزانة الأمريكية، يقول فيها: [الحوثيون يردُّون على ما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، إذاً رد فعل الحوثيين في اليمن هو ضد إسرائيل]، يعني: هذه مسألة معروفة لدى الأمريكيين، القضية اليمنية هي: الإسناد للشعب الفلسطيني، في مقابل الإبادة الجماعية والتجويع، وهذه مسألة واضحة للأمريكيين: أنهم إنما قاموا هم بالعدوان على بلدنا إسناداً للعدو الإسرائيلي، فهذا الأمريكي- وهو مسؤول سابق في وزارة الخزانة الأمريكية- يقول: [إذاً رد فعل الحوثيين في اليمن هو ضد إسرائيل، لو لم تكن إسرائيل تفعل ما تفعله بالفلسطينيين، لما تحرَّك الحوثيون، هذا]، يعني: نستكمل كلامه يقول: [هذا هو الرد العربي الوحيد على الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين، كل الدول العربية كأنَّ الأمر لا يعنيهم، أو يكتفون بكلمات دون فعل، إذاً هؤلاء هم العرب الوحيدون، الذين لديهم روح المقاومة، والضمير الأخلاقي، والتعاطف مع الفلسطينيين؛ لأن باقي العرب كأنهم مع إسرائيل]، يعني: هو ينتقد أيضاً موقف بقية العرب.

هناك أيضاً تصريح آخر لأحد الأمريكيين، محارب أمريكي قديم، وهو يشيد بدور اليمنيين في محاربة إسرائيل، والامبراطورية الأمريكية، يقول في تصريحه: [هذه هي حقيقة إسرائيل، ميناء حيفا مغلق، ومفلس، لماذا؟ لأن شعب اليمن حفظه الله]، يقول هو هكذا، [الحوثيين، أو أنصار الله، هؤلاء اليمنيين هم أفضل البشرية الذين واجهوا ليس فقط إسرائيل، بل الامبراطورية الأمريكية بأكملها، إنَّ إسرائيل تحرق الشعب الفلسطيني بفضل أموال دافعي الضرائب الأمريكيين]، هكذا يقول، ويثني على الموقف اليمني.

هناك تصريحات أيضاً مما يسمى بوزير الحرب السابق الإسرائيلي، قال فيها: [الحوثيون تهديد خطير لنا، وأمريكا ستفشل في حربها عليهم]، هناك الكثير جدًّا من التصريحات والاعترافات، التي تبيِّن أنَّه لا جدوى من العدوان الأمريكي في التأثير على الموقف اليمني.

فيمــــا يتعلَّـــق بالتظاهـــــرات:

هناك تظاهرات في كثير من بلدان العالم خرجت في هذا الأسبوع، مساندةً للشعب الفلسطيني في مدن متعددة: في أمريكا، وفي هولندا، والسويد، والنرويج، وألمانيا، وإيطاليا، والدنمارك، والنمسا، وبلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا، وإسبانيا، وإيرلندا، وكندا، وأستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية.

عربياً، خرجت تظاهرات في عدد من المدن المغربية، وفي موريتانيا، وفي ليبيا، وفي تونس، وفي البحرين.

الأمريكي هو مستمر في الضغط على الجامعات والطلاب، وبارتكاب انتهاكات، وإجراءات تعسفية ضد الجامعات الأمريكية، ومتنوعة، إجراءات عقابية، منها:

قطع التمويل.

فرض ضرائب.

إلغاء التأشيرات والإقامة، وترحيل الطلاب.

اعتقال البعض منهم.

حرمان الجامعات من حق استقبال الطلاب الأجانب… وغير ذلك.

إجراءات متعددة ومتنوعة.

فيمـــا يتعلَّــق ببلدنـــا:

الأنشطة الشعبية مستمرة بكل أنواعها بفضل الله، بتوفيقه، بمعونته، من: مسيرات، وفعاليات، وندوات، وأمسيَّات، ووقفات.

أنشطة التعبئة العسكرية، من: تدريب، ومناورات، وعروض عسكرية، ومسير عسكري.

