يوسف عامر يكتب: دورنا في الجمهورية الجديدة
تاريخ النشر: 1st, April 2024 GMT
«وماذا تحتاج منا الجمهورية الجديدة؟».. هذا سؤال ينبغى أن يتردد فى نفوس جميع أبناء الوطن؛ لحرصهم على تقدُّمه وتحضُّره، ومعنى هذا السؤال أن صاحبه يريد أن يعرف الدور الذى ينبغى أن يضطلع [ينهض] به فى بناء حضارة هذا الوطن وتقدمه.
وأول ما ينبغى أن نقوم به هو الفهم الصحيح لديننا الحنيف. نعم، فالفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة المطهرة هو الخطوة الأولى لتصحيح مسار الإنسان فى الكون، لأنهما رسالة رب الكون لعباده فى الكون، ولا يستطيع الإنسان أن يفهم دوره فى الحياة وخطة سيره فى الكون بصورة صحيحة لا عوج فيها إلا من خلال رسالة الله تعالى إليه، فالفهم الصحيح للوحى إذن هو الخطوة الأولى.
وإذا عدنا إلى كتاب الله تعالى سنجد أنه ذكر فى صفحاته الأولى قصة بدء الخلق، وأن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة فى الأرض، يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة، الآية: 30]، والخلافة تقتضى أن يكون الإنسان مسئولاً عما استخلفه الله تعالى فيه، ولهذا جاءت دعوة الأنبياء ببيان أن الإنسان أُنيط [علق] به أمر عمارة الأرض، يقول الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود، الآية: 61].
وينبغى أن يلحظ المسلم الواعى دقة اللفظ القرآنى الكريم (واستعمركم) أى: أراد منكم عمارتها، فهذا اللفظ الكريم جاء مطلقاً لا مقيداً؛ بمعنى أنه أمر بمطلق الإعمار وليس أمراً بنوع خاص منه كالزراعة أو الصناعة أو التجارة، وهذا الإطلاق يبين أن الأمر بالإعمار تختلف وسائله من زمان إلى زمان، وتختلف بحسب الأحوال والإمكانات، وبحسب ما تتطلبه حاجات الأوطان بحسب مستجدات الأمور والعصور.
وضمير المخاطب فى قوله تعالى (واستعمركم) يبين أنه أمر منوط [معلق] بكل واحد بحسب قوته ودرجة استعداده وما تهيأ له من أدوات الحياة.
فيدخل فى (إعمار الأرض) ما يقوم به كل شخص من عمل نافع فى مجاله، فالزارع فى زراعته يقوم بدوره فى إعمار الأرض، والصانع فى صناعته يقوم بدوره فى إعمار الأرض، والتاجر الأمين فى تجارته يقوم بدوره فى إعمار الأرض، والأساتذة والمعلمون فى مراحل التعليم المختلفة يقومون بأدوارهم فى إعمار الأرض، وعامل النظافة يقوم بدوره فى إعمار الأرض، وكذلك الطالب فى دراسته، والأب فى أسرته، والأم فى بيتها، وتقصير أى واحد فى عمله الذى أقامه الله تعالى فيه هو تقصير فى دوره فى الإعمار وصناعة الحضارة، وفى دوره فى الخلافة.
والحق أن الإسلام لم يُرد منا القيام بأدوارنا فقط، وإنما أراد منا إتقان هذه الأدوار وإحسانها؛ لأن الكون الذى استخلفنا الله تعالى فيه مبنى على الإتقان والإحسان، قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ} [سورة النمل، الآية: 88]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [سورة السجدة، الآية: 6، 7]، ولهذا أمرنا الله تعالى بالإحسان فقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة البقرة، الآية: 195]، وكذلك أمرنا به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله كتب الإحسان على كل شىء». [رواه مسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن» [رواه البيهقى فى شعب الإيمان]، وقال أيضاً: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» [الطبرانى].
وهذه الأوامر السماوية لا تقتضى منا أن يقوم كل واحد منا بعمله فقط، بل تقتضى أن نقوم بالإحسان والتطوير المواكب للعصر، وأن نتقن العلوم والمعارف والمهارات المختلفة والمتنوعة التى تُمكننا من ذلك كله.
