الله يعينك راضي!.
المصدر: شفق نيوز
كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية الكورد الفيليون الكورد الفيليون خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير الكورد الفيليون مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي
إقرأ أيضاً:
من تراث شيخ الظرفاء في رمضان!
(1)
الشيخ عبد العزيز البشري (1886-1943م) من أشهر الظرفاء في العصر الحديث، ورائد من رواد أدب المقالة الصحفية الساخرة، الكاتب الفكاهي الساخر والقاضي الشرعي، سليل أسرة البشري العريقة، إحدى أشهر العائلات الأدبية والشرعية في مصر، ومنها الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر، ووالد الشيخ عبد العزيز البشري، ومنها أيضًا المستشار طارق البشري القاضي والمؤرخ الراحل.
ولد الشيخ البشري ونشأ بالقاهرة، ودرس بالأزهر الشريف، لكنه اتجه بكليته لدراسة الأدب، قديمه وحديثه، وإلى التعرف على الكتّاب والأدباء البارزين في المشرق والمغرب، وتولى وظائف بالقضاء الشرعي، كما ولي وظائف حكومية مختلفة منها وظيفة السكرتارية في إدارة الأوقاف وفي نظارة المعارف العمومية.
ويعد الشيخ البشري من أهم كتاب المقالة الساخرة والأدب الوصفي التصويري، وكان يتميز بدعابة مصقولة ودقة في الوصف والتصوير أشبه بأساليب المتقدمين من كتّاب العصر العباسي، وبلغ في ذلك شأوًا بعيدًا.
وتفيدنا كتب التراجم والسير عن الشيخ البشري بأنه كان حلوَ المعشر طليَّ اللسان شريفَ النفس، يتمتع بخفة ظل، وروح دعابة مرحة، ميزته طوال عمره، وانعكس ذلك كأبرز ما يكون في مقالاته وكتاباته التي حظيت بقبول واسع، وأقبل عليها الجمهور بحب وشغف.
وإلى جانب المقالات الأدبية الساخرة التي كان يكتبها لجريدتي "الكشكول" و"السياسة الأسبوعية" الشهيرتين، ألّف كتبا عديدة منها: كتابه (قطوف) الذي جمع ونشر بعد وفاته، وكتب له المقدمة صديقه الدكتور طه حسين، كما كتب له مقدمة الجزء الثاني من كتابه الأشهر (المختار) 1935م، و(في المرآة) 1927م.
وهما كتابان يحتويان على صور وصفية تحليلية ساخرة لشخصيات أدبية وسياسية شهيرة معاصرة له، بأسلوبه التهكمي التصويري الساخر الذي اُشتهر به وأصبح اسمه علمًا عليه.
(2)
كان من أشد الكتاب -في تلك الفترة- عكوفًا على الحياة الشعبية البسيطة، وحياة الطبقة الوسطى من أهلها، وعلى حياة القاهرة المدينة والتاريخ، رصداً لها وتعبيرا عنها، فآثاره أصدق مرآة وأصفاها للحياة اليومية في عصر الانتقال من بقايا القرن التاسع عشر إلى مدنية مطالع القرن العشرين. وقد توفي الشيخ البشري بالقاهرة يوم الخميس الموافق الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1943م.
صور الشيخ عبد العزيز البشري انطباعاته وخواطره اللطيفة عن (شهر رمضان المبارك) في مقالةٍ رائعة له بكتابه الشهير (قطوف)، يرصد فيه البشري بحسه التاريخي وتأمله الدقيق وأسلوبه "التصويري" المميز مقدمَ رمضان وقد تغيرت سبل الإضاءة بمصر من الإنارة بالشموع إلى الإنارة بالغاز والكهرباء، قائلًا:
"أدركنا رمضان وأهل مصر يستصبحون بالشمع، إلى أن طغى عليه اتخاذ الكيروسين، ثم نحن هؤلاء اليوم نستضيء بالكيروسين وبالغاز وبالكهرباء، فكيف كان حظ رمضان من الأضواء والأنوار في ذلك الزمان، وكيف كان حظه منهما في هذا العام؟".
وكأنما كان يقصد إلى العبرة في المقارنة بين أضواء ليالي رمضان في عصر الشموع والكيروسين، وبين لياليه التي يضيئها الغاز والكهرباء!
وقد كان هذا في حينه طفرة من الطفرات المذهلة بمقاييس العصر، مثلما كان "الراديو" بعد ذلك عملا من أعمال السحر المبين!
كانت المدن الكبرى في المحروسة، كالقاهرة والإسكندرية وسواهما من الحواضر العريقة، وبأي وسيلة كانت الإنارة وبغض النظر عن طرق الإضاءة، تستحيل إلى كتلةٍ من النور إذا جنّ الليل في رمضان، حيث "النور في أفنية الدور وفي غرفها وحجراتها وعلى رؤوس الأبواب، ثم في الشوارع من المصابيح العامة ومن المصابيح التي يضطرب بها الأولاد صبية وصبايا، وأولئك يغنون: "يا مَا دَلِّلوكِ يا وردة، وفي السوق باعوكِ يا وردة..". وهؤلاء يغنين: "وحوي يا وحوي إياحة، بنت السلطان لابسة القفطان.. إلخ الأغنية".