وأيضاً الوقفات القبلية، وهي من أهم الأنشطة الشعبية: الوقفات القبلية، والبيانات، والتصريحات، والمواقف، التي تؤكِّد عليها.

الشعب خرج في الأسبوع الماضي في أكثر من (أربعمائة ساحة) في الخروج المليوني في يوم الجمعة.

موقف شعبنا العزيز هو موقفٌ عظيم، موقفٌ قوي، موقفٌ ثابت، موقفٌ متكامل؛ لأنه مستمدٌ من قوة إيمانه، من قوة ثقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوكله على الله، وثقته بوعد الله الحق: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40]، شعبنا يؤمن بهذا الوعد الإلهي، وفعلاً نحن في الواقع في حالة انتصار، هذا الصمود العظيم، بهذه الفاعلية، بهذا الحضور الكبير، بهذا التأثير، بهذا المستوى المتكامل من الموقف، وعلى مدى أكثر من عام ونصف، هو انتصار بكل ما تعنيه الكلمة، والمسار فيه مسار تصاعدي أصلاً، يعني:

تطوير أكثر للقدرات العسكرية.

امتلاك أفضل للتقنيات العسكرية.

اكتساب خبرة أكبر.

ارتقاء في الروح المعنوية.

ارتقاء في مستوى الوعي.

حتى في تعزيز الثقة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في إطار واقعٍ معاش، في إطار واقعٍ عملي، نعيش فيه ونلمس الرعاية من الله، المعونة من الله، التأييد من الله، النصر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

تصريحات وكلام أقارب الشهداء تشهد على هذا الثبات، هذا الوعي، هذا الإيمان، هذه القوة في الموقف، المستمدة- كما قلنا- من قوة الإيمان، كذلك ما يقوله الجرحى، ما يقوله الناس في المظاهرات لوسائل الإعلام، وحتى في هتافاتهم، حجم الحضور الهائل، يعبِّر عن أنَّ مساحة الوعي، والثبات، والتَّوجُّه الجاد، مساحة واسعة، هذا الشعب يتحرَّك بشكلٍ مليوني في إطار موقفه الحق، يستجيب لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

الحرب هي حرب إرادة، وحرب مرتكزها- بالدرجة الأولى- هو: الجانب المعنوي والإيمان، الأمريكي يصعِّد، يعتدي، ولكن بفشل مكشوف ودنيء وواضح، ما معنى أن يهاجم مقبرة؟! أليس هذا هو منتهى الفشل؟! مقبرة عادية، مقبرة، أن يستهدف القبور بالقصف الجوي، هذا منتهى الفشل، كثير من اعتداءاته تشهد على فشله الذريع.

صمود شعبنا العزيز يعبِّر عن إرادته، أنَّه مهما كان التصعيد الأمريكي، فلن يكسر إرادة هذا الشعب، ولن يثني هذا الشعب عن موقفه الحق؛ لأنه- كما قلنا- موقف يستند إلى المنطلق الإيماني، إلى الثقة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى التوكل على الله “جَلَّ “شَأنُهُ”، وفي واقعٍ قوي بحمد الله، بحمد الله.

فيتنام، صمدَّت في مواجهة عدوان أمريكي كبير جدًّا؛ وفشل الأمريكي في عدوانه عليها، ليس الأمريكي بمستوى أن يقول للشيء: [كن فيكون]، أو أن يحسم أي عدوان لصالحه، أينما كان، حينما يكون هناك شعب يصمد، يؤمن بقضية، يثبت على موقفه، يمكنه أن يحقق النصر على الأمريكي، وشعبنا اليوم هو يقدِّم درساً مهماً جدًّا، تحتاج إليه كل الأُمَّة؛ لأن الدور الأمريكي، سواءً في الأطماع الأمريكية والاستهداف لأُمَّتنا، أو مع العدو الإسرائيلي، وهو الأساس: مع العدو الإسرائيلي، بمعنى: أنَّ العدو الإسرائيلي يعتمد عليه بشكلٍ أساسيٍ وكلي، وتتهيَّب معظم الشعوب والبلدان من أن تتبنى الموقف الصحيح، وتتَّجه في الموقف الصحيح؛ خوفاً من الأمريكي، شعبنا يقدِّم درساً مهماً لكسر هذا الحاجز، كسر هذا الحاجز الذي أثَّر على الأُمَّة، ودفعها إلى الحالة المخزية، والمهينة، والمذلَّة، في مقابل الأمريكي، فيرى العالم أنَّ الأمريكي فشل في عدوانه على هذا الشعب، وأنَّ هذا الشعب بقي ثابتاً، صامداً، متماسكاً، لم يتراجع، وكان المسار بالنسبة له مساراً تصاعدياً، يقوى فيه أكثر، كلما صعَّد الأمريكي؛ كلما كان الموقف بالنسبة لبلدنا أكثر قوةً، وكلما أسهم ذلك أيضاً في مزيدٍ من التطوير للقدرات العسكرية.