وهذا دور كل منا فى الجمهورية الجديدة.. أن يقوم بمسئوليته التى أقامه الله فيها فى بيته وفى مجتمعه.. بعلم وإتقان وإحسان؛ حتى يحقق رخاء المجتمع.. ويشارك فى تقدم الوطن وصناعة حضارته.. وهذا دوره فى عمارة فى الأرض والخلافة فيها.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: يوسف عامر الجمهورية الجديدة إعمار الأرض الله تعالى
إقرأ أيضاً:
محمد عبدالسلام يكتب: فرنسيس الإنسان.. زعيم روحي تجاوز الحواجز وبنى جسور الأخوة والحوار
هذا المقال بقلم المستشار محمد عبدالسلام، الأمين العام لجائزة زايد للأخوّة الإنسانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
استيقظ العالم يوم الاثنين الماضي على خبر رحيل البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وقائد ملهم لأكثر من مليار ونصف من سكان عالمنا، ولا شك أن الإنسانية قد فقدت فارسًا من فرسان السلام والدعوة إلى الإخاء الإنساني في أسمى معانيه ولا غرو أن يصفه فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب قائلًا: "البابا فرنسيس رجل سلام بامتياز".
وليس من الإنصاف أن يُختزل الحديث عن البابا فرنسيس في كونه مجرد رمز ديني كاثوليكي، فالرجل كان، بحق، قائدًا روحيًا عالميًا استثنائيًا، وصوتًا للضمير الإنساني، وشريكًا حقيقيًا في صنع السلام، وصديقًا صادقًا ومتفردًا للإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف. ومن واجب الإنصاف أن نُجلّ الإنسان فرنسيس بما قدّمه للبشرية من مآثر خالدة وإرث إنساني فريد، يتجاوز الحدود الدينية والجغرافية.
طوال عشر سنواتٍ من معرفتي الوثيقة بالبابا فرنسيس، منذ أول لقاء جمعني به عام 2015 في سياق عملي كمستشار للإمام الأكبر الطيب، لم أرَ منه إلا التواضع الجمّ والصدق العميق والرحمة الواسعة. لم يكن البابا رجلاً يعيش في أبراج العظمة ولا متكئًا على ألقاب البروتوكول، بل كان قريبًا من الناس، بسيطًا في حضوره، عظيمًا في جوهره.
ما زلت أذكر كيف كان يكتب رسائله وخطاباته لي بخط يده بتواضع مدهش، في مشهد يجسّد تجرّده من المظاهر وميله الفطري للبساطة. كان يُجالس الأطفال، ويُربّت على أكتافهم، ويُنصت لهم، لا تكلفًا بل حبًا صادقًا. وقد رأيت ذلك بعيني في كل لقاء جمعه بأطفالي الثلاث الذين نشأت بينهم وبينه علاقة وجدانية عميقة، لدرجة أنهم ينادونه بعفوية الأطفال وبراءتها "جدو البابا"، ويحتفلون بعيد ميلاده كل عام بكعكة يختارونها بأنفسهم في السابع عشر من ديسمبر، ويُهاتفهم من حين لآخر للاطمئنان عليهم، كما كان يفعل عندما كانت ابنتي خديجه تمر بمرحلة علاجية دقيقة عام 2018.
ومن المواقف التي لا تُنسى، ذلك اللقاء الأول الذي جمع البابا بالإمام الأكبر في مقر إقامته بالفاتيكان "كازا سانتا مارتا"، حيث جلسا إلى مائدة واحدة، فتناول البابا قطعة خبز فقسمها إلى نصفين، أعطى الإمام الأكبر نصفها، وتشاركاها في صمت يعلو على كل خطاب، وكأنهما يكتبان لحظة جديدة في تاريخ التعايش الإنساني، كانت إيذانا بعودة الحوار والعلاقات بين الأزهر والفاتيكان بعد قطيعة دامت لسنوات قبل مجيء الرمزين العظيمين.