(3)
لكن من أهم ما يستلفت نظر البشري، في ذلك الحين، أن السيدات من النساء كن إذا برزن إلى الطريق في رمضان لزيارة الأهل والصديقات سعين وبين أيديهن الخدم يحملون المصابيح الكبيرة يتألق كل منها بطائفة من الشموع فتزيد الطريق نورًا على نور!
كما لو كان الكبار يحتفلون بطريقتهم بمقدم الشهر الكريم على طريقتهم التي تتشابه مع احتفال الصغار من الأطفال بإيقاد الفوانيس واللعب بها ليلا بعد الإفطار!
ويزيد البشري ذلك المشهد وضوحًا وكشفًا بالمزيد من التفاصيل عن حال البيوت المصرية والزينة التي تتحلى بها، لكن الأهم هو "التزين الروحي" والحلي المعنوي الممثل في انبعاث آيات الله الكريمة من البيوت والمساجد على السواء، حيث "نوافذ المناظر (جمع منظرة وهي الشرفة الواسعة الفسيحة) مُفتّحة، ينبعث منها نور المصابيح، كما ينبعث منها النور الأعظم، ترتيل القرآن الكريم".
وعن هذه الأنوار الروحانية الغامرة والطقوس التي كانت تميز سكان أحياء القاهرة العريقة، يقول البشري: "ولا تنس حظ المساجد الكبيرة على وجه خاص من ذلك النور والإشراق في طرفي الليل جميعًا، ففي صدر الليل صلاة العشاء، ثم صلاة التراويح، ثم تلك الأناشيد البديعة التي يتغنى بها المؤذنون فرادى وجماعات، فإذا كان السحر، فتحت أبواب المساجد وأضيئت فيها الثريات، وأقبل عليها الناس بعد الفراغ من سحورهم، فانتظموا في حلق يستمعون إلى دروس العلماء في تفسير كتاب الله، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أحكام الشرع الحكيم". وهنا يسجل البشري شيئًا من إقبال الناس على التفقه في دينهم والاستماع إلى دروس التفسير والحديث التي كانت شائعة عامة في المساجد عقب السحور، وهو ما تقلص قليلا الآن، ولم يعد قائمًا حيًا اللهم إلا في العشر الأواخر من رمضان وبشكل محدود.
(4)
ويتابع البشري استقصاءه ورصده لتفاصيل ليالي رمضان الروحية داخل المساجد بين التلاوة والعبادة والإنشاد الديني، يقول: ".. حتى إذا قال العلماء: "والله أعلم" إيذانًا بختام الدرس، أسرع الناس فانتظموا صفوفًا، مولين وجوههم شطر الدكة في بهرة المسجد؛ ليسمعوا صوت أشهر قارئ في الحي، وناهيك بالشيخ حنفي برعي في مسجد السيدة فاطمة النبوية، وبالشيخ أحمد ندا في مسجد السيدة زينب، رضي الله عن السيدتين الكريمتين، ورحم الشيخين العظيمين!".
يشير الشيخ البشري كذلك إلى شغف الناس واهتمامهم بمتابعة كبار المقرئين والمنشدين الذين شهدتهم القاهرة في الربع الأول من القرن العشرين، مثل الشيخ حنفي البرعي في مسجد السيدة فاطمة النبوية، والشيخ أحمد ندا بمسجد السيدة زينب، وهما في ذلك الحين من كبار المشايخ المقرئين المنشدين في عموم مصر المحروسة، يأتي إليهما الناس زرافاتٍ ووحدانا للاستماع إليهما والتمتع بحلاوة أدائهما وتلاوتهما وإنشادهما.
يقول الشيخ عبد العزيز البشري: "وما دام حديث رمضان قد استدرجني إلى ذكر الشيخ أحمد ندا فلا بد من أقول فيه كلمة. لقد ولدت في حي السيد زينب، وسلخت فيه مدة الفتوة وصدرا من سني الشباب ولست أذكر أنني من عهد الصبا تخلفت في ليلة من ليالي رمضان، إذا كان السحر، عن طلب مسجد السيدة زينب رضي الله عنها أستمع أولا إلى درس الحديث.. ثم استوى الشيخ ندا على الدكة وأنشأ يقرأ ما تيسر له من آيات كتاب الله".
(5)
ويفيض البشري في وصف وتصوير أجواء المسجد الروحية وخشوع المستمعين وانسجامهم مع آيات الله وحلاوة صوت الشيخ أحمد ندا وعذوبته "وقد انصقل بقراءة الليل صوته، وحلا نبره، وسلس له منه ما كان جامحًا، ولان ما كان في أول الليل عاصيًا، وأطلقه في آي السورة الكريمة أبيض ناصعًا كأنما صيغ من ذوب الفضة، أو كأنما اعتصر من صفحة البدر ليلة تمامه، ويشيع في النفوس ما شاء الله أن يشيع من لذة وأريحية وفرح حتى إذا كان من مطلع الفجر على دقائق، نهض فوقف على الدكة، وصاح في مقام الست بأعلى صوته: "يا أمة خير الأنام، ومصباح الظلام، ورسول الله الملك العليم العلام. تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال..".
هذه بعض الأنوار التي كانت تموج فيها ليالي رمضان حسًّا ومعنى، وكأن البشري كان يقصد إلى المقارنة بين ما كان في سابق الزمان، وبين ما صارت إليه ليالي رمضان في زمنه.. فأين هو من زمننا الآن؟!