هناك أيضاً كوبا- مثال آخر- صمدت في مواجهة الحظر الاقتصادي، والحصار لأكثر من نصف قرن، فما بالك بيمن الإيمان، الذي ينطلق من منطلقات إيمانية، في قضية حق واضحة، كيف لا يصمد!

الخروج المليوني الأسبوعي المستمر مشاركة مهمة في الجهاد، مشاركة عظيمة في الجهاد، وفي الموقف، ودعم كبير للموقف، وصوت كبير لشعبٍ له موقفٌ صادقٌ متكامل؛ ولذلك ينبغي أن يستمر بالزخم الكبير جدًّا، هذا مهمٌ جدًّا، في مرحلة مهمة جدًّا، وهو عملياً ليس عمليةً صعبة، ليس عملاً شاقاً، وفيه عناء كبير، وحتى لو كان هناك عناء في بعض المناطق، أو تعب، فهو في سبيل الله تعالى، عند من يكتب للإنسان عندما يستجيب له كل تعبه، كل ظمائه، كل عنائه، ويجازيه على ذلك الجزاء العظيم، وأكبر جزاء هو الجزاء والأجر على الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأنه في مقدِّمة الأعمال التي أجرها عظيم، وفضلها كبير، وفي نفس الوقت في موقف مشرف.

أدعو شعبنا العزيز إلى الخروج المليوني العظيم الواسع يوم الغد إن شاء الله تعالى، في العاصمة صنعاء، وفي بقية المحافظات، هذا الخروج الذي يعبِّر عن الثبات، عن الصمود، عن الاستمرار، وهذا الخروج الذي يهتف للشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة؛ ليدرك أنَّ هذا الشعب مستمرٌ إلى جانبه، ولن يتخلَّى عنه أبداً، ولن يتفرَّج عليه، ولن يمكِّن العدو الإسرائيلي من الاستفراد به.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُعَجِّلَ بِالفَرَجِ وَالنَّصْرِ لِلشَّعْبِ الفِلَسْطِينِيِّ المَظْلُوم وَمُجَاهِدِيهِ الأَعِزَّاء.

وَنَسْألُهُ “جَلَّ شَأنُهُ” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • قائد الثورة : العدوان الأمريكي فشل في الحد من قدراتنا أو منع عملياتنا العسكرية
  • نص كلمة قائد الثورة حول آخر تطورات العدوان على غزة والمستجدات الإقليمية والدولية
  • كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي حول مستجدات العدوان على غزة وآخر التطورات الإقليمية والدولية (فيديو)
  • السيد عبدالملك الحوثي يحذر من مخطط صهيوني خطير يستهدف المسجد الأقصى المبارك
  • ترقبوا كلمة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
  • رئيس لجنة السجون ومستشار هيئة رفع المظالم بمكتب رئاسة الجمهورية فهد غثاية لـ” الثورة”:توجيهات السيد القائد كان لها الأثر الكبير في تحسين أوضاع السجون
  • تعرف على بدائل السكر التي تربك الشهية وتبطئ فقدان الوزن
  • انطلاق أعمال الدورة الثامنة عشرة للاتحاد الإقليمي الثاني (آسيا) بالمنظمة العالمية للأرصاد الجوية
  • ‏الرئيس اللبناني: استمرار الاحتلال الإسرائيلي لـ 5 تلال جنوبي لبنان لا يساعد على استكمال تطبيق القرار 1701