لقد جسّد البابا فرنسيس الإيمان بأن تنوّعنا الثقافي والديني ليس سببًا للفرقة، بل هو هبة من الله تستحق أن تُحاط بالعرفان والاحترام. ولذا، لم يكن مستغربًا أن يكون أول بابا في التاريخ يقوم مع شيخ الأزهر بزيارة مشتركة إلى أرض شبه الجزيرة العربية، حين زارا معاً الإمارات العربية المتحدة في عام 2019، ثم مملكة البحرين في 2023، حاملين رسالة سلام وانفتاح، وداعيين لحوار الحضارات، لا صراعها، وقد تجدد اللقاء بين الرمزين في العديد من اللقاءات والمحافل.
ومن أبرز محطات حبريته، توقيع وإطلاق "وثيقة الأخوة الإنسانية" من أبوظبي عام 2019، إلى جانب الإمام الأكبر، كإعلان عالمي يدعو إلى بناء عالم متصالح، يقوم على احترام الإنسان، ونبذ الكراهية، وترسيخ قيم الرحمة والتفاهم، ومثلت محطة تاريخية تشرفت بالمساهمة في الوصول اليها.
ولم يكن التزامه بالأخوّة الإنسانية محصورًا في الحبر والكلمات، بل امتد إلى الأفعال؛ فلطالما وقف إلى جانب اللاجئين والمهمشين، كما فعل حين اصطحب ثلاث عائلات سورية مسلمة لاجئة من جزيرة ليسبوس إلى روما، حيث يعيشون اليوم حياة جديدة ويقولون في كلمات تفيض بالامتنان والعرفان: "لقد أرسله الله لينقذنا".
وعلى صعيد البيئة، كان للبابا فرنسيس صوتًا صادقًا لا يلين. فمنذ إطلاقه الرسالة البابوية التاريخية "كن مسبّحًا" عام 2015، جعل من حماية البيئة أولوية أخلاقية وروحية، ودعا قادة الأديان إلى أن يضطلعوا بمسؤوليتهم تجاه هذا التحدي المصيري، كما التزم بقيادة الفاتيكان نحو الحياد الكربوني الكامل بحلول عام 2050.
وفي مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين الذي استضافته الإمارات العربية المتحدة، وتحديدًا في جناح الأديان الذي نظّمه مجلس حكماء المسلمين – والذي أتشرف بتولي أمانته العامة – تشرفنا بمشاركة البابا فرنسيس والإمام الأكبر معًا في رعاية المبادرة، ووقعا معاً إلى جانب 28 قائدًا دينيًا على "بيان أبوظبي بين الأديان من أجل المناخ"، في لحظة تاريخية تجلّت فيها وحدة الضمير الإنساني في وجه التحديات الكبرى التي تهدد البشرية.
وفي ديسمبر الماضي، كان لي شرف اللقاء الأخير مع قداسته في حاضرة الفاتيكان، خلال لقاء خاص نظمناه للجنة تحكيم جائزة زايد للأخوّة الإنسانية. وقد أعددنا له بهذه المناسبة فيديو تهنئة بعيد ميلاده، شارك فيه عدد من الفائزين وممثلين عن الجائزة، بالإضافة إلى أطفال لاجئين من روما. وعندما شاهد وجوه الأطفال على الشاشة وهم يغنون له، أضاء وجهه بابتسامة عريضة، وارتسمت على محيّاه ملامح الفرح العفوي الصادق.
لقد رحل عن عالمنا رجل استثنائي، عاش من أجل الناس، وأحبّ الفقراء، وسعى لبناء عالمٍ يسوده السلام. إلا أن رسالته لم ترحل، وإرثه لم ينقطع، وسيرته ستظل منارة تهدي الساعين للخير والعدالة.
فلنُكرم ذكراه بالسير على خُطاه في دعوته للسلام والتعايش، ونحمل ما دعا إليه من رحمة، ونُعلي ما نادى به من حوار إنساني، ونمضي في بناء عالمٍ تسوده روح المحبة والأخوة. هذا هو إرث فرنسيس الإنسان: أبٌ في الإنسانية، وزعيمٌ في السلام، ورمزٌ سيبقى حيًّا في ضمائر الأحرار.
الإماراتمصرالبابا فرنسيسرأيشيخ الأزهرنشر الخميس، 24 ابريل / نيسان 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.